مقدمة
في أواسط القرن الرابع الهجري ذهبت سطوة الخلافة العباسية واستبد بالخلفاء مواليهم من فرس وديلم وترك، وساموهم الخسف وسوء العذاب، فاستقل كثير من الأمراء عن بني العباس وأسسوا دويلات صغيرة: كآل بويه، وأل حمدان، والساسانيين وغيرهم، ولم يبق للخليفة من مظاهر القوة شيء.
بيد أن هذا الانحطاط السياسي في الدولة لم يمنع الحياة العقلية من الازدهار لتنافس الأمراء في تقوية دويلاتهم علمياً وأدبياً؛ فنما الشعر ونضج التفكير، واشتدت حركة النقل والبحث في العلوم الفلسفية على اختلاف شعبها ثم هضمها وصبغها بالصبغة الإسلامية.
وكان من عواقب الانحطاط السياسي للدولة العباسية تكوين كثير من الجماعات السرية وغير السرية التي تحاول القضاء المبرم على العباسيين حتى تضع غيرهم مكانهم، أو توجد لنفسها كياناً مستقلاً. ومن هذه الجمعيات التي ظهرت في منتصف القرن الرابع الهجري (جماعة إخوان الصفاء) وهم من الشيعة الباطنية الذين لم يرضوا عن الخليفة العباسي كما لم يرضوا عن الخلافة الفاطمية في مصر. وحاولوا قلب النظام السياسي بقلب التفكير العقلي وإيجاد ثقافة جديدة يعتنقها شباب عصرهم مقتفين في ذلك أثر الفيتاغوريين وأفلاطون. ومن المعلوم أن الفيتاغوريين كانوا جماعة سرية إصلاحية حانقة على نظام الحكم اليوناني وأنهم حاولوا تغييره بخلق مذهب جديد ونظريات حديثة عن العالم ونشأته داعين إلى الزهد والتقوى. ومن المعلوم كذلك أن أفلاطون كان ساخطاً على حكومة أثينا. فلا الأرستقراطيون أرضوه لما يرتكبونه من ظلم وجور، ولا الديموقراطيون حققوا آماله للفوضى التي ضربت خيامها في أثينا؛ وذلك حد في وضع منهج جديد للحكومة في كتابه الجمهورية وإن كان قد فشل حينما حاول تطبيقه عملياً.
أما إخوان الصفاء فقد نالوا شيئاً من النجاح لأنهم من الإسماعيلية الباطنية. وهؤلاء قد استطاعوا أن يوجدوا لأنفسهم كياناً سياسياً مكن لهم في بعض الأرض ونشر الرعب في العالم الإسلامي. وسنرى فيما بعد أدلتنا على أنهم من الإسماعيلية بل إن رسائلهم هي دستور هذه الطائفة.
من هم إخوان الصفاء
لقد أحاطت هذه الجماعة السرية نفسها بسياج متين من الكتمان ويقولون في ذلك: (إننا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفاً من سطوة الملوك ذوي السلطة، ولا حذراً من شغب الجمهور من العوام ولكن صيانة لمواهب الله عز وجل لنا. لذلك حار الناس قديماً وحديثاً في معرفة أسمائهم، ولولا ما نقله القفطي عن أبي حيان التوحيدي في هذا الصدد وتعداده لبعض الأسماء المشهورة بينهم لعمى علينا الأمر فقد ذكر في أثناء حديثه عن زيد بن رفاعة (أنه أقام بالبصرة طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي (ويعرف بالمقدسي) وأبو الحسن علي بن هاورون الزنجاني وأبو أحمد المهرجاني وأبو الحسن العوفي وزيد بن رفاعة)
مكانهم وزمانهم:
كانت البصرة مركزهم الرئيسي وإن لم يذكر الإخوان شيئاً من ذلك في رسائلهم بيد أن القفطي قال: (وقد أقام زيد بن رفاعة بالبصرة زماناً طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم. . . الخ)، وهناك ما يؤيد رأي القفطي وهو أن البصرة كانت منذ أسست عاصمة العلوم الإسلامية ومحط كثير من رجال الفقه، فيها نشأ الحسن البصري ورؤساء المعتزلة، وفيها قام عبد الله بن ميمون بفتنة القرامطة أصل مذهب الإسماعيلية في أواخر القرن الثالث الهجري، وفيها قام أبو الحسن الأشعري يتنصل من الاعتزال، وكانت فيها حلقات العلم من كل فن وفي مربدها ينشد الشعراء قصائدهم؛ فلا عجب إذا أن كانت البصرة مأوى إخوان الصفاء.
