د. محمد عبدالفتاح عمار - القراءات الحداثية للنص القرانى بين العداء الاستشراقي والاستعلاء الثقافي وانعدام الموضوعية

يمكن بقليل من التأمل في المحاولات التي جرت من الحداثين العرب أو المسلمين لإخضاع النص القرآني للمناهج الحداثية أن نلاحظ ثلاثة عناصر مهمة، بدت كركائز واضحة الدلالة في تشكيل ديناميكية عمل هذه المناهج، وشكلت رؤاها للتراث الفقهي بصفة عامة، وللنص القرآني بصفة خاصة: أولها-أنَّ هذه المناهج تأثرت بروح العداء التي سرت في دماء وعروق الاستشراق والدراسات الاشتراكية. وثانيها- روح الاستعلاء التي سيطرت على الثقافة الأوروبية إما لعناصر ذاتية وإما لإحساس المثقف العربي المسلم بالدونية. وثالثها- أنَّ هذه المناهج حينما نقلت إلى حيز النص القرآني افتقدت كثيرًا من موضوعيتها؛ وذلك إما عمدًا، وإمَّا لاختلاف البيئة، ولكونها في النهاية من نتائج ثقافات وأيدلوجيات مختلفة وفلسفات أثرت فيها، فمن الواضح أنَّ كل منهج تأثر بمرجعيته الفلسفية على حساب التعامل الموضوعي مع النص القرآني.

1ـ العداء الاستشراقي

وإذا بدأنا بالاستشراق فمن المسلم به أن غالبية الباحثين والدارسين يرون أن قضية قراءة النص الديني وخاصة الدراسات القرآنية ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالاستشراق والدراسات الاستشراقية[1]، وهذه الدراسات ارتبطت كما هو معلوم في بواكيرها الأولى بالصراع بين الغرب والمشرق العربي، وكان الصراع له صبغة دينية سواء في الأندلس أو صقلية، كما أنَّ الحروب الصليبية كانت من الدوافع الرئيسة للدراسات الاستشراقية، والتي أخذت اتجاهًا واضحًا نحو الافتراء على الإسلام، واتهام الرسول- صلى الله عليه وسلم-والعياذ بالله بالدجل والكذب!

وكان اهتمام المستشرقين بالثقافة العربية الإسلامية في وقت مبكر، نتيجة الاحتكاك والتدافع الحضاري بين العالمين العربي والغربي، فَأَلَّفَ المستشرقون كَمًّا هائلًا من البحوث والدراسات حول الثقافة العربية والدين الإسلامي. وبَنَوا مناهج خاصة بهم في التعامل مع النصوص الشرعية المؤسسة للفكر الإسلامي. وقد أثرت هذه المناهج في الدراسات الإسلامية عمومًا، وفي مجال التحقيق العلمي للنصوص، ونشر المصنفات التراثية في مختلف العلوم الإسلامية.ومعلوم أنَّ السياق الذي ظهر فيه الاستشراق تميز بالصراع المرير والصدام العنيف بين الثقافتين المختلفتين، وكان الاستشراق من نتائج ذلك، وأنَّه أحد تمظهراته فيما بعد؛ نظرًا لحاجة الغرب لمعرفة الإسلام ومضامينه ومكوناته؛ لأن الإسلام كان مجهولًا لدى الغرب، فأراد أن يكتشفه ويعرفه، ليس حبًّا فيه، لكن لتكون تلك المعرفة مدخلًا للتعامل معه بطريقة ناجعة وفعالة.

هذا السياق وهذا المقصد جعل مناهج المستشرقين خادمةً للأغراض التي نشأت لأجلها، فاختلط فيها ما هو ذاتي بما هو موضوعي، وما هو تاريخي بما هو علمي. لقد أثرت مناهج المستشرقين في الدراسات الإسلامية، وما زالت تؤثر في تكوين العقلية الغربية، وفي نظرتها إلى الثقافة العربية الإسلامية، وكان تأثيرها أشد في صناع القرار السياسي والعسكري.[2]

وبدا ذلك واضحًا في ظهور العديد من المؤلفات والكتب، فهناك أنشودة رولاند الشهيرة ]3]، وفي المقابل كانت هناك بحوث موضوعية للاطلاع على ما انتهت إليه الحضارة العربية في الفلسفة والعلوم، وكان لرئيس أساقفة طليطلة دورٌ كبيرٌ في إخراج ترجمات مبكرة لبعض الكتب العلمية العربية، وقامت حركات تدعو إلى دراسة الإسلام، وإن كان يغلب هدف التنصير عليها، وشيء فشيئًا بدأت تظهر دراسة اللغة العربية والإسلام، ففي عام 1312م وافق المجمع الكنسي في فيينا على تعليم اللغة العربية في خمس جامعات أوروبية، وزاد الأمر بزيادة الصلات الاقتصادية والسياسية مع الدولة العثمانية، وفي عام 1539م أُنشِئَ أول كرسي للغة العربية في الكوليج دي فرانس في باريس، وشغله جيوم بوستل، الذي يُعَدُّ أول المستشرقين، وأسهم في إثراء الدراسات الشرقية، وفي عام 1586م أصبح من السهل طباعة الكتب العربية عن طريق المطبعة التي أقامها الكاردينال فريناند المديسي، فطبعت كتب ابن سينا في الطب والفلسفة، وفي سنة 1613م أنشئت كراسي للغة العربية بجامعة لندن، ثم جامعة كمبردج عام 1636م، وبعد ذلك ظهرت العديد من الكتب التي تختص بدراسة العالم الإسلامي ككتاب "التاريخ النقدي لعقائد وعادات أمم الشرق" لريتشارد سيمون 1684م، وكتاب "القاموس التاريخي والنقدي" للفيلسوف بيربايل 1697م، ثم ظهر كتابٌ مهمٌ باسم "الديانة المحمدية " لهادريان ريلاند سنة 1705م، وهو الكتاب الذي قامت الكنيسة الكاثوليكية بِعَدِّهِ محرمًا؛ لمعالجته للإسلام معالجة موضوعية، وفي القرن الثامن عشر ظهر نموذج آخر للدراسات الموضوعية للإسلام، وهو المستشرق الألماني يوهان الذي وسع من الدراسات العربية والإسلامية في ألمانيا إلَّا أن ذلك كله لم يكن كافيًا لتغير النظرة العدائية للإسلام وللثقافة العربية؛ ولذلك يقول برودنسون[4] "وفي القرن التاسع عشر كان الشرق الإسلامي لايزال عدوًا، ولكنَّه محكوم عليه بالهزيمة[5]، ثم ظهر المد الاستعماري مع بداية احتلال الدول العربية واحدة تلو الأخرى".

كما وأنَّه منذ اهتمام الدراسات الاستشراقية بالنص القرآني-خاصة في ألمانيا-وتم ربط هذه الدراسات خاصة الدراسات القرآنية ضمن الدراسات المتعلقة بالأدب والشعر، وثانيًا توجيهها بأقسام الدراسات الشرقية في الجامعات الألمانية ثم الغربية؛ لتصبح تابعة لدراسة اللاهوت المسيحي من ناحية المناهج ، وهو ماجعل هذه الدراسات خاضعة لكل جديد طارئ في مجال العلوم الإنسانية، وبرز ذلك بجلاء مع بروز ورواج المناهج الحداثية في مطلع القرن العشرين، واستفحل الأمر بعد أن غدت هذه المناهج مطية ذلولًا لدعاة مختلف الفلسفات والأيدلوجيات في النصف الأخير منه لمَّا أصبحت كثير من الجامعات الغربية -وبخاصة فرنسا- ذات ألوان سياسية أو فكرية سواء تعلق الأمر باليمين أو اليسار[6].

2ــ الاستعلاء الغربي

أمَّا قضية الاستعلاء الغربي في مقابل الإحساس بالدونبة فإنَّ من الواضح أنَّ ذلك مرتبطٌ بما حدث في المشرق العربي الإسلامي، فقد ظهرت محاولات للنهوض سواء ضد المستعمر أو الحكام والولاة المتسلطين قادها الأفغاني ومحمد عبده وغيرهم، وكانت لاتزال متمسكة في منهجيتها إزاء قراءة النص القرآني بالموروث الفقهي الإسلامي وتطويره دون الخروج عن قواعده وضوابط الشرع والفقه، إلَّا أنَّ هذه الحركات لم يكتب لها النجاح الكامل لمعادة الحكام لها من ناحية، وغلبة الانغلاق الفكري،واعتبار التجديد نوعًا من أنواع المروق، ونتيجة لفشل العديد من حركات التحرر الوطني والثقافي يمكن القول بانهزام المشروع العربي الإسلامي أمام المستعمر وبمساندة الحكام وولاة الأمور المسلمين.

ومع زيادة حركة الابتعاث كان من الطبيعي أن يظهر المتأثرون بالمناهج الغربية بداية من طه حسين ومنهج ديكارت الذي استخدمه في قراءة النص القرآني، ثم توالت مناهج القراءة الحداثية للنص القرآني من المادية الجدلية وصولًا إلى التاريخية وموت المؤلف والهرمنيوطيقا والبنيوية والتفكيكية.

ومِمَّا لا شك فيه أن دعاة هذه المناهج تأثروا بالدراسات التي تلقوها على أيدي مفكري الغرب في كثير من الجامعات التي لاتزال تُكِنُّ للإسلام نظرة دونية، وترى أنَّ القرآن مجموعة من الافتراءات فضلًا عن أنها أصلًا تحاول، بل نجحت في فصم عرى اللاهوت الكنسي والإبقاء عليه في حيز الكنيسة بعيدًا عن الحياة أو الواقع المسيحي الغربي.

لذا قامت دعوات قراءة النص القرآني على ذات الأسس الغربية حيث ارتكزت أولًا على محاولة فصل هذه الدراسات عن أصولها وقواعدها التي تحكم النظر في القرآن فهمًا وتفسيرًا واستنباطًا. وثانيًا استعارة تطبيقات تيار لاهوتي غربي لهذه المناهج والادعاء بالاستفادة منها في تطوير الدرس القرآني.

والحقيقة أنَّ هذه الاتجاهات والدعاوى تتصل بعقيدة الاستعلاء الغربي على بقية الأمم والشعوب حيث لا يقتصر الأمر على فرض التصورات الغربية في شأن المعارف والعلوم المشتركة بين الناس، بل تمتد حتى إلى خصوصيات الأمم، فيرون أنَّه يجب أن تقتحمها هذه التصورات لتحدد لأصحابها رغمًا عنهم طريق الفهم، ومن هنا جاء تطاول هؤلاءعلى الدراسات القرآنية بمبرر الفهم، وأنَّ الترويج لهذه الدعوى تنظيرًا وتطبيقًا انطلق من المؤسسات الجامعية التي تحول عدد منها من معاهد إلى قلاع، تم فيها توجيه رسائل الدرسات العليا لخدمة هذا الترويج، كما أن انتقال هذه الدعاوى خارج موطن ظهورها تم بطريقين: الأول- بواسطة أفراد من البعثات التعليمية إلى الجامعات الغربية، فهؤلاء تولوا فيما بعد مهام التدريس الجامعي في أوطانهم، وحرصوا على خدمة هذه الدعوى نشرًا وترجمةً وتأليفًا، والطريق الآخر- كان ناتجًا عن عملية التثاقف إذا كان لهذه الدعوى بريق يغشى الأبصار المولعة بكل ما يدلي إلى الحداثة؛ بسبب ذلك ركبها الكثيرون ممن تكلفوها دون أن يعلموا منشأها ولا خلفياتها[7].

ففي محاضرة ألقاها مكسيم رودنسون أمام مستشرقين من أعضاء الجمعية الهولندية لدراسات الشرق الأوسط والإسلام بليدان في هولندا بتاريخ 16 يونيو 1976 عنوانها "الدراسات العربية والإسلامية في أوربا"، قال في استعلاء يصل للغرور:" في رأيي أن من الأشياء الإيجابية التي ثبتت صلاحيتها نهائيًا وكونيًا في الممارسة الأوربية للعلم هي الدراسة النقدية للأصول، وإذا كانت هذه الدراسات قد مورست من قبل كبار مفكري الحضارات الأخرى إلَّا أن ممارستها المنهجية إلى أقصى الحدود لم تتحقق إلا في أوربا، وغالبًا ما تدان هذه المنهجية النقدية للأصول من قبل غير الأوربيين باعتبارها تنال من مشاعرهم، لكن يجب علينا أن تقول ونكرر بأنَّ هذه المنهجية انطلقت في أوربا [8].

وهكذا يمكن القول إنَّ غزو الدراسات الحداثية للعالم الإسلامي بدأ من أرضية الاستشراق العدائية، وفي ظل عداء سياسي اصطبغ بالصبغة الدينية فيما يعرف بالحروب الصليبية، وهي في حقيقتها بعيدة عن الدين ولا تخرج عن نوع من الاستعمار العسكري، وشيئًا فشيئًا مع سيطرة الغرب، واحتلاله للبلدان الإسلامية والعربية،وظهور النخبة المتعلمة التي أرسلت في بعثات للخارج؛ فجلبت معها هذه المناهج التي انبهروا بها، فقد قابلوا استعلاء الغرب بثقافته بإحساسهم بالدونية، سيما أنه لا يمكن إنكار أن غلق باب الاجتهاد لفترات طويلة والركود الثقافي والفكري، بل والفقهي الإسلامى في العصر المملوكي ثم العثماني وحتى أواخر القرن التاسع عشر لا يمكن إنكاره أو المجادلة فيه على الأقل مقارنة بالنهضة التي شهدها العالم الإسلامي فقهيًّا وعلميًّا وثقافيًّا خلال عصر الدولة الأموية والعباسية، وربما لفترات لاحقة إلى أن تجمدت العقول، وانغلق باب الفكر والفهم، وأصبح تقديس التراث والوقوف عليه أمرًا واقعًا دون أي محاولة لتطوير أفكار أعلام الحضارة الإسلامية الأوائل.

3 ــ انعدام الموضوعية

وهكذا مع العداء الذي مهَّدَ الأرضية لرؤية غير صادقة وغير حقيقة، وبين شعور بالهزيمة والدونية، كان من الطبيعي أن تنتقل المناهج الغربية، بل الحداثة كلها مشبعة بروح العداء ومطعمة بضعف ثقافي عربي غير قادر على نقدها أو بالأحرى تطويرها بما يتوائم وبيئته ومورثه الديني، فانتقلت هذه المناهج في محيط القراءة الحداثية مشبعة بعدم الموضوعية، وتحولت أقوال المحدثين العرب والمسلمين إلى ترديد مقولات المستشرقين دون وضعها على بساط الموضوعية.

وهنا يجب أن نسأل هل من الموضوعية نقل مناهج في غير بيئتها والعمل بها على نصوص لم تخلق لمعالجتها لمجرد الانبهار بالغرب؟!

الواقع أنَّه لا يمكن عزل هذه المناهج عن السياقات التي نشأت فيها، وتلك خاصية في المنهج الموضوعي المتبع في العلوم الإنسانية الاجتماعية بشكل عام، فغالبية نظريات النقد الأدبي الغربية ومناهجه التي نشأت في ظل تلك العلوم متحيزة للأنساق الحضارية التي نشأت فيها، واستمرت خلالها، فهي تحمل مضامين ثقافية، تجعلها متلائمة مع بيئتها الحضارية الغربية،إن تصور إمكانية الفصل بين المنهج والسياق الذي نشأ فيه ضرب من الوهم فإسقاط صفات العالمي والموضوعي على النقد الأدبي الغربي، كما يذهب عدد من النقاد، هو تحيز لرؤى ومرجعيات غربية[9].

فالواقع أنَّ هذه المناهج مجرد نظريات متأثرة باتجاهات ذلك الفكر الذي نشأت فيه بوصفها جزءًا من الثقافة الغربية متحيزة إلى رؤى فلسفية غربية خاصة بواقعهم[10].

فالموضوعية المدعاة تقوم على أيديولوجية شديدة التحيز لفلسفة خاصة بها عن الحياة والوجود والذات والمعرفة، فلسفة لا تعترف بالمقدس مطلقًا، وأي استعمال لتلك المناهج يُعَدُّ استعارة للمفاهيم النهائية لدى الآخرين واقتباسًا من المدارس الفكرية الغربية، فهي عملية اقتباس ونقل وترقيع لا ترتبط بواقع ثقافي أصيل، ومن هنا تجئ الصورة النهائية مليئة بالثقوب والتناقضات، فالحداثة الغربية ومانتج عنها لم ينشأ من فراغ، وإنَّما هى النتاج الطبيعي المنطقي لتطورات الفكر الغربي في الثلاثمائة عام الآخيرة على الأقل التي أدت بصورة حتمية إلى ظهور هذه المدارس الأدبية والنقدية الجديدة بمصطلحاتها الخاصة، وعليه فإن نقل مصطلحاتها ومناهجها في عزلة عن خلفيتها الفكرية والفلسفية سوف يفرغها من دلالاتها، ويفقدها القدرة على تحديد معانٍ صحيحة، أمَّا نقلها بعوالقها الفلسفية فسوف يؤدي إلى تقويض أسس التصور الإسلامي؛ مِمَّا يؤدي للفوضى الفكرية والاختلالات العقدية والأخطاء العلمية؛ لأن القيم المعرفية القادمة مع المصطلح تختلف بل تتعارض مع القيم المعرفية الإسلامية[11]، فالاختلاف في أسس المعرفة ومضمونها بين الثقافة الغربية والثقافة الإسلامية لا يمكن إنكاره.

إذًا فادعاء من يستخدم المناهج الحداثية من المسلمين بدعوى الموضوعية هو أدعاء باطل، يبطله النسق الذي ولدت فيه تلك المناهج، وتحيزها لظروف نشأتها بحيث لابُدَّ للباحث من تصور مسبق عن الوجود، هو التصور الغربي نفسه قبل الشروع في بحثه، وهو ما ينسف فكرة الموضوعية مطلقًا[12].

كما أنَّ دوافع نشر الحداثة الغربية في الثقافات الأخرى ليست الرغبة البريئة في نشر سيادة العقل والتفكير العقلاني، بل الرغبة في سيطرة المركز الحداثي على الثقافات الأخرى بهدف استغلالها تجاريًّا وصناعيًّا عن طرق الاستعمار غير المباشر أو منع تقدمها في أحسن الأحوال، فالاستعمار الغربي مارس خديعة كبرى مع الشعوب المقهورة حينما قصر العقلانية على عقلانيته هو، والتي تقوم على عدم الاعتراف بأي مكتسبات من الماضي؛ ولهذا فإنَّه يدعو الشعوب المتبعة للتخلص من كل المعتقدات والأنظمة السياسية والاجتماعية التي لا تتأسس على العقلانية والعلمية[13]. لكن يجب ان نؤكد ان العلمية والعقلانية بحسب مفهوم المجتمع الثقافى الغربى وحده

ولكن الرؤية الغربية دائمًا متأثرة بالعداء الذي أورثته الدراسات الاستشراقية للعقلية الغربية، وبدا ذلك واضحًا بعد أحداث 11 سبتمبر، وتعامل الغرب في انتقائه للخطابات الدينية المتطرفة والإرهابية التي لاتعبر عن الإسلام، والتعامل معها على أساس أنَّها تستمد إرهابيتها وهمجيتها من المعتقد الإسلامي ومعادة الغير من خلال فهم النص القرآني، وهذا أمرٌ بعيدٌ تمامًا عن الحقيقة، إن روح العداء المتأصلة والمورثة تفقد الغرب بفكره ومناهجه أي نوع من الموضوعية في التعامل مع الفكر والعقيدة الإسلامية، وإن كان هذا ليس على إطلاقه، فهناك محايدون وجادون في سبر أغوار حقيقة الفكر والنص الديني الإسلامي، لكنهم بالتأكيد أقلية.

كما أنَّ هؤلاء الحداثيين يقومون بقراءة التراث التفسيري لنصوص القرآن قراءة انتقائية، وهي تصب في عدم الموضوعية التي أشرنا إليها، فعلى سبيل المثال يروجون أفكار الفلاسفة والمتكلمين المسلمين على أنَّها هي الأفكار والمناهج الصحيحة المناسبة للقرآن الكريم والعقلنة والتطوير الإسلامي، وفي مقابل ذلك ينتقدون الأفكار الكلاسيكية التي وجدت لدى كثير من العلماء والمفسرين وفقهاء المسلمين، ويعدونها نموذجًا للأيدلوجية والانغلاق، وسبب للركود والتخلف، فيشيدون مثلًا بتعامل ابن عربي بوصفه متصوفًا مع النص القرآني، ويهاجمون العلماء كابن حنبل وابن تيمية، بل والوسطيين منهم، كالشافعي، والغزالي، وهذا ما نجده في كثير من كتابات أركون وأبوزيد[15].

وإنْ دلَّ ذلك على شيء فإنَّما يدلُّ على عدم الموضوعية لا في النتائج التي وصلت إليها القراءة الحداثية، بل أيضًا في المنهج الذي اتبعه الحداثيون في التعامل مع الموروث بطريقة انتقائية، لا تستند إلى أي معايير موضوعية، وهو ما يجعل المحصلة النهائية وهي أفكار الحداثيين المستخلصة وفقًا لمنهجهم مجرد كم من المصطلحات الغربية لإعطاء دلالات غير حقيقية ومبتورة ومشوهة عن معنى النص القرآني حسبما خلصت إليه قراءتهم المعيبة.

وهكذا بقليل من التحليل لمقولات بعض أصحاب هذه المناهج تجد أنَّ القراءة الحداثية كانت حبيسة مثلث، قاعدته الاستشراق المشبع بالعداء للرسالة المحمدية وكتابها المقدس الإلهي، وضلع من الضعف والدونية الثقافية العربية، وضلع آخر من الاستعلاء والتشبع بروح التسيد، وإدعاء تملك الحقيقة دون الغير، التي بثها التقدم العلمي الغربي وسيطرته ونفوذه الاستعماري، فما لا شك فيه أن رأس المثلث سيكون هي عدم الموضوعية في إخراج منتج يمثل القراءة التأويلية؛ لتخرج قراءة مشوهة ومطعمة بكثير من الافتراءات التي ورثتها من الدراسات الاستشراقية.

فقد أثرت الدراسات الاستشراقية في الفكر العربي المعاصر، وظهر هذا الأثر في كتابات المثقفين العرب ومؤلفاتهم، وفي محاضراتهم وأفكارهم التي صرحوا بها، حيث تبنوا أطروحات المستشرقين وشبهاتهم فيما يخص الدراسات القرآنية، ومن يقرأ لهؤلاء المثقفين يجد فكرًا استشراقيًّا حاقدًا في ثوب فكر عربي، حيث نظروا إلى الذات بعين الآخر، وغاياته ومراميه.[16]




[1] راجع: عبد السلام البكاري والصديق بوعلام، الشبه الإستشراقية في كتاب مدخل إلى القرآن الكريم، الدار العربية للعلوم، ط1، 2009.
[2] اليويسفي محمد، النص الشرعي وعلومه عند المستشرقين، موقع مداد منشور بتاريخ 12 /10/2017، ص1.
[3] يُعَدُّ أقدم عمل مهم متبق من الأدب الفرنسي. وجد له عدة نسخ مختلفة من المخطوطات تشهد لشعبيته الكبيرة بين القرنين الثاني عشر والرابع عشر. توجد أقدم نسخه في مخطوطة أكسفورد التي تحوي 4004 أسطر تقريبًا، وتعود لما بين 1140 و1170. وهو العمل الذي ينال من المسلمين والرسول- صلى الله عليه وسلم- لقد جاءت أنشودة رولان لتُحوِّل موقعة "رونسيفو" في القرن الثامن الميلادي إلى حملة صليبية، قبل أن تُعرف الحملات الصليبية بوقت طويل، وجعلت من شارلمان أبًا للمسيحية بتصديه للمسلمين الإسبان، وببنائه من قبل لكنيسة "سان ماري لاتيني" في بيت المقدس، ولكي تحقق هذا الهدف حوَّلت شارلمان إلى شيخ كبير عمره مائتي عام في حين كان عمره وقت الموقعة 36 عامًا، وحوَّلت رولان إلى فارس مسيحي مخلص لمسيحيته، حارب الكفار الذين يعبدون "محمدًا" – صلى الله عليه وسلم - ولا يحبّون الله، وتؤكد الأنشودة ذاتها على مهاجمة الجيوش العربية لمؤخرة الجيش الفرنجي المُنسحب، وقتلها لبطل الملحمة رولان الذي – طبقًا للملحمة - ضحَّى بنفسه في شجاعة كانت سببًا في بعث المظلومية الصليبية في أثناء فترة الحروب الصليبية فيما بعد، انظر أحمد درويش: نظرية الأدب المقارن وتجلياتها في الأدب العربي ، ص123، 124، دار غريب – القاهرة، 2002م.
[4] مكسيم رودنسون ، باريس26 يناير 1915 –23مايو 2004، مرسيليا، كان المؤرخ الماركسي الفرنسي، عالم الاجتماع ودراسات شرقية. ابن تاجر الملابس الروسي - وزوجته البولندية اللذان توفيا في معسكر أوشفيتز بيركينو بعد دراسة اللغات الشرقية، و أصبح أستاذًا في EPHE المدرسة التطبيقية للدراسات العليا، (جامعة سوربون ، إثيوبيا) لغة جعزية( فرنسا). الف مجموعة غنية من الأعمال، بما في ذلك كتاب محمد، سيرة نبي الإسلام.
[5] انظر بالتفصيل: محمد الرحماني، قضية قراءة النص القرآني، الرباط، 2006، ص72.
[6]د عبد الرازق هرماس، دعوى فهم القرآن في ضوء مناهج العلوم الإنسانية الغربية، ، بحث مقدم للمؤتمر الدولي الأول لتطوير الدراسات القرآنية،2013، ص23.
[7] د.عبد الرازق هرماس دعوى فهم القرآن في ضوء مناهج العلوم الإنسانية الغربية، ، بحث مقدم للمؤتمر الدولي الأول لتطوير الدراسات القرآنية،2013، ص 75.
[8] د. عبد الرازق هرماس دعوى فهم القرآن في ضوء مناهج العلوم الإنسانية الغربية، مرجع سابق، ص51.
[9] سعد عبد الرحمن البازغي، ماوراء المنهج: تحيزات النقد الأدبي الغربي، ضمن كتاب إشكاليات التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد، د.عبد الوهاب المسيري، المعهد العالي للفكر الإسلامي، فرجينيا، 1998، ص268.
[10] د. عبد العزيز حمودة، الخروج من التية، مطابع السياسة،الكويت، 2003،ص102 وما بعدها.
[11] د.عبد العزيز حمودة، المرايا المحدبة، طبعة المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت،1998م،ص 62. وكذلك: المرايا المقعرة لذات المؤلف، مطابع الوطن الكويت، ط2001، ص 154.
وانظر بتفصيل أوفى: دلال بنت كوبران بن هويمل البقيلي السلمي، التجديد في التفسير في العصر الحديث، رسالة دكتوراه جامعة أم القرى، كلية الدعوة وأصول الدين، ، طبعة 2014م. ، مرجع سابق ص 272 وما بعدها.
[12] دلال بنت كوبران بن هويمل البقيلي السلمي، المرجع السابق، ص 276.
[13] د.عبد العزيز حمودة، المرايا المقعرة، مرجع سابق، ص72.
  • 1 دلال بنت كوبران بن هويمل البقيلي السلمي، ، مرجع سابق،ص 276 وما بعدها.
[15] راجع بتفصيل أوفى وعرض شامل: حمادي هواري،النص القرآني وآليات الفهم المعاصر، رسالة دكتوراه للباحث جامعة وهران، 2013 ، ص271.
وراجع أيضًا: دكتور محمد عمارة، قراءة النص الديني بين التأويل الغربي والتأويل الإسلامي،مكتبة الشروق، مصر، ط1، 2006،ص 82.
[16] اليوسفي محمد ، النص الشرعي وعلومه عند المستشرقين، مرجع سابق ص 5 وما بعدها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى