صدرت ترجمة كتاب حنة آرندت أيخمان في القدس: تفاهة الشر، عن دار الساقي (2018)، وهو يتألَّف من مُقدِّمة، وخمسة عشر فصلا، وخاتمة. وتأتي ترجمته في سياق عودة الاهتمام في الغرب بالإنتاج السياسي الذي خلفته هذه المفكرة، وإعادة تثمين مساهمتها في علم الاجتماع السياسي، وبالخصوص بعد انهيار التوتاليتارية، وقد سبق ترجمة كتابيها في العنف وأسس التوتاليتارية عن نفس الدار.
لعل حنة أرندت كانت ستفخر كثيرا بالاهتمام الجديد بكتاباتها لو كانت على قيد الحياة، فقد قالت ذات مرة: "إن أكثر أنواع الشهرة مدعاة للحزن هي شهرة ما بعد الوفاة"، وهي المقولة التي تنطبق عليها أكثر من غيرها.
جلب كتاب أيخمان في القدس عداء كبيرا من طرف رموز الصهيونية على حنة أرندت (1906-1975)، إذ أظهرت دور المجالس اليهودية في تدمير الشعب اليهودي، من خلال تسهيلهم مهمة سوق الضحايا إلى مذبحهم، وهو ما يُشكل الفصل الأكثر سوادا في حكاية الهلوكوست، ولذلك واجهت بسببه حملة شرسة في الداخل والخارج انتهت بتهميشها واتهامها بشتى الأوصاف الشنيعة. بل وتم تشويه سمعتها، حيث تم الزج بحياتها الشخصية والتطفل عليها بسبب الجدل الذي رافق صدور هذا الكتاب، إذ تم نشر كتاب حولها يتناول بأسلوب مبتذل علاقاتها مع الفيلسوف هايدغر، إذ تم اتهامها بكونها أغرمت جنسيا بأستاذها النازي الكهل، الذي كان متزوجا وأبا لطفلين.
عاد مؤخرا الاهتمام بكتاب أيخمان في القدس، فهو قادر على جذب قراء ومفسرين جدد حتى في الكيان الصهيوني الذي صدرت به ترجمة جديدة له، ولاقت حفاوة غير مسبوقة، إذ كان الكتاب في الماضي غير مقبول، ومحط تحامل عنيف من طرف غالبية المؤسسات اليهودية في أوروبا وأمريكا.
ما زال الناس منقسمين حول كتاب تفاهة الشر بالرغم من مرور سنوات عديدة على صدوره، إذ ما من كتاب أثار في الذاكرة اليهودية الحية ما أثاره، حتى لقد ألقت المؤسسة اليهودية في أمريكا نوعا من الحرم عليه وعلى كاتبته، ولم يتم حسم الجدل الذي أثاره، في حين كانت العادة أن تخمد جدالات مماثلة. وليس من قبيل المصادفة أن تُستعاد قراءة كتب أرندت بشكل واسع وأن تصدر كتاباتها عن دور نشر شهيرة وأن تطبع منها آلاف النسخ.
يُعالج الكتاب ذلك الالتباس المتعلق بجرائم النظام النازي، والخلط بين المسؤول والمنفذ، ولذا انتقدت ارندت ما حدث في محاكمة ايخلمان (1906-1962)، أحد المسؤولين في الرايخ الثالث، والضابط في القوات الخاصة (قوات العاصفة)، بالإضافة إلى دوره في "سرايا الحماية" (أس-أس). وهو الذي كانت تَعُود إليه مسؤولية الترتيبات اللوجستية باعتباره رئيسا لجهاز "الغستابو" والإدارة المكلفة بإعداد مستلزمات المدنيين في معسكرات الاعتقال وإبادتهم فيما يعرف آنذاك بالحل النهائي. وقد تعاون مع قيادات الجاليات اليهودية قصد تهجير اليهود المجريين إلى سويسرا بدلا من إبادتهم في أوشفيتز.
عند انتهاء الحرب تمكن أيخمان من الهرب إلى منطقة تقع جنوب هامبورغ، وهناك ظل لمدة أربع سنوات يعمل متخفيا في الغابة تحت اسم مستعار هو أوتو هنينغر، وفي سنة 1950م وبمساعدة من بعض النازيين القدامى عَبَرَ إلى إيطاليا، حيث زوده هناك راهب فرنسيسكاني بجواز سفر باسم ريتشارد كليمنت استخدمه للذهاب للأرجنتين بهدف الاستقرار الدائم بها. اختفى هناك باسمه المستعار، واستطاع استقدام زوجته وأولاده في سرية تامة.
استقر أيخمان مع أسرته في بيت متواضع بإحدى ضواحي بوينوس أيريس الفقيرة. وقد ارتكب أثناء إقامته خطأ كبيرا من خلال موافقته إجراء مقابلة مع صحافي هولندي، وبالرغم من إخفائه لهويته، فمحتوى القصة كان يشير إليه، وهو ما أعطى للمخابرات الإسرائيلية الأمل للعثور عليه، وقد تمكنوا من اكتشاف مخبأه في يوم 11 ماي من سنة 1960، وترصدوه عند نزوله من حافلة كانت تقله من عمله عائدا إلى منزله.
أمسك به ثلاثة عملاء من المخابرات الصهيونية وألقوا به في سيارة، وبعد احتجازه في بيت سري لمدة ثمانية أيام تم نقله على متن طائرة خاصة إلى لمحاكمته بشكل علني.
تمت محاكمته في القدس، وبعد 114 جلسة عُلِّقت المحاكمة للمداولة، وعادت بعد أربعة أشهر لإصدار الحكم، وقد تمَّت إدانته بجميع التهم البالغ عددها 15 تهمة.
رد محامي الدفاع سيرفانتوس على قرار الإدانة، باعتباره مجحفا، لأن المتهم نفذ أفعال دولة، وأنه ليس سوى كبش فداء. كما طعن في كفاءة المحكمة باعتبار أن المتهم قد سقطت عنه التهم وفق قانون التقادم الأرجنتيني المسقط للعقوبة بعد 15 سنة من حدوثها، وهذا يجعل من المستحيل قانونيا تسليمه لو طلبت "إسرائيل" ذلك رسميا، ثم إن عقوبة الإعدام أصبحت محرمة في ألمانيا الغربية، الدولة التي ينتمي إليها المتهم.
ثم جاء دور إيخمان للحديث، فأبرز أنه لم يكن كارها لليهود، وأنه ليس واحدا من الأفراد الحاكمين، بل كان ضحية، والقادة وحدهم من يستحقون العقاب. وبعد يومين لفظتِ المحكمة قرار الإعدام.
افتتحت بعدها إجراءات المراجعة من طرف المحكمة العليا لمدة ثلاثة أشهر، وخلالها حاول محامي الدفاع بذل جهود كبيرة للضغط على ألمانيا الغربية ببدء إجراءات استرجاع مواطنها، غير أنها باءت بالفشل. وقد تداولت المحكمة في الطعون وأكدت حكمها السابق. وفي اليوم نفسه تلقى اسحاق بن زيفي، طلبا للرحمة من أيخمان ومن زوجته وعائلته، ومن عدد من أساتذة الجامعة العبرية ممن كانوا معارضين للمحاكمة، بيد أنه رفض، وبعد يومين أُخِذَ إلى المشنقة، وقد توجه إليها برباطة جأش.
قبل تنفيذ الحكم طلب زجاجة من النبيذ الأحمر، ورفض تلقي المساعدة من الكاهن البروتستانتي ويليام هال الذي عرض عليه قراءة مقاطع من الإنجيل. في غرفة الإعدام ترجل بهدوء وبقامة منتصبة ويداه مقيدتان إلى الخلف. وعندما أرادوا تغطية عينية امتنع، ثم تابع مواجها الموت بشجاعة: "هذا مصير جميع الرجال. عاشت ألمانيا، عاشت الأرجنتين، عاشت النمسا، لن أنسى هذه البلدان". أُحْرِقَتْ جثته مباشرة بعد ذلك، ونثر رمادها في مياه المتوسط.
أبرزت حنة ارندت في انتقاداتها للمحاكمة أن ايخلمان كان مجرد موظف تافه، وأنه لم يكن ساديا مثلما حاول المدعي العام تصويره، بل كان شخصا مرعبا في عاديته، وأنه تصرف كأي مواطن لا يمتلك القدرة على اتخاذ القرار، وأنه بدوره ضحية من ضحايا النظام التوتاليتاري، وعليه لم تر فيه تجسيدا للشر، واعتبرت محاكمته مسرحية استغلها بن غوريون للحصول على مزيد من التعويضات المالية من ألمانيا الغربية آنذاك.
وجِّهت لأيخمان تهمة ارتكاب جرائم ضد "الإنسانية"، وكان جوابه على التهم قوله: "لست مذنبا بمعنى الاتهام"، فماذا كان يقصد؟
في مقابلة صحفية وضح موكله سيرفاتيوس ذلك بقوله: "إن أيخمان يشعر بالذنب أمام الله وليس أمام القانون". فماذا كان يقصد بذلك؟
كان أيخمان يقصد أنه لم يرتكب شيئا خطأ في ظل النظام القانوني النازي، وأن ما اتهم به من جرائم هي أفعال دولة لا تملك دولة أخرى سلطة قضائية عليها، وأن واجبه كان يقضي عليه الطاعة، وأن ما فعله -حسب موكله- كان سيجلب له الأوسمة في حالة انتصار النازية.
كيف يمكن التعامل مع الذنب السياسي؟ هل المقاربة الجنائية الانتقائية هي الحل؟
لم يدَعْ أيخمان مجالا للشك حين عبر بالقول: "إنني على استعداد لقتل والدي لو تلقيت أمرا بذلك"، بل إن تصريحه الصادم الذي لم يكن بالإمكان تقبله في الأجواء المشحونة للمحاكمة قوله: "إن ضميري كان سيُعذِّبني أكثر لو لم أنفذ ما أمرت به".
ما فعله أيخمان هو طاعة القرارات العليا، فأوامر هتلر ووزرائه كان لها وقع قوة القانون، ومُعاقبة أيخمان على اعتبار أنه كان عليه عصيان التعليمات هو مأزق حقيقي سقطت فيه المحكمة. إن الأمر شبيه بالقول: "لماذا لم يقاوم اليهود وهم بالملايين مصيرهم المحتوم؟، لماذا لم يعترضوا وينتفضوا وهم يركبون القطارات بالآلاف بينما كان عدد الحراس قليلا جدا؟ لماذا ذهب اليهود إلى موتهم كالنعاج السائرة إلى المسلخ؟".
ما من شعب أو جماعة أو أفراد كانوا سيتصرفون بشكل مختلف لو تعرضوا لنفس الموقف. وكذلك الأمر بالنسبة لأيخمان، الذي لم يكن سوى شخص عادي جدا، فضحالة فكره كما رصدتها أرندت خلال المحاكمة كانت جلية، واتهامه من طرف المحكمة بكونه المهندس والعقل المدبر للمحرقة كان أمرا عبثيا.
إن فكرة المُحاكمة طرحت معضلة أخلاقية، يتعلق الأمر بسؤال من يتحمَّل مسؤولية الفاجعة؟ هل فقط أولئك الذين ساهموا فيها بشكل مباشر، أم يتحمل ذلك شعب بكامله؟ أين تبدأ المسؤولية الفردية وأين تنتهي؟
إن موضع رهان النقاش -كما طرحه ريكور- يتناول سؤال من يتحمَّل المسؤولية: سلسلة من الفاعلين، أم أحدهم، مجموعة فقط، أم شعب بكامله؟
هذا السؤال طرحته في النِّهاية صحيفة ألمانية، وكان الجواب صادما: "إن أكثرية الألمان آنذاك كانت متواطئة، جميع السلطات والمكاتب: الموظفون المدنيون، أفراد القوات المسلحة، موظفو القضاء ورجال الأعمال. الكل متواطيء". فالذنب إذن جماعي.
إن مقاربة من يتحمل الذنب تعارضت فيها المدرسة القصدية، التي تهتم بأفعال الفريق الحاكم، مع المدرسة الوظيفية التي صبَّت اهتمامها أكثر على المؤسسات، والقوى المُغفلة، وتصرفات الناس. إن موضع رهان هذا النقاش يتناول سؤال من يتحمَّل مسؤولية الجريمة؟
إن النقاش التاريخي حول النازية والمحرقة، تعارضت فيها الآراء بين من اهتم بأفعال الفريق الحاكم، وبشكل خاص القرار المتعلق بالحل النهائي، وبين من صبَّ اهتمامه أكثر على القوى المغفلة وتصرفات الناس. ومن الملاحظ أن أنصار التيار الأول يُمثل المقاربة الجزائية للمحاكم، بينما على العكس بالنسبة للتيار الثاني، فحسب بول ريكور يسعى هذا التوجه الأخير إلى الفهم أكثر فأكثر دون السقوط في خطر الإنكارية.
إن القضايا المرتبطة بحقبة النازية خلقت الكثير من الجدل؛ فقد حصلت مشاجرة المؤرخين، بين متخصصين بالعهد النازي وفلاسفة كبار منهم هابرماس، حول قضايا من قبيل فرادة النازية كحدث غير قابل للمقارنة بغيره، وغير قابل للتقادم. نتلمس عند آرندت مقولة التوتاليتارية التي تبنَّتْهَا إلى جانب آخرين، والتي تعطينا إمكانية مقارنة المحرقة بالستالينية أو بجرائم الأنظمة الشمولية عامة، مما يجعل الغولاغ السوفياتي وأوشفيتز النازي حدثان متشابهان.
وإننا نجد مثل هذه المقارنة أيضا بين الجرائم المقترفة من طرف النازيين الألمان وبين طرد الألمانيين من المناطق الشرقية، وهي المقارنة التي دفعت ماركوز سنة 1949 إلى مؤاخذة هايدغر؛ فهذا الأخير كان قد وضع سنة 1945 الأمور في كفَّة واحدة، حيث تبدو إبادة اليهود نفسها كحدث مثل باقي الأحداث، وسواء كنا أمام إبادة اليهود أو أمام طرد الألمان من المناطق الشرقية، فالأمر سيان.
ومما كتبه ماركوز لهايدغر قوله: "كيف يمكننا أن نضع في نفس المستوى، من جهة، تعذيب وتشويه وإبادة ملايين الأشخاص، ومن جهة أخرى، الطرد الإجباري لبعض المجموعات من السكان؟
سيبدأ السجال بين الألمان سنة 1986 حول "أحداث الكارثة"، التي صدر بشأنها حكم إدانة على المستوى الجزائي بعد محاكمة نورنبيرغ. ومن المعلوم أن الملاحقة القضائية استندت إلى مبدأ تحميل الذنب للأفراد، وانحصر نتيجة ذلك تركيز الانتباه على عدد من الفاعلين، وهم أولئك الذين يوجدون على رأس السلطة.
لا يستطيع المؤرخ قبول هذا الحد من النظرة؛ فهو يمد استقصاءه إلى عدد أكبر من الفاعلين: إلى المنفذين، وأولئك الواقفين وراء الأحداث، بل ولما لا أولئك الشهود الذين ظلوا سلبيين، وهم السكان المتواطئون بصمتهم.
هناك وضع نزاعي بين المقاربة القضائية وبين المقاربة التاريخية للأحداث نفسها، فلم تعترف محكمة الجنايات سوى بمشاركين فرديين، وهذا أمر يختلف عن الاستقصاء التاريخي.
ما شكَّل عُقدة لعدد من أنصار تيار القصديين، هو الخوفُ من أن يُصدر المؤرخون حكم تبرئة لمن أدانهم القاضي. كما أن الخوف من تصاعد صيت من يسمون بالإنكاريين المشككين في المحرقة يعتبر من بين العوامل المؤثرة التي استند عليها هابرماس وياسبرز وغيرهم.
إن كتاب أيخمان في القدس يُلامس في الجوهر ظاهرة صعود التوتاليتارية، وبالخصوص النَّظريَّة الاشتراكية ومفاهيم القوميَّة والوطنيَّة. في هذا الإطار تم تقديم تفسيرات عن كيفيَّة اكتساب الفرد وسط الجماعة شعورا عارما بالقوَّة مِمَّا يجعله ينصاع بسهولة للغرائز التي قد تدفع به أحيانا إلى اقتراف أعمال وحشيَّة، ذلك أنَّ الحِسَّ بالمسؤوليَّة الذي يردع الأفراد يختفي في مثل هذه الحالة، إذ يُشبَّهُ الجمهور المحكوم بقوى اللاشعور بكونه منوَّما.
بينت حنة ارندت أن النظم الشمولية لها القدرة على تحويل البشر إلى محض منفذين وتروس في الآلة الإدارية، أي أنَّ لها القدرة على تجريدهم من إنسانيتهم. وهذا تماما ما حاولت أن تُبَيِّنُه إثر تغطيتها للمحاكمة؛ من خلال التأكيد بأن أنصار النازية من الشعب هم مجرد "رعاع وحشود" عميانا، يهرعون الى العنف للانتقام من أوضاع لم يصنعونها بأنفسهم. وتتقاطع أطروحاتها هذه مع المؤرخ فيلهلم رايش في كتابه علم النَّفس الجماعي للفاشِيَّة، حيث ربط مقولات التحليل النفسي بالأيديولوجيات السياسية، وفصل في كتابه الآخر عن تحليل الشخصية المفاهيم التي شكَّلت التقبُّل الشَّعبي للاستبدادية.
مفارقة: فيرنز فون براون هو مهندس صواريخ ألماني، ساهم في برنامج تطوير الصواريخ خلال الفترة النازية، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية سافر سرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تم غض الطرف عن نشاطاته السابقة في ألمانيا، وتولى في البلد الجديد الإشراف على برنامج الصواريخ البالستية الأمريكية، ثم أصبح مديرا لمركز ماشال لرحلات الفضاء، وهو يعد أحد أهم مهندسي وكالة ناسا الكبار، والأب المؤسس لتكنولوجيا غزو الفضاء بأمريكا الرأسمالية.
لعل حنة أرندت كانت ستفخر كثيرا بالاهتمام الجديد بكتاباتها لو كانت على قيد الحياة، فقد قالت ذات مرة: "إن أكثر أنواع الشهرة مدعاة للحزن هي شهرة ما بعد الوفاة"، وهي المقولة التي تنطبق عليها أكثر من غيرها.
جلب كتاب أيخمان في القدس عداء كبيرا من طرف رموز الصهيونية على حنة أرندت (1906-1975)، إذ أظهرت دور المجالس اليهودية في تدمير الشعب اليهودي، من خلال تسهيلهم مهمة سوق الضحايا إلى مذبحهم، وهو ما يُشكل الفصل الأكثر سوادا في حكاية الهلوكوست، ولذلك واجهت بسببه حملة شرسة في الداخل والخارج انتهت بتهميشها واتهامها بشتى الأوصاف الشنيعة. بل وتم تشويه سمعتها، حيث تم الزج بحياتها الشخصية والتطفل عليها بسبب الجدل الذي رافق صدور هذا الكتاب، إذ تم نشر كتاب حولها يتناول بأسلوب مبتذل علاقاتها مع الفيلسوف هايدغر، إذ تم اتهامها بكونها أغرمت جنسيا بأستاذها النازي الكهل، الذي كان متزوجا وأبا لطفلين.
عاد مؤخرا الاهتمام بكتاب أيخمان في القدس، فهو قادر على جذب قراء ومفسرين جدد حتى في الكيان الصهيوني الذي صدرت به ترجمة جديدة له، ولاقت حفاوة غير مسبوقة، إذ كان الكتاب في الماضي غير مقبول، ومحط تحامل عنيف من طرف غالبية المؤسسات اليهودية في أوروبا وأمريكا.
ما زال الناس منقسمين حول كتاب تفاهة الشر بالرغم من مرور سنوات عديدة على صدوره، إذ ما من كتاب أثار في الذاكرة اليهودية الحية ما أثاره، حتى لقد ألقت المؤسسة اليهودية في أمريكا نوعا من الحرم عليه وعلى كاتبته، ولم يتم حسم الجدل الذي أثاره، في حين كانت العادة أن تخمد جدالات مماثلة. وليس من قبيل المصادفة أن تُستعاد قراءة كتب أرندت بشكل واسع وأن تصدر كتاباتها عن دور نشر شهيرة وأن تطبع منها آلاف النسخ.
يُعالج الكتاب ذلك الالتباس المتعلق بجرائم النظام النازي، والخلط بين المسؤول والمنفذ، ولذا انتقدت ارندت ما حدث في محاكمة ايخلمان (1906-1962)، أحد المسؤولين في الرايخ الثالث، والضابط في القوات الخاصة (قوات العاصفة)، بالإضافة إلى دوره في "سرايا الحماية" (أس-أس). وهو الذي كانت تَعُود إليه مسؤولية الترتيبات اللوجستية باعتباره رئيسا لجهاز "الغستابو" والإدارة المكلفة بإعداد مستلزمات المدنيين في معسكرات الاعتقال وإبادتهم فيما يعرف آنذاك بالحل النهائي. وقد تعاون مع قيادات الجاليات اليهودية قصد تهجير اليهود المجريين إلى سويسرا بدلا من إبادتهم في أوشفيتز.
عند انتهاء الحرب تمكن أيخمان من الهرب إلى منطقة تقع جنوب هامبورغ، وهناك ظل لمدة أربع سنوات يعمل متخفيا في الغابة تحت اسم مستعار هو أوتو هنينغر، وفي سنة 1950م وبمساعدة من بعض النازيين القدامى عَبَرَ إلى إيطاليا، حيث زوده هناك راهب فرنسيسكاني بجواز سفر باسم ريتشارد كليمنت استخدمه للذهاب للأرجنتين بهدف الاستقرار الدائم بها. اختفى هناك باسمه المستعار، واستطاع استقدام زوجته وأولاده في سرية تامة.
استقر أيخمان مع أسرته في بيت متواضع بإحدى ضواحي بوينوس أيريس الفقيرة. وقد ارتكب أثناء إقامته خطأ كبيرا من خلال موافقته إجراء مقابلة مع صحافي هولندي، وبالرغم من إخفائه لهويته، فمحتوى القصة كان يشير إليه، وهو ما أعطى للمخابرات الإسرائيلية الأمل للعثور عليه، وقد تمكنوا من اكتشاف مخبأه في يوم 11 ماي من سنة 1960، وترصدوه عند نزوله من حافلة كانت تقله من عمله عائدا إلى منزله.
أمسك به ثلاثة عملاء من المخابرات الصهيونية وألقوا به في سيارة، وبعد احتجازه في بيت سري لمدة ثمانية أيام تم نقله على متن طائرة خاصة إلى لمحاكمته بشكل علني.
تمت محاكمته في القدس، وبعد 114 جلسة عُلِّقت المحاكمة للمداولة، وعادت بعد أربعة أشهر لإصدار الحكم، وقد تمَّت إدانته بجميع التهم البالغ عددها 15 تهمة.
رد محامي الدفاع سيرفانتوس على قرار الإدانة، باعتباره مجحفا، لأن المتهم نفذ أفعال دولة، وأنه ليس سوى كبش فداء. كما طعن في كفاءة المحكمة باعتبار أن المتهم قد سقطت عنه التهم وفق قانون التقادم الأرجنتيني المسقط للعقوبة بعد 15 سنة من حدوثها، وهذا يجعل من المستحيل قانونيا تسليمه لو طلبت "إسرائيل" ذلك رسميا، ثم إن عقوبة الإعدام أصبحت محرمة في ألمانيا الغربية، الدولة التي ينتمي إليها المتهم.
ثم جاء دور إيخمان للحديث، فأبرز أنه لم يكن كارها لليهود، وأنه ليس واحدا من الأفراد الحاكمين، بل كان ضحية، والقادة وحدهم من يستحقون العقاب. وبعد يومين لفظتِ المحكمة قرار الإعدام.
افتتحت بعدها إجراءات المراجعة من طرف المحكمة العليا لمدة ثلاثة أشهر، وخلالها حاول محامي الدفاع بذل جهود كبيرة للضغط على ألمانيا الغربية ببدء إجراءات استرجاع مواطنها، غير أنها باءت بالفشل. وقد تداولت المحكمة في الطعون وأكدت حكمها السابق. وفي اليوم نفسه تلقى اسحاق بن زيفي، طلبا للرحمة من أيخمان ومن زوجته وعائلته، ومن عدد من أساتذة الجامعة العبرية ممن كانوا معارضين للمحاكمة، بيد أنه رفض، وبعد يومين أُخِذَ إلى المشنقة، وقد توجه إليها برباطة جأش.
قبل تنفيذ الحكم طلب زجاجة من النبيذ الأحمر، ورفض تلقي المساعدة من الكاهن البروتستانتي ويليام هال الذي عرض عليه قراءة مقاطع من الإنجيل. في غرفة الإعدام ترجل بهدوء وبقامة منتصبة ويداه مقيدتان إلى الخلف. وعندما أرادوا تغطية عينية امتنع، ثم تابع مواجها الموت بشجاعة: "هذا مصير جميع الرجال. عاشت ألمانيا، عاشت الأرجنتين، عاشت النمسا، لن أنسى هذه البلدان". أُحْرِقَتْ جثته مباشرة بعد ذلك، ونثر رمادها في مياه المتوسط.
أبرزت حنة ارندت في انتقاداتها للمحاكمة أن ايخلمان كان مجرد موظف تافه، وأنه لم يكن ساديا مثلما حاول المدعي العام تصويره، بل كان شخصا مرعبا في عاديته، وأنه تصرف كأي مواطن لا يمتلك القدرة على اتخاذ القرار، وأنه بدوره ضحية من ضحايا النظام التوتاليتاري، وعليه لم تر فيه تجسيدا للشر، واعتبرت محاكمته مسرحية استغلها بن غوريون للحصول على مزيد من التعويضات المالية من ألمانيا الغربية آنذاك.
وجِّهت لأيخمان تهمة ارتكاب جرائم ضد "الإنسانية"، وكان جوابه على التهم قوله: "لست مذنبا بمعنى الاتهام"، فماذا كان يقصد؟
في مقابلة صحفية وضح موكله سيرفاتيوس ذلك بقوله: "إن أيخمان يشعر بالذنب أمام الله وليس أمام القانون". فماذا كان يقصد بذلك؟
كان أيخمان يقصد أنه لم يرتكب شيئا خطأ في ظل النظام القانوني النازي، وأن ما اتهم به من جرائم هي أفعال دولة لا تملك دولة أخرى سلطة قضائية عليها، وأن واجبه كان يقضي عليه الطاعة، وأن ما فعله -حسب موكله- كان سيجلب له الأوسمة في حالة انتصار النازية.
كيف يمكن التعامل مع الذنب السياسي؟ هل المقاربة الجنائية الانتقائية هي الحل؟
لم يدَعْ أيخمان مجالا للشك حين عبر بالقول: "إنني على استعداد لقتل والدي لو تلقيت أمرا بذلك"، بل إن تصريحه الصادم الذي لم يكن بالإمكان تقبله في الأجواء المشحونة للمحاكمة قوله: "إن ضميري كان سيُعذِّبني أكثر لو لم أنفذ ما أمرت به".
ما فعله أيخمان هو طاعة القرارات العليا، فأوامر هتلر ووزرائه كان لها وقع قوة القانون، ومُعاقبة أيخمان على اعتبار أنه كان عليه عصيان التعليمات هو مأزق حقيقي سقطت فيه المحكمة. إن الأمر شبيه بالقول: "لماذا لم يقاوم اليهود وهم بالملايين مصيرهم المحتوم؟، لماذا لم يعترضوا وينتفضوا وهم يركبون القطارات بالآلاف بينما كان عدد الحراس قليلا جدا؟ لماذا ذهب اليهود إلى موتهم كالنعاج السائرة إلى المسلخ؟".
ما من شعب أو جماعة أو أفراد كانوا سيتصرفون بشكل مختلف لو تعرضوا لنفس الموقف. وكذلك الأمر بالنسبة لأيخمان، الذي لم يكن سوى شخص عادي جدا، فضحالة فكره كما رصدتها أرندت خلال المحاكمة كانت جلية، واتهامه من طرف المحكمة بكونه المهندس والعقل المدبر للمحرقة كان أمرا عبثيا.
إن فكرة المُحاكمة طرحت معضلة أخلاقية، يتعلق الأمر بسؤال من يتحمَّل مسؤولية الفاجعة؟ هل فقط أولئك الذين ساهموا فيها بشكل مباشر، أم يتحمل ذلك شعب بكامله؟ أين تبدأ المسؤولية الفردية وأين تنتهي؟
إن موضع رهان النقاش -كما طرحه ريكور- يتناول سؤال من يتحمَّل المسؤولية: سلسلة من الفاعلين، أم أحدهم، مجموعة فقط، أم شعب بكامله؟
هذا السؤال طرحته في النِّهاية صحيفة ألمانية، وكان الجواب صادما: "إن أكثرية الألمان آنذاك كانت متواطئة، جميع السلطات والمكاتب: الموظفون المدنيون، أفراد القوات المسلحة، موظفو القضاء ورجال الأعمال. الكل متواطيء". فالذنب إذن جماعي.
إن مقاربة من يتحمل الذنب تعارضت فيها المدرسة القصدية، التي تهتم بأفعال الفريق الحاكم، مع المدرسة الوظيفية التي صبَّت اهتمامها أكثر على المؤسسات، والقوى المُغفلة، وتصرفات الناس. إن موضع رهان هذا النقاش يتناول سؤال من يتحمَّل مسؤولية الجريمة؟
إن النقاش التاريخي حول النازية والمحرقة، تعارضت فيها الآراء بين من اهتم بأفعال الفريق الحاكم، وبشكل خاص القرار المتعلق بالحل النهائي، وبين من صبَّ اهتمامه أكثر على القوى المغفلة وتصرفات الناس. ومن الملاحظ أن أنصار التيار الأول يُمثل المقاربة الجزائية للمحاكم، بينما على العكس بالنسبة للتيار الثاني، فحسب بول ريكور يسعى هذا التوجه الأخير إلى الفهم أكثر فأكثر دون السقوط في خطر الإنكارية.
إن القضايا المرتبطة بحقبة النازية خلقت الكثير من الجدل؛ فقد حصلت مشاجرة المؤرخين، بين متخصصين بالعهد النازي وفلاسفة كبار منهم هابرماس، حول قضايا من قبيل فرادة النازية كحدث غير قابل للمقارنة بغيره، وغير قابل للتقادم. نتلمس عند آرندت مقولة التوتاليتارية التي تبنَّتْهَا إلى جانب آخرين، والتي تعطينا إمكانية مقارنة المحرقة بالستالينية أو بجرائم الأنظمة الشمولية عامة، مما يجعل الغولاغ السوفياتي وأوشفيتز النازي حدثان متشابهان.
وإننا نجد مثل هذه المقارنة أيضا بين الجرائم المقترفة من طرف النازيين الألمان وبين طرد الألمانيين من المناطق الشرقية، وهي المقارنة التي دفعت ماركوز سنة 1949 إلى مؤاخذة هايدغر؛ فهذا الأخير كان قد وضع سنة 1945 الأمور في كفَّة واحدة، حيث تبدو إبادة اليهود نفسها كحدث مثل باقي الأحداث، وسواء كنا أمام إبادة اليهود أو أمام طرد الألمان من المناطق الشرقية، فالأمر سيان.
ومما كتبه ماركوز لهايدغر قوله: "كيف يمكننا أن نضع في نفس المستوى، من جهة، تعذيب وتشويه وإبادة ملايين الأشخاص، ومن جهة أخرى، الطرد الإجباري لبعض المجموعات من السكان؟
سيبدأ السجال بين الألمان سنة 1986 حول "أحداث الكارثة"، التي صدر بشأنها حكم إدانة على المستوى الجزائي بعد محاكمة نورنبيرغ. ومن المعلوم أن الملاحقة القضائية استندت إلى مبدأ تحميل الذنب للأفراد، وانحصر نتيجة ذلك تركيز الانتباه على عدد من الفاعلين، وهم أولئك الذين يوجدون على رأس السلطة.
لا يستطيع المؤرخ قبول هذا الحد من النظرة؛ فهو يمد استقصاءه إلى عدد أكبر من الفاعلين: إلى المنفذين، وأولئك الواقفين وراء الأحداث، بل ولما لا أولئك الشهود الذين ظلوا سلبيين، وهم السكان المتواطئون بصمتهم.
هناك وضع نزاعي بين المقاربة القضائية وبين المقاربة التاريخية للأحداث نفسها، فلم تعترف محكمة الجنايات سوى بمشاركين فرديين، وهذا أمر يختلف عن الاستقصاء التاريخي.
ما شكَّل عُقدة لعدد من أنصار تيار القصديين، هو الخوفُ من أن يُصدر المؤرخون حكم تبرئة لمن أدانهم القاضي. كما أن الخوف من تصاعد صيت من يسمون بالإنكاريين المشككين في المحرقة يعتبر من بين العوامل المؤثرة التي استند عليها هابرماس وياسبرز وغيرهم.
إن كتاب أيخمان في القدس يُلامس في الجوهر ظاهرة صعود التوتاليتارية، وبالخصوص النَّظريَّة الاشتراكية ومفاهيم القوميَّة والوطنيَّة. في هذا الإطار تم تقديم تفسيرات عن كيفيَّة اكتساب الفرد وسط الجماعة شعورا عارما بالقوَّة مِمَّا يجعله ينصاع بسهولة للغرائز التي قد تدفع به أحيانا إلى اقتراف أعمال وحشيَّة، ذلك أنَّ الحِسَّ بالمسؤوليَّة الذي يردع الأفراد يختفي في مثل هذه الحالة، إذ يُشبَّهُ الجمهور المحكوم بقوى اللاشعور بكونه منوَّما.
بينت حنة ارندت أن النظم الشمولية لها القدرة على تحويل البشر إلى محض منفذين وتروس في الآلة الإدارية، أي أنَّ لها القدرة على تجريدهم من إنسانيتهم. وهذا تماما ما حاولت أن تُبَيِّنُه إثر تغطيتها للمحاكمة؛ من خلال التأكيد بأن أنصار النازية من الشعب هم مجرد "رعاع وحشود" عميانا، يهرعون الى العنف للانتقام من أوضاع لم يصنعونها بأنفسهم. وتتقاطع أطروحاتها هذه مع المؤرخ فيلهلم رايش في كتابه علم النَّفس الجماعي للفاشِيَّة، حيث ربط مقولات التحليل النفسي بالأيديولوجيات السياسية، وفصل في كتابه الآخر عن تحليل الشخصية المفاهيم التي شكَّلت التقبُّل الشَّعبي للاستبدادية.
مفارقة: فيرنز فون براون هو مهندس صواريخ ألماني، ساهم في برنامج تطوير الصواريخ خلال الفترة النازية، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية سافر سرا إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وقد تم غض الطرف عن نشاطاته السابقة في ألمانيا، وتولى في البلد الجديد الإشراف على برنامج الصواريخ البالستية الأمريكية، ثم أصبح مديرا لمركز ماشال لرحلات الفضاء، وهو يعد أحد أهم مهندسي وكالة ناسا الكبار، والأب المؤسس لتكنولوجيا غزو الفضاء بأمريكا الرأسمالية.