وتبدو القاصة (بشرى خلفان) من القاصين الذين نجحوا في الارتقاء بالشخصية، وإضفاء مسحة النموذج عليها في قصتها رفرفة، تبدو أكثر قربا من المتلقي، وبتعاطف القارئ مع الشخصية، تلغي القصة عنصري الزمان والمكان، وتأخذ القاصة في التفاعل مع المتلقي، وكلاهما مع الشخصية المتحدية، الصامدة، والصادقة في تحديها، المخلصة في بحثها الدؤوب عن إثبات الذات. ولعل استخدام تيار الوعي عند القاصة قد عمق من الفكرة ونقلها بشكل جيد للقارئ.
وتبدو اللغة أكثر تركيزا، وتكثيفا لكل أبعاد الأزمة، وتتحدد تصورات القاصة، ورؤاها الذاتية لفكرة الأمل، والتفاؤل أكثر وضوحا، تقول الكاتبة بأسلوب يعتمد على الإيحاء والرمزية “هل كان للحمامة خيار حين رأت الباب مفتوحا؟ كان خروجها في حد ذاته أمنية، كنت أرقبها تخطو في ترددها نحو الباب الضيق، تملصت، عرفت طريقها، كان كل ما فعلته أني فتحت الباب، أما هي فقد استجابت لغواية الأفق.. يا إلهي! كم كان الأفق مزهوا بخفقات الأجنحة!”(21). وتتفاعل الرؤية الخاصة مع لحظة التأزم التي تشعر بها الكاتبة من حيز المحدود الذي يمثله البطل القصصي إلى طبيعة أكثر شمولية، وعمومية، ودون أن تحدها حدود ثابتة؛ فالكاتبة تتلاحم بشكل حاد مع الأزمة ونظرة المجتمع للأنثى، باعتبارها مؤشرا خطيرا يمس الواقع ذاته، حين تصبح الشخصية القصصية/ الأنثى لديها (حالة)، فإنها تدفع المتلقي للدخول تماما داخل دائرة الصراع، وينتقل المتلقي من حيز التفاعل بين عنصرين منفصلين في عملية الإبداع، إلى التوحد ليصبح كل منهما مشِّكلا وجها لقضية واحدة،”تفردهما، تحركهما قليلا، تضمهما ثانية، ثم تميل بعنقها فيتكئ رأسها على الجانب الأيسر، تغمض عينيها كمن آثر النوم، لكن ما تلبث أن تفتحهما ثانية وتنظر نحو السماء الممتدة أما مها نسيجا من الأزرق المنحل في تلاشي اللون حين حلول العتمة، تتهادى نحو الحافة، تفردهما ثانية، يخفقان فترتفع، يخف الهواء فتعلو حتى تتلاشى نقطة في الغياب”(22).
والقاصة تجيد استخدام اللغة التي تحتاجها طريقة تيار الوعي للتوصيل السليم للحدث، والفكرة في آن واحد، ولغة القاصة لغة موحية، تحتوي كثيرا من الدلالات، اللهم تلك النتوءات التي لا تفقد السياق الرمزي قيمته، ولا تفقد الدلالة بعدها. ومن خلال الرمز تطرح القاصة (بشرى خلفان) أزمة الأنثى ميلادها وحياتها وتحدد رؤيتها وقلقها من الوجود، تقول معبرة عن روح الأزمة”تمنيتك صبيا، قلت لو رزقني الله صبيا لهان البلاء، ولوجدت فيه العزة بعد الذل،والأمن بعد الخوف. كرهتك بادئ الأمر كما كرهت نفسي، لكنك خرجت للحياة ملفوفة في مخاطك اللزج وعندما جاء أهلي لزيارتي، وحضنك أبي، تبولت عليه، فقالت أمي هذه بشارة بصبي يأتي بعدها، بينما عبس وجه أبيك، وازداد سمرة، وغالبت أنا ضحكة مُرّة”(23). ومن هنا فإن التفاعل بين المتلقي، والشخصية، والعمل القصصي لا تحدث، إلَّا إذا كان ذلك التقطيع معبرا تعبيرا صادقا عن تجربة عامة وشاملة، أي تجربة نموذجية لأزمة عامة يحياها الإنسان.
ويبدو التقطيع الصوتي والموسيقي الذي أحدثته القاصة في لغتها القصصية، قد حمل السياق الفني أكثر مما يحتمل من معانٍ وأبعاد، ولعل مثل هذا التقطيع يتوجب معه إدرك كامل لمدلولات اللغة ومستوياتها المتباينة، ومن خلال مستويات اللغة، سواء أكان ذلك يتناول مفهوم اللغة ومستواها كنظام، أم مستواها كبينية، أم مستواها كرمز ودلالة، أقول لا بد من إدراك أن مثل هذه التقطيعات لا تعتمد على التقطيع الموسيقي والصوتي للألفاظ في شكلها الخارجي بقدر ما يجب أن ينتقل القارئ مع القصة المقروءة إلى مفهوم التقطيع النفسي، بمعنى أنه لا بد من أن “تتطابق هذه التقطيعات مع ما يعتمر في نفس البطل القصصي من توترات وتمزقات، وتقطيعات في كل أحاسيس الشخصية، ومشاعرها، وعلاقاتها”(24).
وإذا كان البحث داخل حدود وأسوار الذات، سمة من سمات الإنسان المأزوم، وفي واقع مأزوم كذلك، فإن القاص العماني المعاصر، بلور مأساة الإنسان في أعماله القصصية الحديثة، بالتركيز على قضية هذا البحث المأزوم، فالباحث فقد الاتصال بذاته، وقد اهترأت علاقاته تماما مع الواقع، وعبر هذا التمزق الرهيب الذي يعيشه ويعايشه بغية البحث الأفضل والأمثل، يفقد رؤية دقيقة وموضوعية للهدف، ويظهر الهدف هنا بعيد المنال، بل مجهولا، وفاقدا كل المعالم؛ لذلك فمعظم محاولات البحث تلك تغلفها الضبابية والإبهام والغموض، تقول بشرى خلفان،”آه يا أمي، لو كنت لمحت تلك النظرة في عيني الحمامة، لو لمحت تجلي الشغف في خفقات الجناح، أو تلك الخفة.. تلك الخفة التي سبحت بها، كان الهواء ناعما، أحسست به يداعب ريشها، أحسست به يداعب زغب البدن، وحتى النشوة التي اعترتها، كانت تسري في دمي كالموسيقى، كدقات الدفوف، كرنين الصباحات”(25). وهذا الدق والرنين، رنين بليد، يستمر يدق بشكل متواصل، ويفقد الإنسان توازنه، بل إحساسه بذاته مع دقات الدفوف، ورنين الصباحات، ومع هذا الفقدان تتأزم الحياة أكثر فأكثر، ويبدو التأزم جزء ملتحم مع النموذج الإنساني في قصة رفرفة لـ(بشرى خلفان).الإنسان إذن في القصص العماني موقف وقضية، ومن خلال الانتقال بهذا الإنسان من حيز المحدودية إلى وضعه في إطار (الحالة)، يصبح على القاص إلغاء كل الملامح الشخصية الذاتية، والسمو إلى مرتبة النموذج عليها.
وقد أجاد القاص (عبد العزيز الفارسي) في إحداث عملية التوازن والتوحد بين الإنسان، وقدراته على استحداث الأمل، وتوليد طاقة التحدي، والإصرار على التفاعل مع الحياة، والطرح المتزن لأزمة الإنسان. ففي قصته التحدي تتبلور رؤية القاص بوضوح في مناشدة حسم قضية الصراع في الحياة، وتحجم الأزمة الذاتية للإنسان. كما يبدو الرمز قريب الفهم والتناول في استخدام لغة الشاعر القريبة من التكثيف غير المخل، فالتحدي تعطي إحساسا لدى القارئ بالقلق، وعمق الأزمة، ومدلول اللفظة الرمزي ذو معانٍ وإيحاءات بديعة.”ازداد بطش الوالي بعد أن أعدم خموس المحور قذفا بالمدفع، وأمر بترك بقاياه للكلاب والغربان، ولم يستطع أحد دفن سيء منها إلَّا خلسة. صار يفتتح يومه بإحضار سجين منع عنه الطعام أسبوعا كاملا، ثم يضربه بالسوط حنى يسقط مغشيا عليه.. ويوصي العبيد بسحبه إلى الخارج فيما بعد. وعند الظهر كان يجمع الحرّاس، ويضرب بعضهم. وفي العصر كان يقابل الشيوخ ويستهزئ بهم، وبقضاياهم التي أتوا لمناقشتها”(26).
لا يخفى مدى الارتباط في المدلول هنا بين كلمة التحدي، وعملية بطش الوالي، بكل ما يكمن في الكلمة من معاني التفاؤل، والأمل، والرفض، والإباء. تتحدد فكرة الأزمة التي يعيشها الإنسان منذ بداية القص، وتبدو إفرازا لواقع الحياة، والصراع المزمن الذي يحسّه الإنسان عند مواجهة الواقع في الحياة، “(…) لكن يحيى نهض واقفا كأن لم يكن به شيء، وقال للوالي: أقسم لك أنا يحيى أني سأدخل هذا الحصن، وأسرق بندقيتك. استشاط الوالي غضبا: لعلك لم تعرفني بعد.. أقسم برأس أبي أنا الوالي؛ صاحب المدفع أني سأقيدك أمام فوهته وأقذفك بأشد البارود قوة عندي إن دخلت هذا الحصن دون إذني.. وأني سأتركك بقاياك للكلاب والغربان. قال يحيى: ويبدو أنك لا تعرفني جيدا.. أقسم أنك لن تستطيع ذلك”(27).
والقصة من حيث الإطار العام، تبدو مبلورة جانبا مهما من علاقة الإنسان بالسلطة، بما يتفق من هذا وذاك على جميع أصعدة الحياة، وتبقى الفكرة متحدثة عن جانب إنشاد الذات، وفكرة البحث عن مطلق أساسا مهما لتشكيل صراع محتدم بين الذات المطلقة والواقع الاجتماعي والسياسي المعاش”قبيل الفجر جمع الوالي كل من كان في الحصن من عساكر وعبيد ليشهدوا انتصاره. شُدَّ وثاق يحيى أمام المدفع. أمر الوالي عساكره بحشو المدفع بأشد البارود فتكا قدر الإمكان.. وحين كان كل شيء جاهزا، قال الوالي: أزيحوا الغطاء عن وجهه.. دعوه يرى القذيفة وهي تمزقه”(28).
والقاص (عبدالعزيز الفارسي) يتخلص من استخدامات اللغة الفضفاضة، فقد استخدم طريقة السرد المباشر بكثير من الاتقان، وأجاد كذلك تحريك عناصر البناء الفني في القصة، واستطاع أن ينتقل من مجرد الوقوف على سلوك شخصية الوالي ويحيى في قصته، إلى دوافع السلوك الباطنية، معتمدا على تيار الوعي، بل إنّه يوسّع من دائرة الصراع، وينقل المتلقي من مجرد حادثة واقعية ملموسة يعيشها البطل –بصورة مأساوية- إلى مصافٍ إنسانية أشمل وأرحب وأكثر عمومية، والمنعكس على إنسان هذا العصر، وليس على يحيى فحسب، بيد أن الكاتب-بذكائه الفني في التوصيل- يحسم قضية الصراع هذه بصورة صحيحة، حيث الانحياز هنا للإنسانية في سير الأحداث المتقدم بالرفض والتحدي الباحث عن الخلاص.
الشخصية تبدو عامة وشاملة، وهي شخصية النموذج الذي يفقد خصوصيته تماما، ليحدد مأساة واقع برمته، وتبدو المعاناة النفسية لدى الشخصية معاناة رمزية إيحائية، بل إن القاص، يقف على مدلولات جزئية ورمزية موحية في سياق القصة كذلك، وهذا ما أضفى على القصة مسحة العمق، فأكسبها كثيرا من الأبعاد الإنسانية، ولا يخفى ما بين نهاية الشخصية/ يحيى، ونهاية الوالي من بعد رمزي دقيق. ومهما يكن من أمر، فإن مثل هذا الصراع يجسّد عمق العلاقة التي يسعى الإنسان إلى إيجادها على أساس متزن، وصحي لا يفقد فيه ذاته؛ ولنقرأ الجزء الأخير من القصة، حيث تبدو نظرة القاص اللمّاحة أساس حسم الصراع: “حين أشرقت الشمس.. لم يجد العساكر أي بقايا ليحيى. بحثوا حول المدفع. فتّشوا في المساحات المفتوحة أمام الحصن ولم يجدوا شيئا. كل ما وجدوه بقايا البارود المحترق منثورة من فوهة المدفع وحتى البحر. تعمّد بعض الصيادين الإبحار في مدى المدفع ولم يجدوا أي شيء من بقايا يحيى. بعد ليلة من حادثة المدفع، اختفت بندقية الوالي.. وبعدها بيوم وُجِدت معلّقة على باب السوق”(29).
ولا شك أن دخول (عبد العزيز الفارسي) على عالم الشخصية الباطني هو وسيلة فنية معاصرة، يتبعها “كثير من كتّاب الرواية والقصة على حدّ سواء خاصة بعد التطور الذي حاق بالدراسات النفسية والاجتماعية والبحوث العالمية المتطورة على كلا الصعيدين مما مهَّد لانعكاس ذلك كله على الأدب والفن”(30). وساعد هذا السبر الباطني لأعماق الشخصية في تحديد كنه العلاقته الحتمية والدائمة، بذاته والمجتمع من حوله، أو الانفصال عن كليهما قد وضع المتلقي أمام حقيقة الذات الإنسانية من ناحية، وأمام حقيقة الحياة والوجود برمته من ناحية أخرى، ليتحقق بهذا الدور الأساسي للمبدع حسبما يذهب إلى ذلك جورج ديهاميل “فالكاتب يؤدي وظيفة اجتماعية عندما يعيننا على فهم الإنسان والعالم فهما أصح، وعندما يأخذ في نقل المجهول إلى المعلوم، أي عندما يكون مكتشفا”(31). تبدو اعتمادات (عبد العزيز الفارسي) على تيارات الوعي المستخدمة، شكلها الخارجي ضمن إطار أحداث محدودة، لكنها في حقيقتها تحدد مدلولات للأزمة، ولكن القاص يؤكد على ضرورة التفاعل من قبل المتلقي بشكل متجاوب ومتفهم، وهو في طرحه يقوم بعملية تشريح سيكولوجي، وفسيولوجي، بل سسيولوجي للإنسان، ويحدد في طرحه كذلك إطارا فكريا إنسانيا عاما للإنسان/ النموذج، وتبدو استخداماته للغة على قدر كبير من الإتقان، خاصة في لغته التي ينقل بها أبعاد شخوصه القصصية ضمن تيارات الوعي، فلحظات العمر تذوب كلها، وتنصهر في بوتقة الكيان الكلي، الذي تتفاعل فيه الذات المفردة، مع الذوات الأخرى، اتجاه عالم أفضل. حين يكون الإنسان هو بؤرة المأساة وجوهرها.
