محمد شعير روائي وإعلامي مصري من جريدة الأهرام ضيف جريدة المسار العربي الجزائرية... حوار تركية لوصيف

* قبل الشروع في كتابة رواية (مصنع السكر ) دونتُ في ملفها على جهاز الحاسوب عندي عبارة (رواية تصلح للسينما)

** لأول مرة.. استعنت بخرائط "قوقل" لمعرفة أسماء الشوارع الصغيرة في الحي الذي تنتمي إليه البطلة "ورد"، وكذلك في باقي المدن السورية الواردة في الرواية.
_____

القضايا الثقافية التي يتناولها المبدعون العرب كثيرة، ومتعددة، وتكون لافتة بالنسبة للمجتمع الأدبي العربي، ونحن نبحث عن الجديد وعن الفكرة المبتكرة في الكتابات الروائية، عثرنا على ضالتنا والمتمثلة في موضوع اللهجات وتوظيفها في عمل روائي من خلال شخصيات مصرية وسورية، كل هذا في المنجز الروائي (مصنع السكر)، في هذا الحوار الثقافي قمنا بالإضاءة على ذلك التفاعل والتعاطف الكبيرين للمأساة التي عاشها الشعب السوري من ثورة الربيع العربي والزلزال المدمر وفترة كورونا في نسيج متقن ومفعم بالمشاعر والرومانسية بين شابة سورية وشاب مصري.

حاورته: تركية لوصيف
_____

المسار العربي: في عجالة، قدموا رصيدكم الأدبي للقارئ الجزائري.

محمد شعير: أنتمي لمجال الصحافة والإعلام بجريدة الأهرام، نشرت الكتب في الفترة (2000_2023) ورصيدي سبعة عناوين هي: كتاب (المرأة الحديدية تتكلم) عام 2000– القصة الكاملة لحوار صحفي طويل مع سيدة الأعمال المصرية الهاربة بالخارج آنذاك هدى عبدالمنعم، كتاب (لا يُنشر) ويضم موضوعات صحفية تم رفض نشرها بعدد من الصحف المصرية مع التعليق عليها ومناقشة سياسات النشر فى الصحافة عام 2009.

كتاب (هدير الصمت) عام 2013– رواية صحفية عن ثورة 25 يناير في مصر من داخل جريدة الأهرام – ويضم توثيقا للأحداث الحقيقية والتفاصيل اليومية لتطورات الثورة وانعكاساتها على الأحداث داخل الجريدة وفى مصر. كتاب (الثورة العميقة) عام 2017 – رحلة الطريق الرابع فى مصر الجديدة – عن التحولات السياسية والاجتماعية فى مصر بعد ثورة 30 يونيو، كتاب (شغل فيس) عام 2018 ويتناول قضية الكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي، من حيث الشكل والمضمون، بالتطبيق على "فيسبوك". رواية (الخطة 51) عام 2021 وهي رواية اجتماعية من عوالم كرة القدم والسياسة والفن والإعلام. رواية (مصنع السكر)، عام 2023 حول قصة حب بين مصري وسورية في زمن وباء الكورونا، تتناول تأثير وتفاعلات ما جرى خلال عشر سنوات في البلدين منذ 2011 على حياة أبطال العمل.

المسار العربي: بأسلوب رشيق يسحبنا الروائي المصري محمد شعير في عنوانه الأدبي (مصنع السكر) إلى الإضاءة على الهوية السورية من خلال لهجة البطلة ورد ومنه نفتح الحديث عن قضية صعوبة لهجات أخرى.
هل تعتقدون أن التقارب الذي أتاحته وسيلة التواصل فيس بوك قد يفصل في هذا الموضوع وأن اللهجات جميعها سهلة؟

محمد شعير: أشكركم أولا على هذا الحوار لصحيفة "المسار العربي" في الجزائر، البلد الحبيب لقلوب المصريين والعرب، بما قدمه من تضحيات وشهداء في تاريخه. والواقع أنني أرى دوما تقاربا كبيرا بيننا جميعا كعرب، ولا أشعر بأي غربة عند الحديث مع أي مواطن عربي، بل العكس، يتزايد داخلنا الفضول للفهم ومعرفة ما هو مختلف بيننا، إذ أن لكل بلد خصوصياته بالطبع، وربما كانت هذه هي البداية في شغفي بسوريا الحبيبة أيضا لمعرفة كل شيء عنها، في ظل التجربة المريرة التي مر وما زال يمر بها هذا البلد العربي المهم.

لكن كانت هناك بداية أبكر لي مع سوريا، وهي أنني كنت أتولى متابعة الملف السوري صحفيا في جريدتي، "الأهرام"، خلال واحدة من أكثر الفترات تاريخية، وهي فترة ما بعد 15 مارس 2011، عندما اندلعت شرارة الأحداث بها، ووجدت نفسي أغوص في تفاصيل هذا البلد الكبير، بكل ما فيه من اتجاهات سياسية وطائفية مختلفة، وعرفت من خلال عملي شخصيات عديدة متنوعة - ومتنافرة- التوجهات، فضلا عن شخصيات عادية من البشر.

جذبني الإنسان في سوريا، أفكاره، أحلامه، تطلعاته، آراؤه، لهجته، بل لهجاته، إذ أن هناك عدة لهجات في سوريا، وليس فقط لهجة "الشام"، أي دمشق، التي نعرفها جميعا في المنطقة العربية، ومن محصلة كل هذا مما لا يمكن التعبير عنه كله بالكتابة الصحفية امتلأتُ بالتجارب والخبرات والحقائق عن سوريا، إذ أن خير تسجيل للتاريخ هو ما نأخذه من كلام البشر العاديين، الشعوب، ليس على مستوى الوقائع والأرقام والمعلومات، إنما المقصود هو فهم واقع البلد ومساره، وحقيقة نبض الشعب فيه، عبر جمع التجارب المختلفة، وفحص المشترك بينها، لذلك تزايد بداخلي حلم كتابة عمل أدبي يتناول سوريا، من زاوية الإنسان فيها، ورؤيته لما مر به، فالشعوب هي أكثر من يدفع ثمن أفكار وسياسات وأهواء الحكام.

من هنا، وجدت نفسي أمام مسألة مفصلية في كتابة الرواية، وهي لغة الحوار على ألسنة الشخصيات السورية، هل تكون بالفصحى التي أحبها وأميل إليها في الكتابة أم الاستفادة من جاذبية اللهجة السورية ونقل مفرداتها؟. ملت إلى الجانب الثاني لأجد نفسي وقتها أمام قضية أخرى وهي أنني مهما أتقنت اللهجة السورية تظل هناك مفردات وتعبيرات وأمثال لا أعرفها، لذا فقد استعنت بأصدقاء سوريين ممن وجهت لهم الشكر في ختام الرواية، وكثيرا ما كنت أسألهم في منتصف الليل أو الصباح الباكر عن معنى كلمة أو: "بماذا تسمون كذا؟ وكيف تنطقونه بدقة؟"، وفوجئت بأن هناك أحيانا مسميات مختلفة ولهجات متنوعة، بين المدن والمحافظات السورية، وربما كان هذا ما منح الرواية بعض الزخم في هذا الجانب.

ولا شك أن الفيسبوك يمكن أن يقرب اللهجات العربية الصعبة إلى مختلف الشعوب بعض الشيء، بشرط أن يضع من يكتبون بها في أذهانهم قبلا أنهم يريدون التعريف بلهجة بلادهم، وألا يكتبوا لمواطنيهم فقط، أقصد التبسيط قدر الإمكان، أو حتى التفسير أحيانا بين قوسين لبعض المفردات الصعبة، ما المانع؟. لكن الأهم في الفيسبوك هو تعريف البشر ببعضهم البعض وبقضاياهم وما يشغلهم، وعندئذ يمكن بعدها الاستفسار عن معاني بعض المفردات، المهم ألا ينغلق كل منا على نفسه ومشاكله ولهجته، فقد رأينا أوروبا التي شهدت في الماضي حروبا تاريخية طاحنة بين شعوبها، لكنها استطاعت أن تقوى عبر التقارب والوحدة بين دولها، فلماذا نعجز نحن العرب وبيننا كل هذا التاريخ المشترك؟!.

المسار العربي: يتضح من قراءة الصفحات الأولى من الرواية أن شخصية البطل قريبة جدا من الروائي، وهنا نشير إلى تصميم الأغلفة، وقد يكون الغلاف وحده ملخصا جامعا. متى ينجح غلاف الرواية ويكون سببا في نجاحها؟

محمد شعير: عنوان أي عمل أدبي وغلافه هما العتبة الأولى في النص، وهما ما يمكن أن يجذب مبدئيا إلى الاطلاع عليه أو يصرف الأنظار عنه. وبالنسبة لغلاف رواية "مصنع السكر" فلعل من المفارقات هنا أن الناشر حسن غراب مدير دار غراب للنشر والتوزيع ناشرة الرواية تحدث معي قبل إعداد الغلاف سائلا عما إذا كان في ذهني اسم فنان بعينه لعمل الغلاف، مضيفا أن دار النشر تتعامل مع مصممة أغلفة اسمها ديمة المصري، سورية الجنسية. وهنا تهللت وقلت له إنني أريد هذه الفنانة السورية رغم أنني لم أكن أعرفها من قبل، لكنني شعرت بأنها سوف تكون أفضل من يعبر عن الحكاية التي تتعلق في جانب كبير منها بقصة ما جرى في بلادها.

وعندئذ بدأتُ رحلة طويلة مع "ديمة"، عبر الاتصالات والرسائل، وقد أجهدتها للوصول إلى الفكرة المعبرة، وكثيرا ما كنت أقول لها إنني أفكر في أن يضم الغلاف كذا وكذا، فتستجيب لفكرتي، ونعاود النظر معا في الأمر، ثم نضيف ونعدل، وهكذا حتى وصلنا إلى الصيغة النهائية، ولا بد أن أوجه الشكر لها وللناشر حسن غراب على حسن التعامل، والجدية في محاولة إخراج العمل بأفضل صورة ممكنة. وقد أسعدني أن بعض نقاد الأدب قد أسهب في شرح وتحليل الغلاف وحده وعناصره قبل مناقشة النص نفسه، في الندوات التي أقيمت لمناقشة الرواية، مما يدل على نجاح الغلاف.

أما بشأن شخصية البطل وكونه فنانا يعمل في صناعة أغلفة الروايات والكتب، فلا شك أن الكاتب بشكل عام يختار من الشخصيات والقضايا ما يرتبط بمحيطه وما يعرفه، لكنني في الحقيقة لم أكن على دراية كبيرة بهذا المجال الفني، واحتجت إلى القراءة عنه، فضلا عن قراءة حوارات عديدة لأبرز مصممي الأغلفة في مصر، كي أقترب من عالمهم، وأعرف تفاصيل عملهم، حتى يمتلك بطل الرواية "زياد ثابت" أدواته، ويشرع في استخدامها في عمله في الرواية.

وقد يثور السؤال في ضوء ما سبق، لماذا اخترت شخصية لا أعرف الكثير مسبقا عن مجال عملها؟!. وإجابتي التي لا بد أن تكون مقتضبة هي أن الكاتب عموما يكون في ذهنه الكثير من مواصفات الشخصية نفسها، وسماتها العقلية والنفسية، وسلوكها وتوجهها، فيختار لها مهنة تكون هي الأقرب لكل ذلك، لكن دون إفصاح، فالإفصاح عن المعاني والمدلولات في الأدب يفسده، والقارئ وحده صاحب الحق في التفسير، مهما تتعدد أو تختلف التفسيرات والرؤى.

المسار العربي: ملامح رواية مصنع السكر من ملامح الأدب الغربي المترجم، ويتجلى من خلال ذكر أسماء فنية حقيقية. هل شغف قراءة الأدب الغربي فعل فعلته في تجربتكم؟. وماذا عن أدب المعني في الرواية المصرية الحديثة؟

محمد شعير: الأصل في فعل الكتابة هو القراءة، قراءة كل شيء ممكن، من أدب عربي أو غربي، كتب أو مقالات، فضلا بالطبع عن مشاهدة السينما والدراما والمسرح، والاستماع إلى الموسيقى والغناء. ويضاف إلى ذلك قراءة الواقع نفسه، عبر الاحتكاك بالبشر، والإنصات لهم، وفهمهم. ثم ينصهر هذا كله، ويخرج من خلال الكتابة، دون قصد أو استهداف لشيء بعينه، كمحاكاة أسلوب أو تقليد أنموذج، وإلا صار العمل الأدبي مسخا.

هذا ما أحاول فعله، أسعى دوما إلى المعرفة، عبر مختلف الوسائط والسبل، ولا أقرأ في اتجاه واحد، لكنني بالطبع أجدني منجذبا إلى اللغة السهلة البسيطة، والحبكة المشوقة، فالأصل في الأدب هو الحكاية، وألا يشعر القارئ بالملل، كي لا أفقده. والبساطة لا تعني أبدا السطحية، بل إن الأصعب هو أن يكون الكاتب بسيطا وعميقا في الوقت نفسه، وأن يكون للحكاية والقصة المشوقة تفسيراتها ودلالاتها الأعمق، وهذا هو ما تقوم عليه نظرية "جبل الجليد" في الكتابة للأديب الأمريكي إرنست همنجواي، التي كتبت عنها منذ فترة قريبة.

قرأت بالطبع لنجيب محفوظ ويوسف إدريس وتشيكوف ودستيوفيسكي وهمنجواي وآخرين كثيرين. لكن المهم دوما هو التعبير عن الشخصيات في الأدب بالأسلوب الذي يناسبها، فمن الطبيعي على سبيل المثال أن تتعلق إحدى بطلات روايتي التي عاشت فترة طويلة من عمرها في أوروبا بأغنية وموسيقى غربية، ويصبح الأمر مضحكا وغير معقول إن جعلتها تحب أغنية شعبية مصرية قديمة مثلا، إلا إذا كان ذلك يتسق مع جانب ما في الشخصية.

والرواية المصرية عموما في حال جيدة، وهي منتشرة الآن كثيرا. وهذا الانتشار يتيح الفرز، ليبقى السمين عبر الزمن ويتوارى الغث. هناك محاولات للتجريب في الكتابة واتباع مناهج وطرق الحداثة، لكنني بشكل شخصي أميل إلى فكرة مفادها أن الواقع كثيرا ما يكون أغرب من الخيال، فلماذا ألجأ في كتابتي إلى الغرائبية المفرطة عبر تضمينها رجالا يطيرون في السماء وفتيات تختفين في مقاعدهن؟!.

هذه ذائقتي الشخصية في القراءة والكتابة معا، ولا أجبر أحدا عليها، لكن تفاصيل الواقع بالنسبة لي شديدة الإغراء دوما لتناولها في قصص وحكايات لها مدلولاتها، وكثيرا ما يكشف القارئ نفسه أو الناقد بعض المدلولات التي لم تخطر ببالي، لكنني عندما أسمعها أجدها جيدة للغاية ومتماسكة. تلك هي مشاركة القارئ في كتابة العمل الأدبي، عبر تلقيه وتحليله وتفسيره وفقا لثقافته هو ووعيه. أما الأعمال المغرقة في الغرائبية أظن أن القارئ يعجز أصلا عن فهمها، فيكون متلقيا سلبيا، مكتفيا بالظن واهما أن الكاتب من فرط عمقه جاءت كتابته هكذا غير مفهومة، وهذا غير صحيح. وبشكل عام أظن أن القصة القصيرة في مصر حاليا أفضل حالا وأكثر جذبا من الرواية، ربما ينقصها فقط النشر والترويج الكافيان، كما أن حال الرواية أيضا ليس سيئا.

المسار العربي: البيئة المختارة في الرواية تجعل القارئ يتوقع إقحام الربيع العربي. وهنا نطلب منكم أقوى مشهد يترجم الواقع المرير!

محمد شعير: الربيع العربي!.. يا للشجن!.. يا للدروس والتقلبات والعبر!.. كنت واحدًا ممن صدقوه في البداية ورأوه بالفعل ربيعا، لكننا تعلمنا كثيرا، وتألمنا أيضا كثيرا، ودفعنا الثمن. ورواية "مصنع السكر" تتناول هذه المسألة بالطبع لكن بشكل غير مباشر، إنما من واقع تأثيراته المتعددة على حياة الإنسان، في سوريا، ومصر أيضا. واسمحي لي أن أختار من الرواية مشهدين، وليس مشهدا واحدا.

الأول إنساني، وهو مشهد البطلة السورية "ورد" عندما كانت تتحدث عبر الماسنجر بالفيديو مع حبيبها المصري "زياد"، ثم مرت فوق مدينتها طائرة حربية، محدثة صوت تفريغ الهواء الذي أثارها رعبا، وانقطع الاتصال بين الحبيبين، ليعيش بعدها البطل دقائق من رعب آخر، ظن خلالها أنه فقد حبيبته للأبد، بفعل قصف جوي، لكنها عادت لتفسر له ما حدث، ثم كتبت له بلهجتها رسالة قصيرة مؤلمة، ملمحة إلى إمكانية الموت في أي لحظة: "زياد.. لو صار شي اعرف إني حبيتك كتير"!.

أما المشهد الثاني فهو واقعي، ولا يحتاج إلى تعليق أو تفسير، بما يحمله من دلالات على مسألة "الربيع العربي" بالكامل، وهو مشهد مصنع السكر في مدينة "جسر الشغور" الذي تتخذه الرواية كأنه شاهد على كل ما جرى، إذ استخدمته القوات الحكومية كثكنة عسكرية في حربها ضد الميليشيات المسلحة، وعندما دانت السيطرة عليه للميليشيات قامت هذه بتفكيكه وبيع معداته للاستفادة من أرباحها، ففي الحالتين لم يهتم أحد بتشغيل المصنع وإعادة العمل والإنتاج فيه، ولا كلام أكثر يمكن أن يقال.

المسار العربي: الأمكنة التي تدور فيها أحداث الرواية مغلقة في ظل رغبة القارئ في نقله إلى الفضاءات المفتوحة لاستقبال شخصيات الرواية. كيف كانت خطة البناء في الشخصيات واختيار الأمكنة؟

محمد شعير: ليس كل الأماكن التي تدور فيها أحداث الرواية مغلقة، إنما اقتصر ذلك على ما تستلزمه بعض المشاهد التي كان البطل فيها هو حوار وصراع الأفكار بين الشخصيات، لكن باقي المشاهد تم رسمها في أماكنها المذكورة في الرواية، سواء في مصر أو سوريا، وتحديدا في حمص التي تنتمي إليها البطلة، وأماكن أخرى مثل جسر الشغور وتدمر ومشتى الحلو، مع محاولة الوصف الدقيق لها.

ولعلي أكشف لأول مرة أنني استعنت بخرائط "قوقل" لمعرفة أسماء الشوارع الصغيرة في الحي الذي تنتمي إليه البطلة "ورد"، وكذلك في باقي المدن السورية الواردة في الرواية، فضلا عن القراءة بكثافة عنها وتفاصيلها الجغرافية والمناخية، بخلاف التقسيمات العرقية والطائفية في الأحياء السكنية، في مدينة حمص بالتحديد، التي تشتهر بأنها مدينة التنوع التي تضم مختلف الأطياف.

وقد سعدت للغاية بتعليقات كثير من الإخوة السوريين الذين قرأوا الرواية، واستغربوا كثيرا عدم زيارتي سوريا من قبل، بينما قال بعضهم إنني أضفت إليهم معلومات لم يكونوا يعرفونها من قبل عن أماكن في بلدهم، وإنني كتبت الرواية كما لو كنتُ مواطنا سوريا، وداعبني آخرون قائلين إنه لا بد من منحي الجنسية السورية، وهو شرف وفخر لي.

كل هذا أسعدني، لأنني كنت شديد القلق بشأن رد فعل القراء السوريين بالتحديد، خوفا من أن أسقط في فخ ذكر مفردة غير دقيقة في لهجتهم أو معلومة غير صحيحة عن بلادهم، فيسقط في نظرهم العمل بالكامل، ويشعروا بأنني أكتب كتابة من فوق السطح، بغير علم أو عمق، لكن ما حدث هو العكس، بحمد الله.

المسار العربي: تبدو الرواية توثيقا لأحداث عصيبة مر بها الشعب السوري ومنها الزلزال الذى ضرب هذه الأرض يقابله زلزال المشاعر الموازي عندما قرر البطل الزواج من حبيبته.
بم تعلقون؟

محمد شعير: الحقيقة أن الرواية كُتبت قبل وقوع الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا، فلم أتعرض له، لكنني رأيت هذا الحدث في الواقع تتويجا وذروة للزلزال السياسي والعسكري السوري الكبير الذي ضرب وما زال يضرب هذا البلد، فأعاد سوريا العزيزة الغالية، البلد المهم الضارب في أغوار التاريخ والجغرافيا، إلى ما يشبه حياة العصور الوسطى، كما يقول لي الآن أصدقاء سوريون كثر، بكل أسف.

وعندما أقول هذا الكلام فإنني لا أخشى الحساسيات بين الشعوب العربية، إذ أنني رغم اعتزازي الشديد بمصريتي، أعتبر نفسي خلال الحديث عن أي بلد عربي من أبناء البلد، فأنا سوري، وجزائري، ومغربي، ويمني، وسوداني، لذا لا أخفي أن الحياة المعيشية للسوريين حاليا لا تليق بالمرة بأبناء هذا البلد العظيم، فالكهرباء تنقطع أغلب ساعات اليوم، والفقر المدقع هو المسيطر، لا تدفئة في الشتاء ولا تهوية في الصيف، والطعام والمازوت والدواء كلها شديد الغلاء، لكن العالم انشغل الآن بفاجعة أخرى كبيرة، هي المواجهة الدامية التي تحدث في فلسطين بغزة، ولم يعد أحد يتحدث عما آلت إليه حياة المواطن السوري، بعد ثلاثة عشر عاما من الدم والألم!.

المسار العربي: نصل من خلال قراءة الرواية إلى تصعيد آخر وهو كورونا اللعين الذي حصد أرواحا في كل العالم ونجد أنفسنا قد تعجلنا في الحكم على الرواية كونها من رحم الأدب الغربي المترجم، وانتشار ما يسمي أدب كورونا. بشيء من التفصيل هل المحن تخلق مواصفات جديدة للرواية؟

محمد شعير: اخترت أن تدور أحداث الرواية خلال العام 2021، وسميته العام الوسيط في مأساة فيروس كورونا الذي أصاب العالم، وحمل على جناحه الخوف والهلع للبشرية، لكنه حمل أيضا على جناحه الآخر أسئلة كبرى، بدأ البشر وقتها يطرحونها على أنفسهم، ولم يكونوا يفعلون من قبل، إنها الأسئلة حول المسار والمصير في الدنيا، وكان سؤال الوقت حينها: هل سنعبر الأزمة ونبقى أم ستفنى البشرية؟!. وعبر آخرون عن توقهم إلى "الحياة العادية"، وشوقهم إلى ذلك اليوم الذي كان يبدو في حياة الإنسان رتيبا ومملا، لكنه على الأقل كان يمضي بلا خوف من الفناء.

هذه مسائل كبرى وفاصلة، ورغم أنني لا أحب أن يقدم الكاتب أي تفسير حول عمله الأدبي، أو أن يحرق أحداثه لمن لم يقرأه، لكنني أقول إن اختيار هذا العام الوسيط ليكون زمن الأحداث في الرواية كان مقصودا بالطبع، وتم التعبير عن معناه الموازي بوضوح أكثر من مرة في الرواية من خلال كلمتي "بين بين"، بين الميلاد والموت، بين اليقين والشك، بين العمران والهدم، بين الشغف والانطفاء، بين المحبة والكراهية، فهذه هي النفس البشرية خلال رحلتها في الحياة. ولا شك أن أي أزمة كبرى أو محنة يمر بها الإنسان تدفعه للتوقف عندئذ وإعادة النظر إلى الماضي، ليعرف موطئ قدمه، ويقيم مسيرته، ويرى كيف يكمل رحلته، حتى يحين موعد رحيله.

المسار العربي: يبقى عنوان الرواية مثيرا للفضول، والتشويق في الرواية من خلال الأحداث والمشاعر المنسوجة برؤية الروائي ليعود بنا إلى سنوات الخمسينات وبطلة أخرى وهي الأم، مما يلمح إلى أن الروائي محمد شعير سينارست أيضا من خلال توظيف تقنية فلاش باك.

محمد شعير: سوف أفاجئك يا عزيزتي بقولي إنني قبل الشروع في كتابة الرواية دونتُ في ملفها على جهاز الحاسوب عندي عبارة (رواية تصلح للسينما)، ليس بهدف أن يتم تقديمها بالفعل سينمائيا أو دراميا، فهذه السوق أصبح اختراقها أمرا شديد الصعوبة، ويحتاج إلى شبكات علاقات ومصالح متبادلة في أحيان كثيرة، لكن هدفي من هذه العبارة كان تذكير نفسي بقاعدة مهمة أسعى جاهدا دوما إلى تحقيقها، هذه القاعدة يمكن اختصارها في عبارة أخرى، وهي (أن يرى القارئ بعينه خلال القراءة)، أي أن يشاهد - من خلال الكتابة فقط- كل ما يجري، فيتخيل الشخصيات، وطريقة الانفعالات، وأماكن الأحداث، يستمع إلى الأصوات، ويشم الروائح، أي أن يعيش بكل حواسه في بيئة الحكاية.

هذا هو هدفي الدائم في الكتابة، وأسعد كثيرا عندما أنجح في تحقيقه، كأن تقول لي مثلا شخصية جادة أو ربما جامدة: "سامحك الله.. أبكيتني". هذا كله يسعدني، سواء تحولت الرواية إلى عمل درامي أم لا. وقد أهديتها بالفعل إلى عدد من النجوم الفنانين والمخرجين في مصر، دون انتظار النتائج، لكنني فقط أقوم بدوري كاملا للنهاية، فقد عشت مع هذه الرواية بكل حواسي بصدق، بكيت مع أبطالها بحرارة، وضحكت، فإن لم ينفعل الكاتب مع العمل أولا ويصدقه كيف يمكن له أن ينتظر انفعال القارئ أو تصديقه؟!.




صحيفة المسار العربي الجزائرية.. عدد الأربعاء 14-08-2024.. حوار الأستاذة تركية لوصيف المحترمة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى