مأمون أحمد مصطفى - غابة في قابل الأيام






أتابع مهموماً كل ما يقال عن موت الأجناس الأدبية، وأشفق على كل من يقول إن أجناساً أدبية ظهرت للوجود وقد راحت تتبلور وتشكل كينونة لها في غير مشهد ثقافي عربي، أقول هذا لأنني من غير المؤمنين بموت الأجناس الأدبية، ذلك لأن هذه الأجناس أثبتت موجوديتها وحضورها قروناً عدة من الزمن عبر أجيال تترى من الأدباء والكتّاب، وأنها أوجدت مدونات أدبية هامة في مجالاتها من المحال إزالتها أو غمطها أو تجاوزها..

إن الأقوال والآراء السلبية تتكاثر كالفطر المسموم حول الشعر، والقصة القصيرة، والمسرح، بعضها يقول بتراجع الشعر والمسرح والقصة القصيرة، وبعضها الآخر يقول بموتها جميعاً، ونحن ندرك ونعي معطيات هذه الفنون الأدبية الأصيلة وما تنتجه العقول النابهة التي أوقفت حياتها من أجلها وفي جميع البلدان العربية دونما استثناء،لا بل إن بعض البلدان العربية ما زالت تؤسس مدوناتها القصصية والشعرية والمسرحية، أي أن أجيالها الأدبية اليوم هي في ذروة عطائها وخصبها، وإن قيضت لي المساحة والوقت سأسمي عشرات الأسماء في المغرب والمشرق العربيين.



إنني على قناعة تامة بأن الأجناس الأدبية تتدافع وتتزاحم وتتداحم وبعضها يسبق بعضها الآخر من حيث الحضور والموجودية، وبعضها الآخر يتلبث قليلاً في الشيوع والانتشار، وبعضها الآخر يلمع ويشع أكثر من بعضها الآخر وذلك حسب الظروف، أو الاتجاهات، والمواهب الإبداعية المؤيدة له.. أما موتها فهو خرافة ليس إلا.. ذلك لأن تاريخ الأجناس الأدبية عرف تقدم بعضها على بعضها الآخر، ولكنه لم يعرف موتها، أو أي شكل من أشكال الموت أو الإماتة.. لأن الأجناس الأدبية باتت أشبه بالغابات الكبيرة، أو الأنهار العظيمة فهي ذات روافد وتجارب واتجاهات وأنماط ومدارس ومذاهب فنية. صحيح أن الرواية اليوم تتقدم الأجناس الأدبية رتبة وموقعاً، لكن الصحيح أيضاً هو أن الأجناس الأدبية التي تتأخر عنها ليست بميتة إطلاقاً، إنها موجودة، وموجودة بكثرة، ولها جمالياتها وتقنياتها وأسماؤها وتجاربها.. فالتقدم أو التخطي أو التجاوز لأي جنس أدبي لا يعني موت الأجناس الأدبية الأخرى، فأمس، وقبل عقدين من الزمن أو ثلاثة كانت الصدارة للشعر، ومن بعد عَرفت القصة القصيرة ازدهاراً مرموقاً في جميع أنحاء العالم.. ولم يقل أحد آنذاك إن الأجناس الأدبية الأخرى، ومنها الرواية، تتأخر وتعاني أو إنها شبه ميتة. وحين تقدم فن المسرحية وازدهر كتابة وتمثيلاً في عقد السبعينيات لم يقل أحد إن الشعر انتهى وتلاشى أو إن القصة القصيرة سحقت وبادت أو إن الرواية لا مستقبل لها.. إطلاقاً إن تعابير كهذه لم يستخدمها النقاد العارفون بطبيعة الأجناس الأدبية، لكن بعضهم اليوم، للأسف الشديد، يستخدمونها وهم يرون التقدم الكبير، والحضور الطاغي اللذين تستحوذ عليهما الرواية، دون أن يقدموا برهاناً مؤكداً على أن باقي الأجناس الأدبية استكانت وخمدت أو أنها ماتت بالفعل، فالقصة القصيرة ما زالت موجودة وذات فعالية، ولها أسماؤها، وتجاربها، ومنابرها، ومهرجاناتها، وندواتها.. والمسرحية (نصاً وتمثيلاً) هي الأخرى موجودة طباعة وتمثيلاً، فالمسرح في البلاد العربية لم يرتو بعد من معطيات التجريب، وعمره لا يزال عمر الشباب قياساً مع فعالية المسرح في البلاد الغربية.. ومهرجاناته كثيرة ومتعددة في بلادنا، ومعاهد المسرح تواصل تخريج كوادر المسرح في الكتابة، والنقد، والتمثيل، والإخراج، وسائر التقنيات المسرحية المصاحبة للعرض المسرحي.. والشعر هو الآخر لم يؤكد أحد أنه توارى أو حيّد أو انطفأ.. فالشعر يكاد يكون خبز حياتنا اليومية، فالشعر حاضر في أحاديثنا وكتاباتنا، كما هو حاضر في المهرجانات والندوات والجوائز والمناسبات الكثيرة والجامعات، وللشعر في بلادنا مدونات ثقال، وتجارب عظيمة، وأسماء تعدّ من أكابر شعراء العالم.

إذن، موت الأجناس الأدبية خرافة ليس إلا، وتقدم بعضها على بعضها الآخر هو الحقيقة، ولكل تقدم أسبابه وموجباته، فالرواية تتقدم الأجناس الأدبية كتابة، وطباعة، ونشراً، وقراءةً، وحضوراً، ونقداً.. لأسباب لها علاقة بطبيعتين اثنتين، الأولى: طبيعة المجتمع الذي تسارعت حركته على نحو غير مسبوق فتسارعت الذات البشرية حتى ليكاد يسمع تلاهث البشر في كل مكان.. في الطرقات، والحقول، والمدارس، والقرى، والمدن، والمعامل، والحافلات، والبيوت، والحدائق، لأن كل شيء متسارع، وعجول، ومتحرك على نحو محموم.. لذلك فإن النفوس، والأذهان، والأرواح راحت تطلب الهدأة من أجل التوازن وعدم الوقوع في اللامعنى، وبذلك صارت قراءة الرواية مجالاً للهدوء الاجتماعي كمعادل موضوعي لهذا الدوران الصَّخّاب في كل مجالات الحياة. والطبيعة الثانية هي طبيعة الذات البشرية الميالة إلى التأمل والتفكر، والانفراد.. ليس حباً بالعزلة، وإنما حباً بمعرفة الذات ومواجهتها من جهة، وانتشالها من عالم الضجيج من جهة ثانية..

إن تلاقي الطبيعتين الاجتماعية والفردية عند هدف واحد يتمثل في الفرار من هذا التسارع اللاهث المحموم هو الذي جعل من الرواية فضاءً رحباً للقراءة ومرآة مفضلة لرؤية الذات وقد عادت من لوبانها وصخبها وركضها منهكة لتعيش قصة التأمل والهدوء. لقد باتت الرواية، في هذه الحال من التسارع والاضطراب وتداخل الأحداث والأخبار وتعدد الحادثات، أشبه بالدواء المضاد لحمّى السرعة طلباً للتوازن الداخلي/ الفردي، والخارجي/ الاجتماعي.

إن القول بموت الأجناس الأدبية هو قول انفعالي لا يتعدى أن يكون مجرد زفرة نقدية أطلقت هنا أوهناك فشاعت.. فالفنون لا تموت لأن وجودها قرين بوجود الإنسان والمواهب في آن، لعلنا نسلم بأنها تعرف الدوران، والتلبث، والهدأة، والتواري.. لكننا لا نسلم بأنها تعرف الموت إطلاقاً لأنها هي روح الإنسان ودائرة إبداعه ومجاله التعبيري الأبدى.

أدفع بهذا العتبة الصغيرة استهلالاً للحديث عن مجموعة الأديب مأمون أحمد مصطفى، وعنوانها (على رصيف)، وأظنها عمله الثاني الذي يهمّ بنشره على الناس، والحق أنني لم أقرأ له العمل الأول لذلك أعدّ هذا العمل بوابة التعارف بيني (كقارئ)، وبين الأديب مأمون أحمد مصطفى (ككاتب). لقد جاءني بالعمل وزكّاه صديق لي اسمه حسن شتيوي، فامتدح أمامي موهبة مأمون ودأبه على الكتابة خصوصاً ما تجيش به نفسه تجاه قضايا مصيرية مثل القضية الفلسطينية، فهو من جيل عقد العزم على أن يقدم شيئاً ذا بال وأهمية في آن. ولا بدّ لي من أن أعترف مرة أخرى أنني من هؤلاء النفر من الأدباء الذين يطمحون، مهما امتدت بهم التجربة، ومهما أعلنت عنهم الموهبة والمفهومية، إلى رؤية ما حبّره الآخرون وما أنجزته مواهبهم، وما تموضع من علاماتها على مرايا الآخرين، أيّاً كانوا! ذلك لأن الذات الكاتبة التي تكتفي بالرضا الشخصي هي ذات لا تؤمن بالحوار والمشاركة والاجتماع القدر الكافي الذي يجعل نصوصها معنية بالحوار والمشاركة والاجتماع، إن الرضا الشخصي عن كل ما تكتبه الذات زعماً بأنها الناقد الأول والأخير للنصوص التي تكتبها.. هو رضا يقود إلى الأنانية من جهة، وعدم رصد حساسيات الآخرين تجاه النصوص المكتوبة من جهة ثانية.. لذلك على الكاتب أن يعي رضاه الشخصي الذي ليس هو في محصلته النهائية سوى عتبة تأخذ النص إلى مرايا الآخرين. فالآخر المتعدد هنا هو مجموع الرضا الجمعي الذي يوافق الرضا الشخصي أو هو مجموع اللا رضا الجمعي الذي يخالف الرضا الشخصي.. والنصوص الملوكية رُتبةً هي النصوص التي تستحوذ على الرضا الجمعي الذي يضاف طوعاً إلى الرضا الشخصي.

لكل هذا.. لا أقف، كما يقف غيري من أهل الكتابة، (وهم كثر) ضد أن يُقدم للعمل الأدبي، فأنا لا أحفل بقول بعض القراء وبعض النقاد وفحواه: أن العمل الأدبي يقدم نفسه بنفسه. إنني من المؤمنين بأن الرأي الآخر، سواء أكان سابقاً للنصوص أم تالياً عليها هو رأي مهم، ومن حق الأدباء الطالعين أن يأخذوا هذه الترسيمات التي تبدو في مرايا أدباء سبقوهم في التجربة والإبداع.. ولكنني على قناعة أيضاً أن ألف مقدمة ملأى بالتعاطف والمحاباة والبخور.. لا تفيد شيئاً إن كانت النصوص ضامرة، باهتة، لا وزن لها ولا طعم، فالتعاطف المجاني، والمحاباة الكذوب، والبخور الذي يشيع في غير مكانه يُوقع المقدم والكاتب والنصوص في مطب البرودة إن لم تكن النصوص حارةً أصلاً وجديرة بالتقديم. صحيح أن بعض الكتّاب يكتبون المقدمات حياءً، أو دفعاً للحرج.. ولكن الصحيح أيضاً أن لهذا الحياء، وذلك الحرج أطيافاً لا يمكن إخفاؤها تماماً.

وبعد، فإنني أحاول، هنا، أن أعبر عما جاش في نفسي وأنا أقرأ نصوص الأديب مأمون أحمد مصطفى.. وذلك عبر إشارات سريعة.

أولاً: سرني في هذه النصوص الاهتمام باللغة، فالكاتب متمكن من أداة رئيسة لا يمكن إنجاز النص من دونها وهي: اللغة؛ وعندما أقول اللغة، ونحن نتحدث عن نصوص أدبية، فإن هذا يعني المقدرة الأدبية على الوصف، والتصوير، والالتفات، والمداورة، والوقف، والمضايفة،.. فلغة الكاتب، في جل نصوصه، لغة صافية، سلسلة، ومأنوسة، ماضية مثل ساقية طروب جذلى، لا وعورة فيها، ولا تعقيد، ولا التواء، أو بهمة، وهي في الوقت نفسه تظل في أحياز النثر فلا تشقق الصور والمعاني ولا تأتي بالتشبيهات التي يعمل عليها كثير من الشعراء. وعندي، أن سلامة اللغة الأدبية مؤشر مهم في النص الأدبي.. ذلك لأن امتلاك الكاتب للغة يمكّنه من التعبير عن مكنونات الموهبة وإظهارها.

ثانياً: بدت في النصوص مقدرة على السرد والاستطراد الحكائي كيما تبدو الشخصيات، ويشرق المكان، وتتجلى العلائق الاجتماعية بين الشخوص والأخبار والحادثات.. فالسرد هو الذي يمهر النصوص بالروح القصصية، وبه تنجو من أن تظل تصورات معلقة في الهواء لا هي بالنثر ولا هي بالشعر.. السرد هو الملاك الحارس للنصوص الحكائية الذي يدخلها بأمان إلى مدونة القصة القصيرة أو الرواية..، وهذا أمر ليس بالسهل أو الهين ولا سيما حين يكون الكاتب في مفتتح الطريق.

إن الروح المجنح قد يغري الكاتب في البدايات، والوجدانيات قد تستغرقه، ونداءات الشعر قد تغويه.. والمهارة هنا هي التي تعبر عنها الموهبة التي تأخذ النص إلى مجال فني له جنس وأحياز.

إن مهارة السرد، والسيطرة على المعمار الحكائي، ومعرفة متطلبات النص القصصي.. كلها أخذت بيد الكاتب مأمون أحمد مصطفى كي يكتب نصوصاً قصصية تشد القارئ إليها فلا يفلتها إلا وقد أتى على النص كاملاً.

ثالثاً: لقد رأيت ووعيت مهدوفية الكاتب منذ نصه الأول، فهو يريد أن يجعل من نصه رسالة معنى يطير بها الفن.. فهو من المؤمنين بالقضية الفلسطينية.. يعي حادثاتها فيحزن، ويدرك المكاره التي تحيط بها فيقف عندها، ويبصر الدرب الموصل إلى عدالتها.. فيماشي الأرواح التي كادت الطريق تميل بها، ويؤاخي النفوس التي كادت أطياف اليأس تخترمها.. لذلك فإن النصوص تتنفس مواجع الفلسطينيين في مخيماتهم، وتجول معهم عبر معاناة لم يعرف قسوتها وآلامها شعب من شعوب الأرض، وتلوّب معهم نشداناً للخلاص المشتهى.

رابعاً: شدتني النصوص إلى افتتاحياتها النداهة مثل الضوء، أو قل مثل المدن الجميلة.. إغواءً للقارئ كي يدخلها بسلام.. من دون أن تعطيه أماناً مطلقاً لأن الأفخاخ والأشراك رابخة في طياتها بسبب الألم الثقيل، والأذيات القواصم، والمرايا العابسات، وودت أن أقول إن جمالية الافتتاحيات تكاد تكون هي جمالية الخواتيم أيضاً لولا أن العطش يلفُّ خطفها السَّامي حيناً، ويبدد عنفوان إغلاقها العاصف حيناً آخر.

إن الكاتب الذي يعي كيفية افتتاح النص القصصي، وكيفية اختتامه.. اقتناصاً للحظتين زمنيتين فذتين هما: لحظة الإغواء التي تمتلكها جملة الافتتاح، ولحظة الخطف السامي أو العصف الفني المطلق.. هو كاتب حباه الله بنورانية المعرفة القصصية، لأن وعي هاتين الفاصلتين الزمنيتين يشير إلى وعي الكاتب وحرصه معاً على تأثيث نسيج داخلي للنص يلبي متطلبات الذات المبدعة.

خامساً: أسعدتني مهارة الكاتب بأنه لم يقع في حقول عدة حاولت خطف نصه منه.. كالحقل الإيديولوجي، والتاريخي، والفكري، ناهيك عن أن نبرة المباشرة لم تعصف به.. فظلّت النصوص قصصاً تبدي الألم الفلسطيني مرة، وتساهره مرة أخرى، وتشير إليه مرة ثالثة، وتعيشه مرات ومرات.

إنني سعيد حقاً بهذه الموهبة الأدبية الطالعة نبتاً معرفياً وفنياً.. وأعدها وعداً صادقاً بأن قلبي سيظل يدق لها.. كيما أراها غابةً في قابل الأيام.



حسن حميد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى