محمد خضير - مفكرة محمود درويش: جسر للعبور

أفكّر بأنّ الخيال العربيّ، لا بدَّ يمتلك بين أوراقه مفكّرةً تتّسع للهجرات الفلسطينيّة المترادفة، الأشجار القتيلة، الجسور المحطَّمة، الأسماء الشهيدة، الصور والوثائق والتقارير عن الحروب العربيّة، الحصار والنزوح، العودة وتقرير المصير.. أفكّر بمفكّرة محمود درويش_ التي كتَبَ آخر مقاطعها على حافة سرير المرض في هيوستن بأميركا_ آب 2008_ وأقرِنُها بمفكّرات نيكوس كانتزاكي وجان جينيه وخوان غويتسولو وجوزيه ساراماغو وآخرين...
أفكّر بأنّ فقرات هذه المفكّرة تتوالى مثل حياة بلادٍ محتلّة، تُغَلُّ أجزاؤها شبراً فشبراً، وسطراً سطراً، وحرباً تلو حرب.. أفكّر بأن حياة المفكّرة تقع وراء تلك الأغلال.. تتحرّر بإعادة نسخها والإضافة على صفحاتها، عاماً فعاماً، بعد رحيل الشاعر.
رأيتُ محمود درويش أوّل مرّة العام 1972، حين وفدَ مع شعراء المربد إلى البصرة. اقتطعتُ وجه محمود الوسيم وألصقتُه إلى جوار وجه بدر شاكر السياب العظميّ: وجهان نقيضان للحبّ والموت.
كتَبَ السياب: "أحبّيني" من غير تسمية مقصودة لفتاة.
وأردفَ درويش: "ريتا أحبّيني" باسمٍ يهوديّ.
وجه السياب جانبيّ تبعثه ابتسامةٌ عريضةٌ من القبر، ووجه درويش أبيض نضِر تغطّي نصفَه خصلةُ شَعرٍ وعدستان وسُهومٌ قاس: "أنا والموت وجهان، لماذا تهربين من وجهي؟".
كتبتُ قصة (جامعو الجثث) في آذار 1968، وعلى مكتبي صُورٌ مقتطَعة من مجلّة (لايف) لحارات القدس في ليلة عيد ميلاد السيّد المسيح. كان ذاك زمن المفكّرات ويوميّات الحزن الفلسطينيّ المنبعثة من رماد حزيران 1967. كانت لي مفكّرتي الفلسطينيّة المثيلة لمفكّرة الشاعر، أؤرشفُها بصور الهزيمة وما تلاها من قصص الفداء.
أقلّبُ المفكّرة، وأستأنف "يوميّات الحزن العادي" عابراً بحرَ بيروت إلى تونس، وأصحَبُ الشاعرَ إلى مستشفى القلب في هيوستن، ثم أقفِل راجعاً بعبارة من مفكّرته: "في الحقيقة والدّم متَّسعٌ للجميع!".
أفتحُ المفكّرة على صورةٍ لجسر "الّلنبي" على نهر الأردن، التقطَها المصوّرُ العراقي جاسم الزبيديّ بعد تفجير الجسر، في معركة الكرامة، آذار 1968. على الحافة المائلة للهيكل الحديديّ، المغمورة بالماء، يتقاطر نازحون فلسطينيّون، عابرون بأمتعتهم، يتمسّكون بالسياج الذي تنفر منه دعامةٌ شحذَها الانفجارُ ولَوَاها في الفضاء الدّاخن. منذئذ والصُّور تترى من نكبة لنكبة، ونزوح لنزوح، فتلتحق بها صُور "غزّة" المحاصَرة_ المدمَّرة بأفتك القنابل من الطائرات الإسرائيليّة، في تشرين الأول 2023. إنها أكثر الصُور غرقاً في الدمار، وأوثقها باستمرار الصّراع، وأصدقها دلالة على صمود الفلسطينيّين.
يمكن لصورة أن تكافئ خارطةً للألم والغضب والصمود. ويمكن لصورة أن تتحوّل لوثيقة دامغة للاجتياح والاحتلال والبربريّة. ويمكن لصورة أن تعِدَ بفجرٍ منير، يطلع من خلف الدخان والحطام. يمكن لصورة أن تُحيي الموتى! انتظرتُ أن يمتدّ جسرٌ من مفكّرة درويش إلى مفكّرتي المكتظّة بأحاديث الهجرة والنزوح. بعد سنين، عبرت قصيدة "الجسر" من ديوان "حبيبتي تنهض من نومها" لتؤلّف من جسر النزوح الساقط في الماء شفرةً قاطعة لحلم النائم في المستشفى: شيخ وطفل وجندي جريح يلقون حتفهم برصاص الجنود الذين يحرسون جِسر العودة:
"لم يعرفوا أنّ الطريق إلى الطريق/ دمٌ، ومصيدة، وبِيد/ كلُّ القوافل قبلَهم غاصت/ وكان النهر يبصق ضفتيه/ قِطَعاً من الّلحم المفتَّت، في وجوه العائدين".
ما أكثر الوجوه التي هرَبَت من مفكّرة محمود درويش إلى مفكّرتي: جمال عبد الناصر "ظلٌّ أخضر"، غسان كنفاني "بركانٌ جميل"، أحمد المولود من "حَجَر وزعتر"، سرحان الذي "يقيس السماء بأغلاله"، الرسّام الطالع من "معركة الألوان"، أصدقاءُ بيروت "صورتنا الأخيرة". ثم هرعَت نساءُ الشاعر والتفَفْنَ حول صورة "لاعب النرد" الفلسطينيّ الذي يشبهنا جميعاً. بعدئذ ستلتحق وجوهُ القادة الفلسطينيّين المغدورين في بيروت ودمشق وتونس ورام الله؛ وجوه المُحتَجَزين، مُصلّي الأقصى، المُضرِبين عن الطعام في السّجون، الأسرى... وجوهُ المَتاه/ المدارِ حول العالم. وجوه الأطفال الذين تخلّفوا عن الالتحاق بآبائهم الشهداء.
يمكنك أن تقرأ في وجه طفلٍ معنى البقاء على قمّة ركام بيته المهدّم، مأوى ووطناً وفكرة، وحقّاً لا يندثر. يمكن لمفكّرة الشاعر أن تنجد مفكّرتي بصوت خافت، من وجوه النكبة والنزوح.
في صدر التمثال الذي نحتَه الفنّان البحرينيّ جمال عبد الرحيم، لرجلٍ فارد ذراعيه، بوجه الاحتلال، فراغٌ كبير استُلَّت منه خارطةُ فلسطين، بشكلها الطُوليّ، فمٌ ثانٍ مفتوح بدل الفم المكمَّم للتمثال. يتبادل الفمُ والقلب موضعيهما في الجسد الواقف كوتدٍ مغروز، متصالباً رغم تفحّمه في العراء. تمرّ الريح من فجوة الصدر مصحوبةً بعواء الحصار، وأنين الأرض المصلوبة على واجهة البحر. لم تخلُ قصيدةٌ لمحمود درويش من مفردة "البحر"، فينتصب تمثال جمال عبد الرحيم ليسمح بنفاذ المفردة الصّافرة من خلال فتحة الخارطة، في صدر التمثال، ما دامت الكلمات تعجز عن الانطلاق من فمه المكمَّم.
يمكن للصّخور، ركام أبنيةِ نصفِ المدينة البحريّة، الجثث المتفحِّمة، ثم التماثيل الرمزيّة المغروزة كالأوتاد، أن تنطق باسم "فلسطين"، تُنشد قدّاسها الهادر من غير انقطاع.
من نافذة بجدار كنيسةٍ في "غزّة" المدمَّرة، ينفذ القدّاس الفلسطينيّ، فتطغى أصواتُه في بهمة الليل الجاثم على الصّدور_ صدور التماثيل المنتصِبة على امتداد البصر؛ أو تحت اللقطات الجوّية للمدينة بعد خرابها.
ثمّة مَن يتذكّر، ويُنشِد لوحده_ بعد رحيل الشاعر_ بصحبة مصلّين بلا صُلبان أو أيقونات مقدّسة. فحين ظهرَ زيفُ الضمير الغربيّ، وتبارى تجّارُ الهيكل في تقديم سلاح العدوان للمحتلّ الإسرائيليّ الغاصب، فرّت الأيقونات من مَحاريبها، وهبّت الريحُ الليلية الرّطبة لنقل أصوات الجوقة الساهرة، ونشرها فوق البيوت المهدَّمة. بقايا التذكارات الكنسيّة، المقاعد الخشبيّة، الزّهور، أقداح المذبح، الأيقونات.. تهتزّ منتشيةً بالنشيد الليليّ.
هبط يسوع_ ابنُ الإنسان_ من صليبه، مضرّجاً بدمائه، ليقود أرواحَ الجوقة المُنشِدة، بنفسه. تراتيلُ الكنيسة الساهرة تنتقل من الداخل المخرَّب نحو الساحل، ثم يقود المسيحُ الأرواحَ ويُبحِر بها في قارب.
يتكرّر الترتيلُ ليلة بعد ليلة، حتى تستنفد الأصواتُ صداها البعيد.
وهناك، في مكان ما، ثمّة مَن يُنصِت لهذا النشيد_ القدّاس الليليّ المتوحِّد بعذابه، فتتسع الفتحةُ_ الخارطةُ المفرَّغة في صدره، ويمرّ سهمُ الريح خلالها_ خلال تمثاله المتفحِّم، دونما صدى مسموع!
__________________________________
أعلى