عباس محمود العقاد - العيد في الدين وفي اللغة

الأعياد من المراسم المرعية في جميع الأديان الكبرى؛ لأن الاشتراك في الاحتفال بوقت من الأوقات يرعاه المتدينون جميعًا. هو بعض المعالم العامة التي لا غنى عنها في كل عقيدة تدين بها الجماعة، وتتعارف على شعائره.

وفي الأديان الكتابية كلها أعياد مقررة تجب على الجماعة رعايتها، يلاحظ في الكثير منها أعياد قديمة متوارثة من زمن بعيد سابق لعهد الدعوة إلى تلك الأديان، وقد يرجع ذلك إلى سبب يتعلق بسياسة الدعوة، كما يرجع إلى حكمة العقيدة في صميمها؛ فإن قطع الصلة بماضي الأمة كل القطع قد يعوق الدعوة في سبيلها إلى أسماع المدعوين وضمائرهم، وقد يكون النفور من الدعوة في هذه الحالة كالنفور من العدو المقتحم الذي لا يقبل منه كلام، ولو كان من غيره مظنة للقبول والترحيب، وليس من اللازم في محاربة الضلالة الدينية أن نحارب ملكة العقيدة في النفس الإنسانية، فإن ملكة العقيدة في لبابها هي مناط الخير من ضمير الإنسان، ويكفي عند محاربة الأديان الضالة أن نحتفظ بملكة العقيدة لكي يسهل بعد ذلك تحويلها من المعتقدات السيئة إلى المعتقدات الحسنة، فذلك أقرب إلى الهداية من استئصال ملكة الاعتقاد بجذورها، وامتلاء النفس بنزعة الكفر الذي يعرض عن كل إيمان، ويسخر من كل دين.
وقد أبقى الإسلام على بعض شعائر الحج في الجاهلية وأصلحها بالانتقال بها من عبادة الأوثان إلى عبادة الله، وكانت دعوة النبي عليه السلام إلى حج البيت، وهو في قبضة المشركين يصدون عن قُصَّاده المسلمين، حجة للإسلام على الشرك، وإحباطًا لسياسة الملأ من كفار قريش، وهم يحاولون أن يعزلوا الدعوة الإسلامية عن أمتها باسم الحفاظ على كرامة الآباء.
ومن تاريخ الأعياد في اليهودية والمسيحية يظهر لنا على التحقيق أنها منقولة عن مراسمها الأولى، من عهد عبادة الطبيعة أو عبادة الكواكب قبل دعوة موسى وعيسى عليهما السلام.
فالأعياد اليهودية كلها لا تزال على صبغتها الأولى من مراسم الاحتفال بمواقيت الزرع والحصاد، وهي بأسمائها في العهد القديم تشير إلى موعد الحصاد، وموعد الجمع، وقرابين البواكير من الثمرات والأنعام.
والعيدان المسيحيان يوافقان موعد انتقال الشمس في الشتاء وموعد انتقالها في الربيع، وقد كان آباء الكنيسة الأوَّلون يقيمون الاحتفال بالعيدين في هذين الموعدين ليصرفوا جمهرة الناس عن تقاليد عبادة الشمس إلى تقاليد العبادة المسيحية.
إلا أن التوقيت بالأشهر القمرية في حساب العيدين الإسلاميين قد كان له أثره في تنزيه هذين العيدين عن كل صلة بالعقائد الجاهلية التي سبقت دعوة الإسلام، فلا ارتباط لهما اليوم بمواقيت عبادة الطبيعة أو عبادة الكواكب، وليس لهما قوام من الذكريات المادية أو المعاني النفعية، فقد يعود الصيام في أشهر الصيف كما يعود في أشهر الشتاء، وقد يجب الحج مع أوان المرعى والسقاية كما يجب مع كل أوانٍ، وهو عدل في توزيع أيام الفرائض يناسب العدل في تكاليف الدين وأعباء الواجبات، ويناسب العدل في أحوال الأمم التي تؤدي تلك الفرائض، وتنهض بتلك الأعباء، ومنها أمم الرعاية والزراعة، وأمم التجارة والصناعة، وأمم تقيم في كل مناخ وكل إقليم.
ومن ثم خلص العيد الإسلامي لمعناه من الإيمان المحض بعبادة التنزيه والتوحيد.
وفي سياق هذه المقالات التي نتابع فيها النظر في مزايا اللغة العربية يتفق لنا أن نذكر مزية لهذه اللغة في كلمة العيد بلفظها ومعناها، فإن تسمية العيد بهذا الاسم تدل عليه بأخص معانيه، وهي الإعادة والتعييد، وليس لهذه الخاصة مدلول مفيد من أسماء العيد بأكثر اللغات.
فبعض أسمائه باللغات الأوروبية تدل على معنى الوليمة ووفرة الطعام، وبعض أسمائه تدل على اليوم الديني أو يوم البطالة. وليست هذه من خواص العيد التي ينفرد بها بين سائر الأيام.
وبعض أسمائه الحديثة تقابل كلمة «السنوية» أو «المئوية»، وتصدق على احتفال بعينه يجوز أن يكون يومًا واحدًا لا يعاد إليه، ويجوز أن يكون من غير الأعياد؛ لأنه من ذكرى الكوارث أو ذكرى الحداد.
أما كلمة العيد بصيغتها هذه في اللغة العربية؛ فهي أدل من تلك الأسماء جميعًا على خاصته ومعناه.
•••
ويعود هذا الاستعداد لتخصيص الألفاظ بمعانيها إلى سعة الاشتقاق في اللغة العربية على قواعده التي تؤدي كل قاعدة معناها المستفاد من وزنها، فإن الاشتقاق على حسب هذه القواعد يستمد من الفعل عمل الاسم وعمل الصفة، وموضع استخدام كل منهما، فيأتي الاسم معبرًا عن واقع فعله وعن المقصود بوصفه، وتصلح المادة الواحدة أساسًا لأسرة كاملة من المعاني المتفرعة عليها.
وكلمة العيد مصدر من مصادر كثيرة يدل على صفة العودة أو على هيئتها، ومن فعل (عاد) تؤخذ العودة للمرة من العود، وتؤخذ العادة للفعل أو الخلق الذي يكثر الرجوع إليه، ويؤخذ المعاد لمكان البعث أو زمانه، وتؤخذ العيادة للزيارة المتكررة، وتؤخذ العائدة لما يعود على الإنسان من نتائج عمله على معنًى قريب من معنى التبعة أو الجزاء. وتستعار العوائد لما يعطى أو يؤخذ مع التكرار والتوقيت؛ لأن الإعطاء والأخذ معنًى واحد من جانبين، فما يأخذه هذا هو عطاء من ذاك.
ويأتي عمل المضاعف والمزيد فيوسع دلالة المادة اللفظية، أو يسري منها إلى معانٍ تناسبها، وقد تخالفها في بعض عوارضها.
وهنا مجال واسع لمعاني الإعادة والاستعادة والتعويد والتعييد، ومجال واسع للتفرقة بين المعيد والمستعيد، وبين العود والمعاودة، والمعاد والمستعاد، ولا لبس في موضع لفظ من هذه الألفاظ؛ لأن وزنه دليل على موضعه من التعبير.
والاشتقاق موجود في لغات كثيرة، وهو بعض الخواص الملازمة للغات السامية، ولكنه لا يوجد بهذا التوسع على هذه القواعد المفصلة كما يوجد في اللغة العربية.
وكل ما يوجد في سائر اللغات السامية من قواعد الاشتقاق قائمًا يوجد بالمقدار الذي يدل على أنها كلها فروع من أسرة لغوية واحدة، وأن كل فرع من هذه الفروع مخالف في أساس تركيبه للغات النحت التي يطلقون عليها في الغرب اسم اللغات (الغروية)؛ لأن تنويع معاني المادة فيها يقوم على لصق المقطع، وضم العلامات والحروف لنقل الكلمة من صيغة الفعل أو الاسم إلى صيغ النعوت والظروف، ودرجات العمل أو الإفادة.
ولكننا إذا قارنا في خاصة الاشتقاق نفسها بين العربية وأخواتها في الأسرة اللغوية كادت أن تنفرد باشتقاق مقصور عليها، لا يضارعها اشتقاق العبرية أو السريانية أو الكلدانية أو الحبشية في السعة، ولا في تقسيم القاعدة، ولا في تحكيم المتكلم في التعبير عن أغراضه على حسب كل احتمال معقول.
فالاشتقاق العربي يعطي المتكلم من الأوزان بمقدار ما يحتاج إليه من المعاني المحتملة على جميع الوجوه، والمتكلم هو صاحب الشأن في اختيار الكلمة، وليست الكلمة هي العبارة المفروضة عليه؛ لأنها وضعت من أصلها ارتجالًا، أو محاكاة لصوت، أو تلفيقًا للأجزاء من مختلف المواد.
ولا يحتمل العقل المعبر صيغة للاشتقاق بعد استيفاء صيغ المصدر للمرة أو للهيئة أو للدلالة على الجمع أو الجنس المجموع، ولا احتمال لصيغة مطلوبة بعد صيغ المبالغة والتضعيف واسم الفاعل، واسم المفعول، والصفة الملازمة، والصفة المرتهنة بالحدث والزمان.
فالمتكلم المعبر هنا هو صاحب الشأن في تصريف المشتقات على حسب أغراضه واحتمالات تفكيره، واللغة قد وصلت على ألسنة المتكلمين بها إلى خلق القواعد التي يتبعها تكوين المفردات، قبل أن تعرض لهم الحاجة إلى استخدام جميع تلك المفردات، أو إنشاء الكلمات المرتجلة مع كل مشاهدة تأتي للمتكلم بشيء جديد يحتاج إلى لفظ جديد.
وقِدَمُ القواعد على هذه الوتيرة من أول القرائن على قِدَم اللغة، وقِدَم الزمن الذي ارتسمت فيه عند أهلها قوانين التعبير.
وبهذا القِدَم تنفرد اللغة العربية بين أخواتها من أسرة اللغات السامية، ولكنها تنعزل تمام الانعزال عن أسرة اللغات الحامية التي يخلط بعض المستشرقين بينها وبين العربية في أصولها، فإنهم — لتجردهم من الذوق الأصيل في بواعث التعبير باللغة العربية — يحسبون أن التشابه في بعض الضمائر، أو بعض الأعداد، أو بعض التصاريف التي تشبه الاشتقاق برهانٌ كافٍ على وحدة الأصول، ولو جاز الأخذ بأمثال هذه المشابهات لما انفصلت عائلة لغوية عن سائر العائلات اللغوية التي تتباعد غاية البعد في تقسيم الأصول والفروع، فإن الشبه بين بعض الخصائص الطورانية والملاوية وبين خصائص اللغة العربية أكبر من كل شبه بين الساميات والحاميات.
والمعلوم أن فروع الساميات تتألف من الأصوات المقطعية القصيرة، وتكتسب اختلاف المعنى باستعارة صوت إلى جانب صوت، ولا تنقسم فيها أجزاء الكلام انقسامًا يعزل الأسماء عن الأفعال، ويعزل هذه وتلك عن الحروف.
ولا قرابة بين لغات تقوم على هذه الأسس المتفرقة، وبين لغة تنقسم فيها حروف الجر وحدها انقسامًا يخصص كلاًّ منها بموضعه ومعناه، وعلاقته بالأسماء والأفعال، ولا حاجة بعد الالتفات إلى هذا الفارق في حروف الجر إلى بيان الفوارق الواضحة بين الحاميات والآريات معًا، وبين اللغة التي اتسعت فيها قواعد الاشتقاق المفصل ذلك الاتساع، واشتملت مادة الفعل الواحد منها على أسرة كاملة من درجات المعنى ومقاصد التعبير.


________
* المصدر: أشتات مجتمعات في اللغة والأدب، عباس محمود العقاد.
أعلى