قراءة فى "يجرى فى ملابسه كالضِلّيل" قصص للكاتب حسين عبد الرحيم ملامح فنية وأسلوبية بقلم مصطفى فودة

قراءة فى "يجرى فى ملابسه كالضِلّيل"
قصص للكاتب حسين عبد الرحيم
ملامح فنية وأسلوبية
بقلم مصطفى فودة
لابد أن يلفت العنوان نظرالقارئ ويثير دهشته لما به من غرابة وما به من صورة فنية مبتكرة تصور السرعة واللهاث فى الحركة، كما أضاف إلى هذه الصورة تشبيه هوكالضلّيل وتعنى كثير الضلال أوهائم على وجهه متشردا، وربما يفسر عنوان المجموعة السياق الذى ورد به فى قصة بعنوان خمسة وستون "لأن أبى جعلنى أمضى عمرى كله وحدى ، أجرى فى ملابسى، مرة فى بنطلون وأخرى فى جلباب ،كالضليل مقطوع الطرف" ص21 ، كما ورد ت عبارة العنوان بالمجموعة القصصية "الخريف الأخير لعيسى الدباغ" للكاتب ص30. ولابد أن تستدعى هذه العبارة شخصية شهيرة فى التراث العربى هو الشاعر امرؤ القيس الملقب بالملك الضلّيل الذى قتل والده وكان ملكا على بنى أسد، وسار امرؤ القيس بين القبائل العربية من أجل البحث عن ثأر أبيه وله كلمته المشهورة "ضيعنى صغيرًا وحمّلنى دمه كبيرًا "، فثمة تقارب بين امرؤ القيس وبين الذات الساردة ، يجمع بينهما الأزمة والترحال والفن، وإلا لماذا إختار الكاتب هذا التشبيه القديم والمهجور والمرتبط بإمرئ القيس؟.
بدأت المجموعة القصصية بمفتتح به جانب عجائبى وأسطورى "الرجل الذى خاصم أهل الارض بمداومة النظر إليهم ،حدثنى قبل الفجر عن صعوده إلى السماء كل مساء من فوق سطح المنزل القديم الذى تهدم ، فأحيا ظلال رؤيتى لأشباح الماضى "ص5 ، هذا الجانب العجائبى والأسطورى يمنح النص قوة غيبية غير عادية، فاستدعاء أشباح الماضى تعنى الذكريات وآلام الماضى ، ولاشك أن للعنوان والمفتتح أهمية كبيرة فى النقد الحديث باعتباره نصا موازيا للعمل الأدبى يحمل للقارئ إشارات وتأويلات على ما سنرى .
قام بناء المجموعة القصصية على استدعاء الماضى وهو ما أطلق عليه فى المفتتح بأشباح الماضى فى قصص تمتح من بئر السارد ومن سيرته وذكرياته وهواجسه وأحلامه وآلامه، ومن هذه الأشباح تلك الحياة القاسية للذات الساردة منذ أن كان طفلا فى السابعة من عمره يجبره أبوه على جر عربة فواكه بعد الفجر بقليل وقبل الذهاب إلى المدرسة، ويتنقل بين المحافظات على عربات لنقل الفاكهة لأبيه، وكذلك الحياة القاسية بعد تهجير أسرته من بورسعيد الى طلخا والمنصورة، ومن هذه الأشباح أيضا تلك العلاقة المعقدة والقاسية مع أبيه والتى ذكرها الكاتب فى عدة قصص بالمجموعة منها قصة خمسة وستون"عندما بدأ أبى الهالك فرض سطوة الغشم على عالمنا، كان فقيرا عفيا، ذات يوم أفقدنى الذاكرة من دون أن يقصد عندما دفعنى ببوز حذائه فى رأسى " ص21 ، وقد تكرر ذكر تلك العلاقة المعقدة فى عدة قصص بالمجموعة وكذلك فى أعمال أخرى للكاتب مثل المجموعة القصصية "الخريف الاخير لعيسى الدباغ"، كذلك من تلك الأشباح تلك الفتاة "أم هاشم" فى قصة الإرث ص149 والتى تعرضت للإغتصاب من كوّاء فى دورة مياه أحد الجوامع "البزات" أثناء الإحتفال بأحد الموالد والتى حرقت نفسها عقب ذلك إتقاء للعار الذى لحقها، وقد ظلت هذه الواقعة تعذبه وتؤرقه ليلًا ونهارًا لإحساسه بالذنب لعدم استطاعته أن ينقذها فقد كان صغيرًا فظل يجلد ذاته "نار تتأجج فى صدرى، وضمير كان يستعيدها غصبا للتفاوض والمراودة، عن تقصيرى غير المقصود فى تركها مشتعلة وهى الصبية الملاكة فى طفولتى الخصبة البازغة للتو، فى دروب طلخا ، وحلقات الذكر وقباب البازات، والكوّاء النجس الملعون"ص150، وقد ذكر السارد تلك الواقعة فى عدة قصص وفى رواية شقى وسعيد، فربما كان تكرار تلك الواقعة المؤلمة نوعا من الإستشفاء من العذاب النفسى للسارد.