وتتخذ القصة عند (سليمان المعمري) نفس المسار، ويعالج القضية ذاتها، وهو في قصته لماذا.. لأن، يطرج جانب العلاقة الحتمية بين الإنسان وعالمه الذاتي، بكل ما يعتمر في نفسه من إحساس ووجدان، وبين الواقع الذي يتشكل حسبما يتناسب، أو يتنافر مع طبيعة التركيبة البشرية، ولعل هذه العلاقة الحتمية التي تتسم بالاستمرارية والديمومة، قد كانت مبعث الانطلاق للصراع الدائم بين قوى الواقع على تباينها، واختلاف مناحيها، وبين الإنسان باعتباره قوة تحاول أن تجد الأمثل، وتشكل مستقبلا أكثر إشراقا وتألقا.
والقصة تدور حول فكرة الإنسان والبحث عن مطلق، متناولا فيها هذا البعد الرحب، بطريق الرمز الموحي، ولعل إنتاج هذا القاص في معظمه، إنتاج يميل إلى الأسلوب الرمزي، سواء كان ذلك كليا، أم رمز الدلالة الجزئي، ويبدو مثل هذا النتاج الذي يمتاز بقدر كبير من العمق والثقافة، وهو بالمقام الأول موجه إلى طبقة معينة من القرّاء، لا يعدم القارئ العادي الوصول إلى فحوى القصص ومضامينها، فهي جزء من آلامه ومعاناته.
والقاص في القصة المشار إليها يعالج مضامين إنسانية شاملة، وتقف على إحساسات الإنسان في زمن القهر والمعاناة، وهي قصة البحث عن الذات مرّة، والبحث عن المطلق مرّة أخرى، وتحديد أبعاد أزمة الضياع الحياتي بصورة عامة، ومحاولة تحديد رؤية ذاتية خاصة، للتصدي للأزمة، وتبدو عملية البحث هذه، والتي تبلور مأساة الإنسان المعاني في زمن الاغتراب مطلقة وعامة، ولعل هذا هو محور قصص القاص (سليمان المعمري) في مجملها. وتبدو المعاناة لدى القاص نابعة من التخبط، والصخب اللذين يشعر بهما، ومعاناته وسط أتون الاغتراب.
وتبدو المأساة عند القاص، كامنة في أعماق الإنسان، ومن خلال إحساسه بالتأزم المتتابع تستمر عملية البحث عن خلاص مطلق، فاقد الهوية والكنه والأبعاد؛ بل إن الباحث نفسه يفقد الرؤية والدليل والقدرة، سواء كانت الأشياء أقرب أم أبعد مما في مرآته بين السماء والأرض، فإن الجوهري في هذا المتن السردي هو انعكاس الواقع في مرآة القاص التي من خلالها نشاهد الأشياء حسب ما يشكلها القاص نفسه، فالمرآة هي التي تتحكم في البعد والقرب من الأشياء كما تبدو في الواقع.
والإنسان عند (سليمان المعمري) هو انعكاس لكل ظروف الواقع، لكن تبقى عملية الاتصال هذه فاقدة أهم ما يجب أن تتمتع به من الاتزان من ناحية، والتواصل والتصدي من ناحية أخرى،”سوف لن أسأل المضيفة عن الرجل المعلق بجناح الطائرة لماذاهو خارجها لا داخلها.. سوف لن أسأل لأنها حتما ستجيب أنها لا ترى أحدا.. ثم إنني لا أحب المضيفات.. لا بد أن أعتمد على نفسي في الوصول إلى الجواب.. ولكن لكي أصل إلى الجواب لا بد أن أضع السؤال أولا: لماذا اختار هذا الرجل أن يتعلق بجناح الطائرة؟.. لماذا اختار؟”(32).
ويجيد القاص تجسيد هذه المضامين العميقة، بالوقوف على العلاقة والترابط، بل والتلاحم بين الإنسان، وواقع الحياة بكل جزيئاتها، محاولة منه تعميق الصخب والتوتر في باطن الإنسان –النموذج- فتبدو تشكيلات الكون والواقع من حوله طرقا متباينة لتحديد أبعاد المأساة الحقيقية، ويظهر التعامل مع اللغة أكثر إشراقا ودقة، مما لاحظناه عند من عالجوا فكرة البحث عن المطلق من قبل، وهي لغة تبلور إمكانات القاص الأسلوبية، وقدرته على الولوج داخل المدلول اللفظي، وهذا ما افتقدته بعض النماذج سابقة الذكر في هذا الإطار:”وها أنا أسأل: لماذا اختار هذا الرجل أن يتعلق بجناح الطائرة؟ ولكن لماذا أنا مصر على أنه اختار؟ لعله لم يختر ذلك.. قد يكون فعل هذا لأنه لا يملك ثمن التذكرة.. ولكن من لا يملك ثمن التذكرة ليس عليه أن يسافر.. فقط عليه أن يدفن نفسه في الوظيفة، ويأكل، ويشرب، وينام، ويتشاجر مع زوجته، ويلعب الورق مع أصدقائه.. ولكن ليس عليه أن يسافر.. هذا في الأحوال العادية.. أما في حالة هذا الرجل فإن الوضع مختلف”(33). ولعل لغة القاص هي لغة نفسية تتناسب مع طابع الفكرة، بكل حدودها، يقول القاص على لسان الراوي عن الشخصية/ البطل مستخدما أسلوب التقطيع اللفظي، والموسيقي، والنفسي، في آن واحد:”لا بد أن يقول لنفسه الآن: هؤلاء المسافرون الحمقى.. هؤلاء التنابلة.. إنهم يتمّون على مقاعدهم كالخراف. وياهدون شاشة مكتوب عليها أنهم يبعدون عن الأرض آلاف الأقدام، دون أن يفكر واحد منهم ماذا يعني؟.. أنا أختلف عنهم.. ها أنا أحلق في الفضاء الرحب.. ها أنا أقبّل نجمة على وجمنتيها.. ها هو نيزك أكلته الغيرة يصفعني على وجهي.. بعد قليل سأشكوه للقمر”(34). وتنقل اللغة مفهوم الاغتراب، والبحث عن المطلق، وفقدان الخلاص عند القاص، بطريقة رمزية كذلك. “لا يا أبي.. لست شاه ولن أكون.. عندما أصل إلى الحقيقة سأكون ذئبا بألف ناب وناب.. ولكي أصل إليها سألقي بنفسي في أتون الأسئلة، دون أن أرضخ للأجوبة المحددة سلفا.. سأسأل، وأسأل، وأسأل”(35). ثم تقول خاتمة القصة، معبرة عن المأساة الكامنة في مفهوم الارتداد إلى النفس، بكل صخبها، وتوترها بحثا عن شيء مجهول، مطلق: “أرض جديدة.. سماء جديدة.. وجوه جديدة.. أوكسجين جديد.. ماذا يريد أكثر من هذا؟ ماذا أريد أكثر من هذا.. يا هذه المدينة أنا قادم بأسئلتي.. سأنثرها على ترابك سؤالا سؤالا.. ويا موظف المطار إليك سؤالي الأول: من فضلك.. هل رأيت رجلا يرتدي قميصا أزرق، ويشبهني؟”(36). وبهذه النبرة الصامدة، والصرخة المتحدية يواصل إنسان القرن الألفية، وإنسان زمان الحضارة والتطور، إنسان الضغط التكنولوجي، يواصل تحديه وإصراره على إثبات وجوده عبر تحديد علاقته مع الذات والكيان والواقع عبر مسارات الإيمان بهذه الذات ومقدرتها على التحدي لكل متطلبات العصر، وتطور الواقع، عن طريق التلاحم الكامل والتوازن النفسي والشعوري مع الذات من ناحية، ومع الكون من ناحية أخرى، وقد تحققت مع (سليمان المعمري) إحدى مهام الفن الأساسية التي تسعى بادئ ذي بدء إلى إيجاد العلاقة السوية والمتوازنة، وكذلك نقل العاطفية الإنسانية ووقع حقائق الوجود، وأحداث الحياة على نفس الإنسان.
الخاتمة
تقف القصة القصيرة العمانية المعاصرة موقفا جريئا يجتاز بعمق الرؤية، ودقة التصوير كل مراحل التقوقع داخل أُطر الانهزامية، والعجز عن استلهام الواقع الواعي لكل متطلبات التغيير التي يعيشها الإنسان العربي بعامة، والعماني خاصة، وتبدو محاولات الشباب – من كتَّاب القصة وكاتباتها- أكثر التصاقا بهذا الواقع، ومعبرة تعبيرا جرئيا، وصادقا عن معاناة هذا الإنسان، وصدق تجربته في علاقته الوطيدة بواقع معاش، ومدى حدة التصادم بينه وبين الماضي، بكل ما فيه من سلبيات، وإيجابيات، ليستمد من هذه وتلك خيرها وأكثرها نفعا، رافضا كل أشكال التراجع والخذلان.
وقد اتخذت القصة العمانية القصيرة المعاصرة على عاتقها معالجة وقائع الحياة –بمفهومها العام- وإن بقي بعض إنتاج كتَّابها متحركا ضمن إطار البيئة المحلية، وهذا في تقديري الذاتي لا يفقد القصة شيئا من فنية المعالجة والتناول، اللهم تبقى القصة بهذا محدودة الانطلاق، بعيدة عن التماس الطريق المؤثر الذي يلج بالقارئ درب التأثير والتأثر في الإنسان بما يعطيه من مفهوم المطلق زمانا وفكرة.
وإذا كان كتَّاب القصة العمانيون قد ركَّزوا في معظم قصصهم على تحديد ملامح الأزمة الحياتية، التي يعيشها إنسان العصر، بكل ما فيه من تناقضات ساعدت على تعميق هذه الأزمة، بغية الخروج من دائرتها، وفتح أبواب الأمل الإنساني المشرق، ولتوليد طاقات جديدة للإنسان داخل بنية المجتمع، تساعده على التفاعل، فإن بعض القصص قد ركَّزت على تسوير الذات الإنسانية، وقولبة الأزمة بمفهومها المطلق داخل نفس الإنسان.
ويبدو القاص العماني المعاصر أكثر تحديدا لهوية مجتمعه، وواقعه الذي يعيشه سواء أكان ذلك الواقع الذي يحدد علاقة الفرد بذاته، أم ذلك الواقع الذي تتحدد فيه علاقة الفرد بواقعه الخارجي والآخرين ممن يعايشهم، أم تلك العلاقة الأكثر شمولية واتساعا، التي تربط الفرد بواقع الإنسانية الرحب، وفي كل من هذه المجالات الثلاثة، تتحدد نوعية العلاقة، فهي علاقة ثابتة متغيرة، ثابتة من حيث ارتباط الكاتب بواقع له أبعاده وتراثه وأصالته وتطوره، ونماؤه الحضاري المتتابع، وهذه العلاقة تتسم بالثبات في الحقيقة لأنها نابعة من طبيعة الفن من ناحية، وطبيعة المجتمع الذي يعايشه الكاتب من ناحية أخرى، أما تغيرها فنابع في المقام الأول من نوعية المتغيرات والتطور الذي يصيب كل جوانب الواقع المعاش، وكذلك من التغيرات التي تبدو واضحة في الممارسات الفنية، وفي الأشكال والأنماط التي يتخذها المجتمع في العصور المختلفة مسارات اجتماعية متطورة يعيشها الفنان برؤية ذاتية، وبإحساس فني خاص.
وقد اختلفت معالجات القاصين من الجيل المعاصر لكتَّاب القصة القصيرة في عمان، سواء أكان من حيث التكنيك الفني أم حيث الصورة، واللغة، والبيان المعبر، وإذا كانت بعض النماذج قد نجحت في معالجة قصصها بالطرق التقليدية في السرد والتصوير، والحوار، فإن الكثيرين من هؤلاء الكتّاب قد نجحوا كذلك في الاعتماد على طرق المعالجة المتطورة لفن القصة، ولعل ما يلاحظ في دراسة هذا الإنتاج، أن معظم الكتَّاب يعتمدون على طرق المعالجة النفسية كتيار الوعي والتحليل النفسي، والتصوير الرمزي لطرح الفكرة وتحديد هوية الشخصية القصصية، ولعل هذا كله راجع لطبيعة التوتر النفسي الذي يعانيه الإنسان في آنٍ ممزق يعاني من الخوف والقلق والترقب، ومن جرَّاء ظروف قلقه على جميع الأصعدة في العالم كله، مما دفع للإحساس، والمعاناة بالتجربة الإنسانية، والشعور بالمأساة بمفهومها المطلق، وقد أدى ذلك كله إلى اختمار التجربة والشعور بها شعورا عظيما، متزايدا. أضف إلى ذلك نماء التجربة، واعتناءها من جرَّاء التعامل الذاتي مع روح العصر المتوتر، والمتطلع دوما إلى خلاص من مأساة الضياع، والتخبط، وقد اتخذ القاص العماني من الخيال الفني أساسا لبلورة تلك التجربة، وتحديد معالمها.
ويركز معظم كتَّاب القصة عند تناول مسألة البحث عن مطلق داخل أسوار الذات المحكمة، ولذا فإن معظم قصصهم تنتهي بما نسميه بالنهايات المفتوحة، غير المحددة، وتبدو الأزمة مستمرة من حول الشخصية القصصية؛ ولعل مثل هذه النهايات ذات أثرين، أحدهما سلبي يكمن في اللبس في فهم فكرة الكاتب ورؤيته وتصوره لأزمة الإنسان، وثانيهما إيجابي، في احتمال التوقع الطيب المتعلق بمفاهيم إنسانية شاملة وثابتة، يرجع إليها المتلقي أسباب الأزمة، والحلول المقترحة لها، والتصور الموضوعي والمنطقي لمفهوم العلاقة الحتمية بين الإنسان وذاته، والواقع برمته.
وخلاصة القول بهذا الصدد أن تجربة القاص العماني المعاصر أساس لتوليد الطاقات التأثيرية في المتلقي من ناحية، وتعميق الإحساس بها من ناحية أخرى، إلَّا أنه يجدر بنا أن نشير إلى إغناء التجربة وتحسينها سيعودان على السرد القصصي بالنفع المباشر، فيتجه كما يشير روى كادون نحو تحقيق ذاته كفعالية، وذلك حين “يستصحب إطلاق فعاليات أخرى من عقالها”(37).
الهوامش:
(21) بشرى خلفان، رفرفة، ص65
(22) نفسه، ص59
(23) نفسه، ص64
(24) البناء الفني في القصة السعودية المعاصرة، ص103
(25) رفرفة، ص61
(26) وأخيرا استيقظ الدب، عبدالعزيز الفارسي، ص81
(27) نفسه، ص83
(28) نفسه، ص84
(29) نفسه، ص85
(30) د. نصر محمد عباس، مرجع سابق، ص123
(31) جورج ديهاميل، دفاع عن الأدب، ترجمة محمد مندور، ص149
(32) سليمان المعمري، الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة، ص33
(33) نفسه، ص36
(34) نفسه، ص38
(35) نفسه، ص35-36
(36) نفسه، ص38
(37) روى كاودرن، الأديب وصناعته، مرجع سابق، ص33
** ورقة عمل أُلقيت في ملتقى الثقافة وهوية النَّص في عمان
وتبدو اللغة أكثر تركيزا، وتكثيفا لكل أبعاد الأزمة، وتتحدد تصورات القاصة، ورؤاها الذاتية لفكرة الأمل، والتفاؤل أكثر وضوحا، تقول الكاتبة بأسلوب يعتمد على الإيحاء والرمزية “هل كان للحمامة خيار حين رأت الباب مفتوحا؟ كان خروجها في حد ذاته أمنية، كنت أرقبها تخطو في ترددها نحو الباب الضيق، تملصت، عرفت طريقها، كان كل ما فعلته أني فتحت الباب، أما هي فقد استجابت لغواية الأفق.. يا إلهي! كم كان الأفق مزهوا بخفقات الأجنحة!”(21). وتتفاعل الرؤية الخاصة مع لحظة التأزم التي تشعر بها الكاتبة من حيز المحدود الذي يمثله البطل القصصي إلى طبيعة أكثر شمولية، وعمومية، ودون أن تحدها حدود ثابتة؛ فالكاتبة تتلاحم بشكل حاد مع الأزمة ونظرة المجتمع للأنثى، باعتبارها مؤشرا خطيرا يمس الواقع ذاته، حين تصبح الشخصية القصصية/ الأنثى لديها (حالة)، فإنها تدفع المتلقي للدخول تماما داخل دائرة الصراع، وينتقل المتلقي من حيز التفاعل بين عنصرين منفصلين في عملية الإبداع، إلى التوحد ليصبح كل منهما مشِّكلا وجها لقضية واحدة،”تفردهما، تحركهما قليلا، تضمهما ثانية، ثم تميل بعنقها فيتكئ رأسها على الجانب الأيسر، تغمض عينيها كمن آثر النوم، لكن ما تلبث أن تفتحهما ثانية وتنظر نحو السماء الممتدة أما مها نسيجا من الأزرق المنحل في تلاشي اللون حين حلول العتمة، تتهادى نحو الحافة، تفردهما ثانية، يخفقان فترتفع، يخف الهواء فتعلو حتى تتلاشى نقطة في الغياب”(22).
والقاصة تجيد استخدام اللغة التي تحتاجها طريقة تيار الوعي للتوصيل السليم للحدث، والفكرة في آن واحد، ولغة القاصة لغة موحية، تحتوي كثيرا من الدلالات، اللهم تلك النتوءات التي لا تفقد السياق الرمزي قيمته، ولا تفقد الدلالة بعدها. ومن خلال الرمز تطرح القاصة (بشرى خلفان) أزمة الأنثى ميلادها وحياتها وتحدد رؤيتها وقلقها من الوجود، تقول معبرة عن روح الأزمة”تمنيتك صبيا، قلت لو رزقني الله صبيا لهان البلاء، ولوجدت فيه العزة بعد الذل،والأمن بعد الخوف. كرهتك بادئ الأمر كما كرهت نفسي، لكنك خرجت للحياة ملفوفة في مخاطك اللزج وعندما جاء أهلي لزيارتي، وحضنك أبي، تبولت عليه، فقالت أمي هذه بشارة بصبي يأتي بعدها، بينما عبس وجه أبيك، وازداد سمرة، وغالبت أنا ضحكة مُرّة”(23). ومن هنا فإن التفاعل بين المتلقي، والشخصية، والعمل القصصي لا تحدث، إلَّا إذا كان ذلك التقطيع معبرا تعبيرا صادقا عن تجربة عامة وشاملة، أي تجربة نموذجية لأزمة عامة يحياها الإنسان.
ويبدو التقطيع الصوتي والموسيقي الذي أحدثته القاصة في لغتها القصصية، قد حمل السياق الفني أكثر مما يحتمل من معانٍ وأبعاد، ولعل مثل هذا التقطيع يتوجب معه إدرك كامل لمدلولات اللغة ومستوياتها المتباينة، ومن خلال مستويات اللغة، سواء أكان ذلك يتناول مفهوم اللغة ومستواها كنظام، أم مستواها كبينية، أم مستواها كرمز ودلالة، أقول لا بد من إدراك أن مثل هذه التقطيعات لا تعتمد على التقطيع الموسيقي والصوتي للألفاظ في شكلها الخارجي بقدر ما يجب أن ينتقل القارئ مع القصة المقروءة إلى مفهوم التقطيع النفسي، بمعنى أنه لا بد من أن “تتطابق هذه التقطيعات مع ما يعتمر في نفس البطل القصصي من توترات وتمزقات، وتقطيعات في كل أحاسيس الشخصية، ومشاعرها، وعلاقاتها”(24).
وإذا كان البحث داخل حدود وأسوار الذات، سمة من سمات الإنسان المأزوم، وفي واقع مأزوم كذلك، فإن القاص العماني المعاصر، بلور مأساة الإنسان في أعماله القصصية الحديثة، بالتركيز على قضية هذا البحث المأزوم، فالباحث فقد الاتصال بذاته، وقد اهترأت علاقاته تماما مع الواقع، وعبر هذا التمزق الرهيب الذي يعيشه ويعايشه بغية البحث الأفضل والأمثل، يفقد رؤية دقيقة وموضوعية للهدف، ويظهر الهدف هنا بعيد المنال، بل مجهولا، وفاقدا كل المعالم؛ لذلك فمعظم محاولات البحث تلك تغلفها الضبابية والإبهام والغموض، تقول بشرى خلفان،”آه يا أمي، لو كنت لمحت تلك النظرة في عيني الحمامة، لو لمحت تجلي الشغف في خفقات الجناح، أو تلك الخفة.. تلك الخفة التي سبحت بها، كان الهواء ناعما، أحسست به يداعب ريشها، أحسست به يداعب زغب البدن، وحتى النشوة التي اعترتها، كانت تسري في دمي كالموسيقى، كدقات الدفوف، كرنين الصباحات”(25). وهذا الدق والرنين، رنين بليد، يستمر يدق بشكل متواصل، ويفقد الإنسان توازنه، بل إحساسه بذاته مع دقات الدفوف، ورنين الصباحات، ومع هذا الفقدان تتأزم الحياة أكثر فأكثر، ويبدو التأزم جزء ملتحم مع النموذج الإنساني في قصة رفرفة لـ(بشرى خلفان).الإنسان إذن في القصص العماني موقف وقضية، ومن خلال الانتقال بهذا الإنسان من حيز المحدودية إلى وضعه في إطار (الحالة)، يصبح على القاص إلغاء كل الملامح الشخصية الذاتية، والسمو إلى مرتبة النموذج عليها.
وقد أجاد القاص (عبد العزيز الفارسي) في إحداث عملية التوازن والتوحد بين الإنسان، وقدراته على استحداث الأمل، وتوليد طاقة التحدي، والإصرار على التفاعل مع الحياة، والطرح المتزن لأزمة الإنسان. ففي قصته التحدي تتبلور رؤية القاص بوضوح في مناشدة حسم قضية الصراع في الحياة، وتحجم الأزمة الذاتية للإنسان. كما يبدو الرمز قريب الفهم والتناول في استخدام لغة الشاعر القريبة من التكثيف غير المخل، فالتحدي تعطي إحساسا لدى القارئ بالقلق، وعمق الأزمة، ومدلول اللفظة الرمزي ذو معانٍ وإيحاءات بديعة.”ازداد بطش الوالي بعد أن أعدم خموس المحور قذفا بالمدفع، وأمر بترك بقاياه للكلاب والغربان، ولم يستطع أحد دفن سيء منها إلَّا خلسة. صار يفتتح يومه بإحضار سجين منع عنه الطعام أسبوعا كاملا، ثم يضربه بالسوط حنى يسقط مغشيا عليه.. ويوصي العبيد بسحبه إلى الخارج فيما بعد. وعند الظهر كان يجمع الحرّاس، ويضرب بعضهم. وفي العصر كان يقابل الشيوخ ويستهزئ بهم، وبقضاياهم التي أتوا لمناقشتها”(26).
لا يخفى مدى الارتباط في المدلول هنا بين كلمة التحدي، وعملية بطش الوالي، بكل ما يكمن في الكلمة من معاني التفاؤل، والأمل، والرفض، والإباء. تتحدد فكرة الأزمة التي يعيشها الإنسان منذ بداية القص، وتبدو إفرازا لواقع الحياة، والصراع المزمن الذي يحسّه الإنسان عند مواجهة الواقع في الحياة، “(…) لكن يحيى نهض واقفا كأن لم يكن به شيء، وقال للوالي: أقسم لك أنا يحيى أني سأدخل هذا الحصن، وأسرق بندقيتك. استشاط الوالي غضبا: لعلك لم تعرفني بعد.. أقسم برأس أبي أنا الوالي؛ صاحب المدفع أني سأقيدك أمام فوهته وأقذفك بأشد البارود قوة عندي إن دخلت هذا الحصن دون إذني.. وأني سأتركك بقاياك للكلاب والغربان. قال يحيى: ويبدو أنك لا تعرفني جيدا.. أقسم أنك لن تستطيع ذلك”(27).
والقصة من حيث الإطار العام، تبدو مبلورة جانبا مهما من علاقة الإنسان بالسلطة، بما يتفق من هذا وذاك على جميع أصعدة الحياة، وتبقى الفكرة متحدثة عن جانب إنشاد الذات، وفكرة البحث عن مطلق أساسا مهما لتشكيل صراع محتدم بين الذات المطلقة والواقع الاجتماعي والسياسي المعاش”قبيل الفجر جمع الوالي كل من كان في الحصن من عساكر وعبيد ليشهدوا انتصاره. شُدَّ وثاق يحيى أمام المدفع. أمر الوالي عساكره بحشو المدفع بأشد البارود فتكا قدر الإمكان.. وحين كان كل شيء جاهزا، قال الوالي: أزيحوا الغطاء عن وجهه.. دعوه يرى القذيفة وهي تمزقه”(28).
والقاص (عبدالعزيز الفارسي) يتخلص من استخدامات اللغة الفضفاضة، فقد استخدم طريقة السرد المباشر بكثير من الاتقان، وأجاد كذلك تحريك عناصر البناء الفني في القصة، واستطاع أن ينتقل من مجرد الوقوف على سلوك شخصية الوالي ويحيى في قصته، إلى دوافع السلوك الباطنية، معتمدا على تيار الوعي، بل إنّه يوسّع من دائرة الصراع، وينقل المتلقي من مجرد حادثة واقعية ملموسة يعيشها البطل –بصورة مأساوية- إلى مصافٍ إنسانية أشمل وأرحب وأكثر عمومية، والمنعكس على إنسان هذا العصر، وليس على يحيى فحسب، بيد أن الكاتب-بذكائه الفني في التوصيل- يحسم قضية الصراع هذه بصورة صحيحة، حيث الانحياز هنا للإنسانية في سير الأحداث المتقدم بالرفض والتحدي الباحث عن الخلاص.
الشخصية تبدو عامة وشاملة، وهي شخصية النموذج الذي يفقد خصوصيته تماما، ليحدد مأساة واقع برمته، وتبدو المعاناة النفسية لدى الشخصية معاناة رمزية إيحائية، بل إن القاص، يقف على مدلولات جزئية ورمزية موحية في سياق القصة كذلك، وهذا ما أضفى على القصة مسحة العمق، فأكسبها كثيرا من الأبعاد الإنسانية، ولا يخفى ما بين نهاية الشخصية/ يحيى، ونهاية الوالي من بعد رمزي دقيق. ومهما يكن من أمر، فإن مثل هذا الصراع يجسّد عمق العلاقة التي يسعى الإنسان إلى إيجادها على أساس متزن، وصحي لا يفقد فيه ذاته؛ ولنقرأ الجزء الأخير من القصة، حيث تبدو نظرة القاص اللمّاحة أساس حسم الصراع: “حين أشرقت الشمس.. لم يجد العساكر أي بقايا ليحيى. بحثوا حول المدفع. فتّشوا في المساحات المفتوحة أمام الحصن ولم يجدوا شيئا. كل ما وجدوه بقايا البارود المحترق منثورة من فوهة المدفع وحتى البحر. تعمّد بعض الصيادين الإبحار في مدى المدفع ولم يجدوا أي شيء من بقايا يحيى. بعد ليلة من حادثة المدفع، اختفت بندقية الوالي.. وبعدها بيوم وُجِدت معلّقة على باب السوق”(29).
ولا شك أن دخول (عبد العزيز الفارسي) على عالم الشخصية الباطني هو وسيلة فنية معاصرة، يتبعها “كثير من كتّاب الرواية والقصة على حدّ سواء خاصة بعد التطور الذي حاق بالدراسات النفسية والاجتماعية والبحوث العالمية المتطورة على كلا الصعيدين مما مهَّد لانعكاس ذلك كله على الأدب والفن”(30). وساعد هذا السبر الباطني لأعماق الشخصية في تحديد كنه العلاقته الحتمية والدائمة، بذاته والمجتمع من حوله، أو الانفصال عن كليهما قد وضع المتلقي أمام حقيقة الذات الإنسانية من ناحية، وأمام حقيقة الحياة والوجود برمته من ناحية أخرى، ليتحقق بهذا الدور الأساسي للمبدع حسبما يذهب إلى ذلك جورج ديهاميل “فالكاتب يؤدي وظيفة اجتماعية عندما يعيننا على فهم الإنسان والعالم فهما أصح، وعندما يأخذ في نقل المجهول إلى المعلوم، أي عندما يكون مكتشفا”(31). تبدو اعتمادات (عبد العزيز الفارسي) على تيارات الوعي المستخدمة، شكلها الخارجي ضمن إطار أحداث محدودة، لكنها في حقيقتها تحدد مدلولات للأزمة، ولكن القاص يؤكد على ضرورة التفاعل من قبل المتلقي بشكل متجاوب ومتفهم، وهو في طرحه يقوم بعملية تشريح سيكولوجي، وفسيولوجي، بل سسيولوجي للإنسان، ويحدد في طرحه كذلك إطارا فكريا إنسانيا عاما للإنسان/ النموذج، وتبدو استخداماته للغة على قدر كبير من الإتقان، خاصة في لغته التي ينقل بها أبعاد شخوصه القصصية ضمن تيارات الوعي، فلحظات العمر تذوب كلها، وتنصهر في بوتقة الكيان الكلي، الذي تتفاعل فيه الذات المفردة، مع الذوات الأخرى، اتجاه عالم أفضل. حين يكون الإنسان هو بؤرة المأساة وجوهرها.
وتتخذ القصة عند (سليمان المعمري) نفس المسار، ويعالج القضية ذاتها، وهو في قصته لماذا.. لأن، يطرج جانب العلاقة الحتمية بين الإنسان وعالمه الذاتي، بكل ما يعتمر في نفسه من إحساس ووجدان، وبين الواقع الذي يتشكل حسبما يتناسب، أو يتنافر مع طبيعة التركيبة البشرية، ولعل هذه العلاقة الحتمية التي تتسم بالاستمرارية والديمومة، قد كانت مبعث الانطلاق للصراع الدائم بين قوى الواقع على تباينها، واختلاف مناحيها، وبين الإنسان باعتباره قوة تحاول أن تجد الأمثل، وتشكل مستقبلا أكثر إشراقا وتألقا.
والقصة تدور حول فكرة الإنسان والبحث عن مطلق، متناولا فيها هذا البعد الرحب، بطريق الرمز الموحي، ولعل إنتاج هذا القاص في معظمه، إنتاج يميل إلى الأسلوب الرمزي، سواء كان ذلك كليا، أم رمز الدلالة الجزئي، ويبدو مثل هذا النتاج الذي يمتاز بقدر كبير من العمق والثقافة، وهو بالمقام الأول موجه إلى طبقة معينة من القرّاء، لا يعدم القارئ العادي الوصول إلى فحوى القصص ومضامينها، فهي جزء من آلامه ومعاناته.
والقاص في القصة المشار إليها يعالج مضامين إنسانية شاملة، وتقف على إحساسات الإنسان في زمن القهر والمعاناة، وهي قصة البحث عن الذات مرّة، والبحث عن المطلق مرّة أخرى، وتحديد أبعاد أزمة الضياع الحياتي بصورة عامة، ومحاولة تحديد رؤية ذاتية خاصة، للتصدي للأزمة، وتبدو عملية البحث هذه، والتي تبلور مأساة الإنسان المعاني في زمن الاغتراب مطلقة وعامة، ولعل هذا هو محور قصص القاص (سليمان المعمري) في مجملها. وتبدو المعاناة لدى القاص نابعة من التخبط، والصخب اللذين يشعر بهما، ومعاناته وسط أتون الاغتراب.
وتبدو المأساة عند القاص، كامنة في أعماق الإنسان، ومن خلال إحساسه بالتأزم المتتابع تستمر عملية البحث عن خلاص مطلق، فاقد الهوية والكنه والأبعاد؛ بل إن الباحث نفسه يفقد الرؤية والدليل والقدرة، سواء كانت الأشياء أقرب أم أبعد مما في مرآته بين السماء والأرض، فإن الجوهري في هذا المتن السردي هو انعكاس الواقع في مرآة القاص التي من خلالها نشاهد الأشياء حسب ما يشكلها القاص نفسه، فالمرآة هي التي تتحكم في البعد والقرب من الأشياء كما تبدو في الواقع.
والإنسان عند (سليمان المعمري) هو انعكاس لكل ظروف الواقع، لكن تبقى عملية الاتصال هذه فاقدة أهم ما يجب أن تتمتع به من الاتزان من ناحية، والتواصل والتصدي من ناحية أخرى،”سوف لن أسأل المضيفة عن الرجل المعلق بجناح الطائرة لماذاهو خارجها لا داخلها.. سوف لن أسأل لأنها حتما ستجيب أنها لا ترى أحدا.. ثم إنني لا أحب المضيفات.. لا بد أن أعتمد على نفسي في الوصول إلى الجواب.. ولكن لكي أصل إلى الجواب لا بد أن أضع السؤال أولا: لماذا اختار هذا الرجل أن يتعلق بجناح الطائرة؟.. لماذا اختار؟”(32).
ويجيد القاص تجسيد هذه المضامين العميقة، بالوقوف على العلاقة والترابط، بل والتلاحم بين الإنسان، وواقع الحياة بكل جزيئاتها، محاولة منه تعميق الصخب والتوتر في باطن الإنسان –النموذج- فتبدو تشكيلات الكون والواقع من حوله طرقا متباينة لتحديد أبعاد المأساة الحقيقية، ويظهر التعامل مع اللغة أكثر إشراقا ودقة، مما لاحظناه عند من عالجوا فكرة البحث عن المطلق من قبل، وهي لغة تبلور إمكانات القاص الأسلوبية، وقدرته على الولوج داخل المدلول اللفظي، وهذا ما افتقدته بعض النماذج سابقة الذكر في هذا الإطار:”وها أنا أسأل: لماذا اختار هذا الرجل أن يتعلق بجناح الطائرة؟ ولكن لماذا أنا مصر على أنه اختار؟ لعله لم يختر ذلك.. قد يكون فعل هذا لأنه لا يملك ثمن التذكرة.. ولكن من لا يملك ثمن التذكرة ليس عليه أن يسافر.. فقط عليه أن يدفن نفسه في الوظيفة، ويأكل، ويشرب، وينام، ويتشاجر مع زوجته، ويلعب الورق مع أصدقائه.. ولكن ليس عليه أن يسافر.. هذا في الأحوال العادية.. أما في حالة هذا الرجل فإن الوضع مختلف”(33). ولعل لغة القاص هي لغة نفسية تتناسب مع طابع الفكرة، بكل حدودها، يقول القاص على لسان الراوي عن الشخصية/ البطل مستخدما أسلوب التقطيع اللفظي، والموسيقي، والنفسي، في آن واحد:”لا بد أن يقول لنفسه الآن: هؤلاء المسافرون الحمقى.. هؤلاء التنابلة.. إنهم يتمّون على مقاعدهم كالخراف. وياهدون شاشة مكتوب عليها أنهم يبعدون عن الأرض آلاف الأقدام، دون أن يفكر واحد منهم ماذا يعني؟.. أنا أختلف عنهم.. ها أنا أحلق في الفضاء الرحب.. ها أنا أقبّل نجمة على وجمنتيها.. ها هو نيزك أكلته الغيرة يصفعني على وجهي.. بعد قليل سأشكوه للقمر”(34). وتنقل اللغة مفهوم الاغتراب، والبحث عن المطلق، وفقدان الخلاص عند القاص، بطريقة رمزية كذلك. “لا يا أبي.. لست شاه ولن أكون.. عندما أصل إلى الحقيقة سأكون ذئبا بألف ناب وناب.. ولكي أصل إليها سألقي بنفسي في أتون الأسئلة، دون أن أرضخ للأجوبة المحددة سلفا.. سأسأل، وأسأل، وأسأل”(35). ثم تقول خاتمة القصة، معبرة عن المأساة الكامنة في مفهوم الارتداد إلى النفس، بكل صخبها، وتوترها بحثا عن شيء مجهول، مطلق: “أرض جديدة.. سماء جديدة.. وجوه جديدة.. أوكسجين جديد.. ماذا يريد أكثر من هذا؟ ماذا أريد أكثر من هذا.. يا هذه المدينة أنا قادم بأسئلتي.. سأنثرها على ترابك سؤالا سؤالا.. ويا موظف المطار إليك سؤالي الأول: من فضلك.. هل رأيت رجلا يرتدي قميصا أزرق، ويشبهني؟”(36). وبهذه النبرة الصامدة، والصرخة المتحدية يواصل إنسان القرن الألفية، وإنسان زمان الحضارة والتطور، إنسان الضغط التكنولوجي، يواصل تحديه وإصراره على إثبات وجوده عبر تحديد علاقته مع الذات والكيان والواقع عبر مسارات الإيمان بهذه الذات ومقدرتها على التحدي لكل متطلبات العصر، وتطور الواقع، عن طريق التلاحم الكامل والتوازن النفسي والشعوري مع الذات من ناحية، ومع الكون من ناحية أخرى، وقد تحققت مع (سليمان المعمري) إحدى مهام الفن الأساسية التي تسعى بادئ ذي بدء إلى إيجاد العلاقة السوية والمتوازنة، وكذلك نقل العاطفية الإنسانية ووقع حقائق الوجود، وأحداث الحياة على نفس الإنسان.
الخاتمة
تقف القصة القصيرة العمانية المعاصرة موقفا جريئا يجتاز بعمق الرؤية، ودقة التصوير كل مراحل التقوقع داخل أُطر الانهزامية، والعجز عن استلهام الواقع الواعي لكل متطلبات التغيير التي يعيشها الإنسان العربي بعامة، والعماني خاصة، وتبدو محاولات الشباب – من كتَّاب القصة وكاتباتها- أكثر التصاقا بهذا الواقع، ومعبرة تعبيرا جرئيا، وصادقا عن معاناة هذا الإنسان، وصدق تجربته في علاقته الوطيدة بواقع معاش، ومدى حدة التصادم بينه وبين الماضي، بكل ما فيه من سلبيات، وإيجابيات، ليستمد من هذه وتلك خيرها وأكثرها نفعا، رافضا كل أشكال التراجع والخذلان.
وقد اتخذت القصة العمانية القصيرة المعاصرة على عاتقها معالجة وقائع الحياة –بمفهومها العام- وإن بقي بعض إنتاج كتَّابها متحركا ضمن إطار البيئة المحلية، وهذا في تقديري الذاتي لا يفقد القصة شيئا من فنية المعالجة والتناول، اللهم تبقى القصة بهذا محدودة الانطلاق، بعيدة عن التماس الطريق المؤثر الذي يلج بالقارئ درب التأثير والتأثر في الإنسان بما يعطيه من مفهوم المطلق زمانا وفكرة.
وإذا كان كتَّاب القصة العمانيون قد ركَّزوا في معظم قصصهم على تحديد ملامح الأزمة الحياتية، التي يعيشها إنسان العصر، بكل ما فيه من تناقضات ساعدت على تعميق هذه الأزمة، بغية الخروج من دائرتها، وفتح أبواب الأمل الإنساني المشرق، ولتوليد طاقات جديدة للإنسان داخل بنية المجتمع، تساعده على التفاعل، فإن بعض القصص قد ركَّزت على تسوير الذات الإنسانية، وقولبة الأزمة بمفهومها المطلق داخل نفس الإنسان.
ويبدو القاص العماني المعاصر أكثر تحديدا لهوية مجتمعه، وواقعه الذي يعيشه سواء أكان ذلك الواقع الذي يحدد علاقة الفرد بذاته، أم ذلك الواقع الذي تتحدد فيه علاقة الفرد بواقعه الخارجي والآخرين ممن يعايشهم، أم تلك العلاقة الأكثر شمولية واتساعا، التي تربط الفرد بواقع الإنسانية الرحب، وفي كل من هذه المجالات الثلاثة، تتحدد نوعية العلاقة، فهي علاقة ثابتة متغيرة، ثابتة من حيث ارتباط الكاتب بواقع له أبعاده وتراثه وأصالته وتطوره، ونماؤه الحضاري المتتابع، وهذه العلاقة تتسم بالثبات في الحقيقة لأنها نابعة من طبيعة الفن من ناحية، وطبيعة المجتمع الذي يعايشه الكاتب من ناحية أخرى، أما تغيرها فنابع في المقام الأول من نوعية المتغيرات والتطور الذي يصيب كل جوانب الواقع المعاش، وكذلك من التغيرات التي تبدو واضحة في الممارسات الفنية، وفي الأشكال والأنماط التي يتخذها المجتمع في العصور المختلفة مسارات اجتماعية متطورة يعيشها الفنان برؤية ذاتية، وبإحساس فني خاص.
وقد اختلفت معالجات القاصين من الجيل المعاصر لكتَّاب القصة القصيرة في عمان، سواء أكان من حيث التكنيك الفني أم حيث الصورة، واللغة، والبيان المعبر، وإذا كانت بعض النماذج قد نجحت في معالجة قصصها بالطرق التقليدية في السرد والتصوير، والحوار، فإن الكثيرين من هؤلاء الكتّاب قد نجحوا كذلك في الاعتماد على طرق المعالجة المتطورة لفن القصة، ولعل ما يلاحظ في دراسة هذا الإنتاج، أن معظم الكتَّاب يعتمدون على طرق المعالجة النفسية كتيار الوعي والتحليل النفسي، والتصوير الرمزي لطرح الفكرة وتحديد هوية الشخصية القصصية، ولعل هذا كله راجع لطبيعة التوتر النفسي الذي يعانيه الإنسان في آنٍ ممزق يعاني من الخوف والقلق والترقب، ومن جرَّاء ظروف قلقه على جميع الأصعدة في العالم كله، مما دفع للإحساس، والمعاناة بالتجربة الإنسانية، والشعور بالمأساة بمفهومها المطلق، وقد أدى ذلك كله إلى اختمار التجربة والشعور بها شعورا عظيما، متزايدا. أضف إلى ذلك نماء التجربة، واعتناءها من جرَّاء التعامل الذاتي مع روح العصر المتوتر، والمتطلع دوما إلى خلاص من مأساة الضياع، والتخبط، وقد اتخذ القاص العماني من الخيال الفني أساسا لبلورة تلك التجربة، وتحديد معالمها.
ويركز معظم كتَّاب القصة عند تناول مسألة البحث عن مطلق داخل أسوار الذات المحكمة، ولذا فإن معظم قصصهم تنتهي بما نسميه بالنهايات المفتوحة، غير المحددة، وتبدو الأزمة مستمرة من حول الشخصية القصصية؛ ولعل مثل هذه النهايات ذات أثرين، أحدهما سلبي يكمن في اللبس في فهم فكرة الكاتب ورؤيته وتصوره لأزمة الإنسان، وثانيهما إيجابي، في احتمال التوقع الطيب المتعلق بمفاهيم إنسانية شاملة وثابتة، يرجع إليها المتلقي أسباب الأزمة، والحلول المقترحة لها، والتصور الموضوعي والمنطقي لمفهوم العلاقة الحتمية بين الإنسان وذاته، والواقع برمته.
وخلاصة القول بهذا الصدد أن تجربة القاص العماني المعاصر أساس لتوليد الطاقات التأثيرية في المتلقي من ناحية، وتعميق الإحساس بها من ناحية أخرى، إلَّا أنه يجدر بنا أن نشير إلى إغناء التجربة وتحسينها سيعودان على السرد القصصي بالنفع المباشر، فيتجه كما يشير روى كادون نحو تحقيق ذاته كفعالية، وذلك حين “يستصحب إطلاق فعاليات أخرى من عقالها”(37).
الهوامش:
(21) بشرى خلفان، رفرفة، ص65
(22) نفسه، ص59
(23) نفسه، ص64
(24) البناء الفني في القصة السعودية المعاصرة، ص103
(25) رفرفة، ص61
(26) وأخيرا استيقظ الدب، عبدالعزيز الفارسي، ص81
(27) نفسه، ص83
(28) نفسه، ص84
(29) نفسه، ص85
(30) د. نصر محمد عباس، مرجع سابق، ص123
(31) جورج ديهاميل، دفاع عن الأدب، ترجمة محمد مندور، ص149
(32) سليمان المعمري، الأشياء أقرب مما تبدو في المرآة، ص33
(33) نفسه، ص36
(34) نفسه، ص38
(35) نفسه، ص35-36
(36) نفسه، ص38
(37) روى كاودرن، الأديب وصناعته، مرجع سابق، ص33
** ورقة عمل أُلقيت في ملتقى الثقافة وهوية النَّص في عمان