محمد سهيل احمد (*) - قراءة في رواية ( سنوات الحضور والغياب ) لحمد الحمد

قراءتي لرواية الكاتب والاديب حمد عبد المحسن الحمد والموسومة ( سنوات الحضور والغياب ) والكاتب حمد من مواليد 1954 وبدأت مسيرته الادبية عام 1988 على صفحات جريدة الانباء الكويتية وصدرت له اكثر رواية ومجموعة قصصية . تسنم رئاسة رابطة الادباء الكويتيين لعدد من السنوات وحاليا منهمك بمشروع متعدد الاهتمامات حيث ينشر ويحقق كتبا في التراث الكويتي الادبي والغنائي والفولكلوري بجهد فردي تعجز عنه مؤسسات . يسعدني ان ارسل قرائتي لروايته التي اشرت اليها اعلاه ويشرفني نشرها في موقع الانطولوجيا الطليعي مع الشكر والامتنان .
محمدسهيل

* حمد عبد المحسن الحمد كاتب كويتي غزير الإنتاج بدأ مسيرته الادبية اواخر الثمانينيات عبر مجموعته القصصية الأولى ( مناخ الأيام ) لينطلق فيما بعد لآفاق السرد من خلال أعماله الروائية ( زمن البوح 1997) ، ( مساحات الصمت 1999) ،(الأرجوحة 2002 ــ تحولت الى مسلسل تلفزيوني ) ، ( مساءات وردية 2004 ) ، ( اختطاف 2011)، (ثلاثية زمن البوح 2019 ) ومؤخرا مع رواية ( سنوات الحضور والغياب ــ في طبعتين 2021).
بادئ ذي بدء لامناص من استنطاق (عتبة ) هذا العمل الروائي او بالأحرى ما يسمى بـ ( ثريا النص ) او عنوان الرواية التي تجري صفحاتها في 352 صفحة تقريبا . يتمحور العنوان حول مهيمنتين اساسيتين كثيرا ما عهدناهما في أعمال الكاتب السابقة الا وهما مهيمنتا الزمان والمكان .
يقول الكاتب العراقي محمود عبد الوهاب في كتابه الموسوم ( ثريا النص ) والذي يعتمد التنظير ان " العنوان ليس بنية نهائية انما هو بنية صغرى " (1) . وعنوان رواية الحمد ، بشكل أو بآخر ، يحيلنا الى دور الزمن في أحداث الرواية والذي يتجلى بمفردة ( سنوات ) بينما تميل مفردتا الحضور والغياب الى مفهوم الدلالة المكانية التي ستعزز هذا العمل الروائي الطويل ، عبر فصوله الستة . اذن فعنوان الرواية يشكل نوعا من أنواع الإحالة الى أحداث النص . يقول كتاب ( ثريا النص ) : " لم يعد العنوان بريئا فقد شرع يمنح قارئه قاعدة للتأويل بعد ان كان يضع بين يديه المعنى جاهزا ". ( 2)
ولا شك ان الصورة التي استخدمها مصمم الغلاف ــ وهي بالأسود والأبيض ــ قد أدت دورها كعامل مساعد لتعزيز فكرتي الزمان والمكان .





الزمن بعدا رابعا للمكان

تتوزع أحداث الرواية على أكثر من حقبة زمنية لعلها تعود الى خمسينيات القرن الماضي ومن ثم ، ومع مرور السنوات ، نجد أنفسنا نحن القراء في حقب لاحقة عاشتها شخوص العمل .ويبدأ الفصل الأول بتهيؤ ( مطر ) وهو مواطن من سكنة ( ابو حليفة ) بجنوب الكويت لرحلة حج . نلتقي في الفصل الأول من الرواية بوجوه نصف قروية نصف بدوية تسكن منطقة ابو حليفة الساحلية في زمن كانت الرحلة فيها بينها وبين ( الديرة ) او بوابة الجهرة تقطع على الأقدام رغم ان المسافة لم تكن تتعدى الاربعين كيلومترا : " اعرف مسير ابوي وجدّي من ابو حليفة حتى بوابة الجهرا ساعات على رجليهم " ( 3)
اسرة ( ابو فهد العنار ) لم تكن كبيرة عددا : زوجة ، وولدان هما فهد وبدر وابنة واحدة هي بزة .يصور الكاتب طبيعة الحياة الاجتماعية لأبو حليفة فهي منطقة ذات طابع بدوي غالب تشوبه حياة قروية بحكم وجود عدد من المزارع فيها ضمن حياة يومية ذات طابع تقليدي محافظ . يسلط حمد الحمد الضوء على التركيبة السيكولوجية لذلك الأب الذي تهفو نفسه لإبنه الأكبر سنا ( فهد ) مع استصغار لشخصية ابنه الاصغر ( بدر ) اذ اعتاد ان يشعره بضآلة شخصه وبأنه ليس سوى " دجاجة " ! عاكسا انطباعا بأن ذلك الابن الأصغر ليس سوى كائن خرع يشبه الدجاجة في الطباع .ومن اجل ان يزرع في روحه الغضة القدرة على مجالدة صروف الزمن فإنه يقرر اصطحابه معه في رحلة الحج ، على الرغم من جزع ومعارضة امه واعتراض خاله ( سعود ) والحاح شقيقته الكبرى بزة .لكن الأب يصر على اصطحاب ابنه بدر في رحلة حج شاقة ومضنية لاسيما ان الأب يستذكر كيف ان ابنه بدرــ ذات يوم ــ أوشكَ على الهلاك غرقا في ساحل البحر " " اخوك مفروض يصير رجال مو من قطرة موج يغرق .. كل شيء مكتوب ! "( 4) .
ابرق خيطان
وتنتقل الرواية بنا الى منطقة اخرى من مناطق الكويت لا تقل احتفاظا
بتقاليدها الاجتماعية ومناخ الصحراء عن ابي حليفة ، وإن كانت اقرب مسافة الى مركز الكويت ( الديرة ) ألا وهي ( خيطان ) حيث يستعرض الكاتب على نحو بانورامي الحياة اليومية لأسواقها وعائلاتها من خلال شخصية ( خليفة السياني ) الذي ينتمي لأسرة تعيش شظف العيش ويحلم بتغيير واقعه المتردي ليكون بمستوى أغنى أغنياء البلد : " ذلك الحديث عن هلال وما ترويه عنه أعجبه وقال : " ليش ما أصير مثل هلال " ( 5) وكان يقصد ثري الكويت هلال المطيري الذي كان من اثرى اثرياء الكويت لقاء عمله بصيد اللؤلؤ.



الحوار مصباحا كاشفا
آثر الحمد استخدام حوار الرواية باللهجة الكويتية العامية قاصدا ان يعكس ، وعلى نحو تلقائي ، دخيلة كل شخص من شخوص الرواية متفاديا الحوار ( المتثاقف ) الذي غالبا ما يضفي على الخطاب السردي قدرا كبيرا من التصنع واللاتطابق .وهو المطب الذي يقع فيه العديد من كتاب السرد القصصي والروائي ، على حد سواء : " زين يا وليدي ما نبي الحرام وما نبي نخالف اللي يأمرون به الشيوخ ولا نبيك تشتغل بالبراطيل " (6)
والمؤلف لا يتردد في تطعيم حوارات شخوصه بمفردات شعبية ذات طابع فولكلوري مثل : البراطيل = وتعني الرشاوي ، مشتان = مهموم ، الغضارة = الطاس ، الكريون وهو زي مشابه للنقاب تلبسه نساء ابي حليفة . وقد تنوعت المفردات في جذورها بين الفصيح والأجنبي ما جعلها تؤدي وظائف دلالية تعكس طبيعة اللهجة السائدة في زمن أحداث الرواية .
"الرواية في مصر، حيث اقتحمت لغة التخاطب اليومي، تلك الحيّة والدالة على طبائع متكلّميها كما على أشكالهم وهيئاتهم، صرح الفصحى التي ما زالت الروايات العربية الأخرى سجينته." ( 7 )
بينما ينحاز الروائي الفلسطيني ربعي المدهون صاحب رواية (مصائر. كنشرتو الهولوكوست والنكبة) إلى اللغة المحكية بشكل كامل، قائلا : " أعشق استخدام العامية في الحوار الروائي، لما تنطوي عليه من قدرة تعبيرية هائلة،فالعامية، التي هي لغة سائدة في حياتنا اليومية، تعد تكثيفاً مذهلاً لمخزون تعبيري ودلالي رافق تشكلها عبر السنين، ما لا توفره الفصحى للحوار أحياناً، حين تصبح حملاً ثقيلاً على النص نفسه مثلا، بخلاف العامية المسيطر عليها فنيا، الموظفة في السرد ببراعة "(

تحديات الخطاب السردي
من الجلي ، اثر الفراغ من قراءة هذا العمل الروائي المتشعب زمانا ومكانا وأحداثا ،ملاحظة طبيعة التقنيات الأسلوبية التي وظفها الكاتب لانجاز عمله الروائي . ومما لاشك فيه ان الحمد واجه عدة تحديات تقنية من اجل انجاز هذا العمل .التحدي الأول يتمثل في تعدد الوجوه وتعقب حالات حضورها وغيابها المتتابع وهي تحديات تمكن الروائي من اجتياز جلّها أعانه على ذلك سلاسة اسلوبه في التناول . أما التحدي الثاني فقد تجلى في تزاحم احداث الرواية التي اعتمدت تقنية الرصد التقليدي في رسم الأحداث وهو ما كان المؤلف يقظا منتبها إزاءه الأمر الذي أسبغ على منجزه سمات ابعدته عن الخلط والتنافر فجاءت الرواية محكومة بنسيج صياغي مجبول من خامة واحدة أضفى على العمل قدرا كبيرا من التناغم والانسجام .لقد وظف الكاتب آلية الراوي العليم على امتداد فصول الرواية الستة ما عدا لجوئه لكشف تحولات ( البطل ) المحوري في الرواية على الصعيدين الداخلي والخارجي ، الى كشكول يوميات بدر الذي تتدفق انثيالاته عبر الفصول الأخيرة من النص الروائي والتي تمثلت في انطباعاته وتنقلاته ووجهات نظره ازاء الشخوص التي تعايش معها في ابو حليفة ، الرياض ، الكويت ، وهاليفاكس التي تقع هنالك في أقاصي الدنيا : " يا ميناء انتظرني ، بدأت اعد العدة وأرسم الخطة وأبتعد عن برهان الدين بأفكاره الرمادية التي تلف حديثنا اليومي ، هو يتمنى ان يموت بالبحر ، اذا لم يكن بالغرق فهو يفكر بالانتحار " ( 9)

أربع صياغات
ان معيار تصنيف أي متن روائي هو الزمن بشكليه .. الزمن الكرونولوجي الذي تمثله الساعة والدقيقة والثانية والسنة واليوم والشهر ، والزمن المحسوس به والذي ينبثق من الدخيلة . ويحدد الناقد عبد الله ابراهيم اطر ذلك المعيار قائلا : " ان ثمة أربعة نظم أساسية تستأثر بالصياغات البارزة في الخطابات السردية وهي التتابع والتداخل والتوازي والتكرار " ( 10 ) . ولاشك ان أي قارئ للرواية ، في ضوء الصياغات المشار اليها آنفا قد جرى تبنيها عبر فصول الرواية ، فعلى سبيل المثال ــ اذا ما أخذنا عنصر التوازي بنظر الاعتبار ــ نجد ان المادة الحكائية تتفرع الى أكثر من محور بحيث تتعاصر زمنيا من حيث وقوعها .والملاحظ ايضا اتقان حمد الحمد لآلية القطع ( المونتاج ) والتعليق Suspense وهما المهارتان اللتان تعكسان مهارة الكاتب النابعة من قدراته التقنية على الصعيد الشخصي مثلما تعكسان ثقافته السينمائية اذ كثيرا ما عمد الى بتر احداث احد الفصول الفرعية في الرواية ومن ثم العودة اليه في فصل لاحق . وعموما تذكرنا الفصول الأخيرة في الرواية بمسلسل ( الهارب the Fugitive ) الهوليوودي الشهير من حيث التقنية والتناول والتعليق فبدر العنار يفلح في التسلل الى بلده الأصلي ــ الكويت عن طريق التهريب ، ويلتقي في المباركية بوجوه الفها وحلم بالالتقاء بها مثل ( عزوز ) صديق الطفولة الذي يتعرف على شخصية بدر لكن الأخير يفرّ منه والأمر نفسه يحدث اثناء تعرف اخته ( بزة ) عليه فيلجأ للفرار منها ، وهو رد فعل من افعال الهروب ذات الطابع النفسي التي تتلبس شخصية بدر الحاضر الغائب .
مقارنة برواية ( الأرجوحة ) لا ريب ان أدوات حمد الحمد الفنية قد ازدادت نضجا مع مرور الزمن وتراكم الخبرات وهو ما يتضح عبر روايته ( سنوات الحضور والغياب ). ومع تأكيدنا على تفرد هذا العمل الروائي من حيث الاتساع الزماني والمكاني ومن حيث المصير الذي اختاره بدر لنفسه وهو يشق غبار الصحراء العربية عائدا الى جذوره الأسبق ومن ثم عمله كطاه في احد المراكب المترحلة الى اعالي البحار ومن ثم اقترانه بالفتاة الكندية ( بربارة ) ، يمنح القارئ خلاصة ذات مغزى حياتي وفلسفي في آن معا : " اصبحتُ ابن الأوطان وابن الامكنة ، امكنة مختلفة ووجوه مختلفة ، اسمع لغات مختلفة وأكتشف انها أصوات انسانية مثلي تشتاق للأرض وتبحر مع الزمن " ( 11)
وهاهو الكاتب يستقرئ الغد في زمن وتطلعات أبناء جيله وما طرأ على بلده من تبدلات انعكست على التركيبة السيكولوجية للجيل الراهن والجيل القادم المنهمك في عوالم الميديا والامتثال لقوانين عالم جديد محكوم بالسرعة وعشق الانتقال والعزلة وتسارعات التآلف واختلاط قيم الانتماء باللاانتماء . وباختصار يمكن القول انّ جهود حمد الحمد الروائية تعدّ اسهامة بارزة في مسار الرواية الكويتية ، ذلك المسار الذي خاضت غماره اصوات مثل فاضل خلف ، سليمان الشطي ، سليمان الخليفي ، ليلى العثمان ، طالب الرفاعي ، خالد الشايجي وآخرون بما أتاح للرواية الكويتية ان ترسخ أقدامها في ظل أجواء تنافسية محلية واقليمية وعالمية .
باختصار يمكن القول ان ( سنوات الحضور والغياب ) انما هي رواية أجيال .. بامتياز !



-----------------------------------------------------
اشارات
--------
(*) محمد سهيل احمد ـ كاتب من العراق ــ البصرة

(1) محمود عبد الوهاب ، ثريا النص ، المكتبة الأهلية للنشر والتوزيع ، البصرة ، ط2 ، 2021 ص15 .

( 2) المصدر نفسه ص 75
(3) حمد الحمد ، سنوات الحضور والغياب ، دار الفراشة للنشر والتوزيع ، الكويت ، ط2، 2022 ص 9
(4) المصدر اعلاه ص22
(5) المصدر نفسه ص184
(6) المصدر السابق ص 160
(7) احمد مجدي علام ، تيارات الحوار في الرواية العربية بين الفصحى والدارجة ، صحيفة القدس العربي مارس 2016
( المصدر أعلاه
(9) سنوات الحضور والغياب ص 300
(10) د. عبد الله ابراهيم ، المتخيل السردي ، المركز الثقافي العربي ، بيروت ط1 1990 ص 107
(11) سنوات الحضور والغياب ص 293

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...