ما يميز هذه الرواية السلاسة التي جاءت بها، كما أن تناولها لموضوع المثقف العربي وما يعانيه في المجتمع، يعد طرح مبكر لمشاكل المثقف، وبما أنها تناولت موضوع المحرمات، الجنس، وهذا يجعلها من أوائل الروايات التي قرعت جدار المحرمات، وبما أنها تعد من الروايات القديمة، وهذا يعطيها أفضلية على مستوى الزمن.
تدور الرواية حول مصطفى (الغريب) الذي أصبح جزء من البلدة بعدما انخرط في مجتمعها، فرغم أنه درس في بريطانيا ويعرف الشعر إلا أنه (تجاهل) هذا التعلم/المعرفة وفضل أن يكون مجرد مواطن (عادي) يعيش في بلدة نائية بعيدا عن الصخب، هذا السلوك (الغريب) مثير للقارئ، خاصة أن الرواية صدرت في ستينيات القرن الماضي، بمعنى أن تتحدث عن (أوروبا/الحلم) بالنسبة للعربي، فلماذا ترك "مصطفى" أرض الأحلام ليعيش في بلدية ريفية فقيرة الخدمات والثقافة؟
نبوغة مصطفى
سنحاول التوقف عند طبيعة مصطفى ونبدأ من تفوقه وتألقه، فعندما كان طالبا صغيرا تفوق على زملائه في عدة مجالات، منها شخصيته القوية التي لا تتأثر بما يجري حولها: "لا أتأثر بشيء، لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثني عليّ المدرس في الفصل، لا تألم لما يتألم له الباقون" ص24، فمثل هذه الشخصية (الحديدية) تعد استثناء في مجتمع تربى على الانفعال العاطفي، ولم يقتصر الأمر على (الحيادية) تجاه محيطه، بل تعداه إلى التعليم السريع: "تعلمت الكتابة في أسبوعين...لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفاقي أو حسدهم" ص26، وهذا يؤكد تفرد "مصطفى" تعليميا وسلوكيا، فكان أقرب إلى (الآلة) منه إلى الإسنان، فكيف لطفل لا يتأثر بالمديح أو الذم!.
وعندما تقرر إرساله إلى مدرسة المتفوقين في القاهرة أخفى سنه الحقيقي: "ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الإنجليزية... كم سنك؟ فقلت له خمسة عشر. كنت في الثانية عشرة" ص 28، وهذه أول "سلبية" في شخصية "مصطفى" فلماذا أخفى سنة الحقيقي؟، وهل لهذا السلوك أثر في مسيرة حياته لاحقا؟
وعندما ذهب إلى بريطانيا كان أول المتألقين اجتماعيا من خلال: "أول سوداني تزوج من إنكليزية" ص59، كل هذا التفرد يجعل "مصطفى" شخصية مثيرة، وتجعل القارئ يتساءل، كيف ولماذا ترك العز في بريطانيا وقرر العودة إلى قرية نائية؟.
مصطفى والنساء
أقام "مصطفى" عدة علاقات مع النساء، وكلهن كن تحت (سيطرته) حتى بعضهن انتحرن، يحدثنا عن هذه العلاقات: "كانت لندن خارجة من الحرب... عرفت حانات تشلسي، وأندية هامبستد/ ومنتديات بلومزيري، أقرأ الشعر، وأتحدث في الدين والفلسفة، وأنقد الرسم، وأقول كلاما عن روحانيات الشرق، أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي، ثم أسير إلى صيد آخر" ض33، نلاحظ أن "مصطفى" يحدد الزمن والظرف، ما بعد عام 1945، والإنجليز خارجون من الحرب العالمية الثانية التي فقدت فيها مئات الألوف من الجنود، بمعنى أن هناك نقص في الرجل، مما جعل مهمة "مصطفى" (أسهل) في اصطياد النساء، ونلاحظ أنه (يكذب) من جديد، فهو يستخدم (الثقافة/المعرفة) لنيل مراده من النساء، وليس لتثقيفهن أو لزيادة معرفتهن أو معرفته هو.
ويحدثنا عن زوجته وكيف كانت علاقته بها: "كانت تغازل غرسونات المطاعم وسواقي الباصات وعابري السبيل ... فأتشاجر مع الناس وأضربها وتضربني في عرض الطريق.. كان البيت كله يفوح بالخيانة، وجدت مرة منديل رجل، لم يكن منديلي، سألتها فقالت: هبه ليس منديلك، ماذا أنت فاعل؟ ...قلت لها: أنت تخونينني، فقالت: أفرض أنني أخونك، صرخت فيها: أقسم أنني سأقتلك، ابتسمت ساخرة وقالت: أنت فقط تقول هذا، ما الذي يمنعك من قتلي؟ ماذا تنتظر؟ لعلك تنتظر حتى تجد رجلا فوقي.. وحتى حينئذ لا أظنك تفعل شيئا.. ستجلس على السرير وتبكي" ص164، من خلال هذا الحوار يمكننا إيجاد الإجابة على سؤال عن أسباب عودة "مصطفى" إلى السودان وتركه لندن وما فيها من شهوات وملذات.
المرأة السودانية
الرواية تعطيا حالتين عن المرأة السودانية، الأولى للمرأة القوية التي تشارك الرجال الحوار، حتى عندما يكون متعلق بالجنس، كحال "بنت مجذوب" التي تحاور وتتكلم كالرجال تماما: "عليّ الطلاق يا حج أحمد، كنت حين يرقد زوجي بين فخذي أصرخ صراخا تجفل منه البهائم المربوطة" ص79، ولم يقتصر الأمر على تناولها لما كان يجري مع زوجها، بل كانت تتدخل في مشاكل الأزواج، وتركز على الجنس كأهم غاية/حاجة تطلبها المرأة من رجلها، ينقل لنا السارد أحد هذه التدخلات: "يا آمنة هذا الرجل لم يقصر في حقك، فمسكنك حسن، وملبسك حسن، وقد ملأ يديك ورقبتك ذهبا، ولكن لا يبدو على وجهه أنه يقدر على إشباعك في الفراش، فإذا أردت الشبع الصحيح فأنا أعرف لك زوجا إذا جاءك لا يتركك حتى تزهق روحك" ص80و81، أعتقد أن السارد أراد بهذا المشهد الإشارة إلى أهمية الجنس كحاجة حيوية للإنسان، ويجب التعامل معه على هذا الأساس، وإذا ما أخذنا المشاهد العديدة والكثرة التي جاءت في الرواية نصل إلى أن السارد أراد اختراق أحد المحرمات في المجتمع العربي، إلا وهو الجنس.
والحالة الثانية "بنت محمود" التي فرض عليها زوج لا تريده، فخضعت مكرهة مما جعل ليلة دخلتها صادمة لها لزوجها "ود الريس": "كان الريش الأحمر يعوم في الدم، وجدت بنت محمود معضوضة ومخدوشة في كل شبر من جسدها، بطنها، أوراكها رقبتها، عض حلمة ندها حتى قطعها، الدم يسيل من شفتها السفلى، وود الريس مطعون أكثر من عشرة طعنات، طعنة في بطنه وفي صدره" ص128، رغم أن "بنت محمود" انتقمت لنفسها بقتلها لود الريس الذي تزوجها غصبا، إلا أن فُرض الزواج عليها من قبل العائلة يمثل خضوعها لسلطة العائلة التي لا ترحم النساء وتعامل معها كما تتعامل مع الدواب.
العقل الذكوري
هذه الجريمة المزدوجة تقودنا إلى العقل الذكوري وكيف ينظر للمرأة، "ود الريس" يمثل نموذج عن المجتمع الذكوري: "أنها ستتزوجني رغم أنفك وأنفها، أبوها قبل وأخوتها قبلوا" ص100، هذا المشهد يشير إلى أن المجتمع لا يتعامل مع المرأة كإنسانة، بل كمتاع ليس أكثر. لم يقتصر الأمر على "ود الريس" فقط، بل طال الأب الذي زوجها وعقد العقد دون موافقتها: "أبوها شتمها وضربها وقال لها: تتزوجينه رغم أنفك" ص124.
إذا ما توقفنا عند "بنت مجذوب وبنت محمود" سنجد الأولى (متطرفة) والثانية (عادية)، حيث قبلت ما فرض عليها، لكنها انتقمت لنفسها ولجسدها بقتل ود الريس، وبما أن هناك حالتين (يرفضهما المجتمع) الأولى بتطرفها وعدم وجود (أنوثة/حياء) في كلامها أو سلوكها، والثانية رفض فكرة فرض الزواج على المرأة بالقوة والإكراه، مما يجعل (جريمة) قتل ود الريس (مقبولة) اجتماعيا أو روائيا بالحد الأدنى، وهذا ما يجعل تناول النساء مثيرا وبحاجة إلى وقفة من القارئ ومن المجتمع، ليفكر في حال النساء وكيف يريدهن أن يكن.
الخطأ الزمني في الرواية
السارد يخطئ في تناوله للزمن، فرغم أنه لم يحدد زمن الرواية بسنة بعينها، إلا أن حديثه عن بريطانيا بعد الحرب: "كانت لندن خارجة من الحرب" وهذا يشير إلى ما بعد عام 1945، وإذا ما علمنا أن الرواية صادرة في طبعتها الثانية عام 1966، سنختخلص أن أي إشارة إلى الزمن يجب أن تكون بين عامي 1945 و1966 كحد أقصى، لكننا نجد السارد يتحدث عن مصطفى بصورة تخرجه من زمن أحداث الرواية، وتوصله إلى العقد السابع من القرن الماضي: "ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه، ولا أحس جماله الحقيقي ولا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة" ص39و40، أعتقد أن مثل هذا الأمر يمثل خطأ في الرواية، وكان على السارد القول: "عشرون عاما" وهذا هو الصحيح والأنساب للزمن الأحداث الروائية.
علاقة السارد "بمصطفى"
الرواية تشير إلى السارد القادم من بريطانيا يقابل "مصطفى" ثم يبدأ الحديث عنه، فكان السارد (ناقل) لما رآه/وجده في من مصطفى، وهذا امر طبيعي/عادي روائيا، لكن أن يترك "مصطفى" رسالة خاصة وما فيها خصوصيات وأسرار للسارد فهذا أمر غريب بعض الشيء.
يحاول السارد معالجة هذه الغرابة من خلال قوله: "أنه يريد أن يُكتشف كأثر تاريخي له قيمته.. وأنا أعلم الآن أنه اختارني أنا لهذا الدور، لم تكن صدفة أنه أثار حب الاستطلاع عندي، ثم قص عليّ قصة حياته غير كاملة لكي اكتشف أنا بقية القصة، لم تكن صدفة أنه ترك لي رسالة مختومة بالشمع الأحمر، أمعانا منه في شحذ خيالي، وأنه جعلني وصيا على ولدية ليزمني الزاما لا فكاك منه" ص156، أعتقد أن هذا المخرج يشير إلى فنية الروائية، فكل من السارد ومصطفى تخرجوا من بريطانيا، وبما أن زمن الرواية (قديم) ولم يكن القارئ ـ في ستينيات القرن الماضي ـ يستوعب فكرة التميز/الفرق بين السارد والكاتب، خاصة إذا جاءت الرواية بصيغة أنا السارد، مما جعله يلجأ إلى هذا الأمر ـ الحديث عن مصطفى بصيغة السارد الخارجي ـ لكي يبعد نفسه عن (تهمة) الركض خلف النساء والانحلال التي تحدث عنها "مصطفى" فكان دور السارد بمثابة (براءته) من أفعال "مصطفى" المشينة، خاصة أن هنالك نساء انتحرن بسببه أو بسبب علاقتهن به.
من هنا وجدنا كسر لوتيرة السرد: "لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم، يا سادتي أن مصطفى سعيد أصبح هوسا يلازمني في حلي وترحالي" ص65، وكأن السارد/الكاتب يؤكد انفصاله براءته من أفعال مصطفى.، لكنه في الوقت ذاته يريده، ويتعاطف معه، فقد وجد فيه تميزا غير عادي، وما قرره بالموت طواعية، لحماية أسرته والقرية التي تعرضت للطوفان، إلا من باب تأكيد دور المثقف المتميز والمثير حتى في اختياره لطريقة الموت، فكما تميز "مصطفى" في حياته تميز في موته، حيث جاء كشهد مدافعا عن سلامة عائلته وقريته.
الرواية من منشورات دار العودة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1966.
تدور الرواية حول مصطفى (الغريب) الذي أصبح جزء من البلدة بعدما انخرط في مجتمعها، فرغم أنه درس في بريطانيا ويعرف الشعر إلا أنه (تجاهل) هذا التعلم/المعرفة وفضل أن يكون مجرد مواطن (عادي) يعيش في بلدة نائية بعيدا عن الصخب، هذا السلوك (الغريب) مثير للقارئ، خاصة أن الرواية صدرت في ستينيات القرن الماضي، بمعنى أن تتحدث عن (أوروبا/الحلم) بالنسبة للعربي، فلماذا ترك "مصطفى" أرض الأحلام ليعيش في بلدية ريفية فقيرة الخدمات والثقافة؟
نبوغة مصطفى
سنحاول التوقف عند طبيعة مصطفى ونبدأ من تفوقه وتألقه، فعندما كان طالبا صغيرا تفوق على زملائه في عدة مجالات، منها شخصيته القوية التي لا تتأثر بما يجري حولها: "لا أتأثر بشيء، لا أبكي إذا ضربت، لا أفرح إذا أثني عليّ المدرس في الفصل، لا تألم لما يتألم له الباقون" ص24، فمثل هذه الشخصية (الحديدية) تعد استثناء في مجتمع تربى على الانفعال العاطفي، ولم يقتصر الأمر على (الحيادية) تجاه محيطه، بل تعداه إلى التعليم السريع: "تعلمت الكتابة في أسبوعين...لم أبال بدهشة المعلمين وإعجاب رفاقي أو حسدهم" ص26، وهذا يؤكد تفرد "مصطفى" تعليميا وسلوكيا، فكان أقرب إلى (الآلة) منه إلى الإسنان، فكيف لطفل لا يتأثر بالمديح أو الذم!.
وعندما تقرر إرساله إلى مدرسة المتفوقين في القاهرة أخفى سنه الحقيقي: "ابتسم الرجل في وجهي وتحدث معي باللغة الإنجليزية... كم سنك؟ فقلت له خمسة عشر. كنت في الثانية عشرة" ص 28، وهذه أول "سلبية" في شخصية "مصطفى" فلماذا أخفى سنة الحقيقي؟، وهل لهذا السلوك أثر في مسيرة حياته لاحقا؟
وعندما ذهب إلى بريطانيا كان أول المتألقين اجتماعيا من خلال: "أول سوداني تزوج من إنكليزية" ص59، كل هذا التفرد يجعل "مصطفى" شخصية مثيرة، وتجعل القارئ يتساءل، كيف ولماذا ترك العز في بريطانيا وقرر العودة إلى قرية نائية؟.
مصطفى والنساء
أقام "مصطفى" عدة علاقات مع النساء، وكلهن كن تحت (سيطرته) حتى بعضهن انتحرن، يحدثنا عن هذه العلاقات: "كانت لندن خارجة من الحرب... عرفت حانات تشلسي، وأندية هامبستد/ ومنتديات بلومزيري، أقرأ الشعر، وأتحدث في الدين والفلسفة، وأنقد الرسم، وأقول كلاما عن روحانيات الشرق، أفعل كل شيء حتى أدخل المرأة في فراشي، ثم أسير إلى صيد آخر" ض33، نلاحظ أن "مصطفى" يحدد الزمن والظرف، ما بعد عام 1945، والإنجليز خارجون من الحرب العالمية الثانية التي فقدت فيها مئات الألوف من الجنود، بمعنى أن هناك نقص في الرجل، مما جعل مهمة "مصطفى" (أسهل) في اصطياد النساء، ونلاحظ أنه (يكذب) من جديد، فهو يستخدم (الثقافة/المعرفة) لنيل مراده من النساء، وليس لتثقيفهن أو لزيادة معرفتهن أو معرفته هو.
ويحدثنا عن زوجته وكيف كانت علاقته بها: "كانت تغازل غرسونات المطاعم وسواقي الباصات وعابري السبيل ... فأتشاجر مع الناس وأضربها وتضربني في عرض الطريق.. كان البيت كله يفوح بالخيانة، وجدت مرة منديل رجل، لم يكن منديلي، سألتها فقالت: هبه ليس منديلك، ماذا أنت فاعل؟ ...قلت لها: أنت تخونينني، فقالت: أفرض أنني أخونك، صرخت فيها: أقسم أنني سأقتلك، ابتسمت ساخرة وقالت: أنت فقط تقول هذا، ما الذي يمنعك من قتلي؟ ماذا تنتظر؟ لعلك تنتظر حتى تجد رجلا فوقي.. وحتى حينئذ لا أظنك تفعل شيئا.. ستجلس على السرير وتبكي" ص164، من خلال هذا الحوار يمكننا إيجاد الإجابة على سؤال عن أسباب عودة "مصطفى" إلى السودان وتركه لندن وما فيها من شهوات وملذات.
المرأة السودانية
الرواية تعطيا حالتين عن المرأة السودانية، الأولى للمرأة القوية التي تشارك الرجال الحوار، حتى عندما يكون متعلق بالجنس، كحال "بنت مجذوب" التي تحاور وتتكلم كالرجال تماما: "عليّ الطلاق يا حج أحمد، كنت حين يرقد زوجي بين فخذي أصرخ صراخا تجفل منه البهائم المربوطة" ص79، ولم يقتصر الأمر على تناولها لما كان يجري مع زوجها، بل كانت تتدخل في مشاكل الأزواج، وتركز على الجنس كأهم غاية/حاجة تطلبها المرأة من رجلها، ينقل لنا السارد أحد هذه التدخلات: "يا آمنة هذا الرجل لم يقصر في حقك، فمسكنك حسن، وملبسك حسن، وقد ملأ يديك ورقبتك ذهبا، ولكن لا يبدو على وجهه أنه يقدر على إشباعك في الفراش، فإذا أردت الشبع الصحيح فأنا أعرف لك زوجا إذا جاءك لا يتركك حتى تزهق روحك" ص80و81، أعتقد أن السارد أراد بهذا المشهد الإشارة إلى أهمية الجنس كحاجة حيوية للإنسان، ويجب التعامل معه على هذا الأساس، وإذا ما أخذنا المشاهد العديدة والكثرة التي جاءت في الرواية نصل إلى أن السارد أراد اختراق أحد المحرمات في المجتمع العربي، إلا وهو الجنس.
والحالة الثانية "بنت محمود" التي فرض عليها زوج لا تريده، فخضعت مكرهة مما جعل ليلة دخلتها صادمة لها لزوجها "ود الريس": "كان الريش الأحمر يعوم في الدم، وجدت بنت محمود معضوضة ومخدوشة في كل شبر من جسدها، بطنها، أوراكها رقبتها، عض حلمة ندها حتى قطعها، الدم يسيل من شفتها السفلى، وود الريس مطعون أكثر من عشرة طعنات، طعنة في بطنه وفي صدره" ص128، رغم أن "بنت محمود" انتقمت لنفسها بقتلها لود الريس الذي تزوجها غصبا، إلا أن فُرض الزواج عليها من قبل العائلة يمثل خضوعها لسلطة العائلة التي لا ترحم النساء وتعامل معها كما تتعامل مع الدواب.
العقل الذكوري
هذه الجريمة المزدوجة تقودنا إلى العقل الذكوري وكيف ينظر للمرأة، "ود الريس" يمثل نموذج عن المجتمع الذكوري: "أنها ستتزوجني رغم أنفك وأنفها، أبوها قبل وأخوتها قبلوا" ص100، هذا المشهد يشير إلى أن المجتمع لا يتعامل مع المرأة كإنسانة، بل كمتاع ليس أكثر. لم يقتصر الأمر على "ود الريس" فقط، بل طال الأب الذي زوجها وعقد العقد دون موافقتها: "أبوها شتمها وضربها وقال لها: تتزوجينه رغم أنفك" ص124.
إذا ما توقفنا عند "بنت مجذوب وبنت محمود" سنجد الأولى (متطرفة) والثانية (عادية)، حيث قبلت ما فرض عليها، لكنها انتقمت لنفسها ولجسدها بقتل ود الريس، وبما أن هناك حالتين (يرفضهما المجتمع) الأولى بتطرفها وعدم وجود (أنوثة/حياء) في كلامها أو سلوكها، والثانية رفض فكرة فرض الزواج على المرأة بالقوة والإكراه، مما يجعل (جريمة) قتل ود الريس (مقبولة) اجتماعيا أو روائيا بالحد الأدنى، وهذا ما يجعل تناول النساء مثيرا وبحاجة إلى وقفة من القارئ ومن المجتمع، ليفكر في حال النساء وكيف يريدهن أن يكن.
الخطأ الزمني في الرواية
السارد يخطئ في تناوله للزمن، فرغم أنه لم يحدد زمن الرواية بسنة بعينها، إلا أن حديثه عن بريطانيا بعد الحرب: "كانت لندن خارجة من الحرب" وهذا يشير إلى ما بعد عام 1945، وإذا ما علمنا أن الرواية صادرة في طبعتها الثانية عام 1966، سنختخلص أن أي إشارة إلى الزمن يجب أن تكون بين عامي 1945 و1966 كحد أقصى، لكننا نجد السارد يتحدث عن مصطفى بصورة تخرجه من زمن أحداث الرواية، وتوصله إلى العقد السابع من القرن الماضي: "ثلاثون عاما وأنا جزء من كل هذا، أعيش فيه، ولا أحس جماله الحقيقي ولا يعنيني منه إلا ما يملأ فراشي كل ليلة" ص39و40، أعتقد أن مثل هذا الأمر يمثل خطأ في الرواية، وكان على السارد القول: "عشرون عاما" وهذا هو الصحيح والأنساب للزمن الأحداث الروائية.
علاقة السارد "بمصطفى"
الرواية تشير إلى السارد القادم من بريطانيا يقابل "مصطفى" ثم يبدأ الحديث عنه، فكان السارد (ناقل) لما رآه/وجده في من مصطفى، وهذا امر طبيعي/عادي روائيا، لكن أن يترك "مصطفى" رسالة خاصة وما فيها خصوصيات وأسرار للسارد فهذا أمر غريب بعض الشيء.
يحاول السارد معالجة هذه الغرابة من خلال قوله: "أنه يريد أن يُكتشف كأثر تاريخي له قيمته.. وأنا أعلم الآن أنه اختارني أنا لهذا الدور، لم تكن صدفة أنه أثار حب الاستطلاع عندي، ثم قص عليّ قصة حياته غير كاملة لكي اكتشف أنا بقية القصة، لم تكن صدفة أنه ترك لي رسالة مختومة بالشمع الأحمر، أمعانا منه في شحذ خيالي، وأنه جعلني وصيا على ولدية ليزمني الزاما لا فكاك منه" ص156، أعتقد أن هذا المخرج يشير إلى فنية الروائية، فكل من السارد ومصطفى تخرجوا من بريطانيا، وبما أن زمن الرواية (قديم) ولم يكن القارئ ـ في ستينيات القرن الماضي ـ يستوعب فكرة التميز/الفرق بين السارد والكاتب، خاصة إذا جاءت الرواية بصيغة أنا السارد، مما جعله يلجأ إلى هذا الأمر ـ الحديث عن مصطفى بصيغة السارد الخارجي ـ لكي يبعد نفسه عن (تهمة) الركض خلف النساء والانحلال التي تحدث عنها "مصطفى" فكان دور السارد بمثابة (براءته) من أفعال "مصطفى" المشينة، خاصة أن هنالك نساء انتحرن بسببه أو بسبب علاقتهن به.
من هنا وجدنا كسر لوتيرة السرد: "لكن أرجو ألا يتبادر إلى أذهانكم، يا سادتي أن مصطفى سعيد أصبح هوسا يلازمني في حلي وترحالي" ص65، وكأن السارد/الكاتب يؤكد انفصاله براءته من أفعال مصطفى.، لكنه في الوقت ذاته يريده، ويتعاطف معه، فقد وجد فيه تميزا غير عادي، وما قرره بالموت طواعية، لحماية أسرته والقرية التي تعرضت للطوفان، إلا من باب تأكيد دور المثقف المتميز والمثير حتى في اختياره لطريقة الموت، فكما تميز "مصطفى" في حياته تميز في موته، حيث جاء كشهد مدافعا عن سلامة عائلته وقريته.
الرواية من منشورات دار العودة، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى 1966.
رائد الحواري - المثقف في رواية -موسم الهجرة إلى الشمال- الطيب صالح
رائد الحواري - المثقف في رواية -موسم الهجرة إلى الشمال- الطيب صالح
www.ahewar.org