د. عبدالجبار العلمي - قصيدة "دَرس خُصوصي" للشاعرة الكويتية سعاد الصبَّاح... ومناسبةُ القصيدة المختلقة

يروج الحديث خاصةً في بعض المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي عن قصة طريفة تمثل ما يسمى مدرسيا بــ"مناسبة القصيدة" أو (جو القصيدة) كما ورد في تحقيق "المفضليات" و "الأصمعيات" لأحمد محمد شاكر وعبدالسلام محمد هارون، أو في برنامج "قول على قول" الشهير لحسن الكرمي في الإذاعة البريطانية (القسم العربي) الذي كان يبحث خلال 30 سنة عن مناسبة قول أبيات الشعراء العرب جواباً عن أسئلة المشاهدين: "من القائل وما المناسبة؟"، فلكل قصيدة أو بيت أو أبيات قصة تمثل المناسبة التي كانت الدافع إلى القول. وقد أبى بعضُ مقتحمي الفضاء الأزرق إلا أن ينسجوا من خيالهم مناسبة أو سبب ( نزول ) لقصيدة جميلة للشاعرة الكويتية السيدة سعاد الصباح الموسومة بــ" درس خصوصي " في الأصل، و بــ"لا تنتقد خجلي الشديد " في الأغنية التي تغنيها المطربةُ المعروفةُ نجاة الصغيرة. والقصَّة الشائعة عن هذه النازلة التي اختلقها كاتبوها غير المعروفين ليجعلوا منها مناسبة للقصيدة التي صادفتُ أن قرأتُها عدة مرات في المواقع الإلكترونية ومنصات التواصل الاجتماعي. وهي تفتقر إلى أي توثيق أو أية إشارة إلى المصدر المعتمد عليه في نقلها، و القصة المختلقة ، تسرد كما يلي:
"حضرت الشاعرة الكويتية سعاد الصباح مهرجان الشعر العربي في مصر (لاحظ أنَ المهرجان غير محدد وغير مؤرخ )، وكان يجلس في الصف الأول الشَّاعر السوري نزار قباني، وعندما رأتْ سعاد الصباح نزار قباني، تلعثمت ولم تستطع أن تُلقي الشعر بشكل جيد، فقال نزار: انزلي وتعلَّمي العربيةَ قبلَ الشِّعر، وطلب من القائمين إنزالَها عن منصة الإلقاء. بعد فترة كتبتْ الشاعرة هذه القصيدة التي غنتها نجاة الصغيرة، وقدَّمتها هديةً إلى نزار قباني الذي اعتذر منها بدوره وحضر لها في مصر قصائدها الجديدة واستمر على صداقتها حتى وافته المنية..
"هذه هي المناسبة المنسوجة من خيال متأدبين لم يعلنوا عن أنفسهم، وهذه هي القصيدة الجميلة للشاعرة سعاد الصباح. ولعلم القراء الكرام أن القصيدة بعنوان "درسٌ خصوصي" منشورة في مجلة "الناقد" اللندنية الأمر الذي لم يثبته مختلقو مناسبة القصيدة أو جوها العام . القصيدة: "درس خصوصي " ( ) وهي من بحر "الكامل"، ضربُهُ مقطوع ( مُتَفاعِلْ وتقلب إلى (فَعِلاتُنْ) . ومن الجدير بالذكر أن كلمة واحدة من كلمات الشاعرة في النص الشعري ، هي التي تم تغييرها من لدن من عهد إليه بتلحينها لتكون مناسبة للغناء ، وهذا أمر متعارف عليه في هذا المضمار الفني ، وسأذكر هنا بعض الأمثلة على سبيل المثال لا الحصر : أ ـ استبدال محمد عبد الوهاب بكلمة قُدّامي في قصيدة الطلاسم لإيليا أبي ماضي كلمة أمامي ، لأن (أَمَامِي) أخفُّ وألين من "قدّامي"المشددة، رغم أنها ليست على نفس الوزن / ب ـ استبدالُ بعبارة ( رَحِمَ اللهُ ) في مطلع قصيدة الأطلال عبارة ( لا تَسَلْ أَيْنَ) ، الشطر الأول " يافؤادي رحم الله الهوى" ، صار : " يا فؤادي لا تَسَلْ أَيْنَ الهوى؟ " فملحنها رياض السنباطي ومغنيتها أم كلثوم، ربما رأيا أن الأسلوب الإنشائي أنسب في التلحين والأداء ( هذا مجرد تأويل ) ، فليس لدي معلومات دقيقة عن مبرر التغيير)/ جـ ـ في قصيدة "إلى رَجُل" لنزار قباني ، استُبدِل بلفظ ( رجلٍ ) لفظَ ( أَمَلاً ) ، فالشطر الأول من المطلع، كان في القصيدة كما يلي : " مَتَى سَتَعْرِفُ كَمْ أَهْوَاكَ يا رَجُلاً " ، فصار في الأغنية : ( متى سَتَعْرِفُ كمْ أَهْوَاكَ يا أَمَلاً ) وهي من غناء نجاة الصغيرة.
في قصيدتنا "درس خصوصي "، نلاحظ تغييرين اثنين: أحدهما : استبدال بكلمة ( دَرْوِيشَةٌ) كلمةَ (بَسيطَة) في الشطر الثاني من البيت الأول؛ وثانيهما يتعلق بحذف بيت كامل من النص الشعري، هو البيت الرابع :
(أَنا لا أُفَرِّقُ بينَ أَنْفِي أَوْ فَمِي = في حِين أَنْتَ عَلى النِّسَاءِ قَديرُ ).
أما بقية الأبيات، فلم يطرأ عليها أي تغيير أو حذف إلا ما ذكرنا.

القصيدة:

لا تنتقدْ خَجَلِي الشَّدِيدَ.. فَإِنَّــــنِي
بَسيطَةٌ جِدّاً .. وَأَنْتَ خَبـــــــِيــــرُ
يا سَيِّدَ الْكَلِمَاتِ..هَبْ لي فُرْصَةً
حَتَّى يُذَاكِرَ دَرْسَـــهُ الْعُصْفُــــورُ
خُذْنِي بِكُلِّ بَسَــاطَتِي وَ طُفُولَتِي
أَنَا لَمْ أَزَلْ أحْبُو.. وَأَنْتَ كَبِيــــــرُ
مِنْ أَيْنَ تَأْتِي بِالْفَصَاحَةِ كُلِّهـــــا
وَأنَا يَتُوهُ عَلى فَمي التَّعْبيــــــــرُ
أَنا في الْهَوَى لا حَوْلَ لي أَوْ قُوَّةُ
إِنَّ الْمُحِــبَّ بِطَبْعِـــهِ مَكْسُـــــورُ
إِنِّي نَسِيتُ جَمِيعَ ما عَلَّمْتَــــنِي
في الحُبِّ فَاغْفِرْ لي وَأَنْتَ غَفُورُ
يَا وَاضِعَ التَّارِيخِ تَحْتَ سَريرِهِ
يَا أَيُّهَا الْمُتَشَـــاوِفُ، الْمَغْـرُورُ
يَا هادِئَ الأَعْصابِ إِنَّكَ ثَابِــتٌ
وَأَنا عَلى ذَاتـــي أَدُورُ .. أَدُورُ
الأَرْضُ تَحْتِي دَائِماً مَحْرُوقَةٌ
وَالأَرْض تَحْتَكَ مُخْمَلٌ وَحَريرُ
فَرْقٌ كَبيرٌ بَيْنَنــــا يا سَيّـــدي
فَأَنَا مُحــافِظَةٌ وَأَنْتَ جَسُـــورُ
وَأَنَا مُقَيَّــدَةٌ وَأَنْتَ تَطيـــــــــرُ
وَأَنا مُحَجَّبَةٌ وَأَنْتَ بَصِيـــــــرُ
وَأَنا.. أَنا مَجْهُولَةٌ جِدّاً ..
وَأَنْتَ شَهيرُ
فَرْقٌ كَبِيرٌ بَيْنَنا .. يَا سَيِّـدِي
فَأنا الْحَضَارَةُ وَالطُّغَاةُ ذُكُورُ

لا أعتقد، بل أقول جازماً : إن نزار قباني لا يمكن أن يصدر عنه مثل هذا السُّلوك المُشين، وهو الشَّاعر الرقيق الإحساس الذي " ينبشُ عالم المرأة الداخلي :عالم الروح ، ويبرزُ أنه شاعر امرأة حديث" ( ) وهو الرجل الدبلوماسي الذي قضى في سلك الدبلوماسية سنوات طويلة، من: 1945 ـ 1966، متنقلاً بين دول وحواضر العالم المتقدم ( انجلترا فالصين ثم أخيراً مدريد بإسبانيا التي خلد مآثرها العربية الإسلامية بالرسم بالكلمات في المرحلة الوردية ( إسبانيا) ( ) من مراحل عمله الدبلوماسي. ومن يعود إلى المقالة المنشورة في جريدة الشرق الأوسط التي أوردت التفاصيل الدقيقة ، وأبانت الحقيقة معتمدة على مصادر موثوقة ومن خلال حوار أجرته الجزيرة مع الشاعرة تحت عنوان (جدل حول أغنية «لا تنتقد خجلي» ) بعد أكثر من عشرين سنة على إنتاجها، سيدرك مدى التجني الذي يلحق شعراءَ وأدباءَ لهم وزنهم في المشهد الأدبي الثقافي العربي من لدن من لا يمتلك الأدوات الإجرائية وطرائق البحث الأدبي القائمة على التوثيق والرجوع إلى المصادر والمراجع لتقديم المعلومة للقراء وللأجيال المتلاحقة بموضوعية وأمانة علمية. ( الجمعة - 15 محرم 1444 هـ - 12 أغسطس 2022 م ـ رقم العدد:15963). واللافت لنظر الباحث أنَّ الشاعرة صرحت بنفسها بمرارة - في حوار صحفي - أنهُ "من المحزن أن تنتشر قصة خيالية تُغيّر مناسبة كتابة القصيدة، وتمحو تفاصيلَها الحقيقية، وتزعُم أنني كتبتُها ردًا على موقف مع الأستاذ نزار قباني، بعد أن أغضبني وطلب مني النزول من منصة الشعر وأمره بالعودة إلى تعلُّم العربية، في أمسية هو لم يحضرها أصلاً، وأوضحتِ الشاعرة أن القصيدةَ تخصّ زوجَها، وهو ما اضطرها للتوضيح، "ولولا أن القصيدة بمناسبتها وحروفها ومشاعرها ونبضها، تخصّ زوجي الشيخ عبد الله مبارك الصباح، لما كتبتُ توضيحاً، ولما أجهدت نفسي في ملاحقة الإشاعة لإطفائها" ( المصدر: الجزيرة ، الصحافة الكويتية )
من هنا يتأكد لنا بما لا يدعُ مجالاً للشكّ، أن المناسبة مختَلقَة، تجانب الصواب، وتنأى عن المنطق. إنَّ كلُّ الدلائل تدل بالملموس على ذلك، ويكفي تصريح وتوضيح المعنية بالأمر الشاعرة سعاد الصباح. أما الشاعر نزار قباني، فمنزَّه عن القيام بما صيغ في تلك الإشاعة التي لا يقبلُ حصولَها من يعرفه ومن قرأ له وعنه في الدراسات العديدة الأكاديمية وغيرها. فهو من مناصري قضية المرأة في مجتمعنا العربي الذكوري، والمنافح بشعره عن قضيتها. وإنَّ كل تصريحاته، تؤكد ذلك بالإضافة إلى كثير من قصائده مثل" حبلى " ( ) و الحب والبترول " ( ) وغيرهما كثير . وغنيٌّ عن البيان أن حياتَه لم تخل من مآسي وصدمات جد عنيفة ( انتحار أخته ـ استشهاد زوجته بلقيس) بسبب قهر مجتمعِه التقليدي وما يسوده من صراعات حزبية وقبلية. فالأوْلى بالضَّرورة أن ينحازَ إلى قضية المرأة، لا أن يكون ضدَّها. بل إن نزاراً هو " شاعر الحب " لأننا ـ كما يقول الدكتور إحسان عباس " إذا استثنينا نزار قباني وجانباً من شعر صلاح عبد الصبور، لم نجد الحبَّ يتخذُ شكلَ موضوع شعري مستقل، وإنما هو ذائبُ في التيار الشعري جملةً" ( ) ، وهو شاعر المرأة لأنه يعبر عن أدق أحاسيسها وأعمقها، وهو الصوت الصريح الصادق الذي يقول ما لا يبيح مجتمعنا العربي الأبيسي قولَه والبوح به من قِبَلِ المرأة التي عانت من التهميش والدونية أزمنة طويلة. يقول مفيد فوزي في كتابه الحواري مع نزار قباني: "إنَّ نزاراً هو مصور دقائق وتفاصيل العشق المعاصر بجرأة، تَهَابُها بَعضُ الأجهزة العربية المكلَّفة برقابة الكتب ودواوين الشِّعر، ومع ذلك قام (الفاكس) خِلسةً بإرسالِ القصائد الممنوعة إلى المخادع وغرف النوم" ( ) . وتاريخ أدبنا العربي الحديث يشهد شهادة ساطعة على عدَدِ الأديبات العربيات اللواتي كنَّ ينشرنَ أعمالهن الأدبية بأسماء مستعارة، ويمكن أنْ نذكر منها هنا على سبيل المثال لا الحصر: "باحثة البادية" ـ " سميرة بنت الجزيرة العربية " ـ "بنت الشاطىء" قبل أن تفرض نفسها عالمةً باحثةً أكاديمية متمكنة. وعندنا في المغرب مثال ساطع وهو القاصَّة الرائدة "رفيقة الطبيعة" التي لم تأخذ حقها من دراسة أعمالها إلا إذا استثنينا بعض النقاد الباحثين: أحمد المديني ونجيب العوفي وإدريس الناقوري.. ثُمَّ ألم يتعرضْ نزار قباني نفسُه إلى ظلم هذا المجتمع المنغلق القاهر القامع، حين اعترضتْ عائلة عراقية عريقة على زواج ابنتها "بلقيس" منه, لولا تدخل شخصيات نافذة في البلاد؟ ( العراق )
بقي أن نقول في الأخير: إن تلك القِصَّة التي نَسجَها خيالُ مجهولِ أو مجهولين في الفضاء الأزرق أو غيره باعتبارها مناسبةً للقصيدة الجميلة الرقيقة للشاعرة الكويتية سعاد الصباح، كانت مناسبةً ليست للنص الشعري الجميل، بل كانتْ مناسبةً للعودة إلى قراءة تلك القصيدة ، بعد أكثر من عشرين سنة من كتابتها، بذلك الإحساس المفعم بمعاناة امرأة رقيقة مرهفة المشاعر في مجتمع ما زالت تسوده قيم الأبيسية، كما كانت أيضاً (مناسبة) لننصتَ إلى كلماتها التي تذوب رقة، تشدو بها ( نجاة الصغيرة) بلحن باذخ للموسيقار المصري الرائد الأستاذ كمال الطَّويل. ولا أخفي عنكم أيها القراء الأعزاء، أنني رغم إعجابي بصوت نجاة الشجي الحنون وعشقي للقصائد التي تغنيها لنزار قباني وكامل الشناوي ولأكبر ملحني العصر ، إلا أنني لم أسمع هذه القصيدة المغناة "لا تنتقد خجلي الشديد" إلا مؤخراً , وكم يكون المرء محظوظاً حينما يُدخل يَدَهُ في "الخابية"، فيعثرَ على جوهرة ثمينة هي قصيدة معتقة اسمها"درس خصوصي " للشاعرة سعاد الصباح.


الهوامش:
1 ـ مجلة " الناقد " ، العدد: الثالث والثلاثون ، آذار ( مارس ) 1991 ، ص: 15 .
2 ـ جليل كمال الدين ، الشعر العربي الحديث وروح العصر ، دار العلم للملايين ، بيروت ـ لبنان ، 1964 ، ص:341
( من تحليل قصيدة شؤون صغيرة ، ديوان " حبيبتي ، ص: 22 )
3 ـ قصتي مع الشعر/ سيرة ذاتية ، ط.1 ، منشورات نزار قباني ، بيروت ـ لبنان، 1973، انظر ص: 108 وما بعدها.
4 ـ ديوان " قصائد من نزار "، الطبعة السادسة ، منشورات نزار قباني، بيروت ـ لبنان، 1967 ، ص : 136 . ،
5 ـ ديوان "حبيبتي "الطبعة الرابعة ، منشورات نزار قباني، بيروت ـ لبنان ، 1967، ص: 162 ـ
6 ـ اتجاهات الشعر العربي المعاصر، ط.2 ، دار الشروق للنشر والتوزيع ، عمَّان، الأردن، ص: 135 .
7 ـ ـ نزار.. وأنا / أطولُ قصيدةِ اعتراف، مفيد فوزي ، الهيئة المصرية العامة للكتاب ، القاهرة ، 1998 ، ص: 11.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى