تحت سماء ذات لون دخاني كثيف وشمس على وشك الغروب، هبطتْ الطّائرة في مطار مدينة صوفيا.
لم أكنْ أحمل سِوى حقيبة صغيرة وجهاز كمبيوتر كانا معي على متن الطائرة، لذا اتجهتُ مباشرة صوب محطة المترو التي تبعد أمتار قليلة عن المطار.
وأنا أقرأ أسماء المحطات على الشّاشة داخل المترو، قطع عليّ أفكاري رجل مسّن كان يجلس قبالتي حينما سألني:
- هل أنت السيد فاسيل يوردانوف؟.
نفيتُ بهزة من رأسي قائلا:
- لا. لست هو!.
استأنف حديثه قائلا بثقة بعد أن رفع قبعته قليلاً:
- اعتقدتُ لأول وهلة أنك هو مع أن يوردانوف لديه جرح أعلى جبينه. لا أخفيكَ سرًا، بقي هذا الجرح يسبب له حرجًا خاصة أمام النساء.
غادرتُ محطة المترو لاتجه يمينًا نحو فندق سليفنتسا، وقفت أمام الفندق أحدق فيه، لا شيء تغير سوى واجهته التي طُليت بلون أخضر داكن بينما في الماضي كان سماويًا.
هتفتْ موظفة الاستقبال حالما رأتني مقبلاً نحوها:
- يا إلهي، كم تشبه عمي الكولونيل بيتر!.
- وكيف حاله الآن؟. سألتها مبتسمًا ونبرة مزاح واضحة في صوتي.
- لقد مات قبل عامين في حادث سيارة وهو في طريقه إلى مدينة سالونيك.
- أنا آسف سيدتي!.
- شكرًا. هل لي بجواز سفرك؟.
- تفضلي.
- اسمك مختار العادل؟.
كانت تنطق حروف اسمي بصعوبة بالغة، أجبتها:
- نعم.
وهي تسلمني جواز سفري، قالت بعد تنهيدة عميقة:
- يا إلهي، لولا شامة كانت على خده لقلت إنك هو!.
ثم أعطتني ظهرها العريض لتجلب لي مفتاح الغرفة.
ابتسمتُ مبررًا لنفسي أن الصدفة قد تتكرر في اليوم الواحد أكثر من مرة.
في الغرفة التي استأجرتها، ثمة لوحة لسيدة ترتدي قبعة ذات حاشية من السّاتان الأسود تحمل بيدها باقة من زهور البيجونيا الصفراء. شعرتُ وأنا أتأمل اللوحة بحزن مفاجئ، سألتني العاملة:
- هل أنت بخير؟.
لم أرد وطلبتُ منها جلب القهوة إلى الغرفة، وهي تهم بفتح الباب، استدارتْ ببطءٍ رافعة نظارتها الطبية تحاول تذكر شيء ما، قالت:
- تبدو كثير الشبه بجاري ياكوف الغجري!.
- ماذا حصل لجارك الغجري؟. سألتها وبوادر غضب بدأت تنمو داخلي.
أومأت بيدها كإشارة لشيء مضى وقالت:
- لقد غادر بلغاريا منذ الخريف الماضي. قال أنه سيعمل في شركة لتنظيف البيوت في ألمانيا. قطتي بيلا تفتقده كثيرًا. في الحقيقة، أنا أيضًا أفتقده.
خرجتُ ولم تذكر ما يميزه عني.
وأنا أحاول النوم تلك الليلة، اقنعت رأسي الذي بدأ يعمل في كامل طاقته، إن ذلك وارد الحصول مادام يوجد لكل إنسان أربعون شبيه!.
استيقظتُ في اليوم الثاني وضباب كثيف غطى أسطح البنايات إما دخان المواقد كسا السّماء بلون رصاصي غامق فولّد لدي شعور غريب من أنني في عالم آخر، قلت لنفسي: يا لغبائي، كل بلد هو عالم آخر!.
وأنا أهبط السُّلم، تنحيت جانبًا لأسمح بمرور سيدة خمسينية شبه صلعاء تحمل في يدها مطرية. انتظرتُ أن تحدثني عن شخص يشبهني، الغريب أنها لم تفعل!.
وأنا أحتسي النّسكافيه جالسًا في إحدى زوايا مقهى الأورلوف موست وسط العاصمة صوفيا، شعرت بيدين تطوقاني من الخلف وأنفاس دافئة استقرتْ فوق عنقي وصوت ناعم يسألني:
- احزر من أنا؟.
إنها كوثر، صديقتي المغربية، استغربتْ كيف لم انتبه لوجودها حينما مررتُ من جنبها في المقهى.
كوثر كانت تحدثني عن عملها الجديد في شركة اتصالات وعن الأجر المرتفع الذي تتقاضاه، فجأة قطعتْ حديثها لتسألني:
- ما الذي تغير فيك منذ آخر مرة رأيتك فيها؟. ثم وهي تضيق عينها و تقرّب ما بين حاجبيها هتفتْ:
- آوه .. أصبحتْ تشبه ابن عمي خالد!.
اندهشتُ متذكرًا خالد البدين!.
- هل تغيرتُ إلى هذا الحد؟!.
- كثيرًا، لولا أنه ..
- لولا ماذا؟.
- لا شيء لا شيء.
استأذنتْ في الانصراف بعد حضور صديقتها ودعتني لزيارتها في بيتها الجديد.
تركتُ المقهى ورحت أجوب الشّوارع متسائلاً وأنا أنظر إلى إنعكاس صورتي في الواجهات الزجاجية: هل كل شيء يصادفنا في الحياة سيأتي جديد ويذكرنا به؟.
عند الغروب، جلستُ على إحدى المقاعد تحت تمثال قديسة الحكمة ماريا لويزا. الفراغ بين الأرض والسّماء تلون بالأحمر جراء إنعكاس نور المصابيح على الثلج، شعرت كأنني الوحيد من يواجه الليل في هذه المدينة ذات الألوان الغريبة !.
أيقظني من شرود خيالاتي صوت امرأة عندما قالت:
- إنها ليلة مثالية لعاشق!.
التفتُ صوب امرأة تضع قبعة صوفية غطتْ معظم جبينها. إنها ألفيرا حبيبتي السّابقة.
- ألفيرا !.
رددتُ اسمها كأن صوتي يخرج من عمق الظلام.
- موكتار، أكاد لا أصدق عيني !.
احتضنتني بقوة. كانت تشبه الوميض ساعة الغروب. أنفاسها بعثتْ الدفء في جسدي.
- متى عدت؟. سألتني بحماس طفولي.
- ليلة البارحة. أجبتها وسعادة غريبة حلتْ في قلبي.
- الجو شديد البرودة هنا، لنذهب إلى بيتي.
جلستُ القرفصاء قرب الموقد. كأس النّبيذ الأحمر في يدي أعاد ذكريات الليالي السّاخنة التي قضيناها معًا. سألت نفسي: هل ما زلتُ أحبها ؟.
خرجتْ ألفيرا من غرفة نومها مرتدية ثوبًا أرجواني اللون مخرمًا عند نهايته وحينما جلستْ قبالتي بانتْ ساقاها العاجيتان بعد أن مددتهما على الأرض. سألتني:
- كيف هي الحياة في بغداد؟.
سؤالها كان يخبئ بين حروفه عتبًا، أجبتها وأنا أحاول أن أبيّن شيئًا في نفسي:
- ظننت أنني حينما أعود إلى بلدي، سأجد نفسي، المؤلم في الأمر أنني كنت أصحو من النوم لأجد رجلاً يشبهني لكنّه ليس أنا !.
ألفيرا كانت تصغي باهتمام وهي تمسد شعر كلبها البنّي. استأنفتُ حديثي بعد لحظة صمت احتسيتُ فيها قليلاً من النّبيذ:
- كنت أظن أنني سأنسى الحياة هنا وظننت وكنت مخطئا أنني حينما أعود إلى صوفيا سأنسى الحياة هناك.
- حقًا؟!. وكيف ذلك؟!. سألتني
- لأن القديم قد أخذ مكانه الطبيعي في خرائط عقولنا.
استيقظتُ عند الفجر لأجد نفسي نائمًا على الأرض عاريًا من الملابس وآلفيرا إلى جانبي ممددة بجسد عاجي اللون وعند قدميها يرقد كلبها.. نظرت مطولا إلى المرأة التي ضاجعتا ليلة البارحة وكأنها لم تكن آلفيرا التي أعرفها.
عندما خرجت كان النور قد بدأ ينتشر على الأسطح القرميدية الحمراء فبدتْ لامعة كأنها مشهد من حلم جميل.
أخذ المطر ينهمر بقوة حينما وصلت إلى الفندق، أبوابه كانت مشرعة على غير العادة في مثل هذا الوقت، ارتقيتُ السّلالم التي بللها معطفي. لم أحاول تنظيف المرآة التي وجدتها معلقة في منتصف الممر، بل اقتربت منها لأجد صورة رجل يشبهني، لكنّه ليس أنا.
لم أكنْ أحمل سِوى حقيبة صغيرة وجهاز كمبيوتر كانا معي على متن الطائرة، لذا اتجهتُ مباشرة صوب محطة المترو التي تبعد أمتار قليلة عن المطار.
وأنا أقرأ أسماء المحطات على الشّاشة داخل المترو، قطع عليّ أفكاري رجل مسّن كان يجلس قبالتي حينما سألني:
- هل أنت السيد فاسيل يوردانوف؟.
نفيتُ بهزة من رأسي قائلا:
- لا. لست هو!.
استأنف حديثه قائلا بثقة بعد أن رفع قبعته قليلاً:
- اعتقدتُ لأول وهلة أنك هو مع أن يوردانوف لديه جرح أعلى جبينه. لا أخفيكَ سرًا، بقي هذا الجرح يسبب له حرجًا خاصة أمام النساء.
غادرتُ محطة المترو لاتجه يمينًا نحو فندق سليفنتسا، وقفت أمام الفندق أحدق فيه، لا شيء تغير سوى واجهته التي طُليت بلون أخضر داكن بينما في الماضي كان سماويًا.
هتفتْ موظفة الاستقبال حالما رأتني مقبلاً نحوها:
- يا إلهي، كم تشبه عمي الكولونيل بيتر!.
- وكيف حاله الآن؟. سألتها مبتسمًا ونبرة مزاح واضحة في صوتي.
- لقد مات قبل عامين في حادث سيارة وهو في طريقه إلى مدينة سالونيك.
- أنا آسف سيدتي!.
- شكرًا. هل لي بجواز سفرك؟.
- تفضلي.
- اسمك مختار العادل؟.
كانت تنطق حروف اسمي بصعوبة بالغة، أجبتها:
- نعم.
وهي تسلمني جواز سفري، قالت بعد تنهيدة عميقة:
- يا إلهي، لولا شامة كانت على خده لقلت إنك هو!.
ثم أعطتني ظهرها العريض لتجلب لي مفتاح الغرفة.
ابتسمتُ مبررًا لنفسي أن الصدفة قد تتكرر في اليوم الواحد أكثر من مرة.
في الغرفة التي استأجرتها، ثمة لوحة لسيدة ترتدي قبعة ذات حاشية من السّاتان الأسود تحمل بيدها باقة من زهور البيجونيا الصفراء. شعرتُ وأنا أتأمل اللوحة بحزن مفاجئ، سألتني العاملة:
- هل أنت بخير؟.
لم أرد وطلبتُ منها جلب القهوة إلى الغرفة، وهي تهم بفتح الباب، استدارتْ ببطءٍ رافعة نظارتها الطبية تحاول تذكر شيء ما، قالت:
- تبدو كثير الشبه بجاري ياكوف الغجري!.
- ماذا حصل لجارك الغجري؟. سألتها وبوادر غضب بدأت تنمو داخلي.
أومأت بيدها كإشارة لشيء مضى وقالت:
- لقد غادر بلغاريا منذ الخريف الماضي. قال أنه سيعمل في شركة لتنظيف البيوت في ألمانيا. قطتي بيلا تفتقده كثيرًا. في الحقيقة، أنا أيضًا أفتقده.
خرجتُ ولم تذكر ما يميزه عني.
وأنا أحاول النوم تلك الليلة، اقنعت رأسي الذي بدأ يعمل في كامل طاقته، إن ذلك وارد الحصول مادام يوجد لكل إنسان أربعون شبيه!.
استيقظتُ في اليوم الثاني وضباب كثيف غطى أسطح البنايات إما دخان المواقد كسا السّماء بلون رصاصي غامق فولّد لدي شعور غريب من أنني في عالم آخر، قلت لنفسي: يا لغبائي، كل بلد هو عالم آخر!.
وأنا أهبط السُّلم، تنحيت جانبًا لأسمح بمرور سيدة خمسينية شبه صلعاء تحمل في يدها مطرية. انتظرتُ أن تحدثني عن شخص يشبهني، الغريب أنها لم تفعل!.
وأنا أحتسي النّسكافيه جالسًا في إحدى زوايا مقهى الأورلوف موست وسط العاصمة صوفيا، شعرت بيدين تطوقاني من الخلف وأنفاس دافئة استقرتْ فوق عنقي وصوت ناعم يسألني:
- احزر من أنا؟.
إنها كوثر، صديقتي المغربية، استغربتْ كيف لم انتبه لوجودها حينما مررتُ من جنبها في المقهى.
كوثر كانت تحدثني عن عملها الجديد في شركة اتصالات وعن الأجر المرتفع الذي تتقاضاه، فجأة قطعتْ حديثها لتسألني:
- ما الذي تغير فيك منذ آخر مرة رأيتك فيها؟. ثم وهي تضيق عينها و تقرّب ما بين حاجبيها هتفتْ:
- آوه .. أصبحتْ تشبه ابن عمي خالد!.
اندهشتُ متذكرًا خالد البدين!.
- هل تغيرتُ إلى هذا الحد؟!.
- كثيرًا، لولا أنه ..
- لولا ماذا؟.
- لا شيء لا شيء.
استأذنتْ في الانصراف بعد حضور صديقتها ودعتني لزيارتها في بيتها الجديد.
تركتُ المقهى ورحت أجوب الشّوارع متسائلاً وأنا أنظر إلى إنعكاس صورتي في الواجهات الزجاجية: هل كل شيء يصادفنا في الحياة سيأتي جديد ويذكرنا به؟.
عند الغروب، جلستُ على إحدى المقاعد تحت تمثال قديسة الحكمة ماريا لويزا. الفراغ بين الأرض والسّماء تلون بالأحمر جراء إنعكاس نور المصابيح على الثلج، شعرت كأنني الوحيد من يواجه الليل في هذه المدينة ذات الألوان الغريبة !.
أيقظني من شرود خيالاتي صوت امرأة عندما قالت:
- إنها ليلة مثالية لعاشق!.
التفتُ صوب امرأة تضع قبعة صوفية غطتْ معظم جبينها. إنها ألفيرا حبيبتي السّابقة.
- ألفيرا !.
رددتُ اسمها كأن صوتي يخرج من عمق الظلام.
- موكتار، أكاد لا أصدق عيني !.
احتضنتني بقوة. كانت تشبه الوميض ساعة الغروب. أنفاسها بعثتْ الدفء في جسدي.
- متى عدت؟. سألتني بحماس طفولي.
- ليلة البارحة. أجبتها وسعادة غريبة حلتْ في قلبي.
- الجو شديد البرودة هنا، لنذهب إلى بيتي.
جلستُ القرفصاء قرب الموقد. كأس النّبيذ الأحمر في يدي أعاد ذكريات الليالي السّاخنة التي قضيناها معًا. سألت نفسي: هل ما زلتُ أحبها ؟.
خرجتْ ألفيرا من غرفة نومها مرتدية ثوبًا أرجواني اللون مخرمًا عند نهايته وحينما جلستْ قبالتي بانتْ ساقاها العاجيتان بعد أن مددتهما على الأرض. سألتني:
- كيف هي الحياة في بغداد؟.
سؤالها كان يخبئ بين حروفه عتبًا، أجبتها وأنا أحاول أن أبيّن شيئًا في نفسي:
- ظننت أنني حينما أعود إلى بلدي، سأجد نفسي، المؤلم في الأمر أنني كنت أصحو من النوم لأجد رجلاً يشبهني لكنّه ليس أنا !.
ألفيرا كانت تصغي باهتمام وهي تمسد شعر كلبها البنّي. استأنفتُ حديثي بعد لحظة صمت احتسيتُ فيها قليلاً من النّبيذ:
- كنت أظن أنني سأنسى الحياة هنا وظننت وكنت مخطئا أنني حينما أعود إلى صوفيا سأنسى الحياة هناك.
- حقًا؟!. وكيف ذلك؟!. سألتني
- لأن القديم قد أخذ مكانه الطبيعي في خرائط عقولنا.
استيقظتُ عند الفجر لأجد نفسي نائمًا على الأرض عاريًا من الملابس وآلفيرا إلى جانبي ممددة بجسد عاجي اللون وعند قدميها يرقد كلبها.. نظرت مطولا إلى المرأة التي ضاجعتا ليلة البارحة وكأنها لم تكن آلفيرا التي أعرفها.
عندما خرجت كان النور قد بدأ ينتشر على الأسطح القرميدية الحمراء فبدتْ لامعة كأنها مشهد من حلم جميل.
أخذ المطر ينهمر بقوة حينما وصلت إلى الفندق، أبوابه كانت مشرعة على غير العادة في مثل هذا الوقت، ارتقيتُ السّلالم التي بللها معطفي. لم أحاول تنظيف المرآة التي وجدتها معلقة في منتصف الممر، بل اقتربت منها لأجد صورة رجل يشبهني، لكنّه ليس أنا.