“ذراعي لن تمسك ذراعك أبداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل مُحزن؛ فأغرق في اليأس. أريد عبر عينيَّ المخلصتين بالدموع حيث يُقاس مدى الحب، وأمام الهاوية المظلمة حيث يتأرجح كل شيء، أريد، أريد أن أرى، تحت جفنيك اللذين بقيا مغلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، أريد أن أرى من جديد ابتسامتك الرائعة” (سوزان، ص: 298).
بعد أعوام من رحيل عميد الأدب طه حسين، “أرسلت” سوزان إليه الرسالة السابقة، الرسالة التي كانت الأجمل من بين كل ما كتبت سوزان إلى طه حسين من رسائل كثيرة، بل هي أجمل من رسائل طه نفسه إليها. رسالة تختزل طاقة الحب وصدقه، وعنفوانه، وتشف عن مقاومة اندمال، أو تقادم، جرح الموت المغري بالصمت والنسيان.
***
في “معك”، تُطوِّع سوزان طه حسين الذاكرةَ واللغة لاحتواء وكتابة التوترات الكامنة بين الذات وما عاشته، وعاشها عميدُ الأدب طه حسين، من ذكريات الحب والأمل، وعبء الاختيار، والحوادث المفجعة، والحياة الشخصية، والمرض، والإحباطات. كما تسعى إلى اختزال الأزمنة والسياقات؛ الماضي بتجذراته وعمق تأثيره في روحها؛ لحظة اللقاء الأول في مونبلييه، سبر كنه الأماكن الأولى وذخائرها، جذوة الشباب، الأسماء، الأشخاص. ثم الحاضر حيث كل شيء اكتسى سديم الموت، والشحوب.
وبذا، فإنَّ هذا النص -الذي تخطى المسارَ الكرونولوجي للأحداث في كثيرٍ من محطاته- جاء ليمثل مدخلاً مهمًّا لدراسة طه حسين، والولوج نحو بعض الجوانب الخفية من حياته؛ فهذا النص يستمد مادته من داخل الماضي المنسي أحياناً والخاص، ومن داخل الإيمان المطلق بأن الحب قبل كل شيء هو فعل الاستمرار، والتحدي ضد قدرة الزمن وقوته.
***
بدأتْ سوزان كتابة مذكراتها (ترجمة بدر الدين عرودكي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1982م) في 9 يوليو 1975، أي بعد عامين من وفاة طه حسين 28 أكتوبر 1973م. فكان عليها أنْ تقتفي آثارهما في أكثر الأماكن باعثاً على الذكرى والحنين والألفة: “الدولوميت” و”جاردونيه”، و”جنوة”، و”كورنيش المعادي”، ومدن أخرى حيث كانا يقضيان بعض أصياف ربيع الحب، والحياة. كان عليها أنْ تمشي مرة أخرى -ولو حلماً- في شارع المينا، ورمسيس، وتعبر نحو “بيت أبوجرج”، حيث سكنا. كان عليها أيضاً أن تبحث عنه في رائحة غرفته البسيطة التي كان يسكنها يوم كان طالبا في الأزهر، والأهم من كل ذلك، كان عليها أن تستعين بــ”الرامتان” لتستعيد قدرتها على البوح والمكاشفة والحلم.
فكلُّ هذه الأماكن، التي غدت حزينة بصورة عميقة جدًّا، كانت شاهدة على طه يومًا وهو يقرأ في فنادقها القرآن والتوراة، وكتباً أخرى، ويتصفح “كورييه دولا سيرا”. في هذه الأماكن كانا (طه وسوزان) يستمعان إلى إذاعة مونت كارلو، ويحضران مهرجان ستراسبورج، ويلتقيان بعض أصدقائهما الخالدين… ورغم أن سوزان هذه المرة -وفي تنقلاتها في هذه الأماكن- لا تتأبط ذراع طه، غير أنه لم يكن بعيداً عنها، فقد ظل الأقرب. تحاوره، تتحدث إليه، تقرأ له رسائلهما… وتكتب له، له وحده، ذكرياتهما منذ لحظة اللقاء الأول، حتى لحظة الوداع الأخير. تكتب مؤكدة فعلها هذا: “وإنما لكي آتي إليك، أكتبُ وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبي”. (ص:11) وبذا، كما سبق، فقد مثل هذا الكتاب محاولةً حقيقية لتجاوز وضع نفسي معين، وهو تعبير عن سعي الكاتبة لتقويض طاحونة الزمن، والنسيان والتلاشي.
***
التقى طه سوزانَ في مونبلييه في 12 مايو 1915م، فكانت تقرأ له، وتصحبه إلى الجامعة نادراً. وفي العام 1916، أعلنا رغبتهما في الحياة والاستقرار معاً. وكان من الطبيعي أنْ يرفض أهلها فكرة زواج ابنتهم المسيحية، من هذا الغريب العربي المسلم، والأعمى. غير أن عمًّا لها أيد قرارها؛ فقد التقى طه، قبل ذلك، وتحدث إليه، فقال لها: “بوسعك أنْ تنفذي ما عزمتِ عليه.. لا تخافي. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إنه سيتجاوزك باستمرار”. (ص:17)، وهكذا تم لهما ما أرادا؛ فتزوجا في 9 من أغسطس 1917م.
ترافقا في رحلة دراسته، وكان لها فضل مساعدته في تعلم اللاتينية والفرنسية، وقراءة كتب التاريخ والأدب، وإعداد الخرائط التي تعينه في دراسته ومحاضراته. كما منحها العميد كروازيه ثقته إذ سمح لها أن تكتب أوراق امتحان طه. ساندته أيضا في إنجاز رسالته في الدكتوراه في يناير 1918م عن “أبي العلاء المعري”، وفي ترجمة ما يعين دراسته من الفرنسية واللاتينية والإيطالية والألمانية. وفتحت له أفاقاً ثقافية جديدة ومنها تعريفه بالسينما الناطقة، وحفلات الموسيقى في السوربون، وقراءة مصادر الثقافة الغربية، والتاريخ الأوروبي، وكتابات المستشرقين. وبذا، فقد كان لهذه العلاقة حضورها المهم في إثراء ثقافة طه حسين؛ وفي اتساع رؤيته ومفاهيمه وتفاعله مع إيديولوجيا مختلفة، وتعامله مع معطيات الزمن والمكان بكيفيات جديدة وأفكار مغايرة للوعي الموروث والثابت.
***
وفي العام نفسه -أي 1918م- وُلِدت أمينة، ابنتهما البكر. وبعد حوالي عام، أبحرت الأسرة نحو مصر؛ حيث بدأت حياتهما (الحقيقية)، كما تصفها الكاتبة؛ ففي هذه المرحلة واجها مسؤوليات مختلفة ترتب عليهما عبء مواجهتها، والنهوض بها.
بدت مرحلة مصر لسوزان قاسية، لا سيما بعد مولد ابنهما «مؤنس» مما اضطرها للعودة إلى فرنسا لمدة ثلاثة أشهر، تاركة خلفها طه في أسفٍ وحزن شديدين. هنا كان طه مثقلاً بالوحدة والألم، وكان مضطراً لأنْ يكتب أربعة مقالات أسبوعية، وكان عليه أن يُترجم، ويحضر دروساً للجامعة، لكنه -ورغم كل شيء- بقي يكتب لها رسائله اليومية، رسائله التي “تحكي لوعة الغياب، وتنطق بشجاعته وحبه وهيامه ببلده، وتصور مشاريعه وأحلامه والأحداث التي كان يقص علي تفاصيلها مع شيء من السخرية أو المرح أو العنف” (ص:35).
***
بدأ طه حسين عمله في الجامعة المصرية أستاذاً للتاريخ الإغريقي في 1920م، كما عزز حضوره الصحفي بمقالاته في الأدب والسياسة، وقدم دروساً ومحاضرات عديدة في مصر وخارجها. ومُنِح العديد من الأوسمة والشهادات والتكريمات التي تتذكرها سوزان بإعزاز، ومن ذلك: وسام جوقة الشرف الفرنسي، وشهادات دكتوراه الشرف من جامعة مونبلييه في عام 1946م… وقبلها من جامعة ليون تمنحه دكتوراه بتاريخ 1930م… ثم دكتوراه من روما. وفي العام 1970، حُملت إليه شهادتا الدكتوراه الفخرية من جامعتي مدريد وغرناطة. كما مُنح العديد من الأوسمة ومنها قلادة النيل، التي منحه إياها جمال عبدالناصر عام 1965م، وميدالية جامعة مدريد.
لم يكن طه ينظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها، ولم يتعامل مع الواقع والتاريخ من منطلق رأي الجماعة والسائد؛ مما جعل الصحافة تصب جام غضبها عليه، لا سيما فيما يخص تاريخ مصر والشعر الجاهلي والحضارة العربية والإسلامية. وقد كتبت سوزان عن لحظات كئيبة واجهها طه جراء استخفاف “الجهلة” و”الوصوليين” بسبب آرائه وكتاباته التي باتت تهدد الأنساق الوصائية، وبعض الثوابت، وتحرض على الشك والاختلاف. وليس من أمثلتها فقط “الشعر الجاهلي”، و”مستقبل الثقافة في مصر” وإن كانا الأكثر شهرة.
كان طه يرفض ألا تشاركه سوزان هذه اللحظات، وهي مصدر القوة والإلهام له في أشد لحظات حياته بؤساً وقسوة؛ يكتب لها وهي بعيدة عنه: “تغمرني ظلمة بغيضة… آه! ما أقسى أن يكون المرء وحيدًا، بعيدًا عن حياته. إني ضائع. نعم إني ضائع” (ص:43).
***
ترسمُ سوزان عبر مذكراتها أيضاً صورة أمينة وهي تكبر يوماً بعد يوم… يوم كان يفرحها المطر، ويفتنها مسرح العرائس الجينيول (guignol)، والحيوانات الخشبية في اللوكسمبورج… أمينة التي كانت تغني وتكتب لوالدها رسائل الحب والطفولة يوم كانت في الثالثة (تمسك سوزان يدها لمساعدتها في الكتابة)، أمينة التي لم يكن لها من العمر ثلاث سنوات عندما هرعت لمد يدها الصغيرة تقود أباها وهو يجتاز بهو البيت! (ص: 71)… ثم وهي تأخذ الخطوة الأولى نحو مدرسة الساكركير (القلب المقدس)… كبرت أمينة والتحقت بالجامعة، ثم صارت زوجة لمحمد الزيات، ثم أمًّا لـ”حسن” -أول حفيد لطه.
كما كتبت التفاصيل الصغيرة لمؤنس الطفل التي كان يشبه أباه كثيرا. كان مؤنس مولعاً بصباحات الآحاد. هذا الصبي أحبه طه حتى العبادة، فقد كان الوحيد الذي عَرف كيف يجعل طه يضحك من أعماق قلبه؛ كما تصف ذلك سوزان.
***
شهدتْ سوزان مرحلة فوضى الصراعات السياسية بين عدليين ووفديين ووطنيين وملكيين ومختلف الأحزاب، وشاركت في الأنشطة الثقافية في القاهرة وغيرها، غير أنها كانت ترى أن الأنشطة البسيطة في ملجأ العجزة بشبرا أكثر قرباً إلى روحها؛ فقد كانت تفضلها على ما سواها من أنشطة. وهذه الروح هي التي دفعت بهذه الأسرة لتشجيع ابنتهم “أمينة” للمشاركة في تحصين الناس ضد الكوليرا في مصر العام 1947م.
***
كان بيت طه قبلة للعلماء والفنانين والصحفيين والمحامين والمهندسين والكتاب والفلاسفة وعلماء الآثار وطلاب العلم، وكانت سوزان تحضر بعض هذه اللقاءات والحوارات، وتشارك فيها؛ فكتبت عن صداقات طه ولقاءاته بكثيرين؛ منهم: العميد جريجوار، والفيلسوف إميل برهييه، وعالم الآثار الإنجليزي جريدور، وسكايف، ولالاند، وسانياك… وبيرجشتراسه الذي أهدى لطه كتابه حول قراءات القرآن. كما تكتب عن الانفتاح الروحي النادر، والبساطة الكلية بين أندريه جيد وطه.
كما كتبت عن حوادث الموت التي أثرت كثيراً في حياتها وطه؛ ومن ذلك: وفاة هدى شعراوي (المرأة التي ساعدت نساء كثيرات على الكشف عن قلوبهن وإرادتهن!) كما كتبت عن الموت الفاجعي والمؤثر لمصطفى عبد الرازق (وكان قد رافقهم في رحلتهم لفلورنسا عام 1935م) بعد وفاة حسن باشا وحسين بك. فتكتب: “وبوفاة مصطفى، بعد وفاة حسن باشا وحسين بك، تنتهي مرحلة كاملة من حياتنا بشكل نهائي” (ص:155).
***
في هذه المذكرات “لا شيء يموت” إنها المقاومة ضد فعل الزمن والنسيان والإمحاء… سترى طه الذي يكتب “الشعر الجاهلي” في ثلاثة أشهر! ستشم سجائر (الميراكل) التي كان يدخنها، والتي أحبها أندريه جيد، ستستمع إلى معزوفة “الليلة الثانية” لفوريه التي كان طه يحبها كثيراً، ستقرأ عن مصر وقصة اكتشاف تمثال رمسيس، وتغييب الحرية، ومراقبة الرسائل في عهد حكومة صدقي، والتقسيم المريع لفلسطين، وحرب فلسطين، والحرب العالمية الأولى والثانية… ستسمع أصواتَ الأجراس، والكنائس، وأناشيد الآحاد، والموسيقي، وستدخل “الرامتان”، سترى طه وهو ينام تحت الشمس، طه وهو يحتفل بعيد ميلاده في 14 نوفمبر، ستمشي معه وهو يستمتع بأريج العشب الأخضر، والحشائش الجافة، سترى البواخر، وممرات مقصورة “اسبيريا”، و”الفيكتوريا”…وغيرهن… ستكون شاهداً على لحظات الكتابة، والمرض، والبرد القارس، والجوع، وفي كل تلك القصص، وغيرها، لن تقرأ غير الحب وقوة الإرادة، وتحت تأثير هذا، ربما تكتب نصاً جميلاً، تقول فيه إنَّ الذي يبقى أخيراً هو الحب وحده، والجمال.
* عن شرق/غرب
بعد أعوام من رحيل عميد الأدب طه حسين، “أرسلت” سوزان إليه الرسالة السابقة، الرسالة التي كانت الأجمل من بين كل ما كتبت سوزان إلى طه حسين من رسائل كثيرة، بل هي أجمل من رسائل طه نفسه إليها. رسالة تختزل طاقة الحب وصدقه، وعنفوانه، وتشف عن مقاومة اندمال، أو تقادم، جرح الموت المغري بالصمت والنسيان.
***
في “معك”، تُطوِّع سوزان طه حسين الذاكرةَ واللغة لاحتواء وكتابة التوترات الكامنة بين الذات وما عاشته، وعاشها عميدُ الأدب طه حسين، من ذكريات الحب والأمل، وعبء الاختيار، والحوادث المفجعة، والحياة الشخصية، والمرض، والإحباطات. كما تسعى إلى اختزال الأزمنة والسياقات؛ الماضي بتجذراته وعمق تأثيره في روحها؛ لحظة اللقاء الأول في مونبلييه، سبر كنه الأماكن الأولى وذخائرها، جذوة الشباب، الأسماء، الأشخاص. ثم الحاضر حيث كل شيء اكتسى سديم الموت، والشحوب.
وبذا، فإنَّ هذا النص -الذي تخطى المسارَ الكرونولوجي للأحداث في كثيرٍ من محطاته- جاء ليمثل مدخلاً مهمًّا لدراسة طه حسين، والولوج نحو بعض الجوانب الخفية من حياته؛ فهذا النص يستمد مادته من داخل الماضي المنسي أحياناً والخاص، ومن داخل الإيمان المطلق بأن الحب قبل كل شيء هو فعل الاستمرار، والتحدي ضد قدرة الزمن وقوته.
***
بدأتْ سوزان كتابة مذكراتها (ترجمة بدر الدين عرودكي، دار المعارف، القاهرة، ط2، 1982م) في 9 يوليو 1975، أي بعد عامين من وفاة طه حسين 28 أكتوبر 1973م. فكان عليها أنْ تقتفي آثارهما في أكثر الأماكن باعثاً على الذكرى والحنين والألفة: “الدولوميت” و”جاردونيه”، و”جنوة”، و”كورنيش المعادي”، ومدن أخرى حيث كانا يقضيان بعض أصياف ربيع الحب، والحياة. كان عليها أنْ تمشي مرة أخرى -ولو حلماً- في شارع المينا، ورمسيس، وتعبر نحو “بيت أبوجرج”، حيث سكنا. كان عليها أيضاً أن تبحث عنه في رائحة غرفته البسيطة التي كان يسكنها يوم كان طالبا في الأزهر، والأهم من كل ذلك، كان عليها أن تستعين بــ”الرامتان” لتستعيد قدرتها على البوح والمكاشفة والحلم.
فكلُّ هذه الأماكن، التي غدت حزينة بصورة عميقة جدًّا، كانت شاهدة على طه يومًا وهو يقرأ في فنادقها القرآن والتوراة، وكتباً أخرى، ويتصفح “كورييه دولا سيرا”. في هذه الأماكن كانا (طه وسوزان) يستمعان إلى إذاعة مونت كارلو، ويحضران مهرجان ستراسبورج، ويلتقيان بعض أصدقائهما الخالدين… ورغم أن سوزان هذه المرة -وفي تنقلاتها في هذه الأماكن- لا تتأبط ذراع طه، غير أنه لم يكن بعيداً عنها، فقد ظل الأقرب. تحاوره، تتحدث إليه، تقرأ له رسائلهما… وتكتب له، له وحده، ذكرياتهما منذ لحظة اللقاء الأول، حتى لحظة الوداع الأخير. تكتب مؤكدة فعلها هذا: “وإنما لكي آتي إليك، أكتبُ وأتابع كتابة كل ما يطوف بقلبي”. (ص:11) وبذا، كما سبق، فقد مثل هذا الكتاب محاولةً حقيقية لتجاوز وضع نفسي معين، وهو تعبير عن سعي الكاتبة لتقويض طاحونة الزمن، والنسيان والتلاشي.
***
التقى طه سوزانَ في مونبلييه في 12 مايو 1915م، فكانت تقرأ له، وتصحبه إلى الجامعة نادراً. وفي العام 1916، أعلنا رغبتهما في الحياة والاستقرار معاً. وكان من الطبيعي أنْ يرفض أهلها فكرة زواج ابنتهم المسيحية، من هذا الغريب العربي المسلم، والأعمى. غير أن عمًّا لها أيد قرارها؛ فقد التقى طه، قبل ذلك، وتحدث إليه، فقال لها: “بوسعك أنْ تنفذي ما عزمتِ عليه.. لا تخافي. بصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، إنه سيتجاوزك باستمرار”. (ص:17)، وهكذا تم لهما ما أرادا؛ فتزوجا في 9 من أغسطس 1917م.
ترافقا في رحلة دراسته، وكان لها فضل مساعدته في تعلم اللاتينية والفرنسية، وقراءة كتب التاريخ والأدب، وإعداد الخرائط التي تعينه في دراسته ومحاضراته. كما منحها العميد كروازيه ثقته إذ سمح لها أن تكتب أوراق امتحان طه. ساندته أيضا في إنجاز رسالته في الدكتوراه في يناير 1918م عن “أبي العلاء المعري”، وفي ترجمة ما يعين دراسته من الفرنسية واللاتينية والإيطالية والألمانية. وفتحت له أفاقاً ثقافية جديدة ومنها تعريفه بالسينما الناطقة، وحفلات الموسيقى في السوربون، وقراءة مصادر الثقافة الغربية، والتاريخ الأوروبي، وكتابات المستشرقين. وبذا، فقد كان لهذه العلاقة حضورها المهم في إثراء ثقافة طه حسين؛ وفي اتساع رؤيته ومفاهيمه وتفاعله مع إيديولوجيا مختلفة، وتعامله مع معطيات الزمن والمكان بكيفيات جديدة وأفكار مغايرة للوعي الموروث والثابت.
***
وفي العام نفسه -أي 1918م- وُلِدت أمينة، ابنتهما البكر. وبعد حوالي عام، أبحرت الأسرة نحو مصر؛ حيث بدأت حياتهما (الحقيقية)، كما تصفها الكاتبة؛ ففي هذه المرحلة واجها مسؤوليات مختلفة ترتب عليهما عبء مواجهتها، والنهوض بها.
بدت مرحلة مصر لسوزان قاسية، لا سيما بعد مولد ابنهما «مؤنس» مما اضطرها للعودة إلى فرنسا لمدة ثلاثة أشهر، تاركة خلفها طه في أسفٍ وحزن شديدين. هنا كان طه مثقلاً بالوحدة والألم، وكان مضطراً لأنْ يكتب أربعة مقالات أسبوعية، وكان عليه أن يُترجم، ويحضر دروساً للجامعة، لكنه -ورغم كل شيء- بقي يكتب لها رسائله اليومية، رسائله التي “تحكي لوعة الغياب، وتنطق بشجاعته وحبه وهيامه ببلده، وتصور مشاريعه وأحلامه والأحداث التي كان يقص علي تفاصيلها مع شيء من السخرية أو المرح أو العنف” (ص:35).
***
بدأ طه حسين عمله في الجامعة المصرية أستاذاً للتاريخ الإغريقي في 1920م، كما عزز حضوره الصحفي بمقالاته في الأدب والسياسة، وقدم دروساً ومحاضرات عديدة في مصر وخارجها. ومُنِح العديد من الأوسمة والشهادات والتكريمات التي تتذكرها سوزان بإعزاز، ومن ذلك: وسام جوقة الشرف الفرنسي، وشهادات دكتوراه الشرف من جامعة مونبلييه في عام 1946م… وقبلها من جامعة ليون تمنحه دكتوراه بتاريخ 1930م… ثم دكتوراه من روما. وفي العام 1970، حُملت إليه شهادتا الدكتوراه الفخرية من جامعتي مدريد وغرناطة. كما مُنح العديد من الأوسمة ومنها قلادة النيل، التي منحه إياها جمال عبدالناصر عام 1965م، وميدالية جامعة مدريد.
لم يكن طه ينظر إلى الأشياء بالطريقة نفسها، ولم يتعامل مع الواقع والتاريخ من منطلق رأي الجماعة والسائد؛ مما جعل الصحافة تصب جام غضبها عليه، لا سيما فيما يخص تاريخ مصر والشعر الجاهلي والحضارة العربية والإسلامية. وقد كتبت سوزان عن لحظات كئيبة واجهها طه جراء استخفاف “الجهلة” و”الوصوليين” بسبب آرائه وكتاباته التي باتت تهدد الأنساق الوصائية، وبعض الثوابت، وتحرض على الشك والاختلاف. وليس من أمثلتها فقط “الشعر الجاهلي”، و”مستقبل الثقافة في مصر” وإن كانا الأكثر شهرة.
كان طه يرفض ألا تشاركه سوزان هذه اللحظات، وهي مصدر القوة والإلهام له في أشد لحظات حياته بؤساً وقسوة؛ يكتب لها وهي بعيدة عنه: “تغمرني ظلمة بغيضة… آه! ما أقسى أن يكون المرء وحيدًا، بعيدًا عن حياته. إني ضائع. نعم إني ضائع” (ص:43).
***
ترسمُ سوزان عبر مذكراتها أيضاً صورة أمينة وهي تكبر يوماً بعد يوم… يوم كان يفرحها المطر، ويفتنها مسرح العرائس الجينيول (guignol)، والحيوانات الخشبية في اللوكسمبورج… أمينة التي كانت تغني وتكتب لوالدها رسائل الحب والطفولة يوم كانت في الثالثة (تمسك سوزان يدها لمساعدتها في الكتابة)، أمينة التي لم يكن لها من العمر ثلاث سنوات عندما هرعت لمد يدها الصغيرة تقود أباها وهو يجتاز بهو البيت! (ص: 71)… ثم وهي تأخذ الخطوة الأولى نحو مدرسة الساكركير (القلب المقدس)… كبرت أمينة والتحقت بالجامعة، ثم صارت زوجة لمحمد الزيات، ثم أمًّا لـ”حسن” -أول حفيد لطه.
كما كتبت التفاصيل الصغيرة لمؤنس الطفل التي كان يشبه أباه كثيرا. كان مؤنس مولعاً بصباحات الآحاد. هذا الصبي أحبه طه حتى العبادة، فقد كان الوحيد الذي عَرف كيف يجعل طه يضحك من أعماق قلبه؛ كما تصف ذلك سوزان.
***
شهدتْ سوزان مرحلة فوضى الصراعات السياسية بين عدليين ووفديين ووطنيين وملكيين ومختلف الأحزاب، وشاركت في الأنشطة الثقافية في القاهرة وغيرها، غير أنها كانت ترى أن الأنشطة البسيطة في ملجأ العجزة بشبرا أكثر قرباً إلى روحها؛ فقد كانت تفضلها على ما سواها من أنشطة. وهذه الروح هي التي دفعت بهذه الأسرة لتشجيع ابنتهم “أمينة” للمشاركة في تحصين الناس ضد الكوليرا في مصر العام 1947م.
***
كان بيت طه قبلة للعلماء والفنانين والصحفيين والمحامين والمهندسين والكتاب والفلاسفة وعلماء الآثار وطلاب العلم، وكانت سوزان تحضر بعض هذه اللقاءات والحوارات، وتشارك فيها؛ فكتبت عن صداقات طه ولقاءاته بكثيرين؛ منهم: العميد جريجوار، والفيلسوف إميل برهييه، وعالم الآثار الإنجليزي جريدور، وسكايف، ولالاند، وسانياك… وبيرجشتراسه الذي أهدى لطه كتابه حول قراءات القرآن. كما تكتب عن الانفتاح الروحي النادر، والبساطة الكلية بين أندريه جيد وطه.
كما كتبت عن حوادث الموت التي أثرت كثيراً في حياتها وطه؛ ومن ذلك: وفاة هدى شعراوي (المرأة التي ساعدت نساء كثيرات على الكشف عن قلوبهن وإرادتهن!) كما كتبت عن الموت الفاجعي والمؤثر لمصطفى عبد الرازق (وكان قد رافقهم في رحلتهم لفلورنسا عام 1935م) بعد وفاة حسن باشا وحسين بك. فتكتب: “وبوفاة مصطفى، بعد وفاة حسن باشا وحسين بك، تنتهي مرحلة كاملة من حياتنا بشكل نهائي” (ص:155).
***
في هذه المذكرات “لا شيء يموت” إنها المقاومة ضد فعل الزمن والنسيان والإمحاء… سترى طه الذي يكتب “الشعر الجاهلي” في ثلاثة أشهر! ستشم سجائر (الميراكل) التي كان يدخنها، والتي أحبها أندريه جيد، ستستمع إلى معزوفة “الليلة الثانية” لفوريه التي كان طه يحبها كثيراً، ستقرأ عن مصر وقصة اكتشاف تمثال رمسيس، وتغييب الحرية، ومراقبة الرسائل في عهد حكومة صدقي، والتقسيم المريع لفلسطين، وحرب فلسطين، والحرب العالمية الأولى والثانية… ستسمع أصواتَ الأجراس، والكنائس، وأناشيد الآحاد، والموسيقي، وستدخل “الرامتان”، سترى طه وهو ينام تحت الشمس، طه وهو يحتفل بعيد ميلاده في 14 نوفمبر، ستمشي معه وهو يستمتع بأريج العشب الأخضر، والحشائش الجافة، سترى البواخر، وممرات مقصورة “اسبيريا”، و”الفيكتوريا”…وغيرهن… ستكون شاهداً على لحظات الكتابة، والمرض، والبرد القارس، والجوع، وفي كل تلك القصص، وغيرها، لن تقرأ غير الحب وقوة الإرادة، وتحت تأثير هذا، ربما تكتب نصاً جميلاً، تقول فيه إنَّ الذي يبقى أخيراً هو الحب وحده، والجمال.
* عن شرق/غرب