ثمة نزعة وجودىة بالمجموعة نجدها فى تلك التساؤلات الكثيرة فى منولوجاته التى تتعلق بوجود السارد وقلقه "من أنا ؟ وما كل هذا الركام من من الغضب والجنون والصمت والطيبة والشفافية والفجور؟ والنار المستعرة تعتلينى فاكبح جماح نفسى وهواى،.. من أين جئت؟ أقولها لنفسى ..لا مجيب، تتعدد أهوائى ، شياطينى السبعة ، نفسى اللوامة . شيطان أنت أم ملاك؟ من أبى؟ ص183 .
كما يتضح ذلك النزعة الوجودية فى تماهى السارد مع ثلاث شخصيات روائية لنجيب محفوظ اتسمت بالوجودية والحيرة والقلق، الأولى شخصية عمر الحمزاوى فى رواية الشحاذ، وردت فى قصة عمر الحمزاوى وفى قصة دائرة الرحلة بالمجموعة " أنا ظل عمر الحمزاوى، سئمت الحياة، الخريف فى غمامة أنا، ولدت شقيا بلا ذنب"ص87، والشخصية الثانية عيسى الدباغ فى رواية السمان والخريف، وللكاتب مجموعة قصصية بعنوان "الخريف الأخير لعيسى الدباغ" تاثرا بهذه الشخصية وتماهيا معها، والشخصية الثالثة هى صابر الرحيمى ورحلته فى البحث عن أبيه الحقيقى أو المجازى فى رواية الطريق ، وقد تماهى السارد مع المخرج حسام الدين صاصا (مصطفى) مخرج هذه الروايات الثلاثة وقد نشأت علاقة حميمية بينهما "كان الفارس الهمام بالنسبة لشخص مثلى محب للسينما"، وقد وصفه السارد بفقرة أشبه بالبورتريه فى قصة عمر الحمزاوى "الوجه العظمى البيضاوى، والعينين الضيقتين الحائرتين فى محجريهما، وشعره الأشعث المتدلى خلف قفاه النحيل المعروق المحجوب خلف الجاكيت الكاوبوى الأمريكى ماركة Lee "ص26 ويلاحظ أن هناك تشابهًا كبيًرا بين الكاتب والمخرج فى هذا البورتريه، وهناك حوار دال بينهما عقب مشاهدة فيلم الشحاذ الذى تناوله السارد بالنقد والمقارنة مع عيسى الدباغ فى فيلم السمان والخريف مما وثق العلاقة بينهما، وقد ورد ذكر المخرج حسام الدين مصطفى فى أكثر من عمل للكاتب بل أهداه وآخرين مجموعة قصصية بعنوان الخريف الأخير لعيسى الدباغ ،
كذلك تماهى السارد مع نجيب محفوظ وأجرى معه حوارا بديعا متخيلا
- عارف يا حسين ، عبد الناصر، كان رجل وطنى شريف لكنه انخدع
- انحدع ولا خدع الناس؟( مس رقيق بالآراء السياسية )ص35 .
كما استدعت قصص المجموعة شخصيات فنية مثل الفنان التشكيلى وجيه يسى والمطرب عبد العزيز محمود والموسيقار فاجنر، والمخرج حسام الدين مصطفى ويوسف شاهين (جو) ، وميلان كونديرا،وكفافيس ورواية صخرة طانيوس للكاتب اللبنانى أمين معلوف وهى عنوان لقصة بالمجموعة دلالة على شغف السارد بالفنون عامة والفن السينمائى خاصة.
ارتبطت المجموعة القصصية بالتعبير عن المكان فكانت مدينة بورسعيد وشوارعها مثل أول العرب ومقهى الضاحى والشكربالى وغيرها حيث مولد السارد ونشأته ثم المنصورة وطلخا بعد انتقال أسرته بعد هزيمة 67، وبار توماس بالزمالك عندما استقر بالقاهرة والذى كان محط لقائه مع المخرج حسام الدين مصطفى والذى اختاره السارد ليكون اسم روايته الجديدة، إلا أنه أبدى حبا وشغفا شديدا بالبحر ومعبرا عن علاقة خاصة بالبحر حتى نستطيع أن نقول أن هناك ثقافة بحرية للسارد بادية للعيان، وقد وردت مفردات كثيرة تعبر عن تلك البيئة البحرية مثل صوت البحر ، صوت الهدير والوشيش، الميناء ، السفن ، ربان السفينة ، فنار، البحر الغامض الطافح بالغضب والجبروت ، الأمواج الصاخبة ، هواء المنشية، الريح ، فضاء الأرصفة، طيور النورس ، ملح يملأ الرصيف ، وعلى سبيل المثال "بدت السفينة وقد احتكت بالرصيف قرب موضع قدمى ، كانت عينى تجوس فى الغمام ، فرأيت نثار ثلج يهوي على الرصيف الطويل من حولى ، وطيور النورس تطير بفزع لتبحث عن ملاذ آمن ، تهيم وتهوى لتحلق ، ترشق عيونها فى المدى الضبابى"ص98 فقرة لا يكتبها إلا كاتب متشبع بالبحر وبالبيئة البحرية،وفى حوار متخيل مع نجيب محفوظ " يا عبد الرحيم ماذا يمثل لك البحر؟ بحر بورسعيد يا أستاذ نجيب، دنيا تانية، بلاد غريبة، بلا ضفاف، وموانئ بلا شطآن هناك مشيت يصطحبنى ابى رحلة بعد الفجر وأخرى قبل المغيب، يحدثنى بوعى وثقة العارف"ص35
تأثر أسلوب الكاتب كثيرا بتقنيات السينما مثل المشهد والسيناريو والقطع والبلاتوه وغيرها حتى نستطيع أن نقول أنه يصف ويكتب بعين الكاميرا، وعلى سبيل المثال فى قصة عمر الحمزاوى مشهد حضور المخرج حسام الدين مصطفى عرض فيلم الشحاذ بالسينما أثناء وجود السارد" طالت جلستى صامتا ولأكثر من ساعتين كان حسام صاصا قد دخل العرض من البداية ، وتعمدت أن أحدق فى وجهه عندما سمعت صرير الأبواب الخلفية ، وظهر سكرتير الجمعية بصحبة أحمد عبد الوهاب الذى نادى بصوت خفيض : اتفضل يا أستاذ حسام. ألتفتُّ إلى الخلف أرقب المشهد وأتأكد من ملامحه التى لم أرها من قبل إلا من خلال صفحات الفن وأخباره "ص26، فنحن بإزاء مشهد داخل كادر سينمائى، كما اتسم سرد الكاتب بالإيجاز والسرعة والحركة والدخول فى الحدث مباشرة فى قصة شفيع "رنة الموبايل نبهتنى إلى فحوى المكالمة "حسين أنت فين؟ تعالى ضرورى الأستاذ شفيع تعب فجأة لازم تيجى المستشفى ،أنت نوبتجى الليلة" .
كما اتسمت بدايات القصص بالجاذبية والتشويق، حيث تبدأ القصة الأولى واحد بورسعيد بجملة"واضح أن العمر اتسرق" عبارة موجزة تغرى القارئ وتشوقه بمتابعة القصة لمعرفة المزيد كيف سُرق العمر، كذلك فى القصة الثانية ليالٍ عشر تبدأ "هو ليس بفاقد الذاكرة ولا ضد مشيئة الرب" عبارة تشوق القارئ لمعرفة المزيد ،كما يتضمن عنوان القصة المشاكلة حيث يظن القارئ أنها تلك الليالى التى ذكرها القرآن فى سورة الفجر ولكنه يتبين أنها عشر ليالٍ لم ينم فيها السارد .
حفلت قصص المجموعة بكثرة استخدام المنولوج "حديث النفس الداخلى" ربما لأن القصص قامت بنيتها على القلق الوجودى والألم الداخلى والبحث عن الذات وعلامات الاستفهام واستدعاء الماضى"كل ليلة أحادث نفسى عن أى الأشياء ستكتب؟وكيف ستكون روايتك الجديدة؟ستدون كل ما تحمله من ذكريات ومواقف وأحداث وأحاديث طويلة مضت ولم تنقطع" ص34
ثمة جانب عجائبى وأسطورى بالسرد تمثل فى المفتتح بالرجل الذى يحدثه كل مساء بعد صعوده إلى السماء، كذلك فى تلك الهمهمة والوشيش والصلصلة والشخاليل والأجراس التى يسمعها السارد وكأنه على إتصال بعالم الجن ، وفى قصة الجانب الآخر..ضباب "عاودت الإنصات إلى تلك الهمهمات التى تسرى فى أذنىّ من زمن مبهم ، طغى صوت امرأة، تجسدت فى صورة بهية "ص100، "تأخذنى مركب إلى شاطئ آخر قريب، يتحدثون عن جنيات البحر، وقروش فضية وريالات تطفو على السطح ليلا "ص22.
لعبت اللغة دورا كبيرًا فى البناء الفنى فى المجموعة القصصية، فاتسمت بالحسية والجمال فى التعبير عن العلاقة بالمرأة، فأبدع السارد فى وصف المرأة وأبدع فى إحساسه بجمالها فى عدة مواضع ص 50 ، 57، 58 ،63 ،70، 71، 100، 184 وعلى سبيل المثال هذه الفقرة " طغى صوت امرأة ، تجسدت فى صورة بهية ، جسد مثير، امرأة تقارب الاربعين، ترتدى تاييرا أرجوانيا يعلو الركبة بقليل، مفتوحا من الأمام ليبرز ساقين من أبنوس ، يطير رداؤها وينفتح الجوب فجأة لتطفو علامات الصقيع كبقع حمراء تزيد اللحم فخامة، مؤكدة عشرات الدلالات عن رغد العيش الذى تنعم به تلك المرأة الرومانتيكة"
كما اتسمت اللغة بالشعرية فى عدة مواضع فاتسمت بالتكثيف والمجاز والتعبيرية مثل "امراة من نار ونور" ومثل "ماريا أيتها المرأة التى تصبغ ملامحها كل نساء الكون، أتفرس فى ملامحها، فتتزاحم فى ذاكرتى صور للجميلات فى الرحلة الارضية، من صاحبتهن الروح فى رحلتى فى الحياة، تتشابه الملامح إلا من وقعها على خلجات نفسى ..الإنصات إلى فاجنر حتى الذوبان، فالتحليق نحو بقع أخرى فى العالم، كأن الطيور تنادينى من خلف محيط بعيد فى غور سحيق أبدى"ص57 ، ومن مظاهر الشعرية ترتيب الجملة ترتيبا خاصا وعدم التقيد بالترتيب العادى لها ، فنراه يقدم التشبيه مثل "كالأعشى كان يسير مترنحا فى يد الخال"، كذلك التكرار اللغوى فى كثرة استخدامه إدوات الإستفهام مثل من؟أين؟ كيف؟التى عبرت عن القلق والحيرة ،كذلك تكرار كلمات أوعبارات مثل صوت البحر فى ص145 تعبيرًا عن شغفه بالبحر، ومثل تكرار كلمة أُحدّق فى عدة مواضع "أحدق فى عيون بطلاته"، "أحدق فى وجهه" ص26، أحدق فى عقارب الساعة ص100 فكان تعبيرًا عن اهتمامه الشديد ومحاولة استيعاب الحدث .
أفاد السارد من زخم العامية فى الحوار وحديث النفس وجعلها قريبة من الفصحى، على سبيل المثال "الفيلم واكل حتة من روحى يا أستاذ "ص32، كذلك فى المثال السابق "واضح أن العمر اتسرق "ص13،وكان الحوار مزيجا من العامية والفصحى مثل الحوار بينه والمخرج حسام الدين مصطفى .
- مساء الخير يا أستاذ
- مساء الفل ،إزيك يا حسين ، إيه مش هشوفك؟
- شاهدت لك اليوم "جريمة فى الحى الهادى"
- بتكتب إيه الأيام دى؟
- بكتب حاجات كتير، لكن للأسف ما زلت أبحث عن بطلى، أو قل عن نفسى.ص31 .
أخيرًا استطاع الكاتب أن يقدم لنا قصصا استقت من بئره ومن سيرته وذكرياته وهواجسه وأحلامه وآلامه بلغة تصويرية جميلة وجسورة واستطاع بهذه المجموعة القصصية البديعة تأكيد مكانته كقاص كبير له صوته الخاص ورؤيته المتميزة .
بقلم مصطفى فودة


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...