هذا وقد كان للجماعة أنصار في مختلف البلدان ولهم دعاة يبشرون بمذهبهم بطرق منظمة؛ وفي هذا يقولون: (إن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد). ويظهر أنه كان في بغداد جماعة أخرى على اتصال وثيق بإخوان الصفا وعنها يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه المقابسات: (من أعضائها أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني، وأبو زكريا العميري، والعروضي أبو محمد المقدسي، ويحيى بن عدي، وأبو إسحاق الصابي، وماني المجوسي)، ويظهر أن أبا سليمان المنطقي السجستاني كان رئيس هذه الجماعة فكثيراً ما يقول أبو حيان (دارت في مجلس أبي سليمان. . . مناظرات)، ويقول: (أملى علينا أبو سليمان). ويظهر أيضاً أن أمر هذه الجماعة الفلسفية كان على شاكلة أختها في البصرة سرياً؛ فقد ثبت أن أبا العلاء المعري كان يختلف إلى هذه الجماعة بدار عبد السلام البصري أيام الجمع حينما قدم بغداد وهم الذين سماهم إخوان الصفاء حين يقول:
كم بلدة فارقتها ومعاشر ... يذرون من أسف على دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى ... لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خالت توديع الأصدقاء للنوى ... فمتى أودع خلي التوديعا
وقد كان لاحتكاك أبي العلاء مع تلك الجماعة وتعرفه على مختلف النظريات الفلسفية والدينية والصوفية الأثر الأكبر في اتجاه أفكاره وفلسفته، فيقول الأستاذ ماكدونالد (يظهر أن أبا العلاء اتصل بفئة مثل إخوان الصفاء إن لم يكونوا هم أنفسهم)
ومما تقدم نرى أن إخوان الصفاء كان مركزهم الرئيسي بالبصرة وكان لهم فرع قوي ببغداد، وأنصار ودعاة في مختلف البلدان والأمصار.
أما الزمن الذي وجد فيه الأخوان فهو أواسط القرن الرابع الهجري: ومن العسير تحديد السنة، بيد أن هناك ما يرجح أن الرسائل ألفت فيما بين سنتي 334هـ و 373هـ؛ لأن بدء ظهورهم كان على أثر سيطرة آل يويه على بغداد سنة 334هـ، ولم نسمع بهم قبل هذا التاريخ، ومن الجائز أن تكون جماعتهم قد تأسست قبل ذلك وبقيت في طي الكتمان، ولم تتجرأ على إظهار الرسائل إلا بعد هذا التاريخ.
نظام جماعتهم
كانت جماعة إخوان الصفاء تتكون من أربع طبقات: الأولى شبان يتراوح عمرهم بين خمس عشرة وثلاثين سنة، وهم الذين يسمونهم في رسائلهم بالإخوان الأبرار الرحماء. ويظهر أن الرسائل قد ألفت لهذه الطبقة لأن الخطاب فيها موجه دائماً إلى الأخ البار الرحيم. أما الطبقة الثانية فرجال الثلاثين والأربعين يتلقون الحكمة الدنيوية، ويظهر أنه كان يعهد إليهم مراعاة الإخوان ومساعدتهم والتحقق عليهم، وهم الذين يسمون في الرسائل بالإخوان الأخيار الفضلاء. والطبقة الثالثة رجال بين الأربعين والخمسين من العمر وهم يعرفون الناموس الإلهي، كما أنهم أصحاب الأمر والنهي والسلطة بين الإخوان، وإليهم يعهد بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق والمداراة في إصلاحه)، وهم الذين يسمون بالإخوان الفضلاء الكرام. والطبقة الرابعة وهي مرتبة من يزيد على الستين سنة وهي أعلى المراتب في نظامهم ومن يصل إليها يكون فوق الطبيعة والشريعة والناموس، ويكون ذا كشف يستطيع به أن يشاهد (أحوال القيامة من البعث والنشر والحساب والميزان)
والآن! كيف يقبل المرشح لعضوية هذه الجماعة؟ تجيبنا الرسائل: (أنه ينبغي لإخواننا أيدهم الله حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقاً مجدداً أو أخاً مستأنقاً أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره ويجرب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أو لا يصلح. لأن في الناس أقواماً طبائعهم متغايرة خارجة عن الاعتدال، وعاداتهم رديئة مفسدة ومذاهبهم مختلفة حائرة)
وكانوا يتحرون عن الشخص الذي يريد الانضمام إليهم كل التحري، ويحذرون إخوانهم من الاغترار بالظواهر: (واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق، ويدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره. فانظر من تصحب وتعاشر ولا تغتر بظاهر الأمور من غير معرفة بواطنها. . . بل ينبغي أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشراء المماليك والأمتعة). . . (لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدنيا والدين جميعاً وهم أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدت منهم واحداً فتمسك به فإنه قرة العين ونعيم الدنيا وسعادة الآخرة وابذل له نفسك ومالك وافرش له جناحك وأودعه سرك وشاوره في أمرك وإن هفا هفوة فاغفر له)
وكانوا يحثون الإخوان على أن يعاون الغني منهم الفقير والمتعلم الجاهل ويؤثرون أصدقاءهم على أنفسهم وأولادهم وأزواجهم، لأن محبة هؤلاء لمصلحة دنيوية، أما الإخوان الذين انضموا إليهم، فيحبونهم لله.
فإذا ما قبل العضو قرءوا عليه خطبة فيها دعوتهم وغايتهم: (وينبغي لإخواننا إذا حضروا المجلس ومعهم أخ مستجيب يستحب أن يقرءوا عليه هذه الخطبة: اعلموا - أيها الإخوان - أيدكم الله وإيانا بروح منه، وهداكم للحق، وجعلكم من أتباعه، وسهل لكم سبيل الخير، وأرشدكم إلى معرفة أهله، وعصمكم من الشر، وجنبكم صحبة أهله، وحرسكم من المزور الشيطان، ووقاكم جور السلطان ونكبات الزمان ونوائب الحدثان، ووفقكم لقبول نصيحة الإخوان، إنه ودود منان - اعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي؛ وإذا بلغت أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدأ في أهلها الخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والانبساط والظهور، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم، ويتمكن الحادث المتأخر. . . وقد ترون - أيها الإخوان - أنه قد تناهت قوة أهل الشر وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط. واعلموا أن الملك والدولة ينتقلان في كل دهر وزمان من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن أهل بلد إلى أهل بلد. . . واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد، ويتفقون على رأي واحد، ودين واحد، ومذهب واحد، ويعقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون، ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضاً، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم.
وقد كان للجماعة دعاة ومبشرون يجتهدون في اختيار أعضاء جدد يضمونهم إلى صفوف الإخوان، وقد كانوا يدربون تدريباً خاصاً على الدعاية: (واعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والكتاب والعمال، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتناء، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس. وقد ندبنا لكل طائفة منهم أخاً من إخواننا ممن ارتضينا في بصيرته ومعارفه ينوب عنا في خدمتهم بإلقاء نصيحة إليهم بالرفق والرحمة. وقد اخترناك أيها الأخ البار الرحيم لمعاونتهم فامض على بركة الله وحسن توفيقه إلى أخ من إخواننا، وتوصل إليه بالرفق على خلوة وفراغ من مجلسه وطيبة من نفسه فاقرأ عليه منا التحية والسلام، وبشره بما يسره من نصيحة الإخوان، وعرفه شدة شوقنا إلى إخائه ومودته وولايته، ثم اقرأ عليه هذه الخطبة (المتقدمة الذكر) وعرفه معانيها وفهمه مغزاها ومقصدها. . . (فإن وقعت هذه التذكرة منه مكانها من القبول وسمت نفسه إلى ما أشرنا إليه فذلك هو الذي تريده، وإن توقف وقال ما علامة ما تقولون، وما تصديق ما تزعمون من الرأي والحديث؟ فتقول عندنا دلائل واضحة، فإن أراد أخونا الفاضل الكريم فليبعث إلينا ثقة من ثقاته وأميناً من أمنائه، ومن يشاكلنا في العلوم والمعارف ليتضح له حقيقة ما قلنا.
ويظهر أن هؤلاء الذين يوجه إليهم الأخ البار الرحيم والمنتشرين في أنحاء الأرض كانت ميولهم وأغراضهم السياسية تشبه ميول إخوان الصفاء وأغراضهم، ولم يكونوا قد انضموا إليهم بعد، أو لم يعلموا بوجودهم. . . (واعلم أن من إخواننا وأهل شيعتنا طائفة أخرى بوجودنا شاكون، وفي بقائنا متحيرون فيما يعتقدون من موالاتنا، وطائفة أخرى ببقائنا موقنون، لكنهم غافلون عن أمرنا غير عارفين بأسرارنا، وكلهم منتظرون لظهور أمرنا، مستعجلون لمجيء أيامنا، مشتهون نصرة حزبنا)
(بيروت - يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية
مجلة الرسالة - العدد 446
بتاريخ: 19 - 01 - 1942
في أواسط القرن الرابع الهجري ذهبت سطوة الخلافة العباسية واستبد بالخلفاء مواليهم من فرس وديلم وترك، وساموهم الخسف وسوء العذاب، فاستقل كثير من الأمراء عن بني العباس وأسسوا دويلات صغيرة: كآل بويه، وأل حمدان، والساسانيين وغيرهم، ولم يبق للخليفة من مظاهر القوة شيء.
بيد أن هذا الانحطاط السياسي في الدولة لم يمنع الحياة العقلية من الازدهار لتنافس الأمراء في تقوية دويلاتهم علمياً وأدبياً؛ فنما الشعر ونضج التفكير، واشتدت حركة النقل والبحث في العلوم الفلسفية على اختلاف شعبها ثم هضمها وصبغها بالصبغة الإسلامية.
وكان من عواقب الانحطاط السياسي للدولة العباسية تكوين كثير من الجماعات السرية وغير السرية التي تحاول القضاء المبرم على العباسيين حتى تضع غيرهم مكانهم، أو توجد لنفسها كياناً مستقلاً. ومن هذه الجمعيات التي ظهرت في منتصف القرن الرابع الهجري (جماعة إخوان الصفاء) وهم من الشيعة الباطنية الذين لم يرضوا عن الخليفة العباسي كما لم يرضوا عن الخلافة الفاطمية في مصر. وحاولوا قلب النظام السياسي بقلب التفكير العقلي وإيجاد ثقافة جديدة يعتنقها شباب عصرهم مقتفين في ذلك أثر الفيتاغوريين وأفلاطون. ومن المعلوم أن الفيتاغوريين كانوا جماعة سرية إصلاحية حانقة على نظام الحكم اليوناني وأنهم حاولوا تغييره بخلق مذهب جديد ونظريات حديثة عن العالم ونشأته داعين إلى الزهد والتقوى. ومن المعلوم كذلك أن أفلاطون كان ساخطاً على حكومة أثينا. فلا الأرستقراطيون أرضوه لما يرتكبونه من ظلم وجور، ولا الديموقراطيون حققوا آماله للفوضى التي ضربت خيامها في أثينا؛ وذلك حد في وضع منهج جديد للحكومة في كتابه الجمهورية وإن كان قد فشل حينما حاول تطبيقه عملياً.
أما إخوان الصفاء فقد نالوا شيئاً من النجاح لأنهم من الإسماعيلية الباطنية. وهؤلاء قد استطاعوا أن يوجدوا لأنفسهم كياناً سياسياً مكن لهم في بعض الأرض ونشر الرعب في العالم الإسلامي. وسنرى فيما بعد أدلتنا على أنهم من الإسماعيلية بل إن رسائلهم هي دستور هذه الطائفة.
من هم إخوان الصفاء
لقد أحاطت هذه الجماعة السرية نفسها بسياج متين من الكتمان ويقولون في ذلك: (إننا لا نكتم أسرارنا عن الناس خوفاً من سطوة الملوك ذوي السلطة، ولا حذراً من شغب الجمهور من العوام ولكن صيانة لمواهب الله عز وجل لنا. لذلك حار الناس قديماً وحديثاً في معرفة أسمائهم، ولولا ما نقله القفطي عن أبي حيان التوحيدي في هذا الصدد وتعداده لبعض الأسماء المشهورة بينهم لعمى علينا الأمر فقد ذكر في أثناء حديثه عن زيد بن رفاعة (أنه أقام بالبصرة طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان محمد بن معشر البستي (ويعرف بالمقدسي) وأبو الحسن علي بن هاورون الزنجاني وأبو أحمد المهرجاني وأبو الحسن العوفي وزيد بن رفاعة)
مكانهم وزمانهم:
كانت البصرة مركزهم الرئيسي وإن لم يذكر الإخوان شيئاً من ذلك في رسائلهم بيد أن القفطي قال: (وقد أقام زيد بن رفاعة بالبصرة زماناً طويلاً وصادق بها جماعة لأصناف العلم. . . الخ)، وهناك ما يؤيد رأي القفطي وهو أن البصرة كانت منذ أسست عاصمة العلوم الإسلامية ومحط كثير من رجال الفقه، فيها نشأ الحسن البصري ورؤساء المعتزلة، وفيها قام عبد الله بن ميمون بفتنة القرامطة أصل مذهب الإسماعيلية في أواخر القرن الثالث الهجري، وفيها قام أبو الحسن الأشعري يتنصل من الاعتزال، وكانت فيها حلقات العلم من كل فن وفي مربدها ينشد الشعراء قصائدهم؛ فلا عجب إذا أن كانت البصرة مأوى إخوان الصفاء.
هذا وقد كان للجماعة أنصار في مختلف البلدان ولهم دعاة يبشرون بمذهبهم بطرق منظمة؛ وفي هذا يقولون: (إن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد). ويظهر أنه كان في بغداد جماعة أخرى على اتصال وثيق بإخوان الصفا وعنها يقول أبو حيان التوحيدي في كتابه المقابسات: (من أعضائها أبو سليمان محمد بن طاهر السجستاني، وأبو زكريا العميري، والعروضي أبو محمد المقدسي، ويحيى بن عدي، وأبو إسحاق الصابي، وماني المجوسي)، ويظهر أن أبا سليمان المنطقي السجستاني كان رئيس هذه الجماعة فكثيراً ما يقول أبو حيان (دارت في مجلس أبي سليمان. . . مناظرات)، ويقول: (أملى علينا أبو سليمان). ويظهر أيضاً أن أمر هذه الجماعة الفلسفية كان على شاكلة أختها في البصرة سرياً؛ فقد ثبت أن أبا العلاء المعري كان يختلف إلى هذه الجماعة بدار عبد السلام البصري أيام الجمع حينما قدم بغداد وهم الذين سماهم إخوان الصفاء حين يقول:
كم بلدة فارقتها ومعاشر ... يذرون من أسف على دموعا
وإذا أضاعتني الخطوب فلن أرى ... لوداد إخوان الصفاء مضيعا
خالت توديع الأصدقاء للنوى ... فمتى أودع خلي التوديعا
وقد كان لاحتكاك أبي العلاء مع تلك الجماعة وتعرفه على مختلف النظريات الفلسفية والدينية والصوفية الأثر الأكبر في اتجاه أفكاره وفلسفته، فيقول الأستاذ ماكدونالد (يظهر أن أبا العلاء اتصل بفئة مثل إخوان الصفاء إن لم يكونوا هم أنفسهم)
ومما تقدم نرى أن إخوان الصفاء كان مركزهم الرئيسي بالبصرة وكان لهم فرع قوي ببغداد، وأنصار ودعاة في مختلف البلدان والأمصار.
أما الزمن الذي وجد فيه الأخوان فهو أواسط القرن الرابع الهجري: ومن العسير تحديد السنة، بيد أن هناك ما يرجح أن الرسائل ألفت فيما بين سنتي 334هـ و 373هـ؛ لأن بدء ظهورهم كان على أثر سيطرة آل يويه على بغداد سنة 334هـ، ولم نسمع بهم قبل هذا التاريخ، ومن الجائز أن تكون جماعتهم قد تأسست قبل ذلك وبقيت في طي الكتمان، ولم تتجرأ على إظهار الرسائل إلا بعد هذا التاريخ.
نظام جماعتهم
كانت جماعة إخوان الصفاء تتكون من أربع طبقات: الأولى شبان يتراوح عمرهم بين خمس عشرة وثلاثين سنة، وهم الذين يسمونهم في رسائلهم بالإخوان الأبرار الرحماء. ويظهر أن الرسائل قد ألفت لهذه الطبقة لأن الخطاب فيها موجه دائماً إلى الأخ البار الرحيم. أما الطبقة الثانية فرجال الثلاثين والأربعين يتلقون الحكمة الدنيوية، ويظهر أنه كان يعهد إليهم مراعاة الإخوان ومساعدتهم والتحقق عليهم، وهم الذين يسمون في الرسائل بالإخوان الأخيار الفضلاء. والطبقة الثالثة رجال بين الأربعين والخمسين من العمر وهم يعرفون الناموس الإلهي، كما أنهم أصحاب الأمر والنهي والسلطة بين الإخوان، وإليهم يعهد بدفع العناد والخلاف عند ظهور المعاند المخالف لهذا الأمر بالرفق والمداراة في إصلاحه)، وهم الذين يسمون بالإخوان الفضلاء الكرام. والطبقة الرابعة وهي مرتبة من يزيد على الستين سنة وهي أعلى المراتب في نظامهم ومن يصل إليها يكون فوق الطبيعة والشريعة والناموس، ويكون ذا كشف يستطيع به أن يشاهد (أحوال القيامة من البعث والنشر والحساب والميزان)
والآن! كيف يقبل المرشح لعضوية هذه الجماعة؟ تجيبنا الرسائل: (أنه ينبغي لإخواننا أيدهم الله حيث كانوا في البلاد إذا أراد أحدهم أن يتخذ صديقاً مجدداً أو أخاً مستأنقاً أن يعتبر أحواله ويتعرف أخباره ويجرب أخلاقه ويسأله عن مذهبه واعتقاده ليعلم هل يصلح للصداقة وصفاء المودة وحقيقة الأخوة أو لا يصلح. لأن في الناس أقواماً طبائعهم متغايرة خارجة عن الاعتدال، وعاداتهم رديئة مفسدة ومذاهبهم مختلفة حائرة)
وكانوا يتحرون عن الشخص الذي يريد الانضمام إليهم كل التحري، ويحذرون إخوانهم من الاغترار بالظواهر: (واعلم بأن من الناس من يتشكل بشكل الصديق، ويدلس عليك بشبه الموافق، ويظهر لك المحبة وخلافها في صدره. فانظر من تصحب وتعاشر ولا تغتر بظاهر الأمور من غير معرفة بواطنها. . . بل ينبغي أن تنتقده كما تنتقد الدراهم والدنانير والأرضين الطيبة التربة للزرع والغرس وكما ينتقد أبناء الدنيا أمر التزويج وشراء المماليك والأمتعة). . . (لأن إخوان الصدق هم الأعوان على أمور الدنيا والدين جميعاً وهم أعز من الكبريت الأحمر، وإذا وجدت منهم واحداً فتمسك به فإنه قرة العين ونعيم الدنيا وسعادة الآخرة وابذل له نفسك ومالك وافرش له جناحك وأودعه سرك وشاوره في أمرك وإن هفا هفوة فاغفر له)
وكانوا يحثون الإخوان على أن يعاون الغني منهم الفقير والمتعلم الجاهل ويؤثرون أصدقاءهم على أنفسهم وأولادهم وأزواجهم، لأن محبة هؤلاء لمصلحة دنيوية، أما الإخوان الذين انضموا إليهم، فيحبونهم لله.
فإذا ما قبل العضو قرءوا عليه خطبة فيها دعوتهم وغايتهم: (وينبغي لإخواننا إذا حضروا المجلس ومعهم أخ مستجيب يستحب أن يقرءوا عليه هذه الخطبة: اعلموا - أيها الإخوان - أيدكم الله وإيانا بروح منه، وهداكم للحق، وجعلكم من أتباعه، وسهل لكم سبيل الخير، وأرشدكم إلى معرفة أهله، وعصمكم من الشر، وجنبكم صحبة أهله، وحرسكم من المزور الشيطان، ووقاكم جور السلطان ونكبات الزمان ونوائب الحدثان، ووفقكم لقبول نصيحة الإخوان، إنه ودود منان - اعلموا أن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، ولها غاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي؛ وإذا بلغت أقصى مدى غاياتها ومنتهى نهاياتها، أخذت في الانحطاط والنقصان، وبدأ في أهلها الخذلان، واستأنف في الأخرى القوة والنشاط والانبساط والظهور، وجعل كل يوم يقوى هذا ويزيد، ويضعف ذلك وينقص، إلى أن يضمحل الأول المتقدم، ويتمكن الحادث المتأخر. . . وقد ترون - أيها الإخوان - أنه قد تناهت قوة أهل الشر وكثرت أفعالهم في العالم في هذا الزمان، وليس بعد التناهي في الزيادة إلا الانحطاط. واعلموا أن الملك والدولة ينتقلان في كل دهر وزمان من أمة إلى أمة، ومن أهل بيت إلى أهل بيت، ومن أهل بلد إلى أهل بلد. . . واعلموا أن دولة أهل الخير يبدأ أولها من أقوام خيار فضلاء يجتمعون في بلد، ويتفقون على رأي واحد، ودين واحد، ومذهب واحد، ويعقدون بينهم عهداً وميثاقاً بأنهم يتناصرون ولا يتخاذلون، ويتعاونون ولا يتقاعدون عن نصرة بعضهم بعضاً، ويكونون كرجل واحد في جميع أمورهم، وكنفس واحدة في جميع تدابيرهم.
وقد كان للجماعة دعاة ومبشرون يجتهدون في اختيار أعضاء جدد يضمونهم إلى صفوف الإخوان، وقد كانوا يدربون تدريباً خاصاً على الدعاية: (واعلم أيها الأخ أيدك الله وإيانا بروح منه أن لنا إخواناً وأصدقاء من كرام الناس وفضلائهم متفرقين في البلاد، فمنهم طائفة من أولاد الملوك والأمراء والوزراء والكتاب والعمال، ومنهم طائفة من أولاد الأشراف والدهاقين والتجار والتناء، ومنهم طائفة من أولاد العلماء والأدباء والفقهاء وحملة الدين، ومنهم طائفة من أولاد الصناع والمتصرفين وأمناء الناس. وقد ندبنا لكل طائفة منهم أخاً من إخواننا ممن ارتضينا في بصيرته ومعارفه ينوب عنا في خدمتهم بإلقاء نصيحة إليهم بالرفق والرحمة. وقد اخترناك أيها الأخ البار الرحيم لمعاونتهم فامض على بركة الله وحسن توفيقه إلى أخ من إخواننا، وتوصل إليه بالرفق على خلوة وفراغ من مجلسه وطيبة من نفسه فاقرأ عليه منا التحية والسلام، وبشره بما يسره من نصيحة الإخوان، وعرفه شدة شوقنا إلى إخائه ومودته وولايته، ثم اقرأ عليه هذه الخطبة (المتقدمة الذكر) وعرفه معانيها وفهمه مغزاها ومقصدها. . . (فإن وقعت هذه التذكرة منه مكانها من القبول وسمت نفسه إلى ما أشرنا إليه فذلك هو الذي تريده، وإن توقف وقال ما علامة ما تقولون، وما تصديق ما تزعمون من الرأي والحديث؟ فتقول عندنا دلائل واضحة، فإن أراد أخونا الفاضل الكريم فليبعث إلينا ثقة من ثقاته وأميناً من أمنائه، ومن يشاكلنا في العلوم والمعارف ليتضح له حقيقة ما قلنا.
ويظهر أن هؤلاء الذين يوجه إليهم الأخ البار الرحيم والمنتشرين في أنحاء الأرض كانت ميولهم وأغراضهم السياسية تشبه ميول إخوان الصفاء وأغراضهم، ولم يكونوا قد انضموا إليهم بعد، أو لم يعلموا بوجودهم. . . (واعلم أن من إخواننا وأهل شيعتنا طائفة أخرى بوجودنا شاكون، وفي بقائنا متحيرون فيما يعتقدون من موالاتنا، وطائفة أخرى ببقائنا موقنون، لكنهم غافلون عن أمرنا غير عارفين بأسرارنا، وكلهم منتظرون لظهور أمرنا، مستعجلون لمجيء أيامنا، مشتهون نصرة حزبنا)
(بيروت - يتبع)
عمر الدسوقي
مدير كلية المقاصد الإسلامية
مجلة الرسالة - العدد 446
بتاريخ: 19 - 01 - 1942