أمل محمد منشاوي - حلم سعيد...

استيقظت من نومي معبأ بهم الوصول الى حلمي المنشود , كانت الساعة تشير الى الخامسة عصرا , نفضت النوم عن رأسي وتحاملت رغم ما أشعر به من ألم في جميع عظامي من طول الرقاد والخمول , لا شيء يفتك بالإنسان سوى الغباء والكسل، هذا اعتقادي دائما في الأغبياء والكسالى الذين انضممت الى ناديهم المميت منذ عام , فلو أن مسابقة قد نظمت للأكثر نوما في العالم لفزت بها بجدارة , فأنا أنام كما نام قبلي أهل الكهف , لا ينقصني سوى كلب يظل قابعا أمام غرفتي يزود عني المتطفلين الذين يطالبونني دوما بالنجاح فيما اختاروه هم لي , ضاربين بأحلامي وإمكانياتي عرض الحائط .
خرجت من غرفتي بعد بحث طويل في كل أرجاءها عن فردة "شبشب" ألبسها كي أذهب الي الحمام وأنا ألعن أختي يسرا التي بين الحين والآخر تصر على أن تنظف لي حجرتي رغم أني لا أراها تحتاج الى ذلك , فأنا أرتبها على طريقتي , وإن كان يبدو للجميع أنها كمقلب للقمامة كما يحلو لأمي أن تسميها , ولكن ما دمت أعرف مكان كل شيء فيها ولا أجد صعوبة في الوصول إلى أشيائي فهي مرتبة ومنظمة بالشكل الذي يليق بي .
أخيرا وجدت "الشبشب" , كانت إحدى فردأته تحت السرير والأخرى وجدتها محشورة بين مكتبي والحائط , نظرت ببلاهة اليها متعجبا ما الذي أتى بها إلى هذا المكان ! ولكني سرعان ما تذكرت أنني عندما دخلت الى الحجرة أمس وجدت يسرا قد أخلت بنظامها بحجة تنظيفها , وبدلا من ان شكرها وبختها ورميتها بإحدى الفردات فلم تصبها واستقرت في المكان الذي وجدتها فيه . أخرجتها بصعوبة ثم لبستهما وخرجت أفرك عيني بإحدى يدي وأعبث في شعري بالأخرى, تتدلى المنشفة على كتفي , اتثاءب بقماءة مصدرا صوتا كعواء الكلاب , أجر رجلي في كسل ووخم محدثا ضوضاء أثناء ذهابي الى الحمام . وفي طريقي إليه وجدت أمي جالسة في مقعدها الذي اعتادت الجلوس فيه مسندة رأسها بكفها ومقيمة ساعدها على مسند الكرسي، عابسة الوجه.
لا بأس .. فقد اعتدت هذا العبوس منذ سنوات! داعبتها كعادتي بمداعباتي التي تصفها هي دائما بالسمجة , لكنها لم تستجب , مططت شفتي باستسلام وانصرفت عنها لأغسل عن نفسي بقايا النوم وبلادة الشعور .
اسمي "سعيد"! أعلم أنكم تضحكون من هذا الاسم السخيف كما أضحك انا عندما يسألني أحدهم عن اسمي , لا أدري لماذا أتحفني أبى بهذا الاسم , هل كان يظن ان السعادة تُجتلب من خلال الأسماء! يقولون أن الله يجعل لكل انسان نصيبا من اسمه , لا بأس , سأبحث عن ذلك النصيب بين ثنايا حروفه فيما بعد , دعوني الآن أحدثكم عن حلمي الذي يتراقص أمامي ليل نهار, أم تودون أن تعرفوا حلم أبي الذي يفرضه علي , لا تتعجبوا , فليس ثمة صلة تربط بين حلمي وحلم أبي , كلانا يحلم كما يحلو له , ولكن لحظة .. لابد أن أخبركم أولا بأمر هام , أنا لازلت طالبا يدرس في الثانوية العامة , أعلم أنكم أشفقتم على الآن , فما نعانيه نحن التلامذة في وطننا الحبيب مصر لا يعانيه أحد على وجه هذا الكوكب , ولا اخفيكم سرا , فهذا هو عامي الثالث في هذه الثانوية القميئة ولا زلت لم أجن ثمار تعبي فيها بعد ! , لماذا تنظرون الي هكذا ؟!, نعم انا تعبت في هذه الثانوية الكئيبة , ويكفيني تعبا فيها هذا النوم الطويل الذي ألجأ اليه هربا من سخافة تلك الدروس وحماقة معديها , انام في البيت مثل حيوان الكسلان , لا ينقصني إلا فراء من شعر يغطي جميع بدني , فأنا لا أخرج من حجرتي إلا لقضاء حاجتي أو طلبا لطعام ,لم تفلح معي نصائح أمي ولا تهديدات ابي بالطرد من البيت إذا لم أنجح في هذا العام , فهذه هي فرصتي الأخيرة , وأنا كمستأجر متبجح , لا يدفع الإيجار ولا يستحي من التسول من أصحاب العقار؛ لا أهتم إلى كل هذه الترهات التي يفتعلها من هم أمثال أبي وأمي في الخوف على مستقبل أبناءهم, لا أدري عن أي مستقبل يتحدثون ؟!
خرجت من الحمام وأمي لا تزال على وضعيتها , سالتها :
_ مالك يا أمي ؟
لم تجب ونحّت وجهها عني ماطة شفتيها باشمئزاز في رسالة واضحة أنني أنا سبب تلك الكآبة البادية عليها .. بل أنا سبب كآبة العالم كله من حولي , لم أهتم وسألت :
_ فيه فطار ؟
_ليه !! صايم يا عين أمك هتفطر المغرب ؟ ردت أمي بسخرية
_قصدك فيه غدا , فيه عشا مش فطاااار ! .
كان هذا صوت يسرا المستنكر قادما من المطبخ , نظرت نحو المطبخ وقلت بنبرة عالية متوعدة :
_ طيب جهزي الغدا وللا العشا وانت ساكتة احسن لك .
نظرت لي أمي بغضب وقالت :
_يا واد انت ماعندكش دم !
_ ليه بس يا ست الكل ؟
رددت باستعطاف
بدأت أمي في ترديد اسطوانتها التي لا تمل ولا تكل من إعادتها ليل نهار , وتكيل لي الاتهامات بأنني مهمل , ولا أتحمل المسؤولية , ولا أشعر بمعاناتهم , و ,و ,و وكلما بدا لها عدم اهتمامي لما تقول علا صوتها وهي تقول :
_ انت ما بتشبعش نوم , بقالك ثلاث سنين في الثانوية العامة وما زهقتش , حابس نفسك في المدعوقة الأوضة بتاعتك ولا بتطلع منها ولا بتخلي حد يخش عليك فيها ولا اللي تكون عامل فيها مصيبة , والاسم بتذاكر وفي الاخر تطلعلنا في النتيجة ساقط !
_ طب والله العظيم بذاكر , بس هو زي ما تقولي كدة هوايا مش جاي ع الثانوية العامة , أو يمكن معمول لي عمل
_عمل ! قالت وهي تعوج فمها يمينا ويسارا وتشوح بكلتي يديها ثم أكملت , " دا عملك الاسود"
تصنعت عدم الفهم وأكملت باسما :وبعدين مانا قدامك اهو يا حاجة برة المدعوقة الأوضة , طب بذمتك أنا مش لسة مخلى البت يسرا تنظفها امبارح , يبقى ازاي بقى مانعكم من دخولها !
قالت بسخرية : والله كتر خيرك انك بتخلينا ننظفلك الزريبة اللي انت عايش فيها , حقنا سيبناها تعفن عليك
ضحكت من كلماتها فداعبتها محاولا اضحاكها لكنها لم تضحك ودفعتنى فسقطت أرضا فأتاني صوت يسرا ضاحكا في شماتة فرميتها بالمنشفة وهممت بخلع نعلى ورميها به ولكن منعني صوت أبي القادم من الخارج , وكان من عادته قبل أن يدير المفتاح في الباب أن يتنحنح بصوت عال معلما من بالداخل أنه على وشك الدخول , فقمت مسرعا مهرولا الى حجرتي قبل أن يلمحني , في تلك اللحظة أقبلت " يسرا" على أمي وهى تقول بصوت هامس ينم عن وقوع كارثة " أنت هتقولي لبابا ع اللي لقيناه في أوضة سعيد امبارح ؟"................
وقفت حائرا في منتصف الغرفة أفكر فيما قالته يسرا لأمي , عن أي شيء تتحدث !, وما هو ذلك الشيء الذي وجدته في غرفتي ولا تريد أمي أن تخبر به أبي ! , أخذت أقلب في كل شيء كما يفعل رجال المباحث عندما يفتشون في بيت المشتبه به عن سلاح الجريمة , بحثت فى حاوية الملابس , وتحت السرير , وعلى المكتب , وفتحت كل الأدراج , ألقيت بكل ملابسي خارج الدولاب , ألقيتها على الأرض _ هكذا أرى رجال الشرطة يفعلون في الأفلام القديمة ولا أدري لماذا كل هذا الحقد الذي يكنونه لسيدة البيت التي تعكف بالساعات على ترتيب الملابس وإعادتها الى مكانها _ لم أعثر على شيء , وقفت أعبث بشعري متصنعا التفكير والحيرة وتساءلت بيني وبين نفسي ما الذي وجدته تلك الحمقاء ! , وبعد لحظة صفعت جبهتي بأطراف أصابعي كأنما تذكرت شيئا هاما وقلت " يا خبر , إيه الغباوة دي ماهو أكيد مش هلاقي حاجة , ماهي طبعا أخدت اللي لقيته وادته لماما " اقتربت من الباب أتسمع ما يدور بالخارج لعلي أصل لذلك السر الذي كان بين جدران غرفتي ولم أعرف بوجوده لكنني لم أتبين أي كلام , يبدو أن أبي دخل إلى حجرته مباشرة وتبعته أمي , فتحت الباب فتحة بسيطة ونظرت من خلالها فلم أجد أحدا بالصالة وسمعت صوت " يسرا " تدندن كعادتها في المطبخ , فكرت أن أذهب إليها وأجرها من شعرها وألوي ذراعها خلف ظهرها حتى تقر وتعترف بالذي وجدته , لكنني أرجأت تلك الفكرة إلى وقت لاحق يكون البيت فيه خاليا علينا فلا تجد من ينقذها مني , فهي تملك صوتا كسارينة الإسعاف , إذا أطلقته لن أستطيع إسكاتها وستكون النتيجة تقريع من أبي وتوبيخ من أمي , وشماتة منها . استلقيت على السرير أفكر وأنا مستمتع بتلك الفوضى التي أحدثتها أثناء بحثي عن المجهول , ثم فجأة تذكرت شيئا , انتفضت من مكاني وفتحت أحد الأدراج ثم ابتسمت ساخرا من حماقتها وقلت بصوت مسموع بالنسبة لي " آه يا هبلة ", جلست على طرف السرير أفكر كيف سأسترد ما أخذته تلك الغبية .
"يسرا " فتاة الحمقاء , تصغرني بعام واحد , منذ أن جاءت إلى هذه الحياة وأنا أنعتها بالحمقاء الغبية , ولم لا وكل ما تفعله ينم عن غباء منقطع النظير , أشعر بالحقد عليها , وكيف لا أحقد عليها وقد حرمتني حنان امي وتدليل أبي واستحوذت هي عليه وحدها , يكفيني أنها حرمتني من حقي الطبيعي الذي أقره الله لي من فوق سبع سماوات بالرضاع حولين كاملين !, أخبرتني أمي أنها لم ترضعني سوى ثلاثة أشهر فقط ثم حضرت تلك الغبية , وما أن علمت أمي بوجودها بين أحشائها حتى نصحتها نسوة العائلة والجيران وجيران الجيران بفطامي بحجة أن اللبن الذي تفرزه الان " لبن غيرة " وأنه سوف يمرضني , لم تكذب أمي خبرا وقامت بفطامي واستبدلت بثدييها ضرع " بقرة " كانت لأحد جيراننا في منزلنا القديم قبل أن نسكن وسط المدينة , كانت تشتري منها اللبن كل يوم وترضعني إياه , سوف أبحث فيما بعد عن تلك البقرة التي تعتبر أمي من الرضاع لأشكرها وأرعاها وأرعى أبناءها الذين هم بمثابة إخوتى , ها ها ها ... أعلم أنني أتمتع بخفة ظل وروح مرحة , الجميع يقولون لي ذلك , حتى الأستاذة " منال " مدرسة العلوم التي كانت تدرسني في المرحلة الإعدادية , كانت دائما تقول لي " دمك خفيف يا واد يا سعيد , إنت تنفع تشتغل أراجوز " يبدو انها قد خانها التعبير وأنها كانت تقصد أن أعمل ممثلا كوميديا , لكن لا باس , نعود إلى تلك الحمقاء , تلك الفتاة التي هي لي بمثابة حجر عثرة في كل حياتي , بل هي سبب جميع مشكلاتي , " يسرا " حصلت على الشهادة الثانوية بمجموع 80% وهي الآن في السنة الأولى في كلية الآداب , أعتقد أنكم فهمتم الآن لماذا هي سبب مشكلاتي , نعم .. هو ذاك , فأبي دائما يقارنني بها , ويمدحها ويوبخني , ويرى أنها أكثر ذكاء مني , من قال أن الذكاء يقدر بالنجاح في الإمتحانات ؟ أمرهم عجيب هؤلاء الآباء , لا يفرقون أبدا بين الذكاء وكثرة "الدح " فأنا أري أن الأغبياء هم الذين ينجحون في الإمتحانات , وأن الأشد غباء هم أولئك الحاصلين على أعلى الدرجات , أبي لا يريد أن يعترف بمواهبي الخاصة وذكائي الفريد , فهو رجل تقليدي لأبعد الحدود , يعمل تاجر أقمشة , حصل على دبلوم التجارة وهو في الخامسة والثلاثين من عمره , _ألم يسمع أبي من قبل عن المثل القائل (اللي بيته من إزاز ما يحدفش الناس بالطوب )_ لكن ما علينا نرجع إلى موضوعنا , كان أبي لا يحب الدراسة , لا أدري لماذا يصر أن يفرض علي ما كان يكرهه هو في طفولته , هو الوحيد بين إخوته الذي فشل دراسيا , لكنني أراه الوحيد فيهم الذي نجح عمليا , فهو أكثرهم ثراء , ورغم مراكزهم الإجتماعية المرموقة إلا أنهم دائمي اللجوء اليه في أحلك المواقف فيحلها لهم بفضل اتصالاته, بل بفضل ما ينفقه من أجل حل مشاكلهم الدائمة, وكان أبي هو أصدق تطبيق لمقولة خالد الذكر وقدوتي في عالم الكوميديا محمد سعد عندما قال " الجنيه سبق الكارنيه"
اه , عذرا .. أرجو ألا تسيؤا فهمي عندما قلت " أكثرهم ثراء " فنحن لا نعد من الأثرياء كما تعتقدون, ولكن أبي كان يظن أننا ننتمي إلى الطبقة الوسطى حتى قامت ثورة يناير وما تبعها , ففهم أن تلك الطبقة التي كان يحلم بها قد اندثرت عندما وقفنا على بابها _ وذلك من حسن طالعنا _ ورغم ارتفاع دخلنا إلا أننا نعد الأن من الطبقة الفقيرة التى أسأل الله ألا تندثر هي الأخرى بسببنا . كان أبي يملك فيما مضى متجرا لبيع الأقمشة وكانت أمي من نساء الريف اللآتي يردن على المركز في الأسواق ويشترين حاجياتهن , فأمي كانت سيدة مطلقة ولها طفل صغير , لم تجد من يكفلها وصغيرها , فليس لها سوى أم قعيدة لا تستطيع الحراك , فعملت "دلالة " تشتري الأقمشة وتبيعها لنساء قريتها _ اعلم انكم تقولون في انفسكم ان مهنة الدلالة قد اندثرت وعفا عليها الزمن، ولكم كل الحق في ذلك، لكن المثير للدهشة أنها كانت الحقيقة فأمي كانت دلالة وكانت تشتري كل ما تحتاجه من أبي! صدقوا او لا تصدقوا فهذا ما حدث !!
نعود إلى قصة الحب التي نشبت نيرانها في قلبي أبي وأمي، فقد أعجب بها والدي أيما إعجاب لا لجمالها فقط وإنما لحسن خلقها ومواقفها الرجولية التي واجهت بها الظروف الصعبة التي مرت بها , ورغم أن أبي لم يتزوج من قبل إلا أنه أصر على الزواج منها رغم معارضة أهله , وعندما تزوجا، انتقم زوجها السابق منها فأخذ ابنه وحرمها منه لكن الله سبحانه وتعالى أعاضها بي وبأختي , ألسنا أفضل تعويض لها ؟! فأمي امرأة ودود؛ تعرف كيف تسلب لب زوجها بالحنان والولد فأنجبتني له وان اكتفت بي لكان خيرا لنا جميعا، ولكنها ختمت جهودها بتلك الغبية.
اوه .. لقد خرجت كعادتي عن صلب قضيتي! ولكن مهلا ... ما هي قضيتي من الأساس؟!
اوه .. تذكرت .. إنه حلمي الذي يتعارض مع حلم أبي ورؤيته لمستقبلي الذي لم تبد له أية ملامح حتى اليوم! تبا لذلك المرض اللعين المسمى "بالزهايمر"٠ والذي لا أدري كيف استقر في راسي واتخذ من ذاكرتي غذاء له فينمو هو وتتقلص هي !
ترى .. هل الجأ للنسيان هروبا من واقعي المؤلم الذي احياه!؟ آه لو تعلمون كم أنا أعاني في هذا البيت الكئيب، لا أجد من يفهمني أو يشاركني أحلامي المستقبلية، ليس ثمة أحد يستمع إلي دون أن يملي علي نصائحه وخبراته في الحياة سوى "احمد كدش" رفيق طفولتي، فمنذ ان انتقلنا إلى هذا الحي الهادئ والذي يعتبر من الأحياء شبه الراقية، لم أجد لي صديقا سوى أحمد هذا.
نسكن نفس الحي وندرس في نفس المدرسة ونمارس نفس الهوايات نلعب الكرة ونتسكع في الشوارع. كان أحمد صاحب شعر مجعد شديد الخشونة مما جعله يعاني بسببه معاناة كبيرة حتى جاء اليوم الذي اقتنع فيه بان مشكلته لا حل لها سوى الرضا بها وتحويلها من مأساة إلى علامة مميزة فأصبح صاحب أكبر "كدش" في مصر كلها! ومن المحنة تظهر المنحة، فقد اتقن احمد الحلاقة وأصبح صاحب مقص سحري، ولم يلق بالا للثانوية القميئة التي أغرق أنا في أوحالها حتى اليوم.
أذهب إليه كل ليلة احدثه عن احلامي ومستقبلي المشرق الذي ينتظرني، لا يعترض على ما اقول ولا اسمع منه سوى كلمة واحدة
_ انا في ضهرك يا صاحبي!
هذه الكلمة لها وقع السحر على نفسي فتدفعني إلى المزيد من الأحلام، والمزيد من الأفكار التي لا أحققها إلا بين يدي " كدش" ثم ما ألبث أن القيها خلف ظهري بمجرد عودتي إلى البيت لأبدأ في حلم جديد.
كنت غارقا في أفكاري وقد نسيت السبب الذي دفعني إلى استدرار كل هذه الذكريات عندما أفقت على صوت أبي يصرخ علي من الخارج، لم أجب كعادتي من النداء الأول فأنا لست قليل القدر حتى أجيب سريعا هكذا، عليه أن يفهم أنني أحب التأكيد والدقة دائما في كل امور حياتي، والدقة لا تتأتى إلا بالتكرار، فها أنا ذا أعيد الثانوية العامة للمرة الثالثة لأتأكد أنني فهمتها جيدا، أستيقظ ثم أنام ثلاث مرات قبل أن أفيق تماما لأتأكد أن لا أحلام جديدة، وها أنا ذا انتظر تأكيد نداء أبي لأعلم أنه يريدني أنا ولا يريد أحدا غيري.
أرى في أعينكم سؤالا لكن الخجل يمنعكم من طرحه، سأتولى أنا عنكم الأمر وأطرح سؤالكم ثم أجيبكم عليه، إنكم تتساءلون : وهل في البيت سعيد غيري؟ وسوف ألقي عليكم مفاجأة و أجيبكم وبكل تأكيد، لا يا سادة ... ليس بالبيت سعيد غيري! فجميعهم تعساء، يأكل الشقاء قلوبهم والخوف على مستقبلهم يمنعهم الابتسام، أما أنا .. فلا أكف عن السعادة، ولا أكف عن الابتسام، بل ... لا أكف عن الأحلام.
دعوني أخبركم بأخر حلم حلمت به، ولكنه كالعادة تصادم مع حلم ابي السقيم! لحظة من فضلكم، هل نسيت أن أخبركم ما هو حلم ابي؟! لا بأس، إنه حلم عادي كحلم جميع الآباء، يحلم أن أكون طبيبا مشهورا يعالج الناس على نفقته الخاصة، أرأيتم؟ هل هناك طبيب يفني زهرة شبابه في دراسة الطب ثم يعالج المرضى على نفقته الخاصة؟ لماذا لا يعالجهم على نفقتهم هم ؟ آه تذكرت .. لأنهم سيكونون فقراء! وهل يمرض إلا الفقراء! لذلك أنا لا أحب مهنة الطب، لا أحب أن أرى معاناة غير القادرين على الصمود أو المواجهة، أتالم من أجلهم! ..ثم .. لماذا كل الآباء يحلمون بكلية الطب لأبنائهم ولا يرون لها بديلا؟ اليس في مكتب التنسيق خيارات أخرى! لو أن الجميع أصبحوا أطباء، من الذين سيمرضون ؟!
هه .. ما علينا، هذا باختصار حلم أبي، أما انا فحلمي مختلف، أحلم أن أكون كمحمد صلاح في عالم كرة القدم، او كشادي سرور في الفضاء الإليكتروني، اشعر أنني أشبه إلى حد كبير" مارك زوكربيرغ" لا اعلم في اي شيء اشبهه ولكن قد اكون أخطات الوصف وأن الوصف المناسب لما أريد قوله هو أنني أستحق ان أعيش مثله تلك الحياة الرغدة.
تنحني لي الجباه إذا ما مررت أمامهم، تتسابق الأيادي لتسلم علي، يتهافت الشباب لالتقاط صورة "سيلفي" معي، تحلم البنات أن أرسل إليهن نظرة حتى لو كانت بازدراء.
حلمي بسيط وواقعي، ولا ادري لماذا يسفه الآباء أحلام الأبناء، ألا يرون تلك الأعباء المادية الملقاة على عواتقنا في هذه الحياة، لقد شعرت بالعجز عندما علمت ان " زنوبة" محبوبتي الجميلة خطبت لرجل لا يملك من مقومات الحياة إلا اموالا يتكسبها من ورشة ميكانيكا، لقد فضلت الحمقاء سمكري السيارات على طبيب المستقبل يا ابي .. أرأيت !!
حزنت حزنا شديدا وانا استمع لأصوات زغاريد قادمة من بيتهم الحقير في تلك الحارة القذرة، ولن أخفي عنكم الحقيقة، لقد بكيت كما تبكي النساء، أعلم أنكم ستسألونني عن تلك الحارة، ألم أخبركم أننا كنا نسكن منطقة شعبية قبل ان يرتقي بنا الحال! كان لي فيها صديق اسمه "حسن سألوني" هكذا أطلق عليه الجمهور، فهو مطرب شعبي من طراز حمو بيكا وشاكوش، لكنه كان يحب مطربا شعبيا عتيقا ظهر في التسعينات كان يسمى "حسن الأسمر" وكانت له أغنية حزينة .. بل ..كئيبة تسمى "سألوني" وصاحبنا هذا يعشق الكآبة كعشق قيس لليلى، وكان يتفنن في إبداء التأثر والحذق اثناء الغناء، ولأننا شعب ليس له كتالوج واضح فنعشق الحزن كما نعشق اللهو وتتبدل احوالنا في الدقيقة الواحدة إلى خمسمائة حال، فكان جمهور حسن لا يملون من طلبهم لهذه البكائية، ومجرد أن تنتهي وصلة النكد يهب الجميع يتراقصون على أنغام أغنية جديدة تحمل من السعادة والمرح ما قد يصيبك بالجنون لانقلاب الحال.
وقد كان من بين هؤلاء الأغبياء انا و" كدش" صديقي الصدوق ... إذ كنا نتردد على حسن سألوني لأن له فرقة موسيقية خاصة به ومهندسين صوت من طراز على فيشة وسيد كابل، وكنت وقتها أعد لإخراج أول ألبوماتي الغنائية بعدما اكتشفني حسن واخبرني أن لدي" بحة" في صوتي ستقلب موازين الطرب.
لقد نسيت من جديد وخرجت عن الموضوع الرئيسي الذي كنت أحدثكم فيه. لنعود إذا لقصة "زنوبتي" الجميلة التي كانت تجاور حسن، كانت امرأة تشبه تحية كاريوكا في فيلم "شباب امرأة" جمعت بين الدلال والشراسة، أنوثة طاغية مغلفة بغلاف من الوحشية والبلطجة، كانت تسير في الحارة فتتراقص القلوب على إيقاع" شبشبها" ذو الكعب العالي فتتراقص معه اردافها الممتلئة بإيقاع منتظم، ويتراقص مع كل هؤلاء قلبي الذي لم يحتمل نظرة واحدة منها حتى سقط في شباكها.
أحببتها .. وهي كذلك أحبتني، شعرت بذلك من نظراتها التي تحمل الشيء ونقيضه، فتمنحك وتحرمك في الوقت ذاته، ظللت على هذا الحال ثلاثة أشهر أقضي اليوم كله هناك بصحبة "سألوني"، كتبت فيها شعرا جميلا على أمل أن يكون أول البوم لي من كلماتي، ولكن الذي حدث أن حسن كان يستغلني فأخذ ما كتبت من أغنيات عشقي وهيامي وتغنى بها هو ثم سلط على بلطجية يعملون تحت إمرته هو و زنوبة فمنعوني من دخول الحارة أو حتى المرور بالقرب من المنطقة كلها، وقد كان، حملت أحزاني وآلامي وابتعدت لكنني اتخذت أول قرار في طريق بناء مستقبلي، فقررت أن أعمل ميكانيكي مثل ذلك الذي خطف مني حبيبتي، كان ذلك منذ عامين فأهملت دراستي وعملت شهرا مع ميكانيكي سيارات أرشدني إليه الأستاذ محسن الأخ الاكبر لكدش، كنت أحصل على يومية عشرة جنيهات وأعود لأمي ملطخ الوجه واليدين، ناهيك عن الملابس غالية الثمن التي القيتها كلها في القمامة.
في هذا العام لم أؤد إلا امتحان مادتين وأجلت بقية المواد للعام التالي فحبسني أبي في البيت أسبوعا كاملا.
ها هو ذا أبي يطلق النداء الثاني، أتظنون أنني سأجيب؟ بالطبع لا .. لن أجيب .. عليه أن يؤكد أنه يريدني أنا ولا يريد أحدا غيري، وإن لم يفعل فلن أذهب إليه أبدا ..
ولكن مهلا، ماذا لو كان يريد أن يمنحني بعض المال؟! مصروفي الذي حرمني منه منذ الشهر الماضي! إنه دائما يستخدم سلطته في الضغط علي عندما أطالب بحقوقي، لا فرق بينه وبين الحكومات المستبدة التي تسحق المواطن ثم تلق إليه الفتات ليعيش به بالكاد، وإذا أعلن العصيان وطالب بحقوقه تقمعه، هذا هو أبي، رجل برجوازي، يتحكم في الطبقة العاملة الواقعة تحت سلطته، لا يعرف الفرق بين المجهود العضلي والمجهود الفكري، بل إنه لا يعترف إلا بما يبذله الجبين من عرق تآزرا مع ما يبذله الساعد من جهد، دعوني أقص عليكم قصة المصروف حتى يؤكد أبي طلبه في استدعائي.
أخبرني صديقي العزيز "كدش" أن صديقا له يعمل "يوتيوبر" ويحصل من الفيديوهات التي يعرضها على اليوتيوب أموالا طائلة، جعلته اليوم يمتلك شقة انيقة في حي راق وسيارة حديثة ورصيدا بالبنك، وعندما شاهدت ذلك المحتوى الذي يقدمه وجدت أن الأمر بسيط للغاية، وبأنني أمتلك من المقومات والمواهب ما يجعلني أكثر منه شهرة وثراء.
لم أكذب خبرا وأخذت قراري فورا وهو أن أكون "يوتيوبر" وبدأت بالفعل، أنشأت قناة واعدت المحتوى، لم يكن التصوير والمونتاج بالأمر الصعب فلدي خبرة لا بأس بها في هذا الأمر.
بقي لي مكان التصوير وهذا لم يكن صعبا أيضا، فليس أفضل من بيتنا ابث منه افكاري البناءة. اشتريت بعض الاكسسوارات التي ستعينني على تغيير شكلي في الأدوار المختلفة التي أقوم بها، فكنت أمثل دور الأب والام والابن والبنت، أما صديقي كدش فكان هو المصور والمخرج.
اخترت يوما أكون فيه وحيدا بالبيت، وهذا اليوم ثابت كل أسبوع تذهب فيه أمي وأختي لزيارة زوجة عمي بصورة دائمة لطيب العلاقات بينهم.
لم يمهلنا القدر طويلا، فلم نتمكن إلا من تصوير حلقتين وفي الثالثة ضبطنا أبي أنا وكدش في وضع مخل من وجهة نظره فظن بنا سوء وجرى خلفنا بعصاه التي يتوكأ عليها ولم يسمح بدخولي البيت إلا بعد أن أكدت له أن ما رآه مني وأنا أرتدي ملابس إسراء وباروكة شعر نسائية ما كان إلا لتصوير حلقة جديدة أوضح فيها معاناة البنت المصرية في المجتمع الذكوري الشرقي وحرمانها من أبسط حقوقها.
استغرق الأمر وقتا طويلا حتى اقتنع أبي ببراءتي مما ظنه فيَّ قضيت معظمه في بيت عمي الأوسط الذي لم يتوانى عن تقريعي وتوبيخي، وبالطبع فقد انقسمت العائلة إلى قسمين مؤيد ومعارض، وطبيعي أن من أيدني هم أبناء جيلي الذين لهم نفس تطلعاتي وأحلامي، أما المعارضين فكانوا أهل السلطة ومن بيدهم تقرير مصائرنا دون مراعاة اننا نحن من سنعيش هذا المصير.
عدت إلى البيت محروما من كل شيء، لا خروج ولا مصروف ولا نت ولا يوتيوب .. كان أبي متسلطا ولم أشأ أن أخالفه، فأنا ما زلت أحبه واحترم رغبته في توفير مستقبل هو يراه الأفضل بالنسبة لي.
على أية حال فإن صديقي الصدوق لم يتركني محروما هكذا من كل شيء، وإنما قدم لي الحل السحري الذي سيحقق لي كل آمالي وأحلامي، وبالفعل كدت أصل وأحضر تلك الجنية التي تدعى "تيتيس"، نعم هذا هو اسمها المكتوب في الكتاب الذي أعطانيه كدش لأتعلم منه كيفية تحضير الجن كما يقرأ هو دائما في الروايات ويشاهد في الأفلام الأجنبية. ولكن سحقا لتلك الحمقاء التي استولت على أملي الوحيد في النج..
مهلا .. أتسمعون ..
_ انت يا زفت يا اللي اسمك سعيد !
أسمعتم .؟! ها هو ذا أبي يؤكد طلبه في استدعائي، سأذهب إليه .. ولكن .. ماذا سأقول له عن الكتاب؟ .. لماذا أنا متوتر هكذا ..لا مفر من المواجهة .. سأذهب وأمري إلى الله.
خرجت مسرعا من الغرفة لأجد أبي وأمي ويسرا متحلقين حول طاولة الطعام فجلست مسرعا وبدأت في الالتهام دون النظر إلى أبي أو السؤال عما كان يريده.
رحت أتكلم والطعام يملأ فمي فتتناثر بقاياه في وجوههم، وأمي تزغر لي بعينيها حتى أنتبه لحماقتي، أما يسرا فقد وضعت يدها على فمها تكتم ضحكة خبيثة لتوقعها بما سيفعله أبي معي.
قلت وأنا لا آبه لهما:
_نعم يا بابا حضرتك بتندهلي
نظر إلي شزرا وقال بقرف
_ابلع اللي ف بوقك الأول وبعدين اتكلم
ازدرت ما كان في فمي بصعوبة لكثرته حتى كدت أفطس فلحقتني أمي الحنونة بكوب ماء فشربته كله لآخر قطرة ثم تجشأت بصوت عال وقلت
_نعم يا بابا حضرتك عاوز إيه
سكت مدة وهو يرمقني بنظرة تحمل كل معاني اليأس والإحباط والنفور ثم قال وهو يمد يده أسفل الطاولة
_مش عاوز اشوف وشك
ثم اخرج يده حاملا فيها فرد ة من شبشبه الجلد ذو النعل الثقيل وكاد أن يصيبني في وجهي لولا أنني تفاديته وهو يقول
_قوم يا ابن الكلب مش عايزك تقعد تاكل معايا على سفرة واحدة
قمت مسرعا واختبأت في غرفتي وأنا أتعجب من ثورته التي لا أرى لها مبررا، وأثناء ذلك لمحت بطرف عيني الكتاب السحري وسط أشيائي المبعثرة في وسط الغرفة فالتقطته وأنا سعيد، فلا يزال الامل أمامي لتحقيق حلمي، سأحضّر "تيتيس" وأحقق أحلامي كلها . ثم انتبهت لحظة وتساءلت في بلاهة،
تُرى ماهو الشيء الذي وجدته تلك الحمقاء وتخشى أن تريه أمي لأبي ؟!
#أمل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى