السي حاميد اليوسفي - في الحي جنازة...

سمعت هند عويل النساء يعلو من وسط الدرب.. ارتفاع العويل واستمراره يوحي بأن شخصا عزيزا قد رحل إلى العالم الآخر.. عادت إلى البيت، وارتدت الجلباب بدل الكسوة التي تكشف عن فخديها.. استفسرت امرأة من الجيران قبل أن تدخل لتقديم العزاء.. غطّت شعرها بقُبّ الجلباب، وعانقت أم الفقيد ثم أخته.. جلست لبعض الوقت، تتبادل البكاء والحديث مع النساء..
بعد استيعاب الصدمة، بدأ أهل المرحوم الاتصال بالأقارب ثم الأصدقاء.. إذا كان أحد الأبناء يقطن بمدينة بعيدة أو في الخارج فلا بد من إخباره. ويمكن تأجيل الدفن حسب وزن الغائب، ومدى قربه من الفقيد.. سي عمر كبير العائلة اتصل بالبلدية. بعد وقت معين قد يطول أو يقصر، سيحضر الممرض الذي يفحص الجثة، ويُسلم رخصة الدفن إذا تبين بأن الوفاة كانت عادية.. ولا بد بعد ذلك من تحديد مكان القبر بجوار قبور العائلة.. البعض يعتقد بأن الناس تسأل عن بعضها حتى بعد الموت.. لا أحد يستطيع أن يُنكر أو يثبت بأن الموتى لا يسألون عن أحوال ذويهم الذين لازالوا على قيد الحياة..
ولد أمي هنية مُلم بغسل الأموات.. يزاول هذا العمل بقلب جامد، ويتقاضى عليه أجرا.. لا بد أن يذهب إلى المسجد، ويأخذ المرفع الذي سيُحمل عليه النعش، ويطلب من أهل الفقيد التنسيق مع الإمام حول وقت الصلاة على الميت..
حانت اللحظة العصيبة.. خرجت الجنازة من البيت.. بدأ صراخ النساء يتصاعد إلى السماء. بعضهن يندبن، ويتمرغن في الأرض. منع الرجال امرأة من اعتراض النعش.. قد تكتري الأسر الميسورة نادبات يُشعلن نار الحزن في القلوب القاسية، ويجعلن العيون تدمع ولو لحين.. في الأحياء الشعبية الجارات تقمن بهذا الدور مجانا.
قالت زوجة صاحب الفرن لامرأة تجلس بجوارها:
ـ سعيدة زوجة المرحوم تتظاهر بالحزن، بالكاد تسقط دمعة من عينيها.
ردت عليها المرأة بحزم:
ـ الرجل كان ميؤوسا من علاجه.. تخيلي نفسك مكانها. سعيدة لازالت في مقتبل العمر، وألف من يتمناها!؟
كان عبده جالسا أمام الدكان يشرب الشاي، ويتحدث مع سي علي النجار.. اقتربت منهما الجنازة التي خرجت من مسجد الحي.
أمسك سي علي عن العمل، ونهض عبده من فوق الكرسي.. توقف سائقو الدرجات الذين يسيرون في الاتجاه المعاكس. عم الصمت المكان.. علم عبده أن المتوفى هو الطاهر تاجر المواد الغذائية. الناس الذين ظهروا بعد النعش عرف بأنهم أقرباؤه، وخلفهم المعزون وبعض الفضوليين..
بالأمس كنتَ تسمع من يسير خلف الجنازة يُردد بصوت عال: (مولانا نسعى رضاك/ على بابك واقفين/ لا من يرحمنا سواك/ يا أرحم الراحمين).. حتى يصل إلى باب المقبرة. كان الناس في الحي يسمعون هذا النداء فيتوقفون عن الحركة، ويتبعون النعش..
أحاط عبده مع المشيعين بالقبر.. انتهى المكلفون من نقل الجثمان إلى الحفرة، ثم ردمها بالتراب.. لم ينسوا وضع حجرتين كبيرتين واحدة فوق الرأس، والأخرى فوق الرجلين.. اعتقد عبده بأنهم يخشون أن يستيقظ الميت، ويخرج من القبر، ويُحدث الهلع بين الناس. تم رش القبر بماء الزهر، وتقدم شخص ملتح وألقى خطبة مملة حول عذاب القبر، ختمها بقراءة الفاتحة، وقبض أجره..
عاد أهل الفقيد إلى باب المقبرة، واصطفوا بالقرب منه، ومر عبده مع الناس من أمامهم، وقدم التعازي..
في المساء أقاموا عشاء رسميا صدقة للمرحوم.. جلس عبده بالقرب من فريق حفظة دلائل الخيرات.. لاحظ أنهم يزاوجون بين تلاوة القرآن الكريم، وإنشاد بعض المدائح الدينية، وترديد الأدعية.. بقي يتابع المشهد بكل خشوع. وبين الفينة والأخرى يرشهم أهل البيت بماء الزهر، فيفتح كل واحد كفيه، ويمسح بهما وجهه وجبينه. بعد تناول الحلوى، وشرب الشاي، حان وقت العشاء.. هذا الفريق له تقاليد خاصة في الأكل، ويتجنب الناس الجلوس معهم على نفس المائدة.. ظل عبده يتابع حركاتهم وهم يتناولون العشاء، وكيف يأخذون بين الحين والآخر قطعة من اللحم، ويضعونها مع المرق في كيس أبيض من البلاستيك. وعندما ينتهي حفل العزاء غالبا ما تجدهم واقفين أمام الباب يقتسمون الحصة التي تكفل بجمعها رئيس الفرقة. الأجر الذي قدمه أهل الفقيد، وما تبرع بعض المعزين مقابل دعوات لهم ولأبنائهم وآبائهم وأجدادهم..
عبده هربت نفسه من الطعام.. تذكّر وصف الخطيب للناس الذين حادوا عن الطريق المستقيم، وكيف يُعلقهم الله من أشفار عيونهم يوم الحساب.. أفزعته الصورة .. عبده قلبه هش، سريع العطب. حاول طرد الصورة من ذهنه، لكنه لم يفلح. كلما وضع مضغة في فمه، تخيل جماعة من النساء والرجال خرجوا عن الطريق المستقيم مُعلقين من أشفار عيونهم تحت عمود طويل مربوط في السماء. عيونهم تنزف دما يسيل على أجسادهم العارية.. تبدو وجوههم زرقاء داكنة تستعطف الرحمة والغفران، وتُقابل بالعبوس والجحود.. عندما ذهب إلى البيت لم ينم ظلت صورة الجماعة المعلقة من أشفار عيونها ترتسم في خياله، وتتخذ في كل مرة شكلا معينا.. لعن الخطيب والشيطان معا، لكن دون جدوى، كان قد فات الأوان.

مراكش 25 يوليوز 2024

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى