فوز حمزة - ركن في ساعة...

كم من المصادفات تجمعت هذا النّهار كي أراها بعد مرور أكثر من ثلاثين عامًا على آخر لقاء لنا؟!.
وأنا داخل المقهى؛ رأيتها واقفة قرب أحد المحال التّجارية تحمي نفسها من المطر، في ثوان وقبل أن تملأ قطرات المطر لوح الزجاج لتغيم الرؤية بيني وبينها، عادتْ صور و ذكريات اليوم الأخير الذي قضيته برفقتها، لكن أعوامي الخمسة والخمسين لم تعد معها، ظلتْ عالقة عند الضّفة الأخرى، تغرف بيد حفنة ماء وبالثّانية يتسرب الرّمل من بين أصابعها!.
الغريب أنني نسيت ملامح وجهها!.
حاولت تذكر شكل أنفها أو فمها، فشلت كل محاولاتي إلاّ ساعة يدها ماركة ال ( الأورينت ) بقيت شاخصة في ثنايا الذاكرة. كانت مدورة وأرقامها واضحة، تفاصيل أخرى ما زلتُ أتذكرها، دبابيس شعرها، سوارها الفضي الرّفيع الذي كانت تضعه مع ساعتها متدليًا منه الحرف الأول من اسمها، حقيبتها السّوداء ذات الحواشي البنية، جواربها الشّفافة التي كانت تبرز جمال ساقيها. كم كنت متلهفا لرؤية ما تضم تحتها!.
ذلك النّهار وأنا أمسك بيدها معتصرًا أصابعها بقوة .. سألتها:
- ما رأيك في الذهاب للضّفة الثانية؟.
ابتسمتْ ولم ترد ..
أمسكت يدها لنعبر إلى الأرض الأخرى التي لم تطأها أقدامنا من قبل، لم يُغرس فيها جذر، لم تغرد في حدائقها العصافير. كانت ندية ومغرية لم تقاوم معولي، شعرها المنثور على العشب الأخضر، أغراني بالحفر عميقًا، نهداها وهما يتقافزان منحاني القوة للحفر أكثر وأكثر حتى ملأتْ حبات العرق وجهي وجسدي. أغمضتُ عينيَّ لأسمح لعبقها بالتّسرب عبر أنفي ليستقر في ذاكرتي حد اللحظة!.
كانت هذه معركتي الأولى في الحياة.
استسلمتُ لها رافعًا يدي في الهواء وحينما نالت مني وأسقطتني أرضًا، استيقظتُ، حلمتُ كأنني كنت أعومُ على ظهري في نهر كبير ونورسة صغيرة تصفق قرب رأسي تحاول حملي بعيدًا، لكن جناحها المكسور حال دون ذلك.. ملتُ نحوها برأسي. كانت تحدق في ساعة يدها، عراة كنا نحن الثلاثة، أنا وهي والوقت المسجون داخل الساعة!.
حينما وصلنا مفترق الطريق، قالت بينما إبهامها يتحسس ظاهر كفي:
- أنسَ ما حدث .. كان علينا خوض التجربة!.
الغريب أنني لم أنسَ ما حدث .. كيف أنسى قدر البدايات الجميلة؟!.
كيف أنسى الرّسالة التي سقطت من فم الرب على نبضي فأينعتْ أحاسيسي وانتشتْ؟!.
أيتها المسافرة في أرض صباي، هل حقًا أنكِ أمامي الآن؟!.
خرجتْ من المقهى، كانت منشغلة برفع المظلة التي بدأ الماء يتساقط من أطرافها، تمعنتُ هذه المرة في ملامحها كما لم أفعل من قبل. قدمي تخطو صوبها بينما قلبي يردد ما نويت قوله لها: ليت كل النّهارات موعدي معكِ .. أجوب ردهات كيانكِ و إحساسكِ .. لم أعرف كيف ألملمُ ندى شوقي وهذيان رجولتي حينما افترقنا، كنت على شفا حب، لكن الآن أنا في لجته أغرق!.
بعد تجاوزي للمفاجأة، امتلأ أفقي بسيل من الأسئلة، كنت بحاجة لسماع المزيد من الأجوبة التي تتعلق بذلك اليوم، لكن غيابها داخل سيارة أجرة حال دون وقوعها!.
اختفت ثانية لتترك نهاري مبتورًا، ذاتي التي انفصلت للتو عنّي ما تزال ممسكة بتلابيب الماضي، أما أنا؛ وقفت وسط الشّارع أتساءل: هل من مصادفة أخرى تحرر الزّمن الباقي؟ لكن هذه المرة من ساعتي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى