عبيد عباس - ما يجعل الشعر شعرًا...

يقول بورخيس إن محاولة تعريف الشعر تشبه محاولة تعريف مذاق القهوة أو لون الوردة, نعم، هذا كلام دقيق، فلا يمكن تعريف الشعر, لكن يمكن التعرّف عليه, يمكن التعرّف عليه بما فيه مما يحدث فينا من الدهشة والشعور بالجميل المغاير, وبما فينا من التجربة والخبرة المشتركة، نقول هذا شعر كما نقول، عند تذوق القهوة، هذه قهوة, هكذا بلا تفسير. وأنا، من خلال تجربتي المتواضعة، كقارئ أولًا وكشاعر ثانيًا، لا أقول أستطيع تعرّيف الشعر، ولكن بالمقاربة، وبإجابة سؤال كان قد طرحه أحد الأصدقاء, عما يجعل الشعر شعرًا عندما قلت: الشعر يكون بدرجة ابتعاده عن الإخباري النثري واقترابه من الديناميكي الجمالي، ولا أقصد بالنثري هنا غير الموزون, ولكنه الكلام الواضح والمنطقي في دلالاته؛ لأن هدف النثر، فيما أرى، هو تقديم المعنى واضحًا بينما هدف الشعر هو تقديم المعنى جميلًا.
وعندما أذكر الوضوح فلا أقصد البساطة، فهي مما يميّز الشعر العظيم، ولكن أقصد به إبداء المقصود بلفظ حسن ومنطق فصيح معبّر لا لبس فيه، فلا أوضح، في النثر، من أن يقول الإنسان الحزين: أنا حزين، لا يحتاج المعنى، هنا، كمعنى أيّة إضافة، ولكن الشعر غير مشغول بالمعنى، أو لنقل إن وجوده متعلّق بإضافةٍ ما إلى المعنى، وهو الجمالي؛ لذلك فالشاعر الذي يشعر بالحزن يتجاوز التعبير عن الحزن وهو أوضح ما يكون في قوله: أنا حزين، إلى البحث عن صيغة مختلفة عن التعبير، معيارها الوحيد هو الجمال, فعندما أراد المتنبي، مثلًا، أن يقول لعضد الدولة: اعلم أنني مهما سافرتُ سأعود إليك؛ لأنني تابع لك، تجاوز هذا المعنى الواضح المألوف المُتوقع وغير المُنتظر, لأنه متاح في النثر عند الإنسان العادي, إلى الجميل والذي هو غاية الشعر، لذلك فالمتنبي، لأنه شاعر، وضع هذا المعنى الواضح في صيغة مغايرة جميلة؛ فقال: وما أنا غير سهمٍ في هواءٍ يعود ولم يجد فيه امتساكا.
ولأن هذا الكلام يحيلنا، رغمًا عنّا، إلى قضية الشكل التي لا أريد إعادة الكلام المعروف فيها، فأنا مضطر إلى أن أقول بداية أنني لا أميل إلى التقسيم المعروف للكلام بأنه نثر وشعر وقرآن؛ لأن هذا التقسيم متعلق, وربما كان صالحا, بلحظة زمنية معينة عند العرب الذين ما كانوا يعرفون من الكلام سوى النثر والشعر والقرآن )كان الكلام, قبل نزول القرآن, مقسّمًا إلى نثر وشعر وسجع كهان( لأن هذا التقسيم يجعلنا نضع كل ما هو ليس شعرًا وقرآنًا في مستوى واحد, وهو ما نسميه نثرًا، لكن الحقيقة أن الكلام, بتعدّد أشكال الإبداع, أصبح متفرعًا, فالكتابة العلمية تختلف, في أسلوبها, عن المقال .. الرواية .. المسرح .. إلخ, بل ويجعلنا نرتبك عند تصنيف القصيدة النثرية التي لا هي نثر كما نفهم النثر ولا هي شعر كما نفهم الشعر.
لكن الأدق، بحسب تصوّري، أن نقول إن كل هذا، القرآن والشعر وغيرهما، كلام، وبحسب القيود يرتفع هذا الكلام, إلى مستوى آخر؛ فبقيود معينة كان، ولا زال، القرآن مختلفًا عن الشعر وعن الكلام العادي، بقيود أخرى يصبح الكلام مقالة أو مسرحًا، أو شعرًا. وأقول قيد؛ لأن الفن، أي فن، لا يكون فنًّا إلا بقيود, من المشي العادي إلى الرقص، من الكلام إلى اللحن، من الصخرة إلى التمثال، وكذلك الوزن والقافية، وحتى البساطة, عكس ما يتوهّم البعض, لا تعنى التخلّي عن القيد، وهذا متعلق بما قلته في البداية من أن هدف الفن ليس إرسال المعنى للمتلقي، فهذا دور الكلام العادي، ولكن إرساله في صيغة جميلة أو مؤثرة.
فما هي القيود التي ترتفع بالكلام إلى مستوى الشعر؟
لا أعرف الإجابة، ولا يهمّني معرفتها، لأن معرفتها تجعلني جازمًا بمعنى الشعر، فما يهمني هنا هو أننا لو سلّمنا بأن هذه القيود هي التي ترتفع بالكلام إلى مستوى الشعر، وأن هذه القيود عددها س، منها، وهذه فقط أمثلة، مجاز، استعارة، كناية، تشبيه، تكثيف، بساطة، انسجام .. إلخ، فلابد أن نسلّم بأن الوزن والقافية من هذه القيود التي تصنع الشعر، وما دامت من القيود، وليست القيد الوحيد الذي يفصل الشعر عن النثر، فهي كأي قيد آخر، كالصورة مثلًا، توجد ولا توجد بحسب احتياج النص .. وللحديث بقية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...