د. عبدالجبار العلمي - في ذكْرى النَّاقد المُبدع سيّد البَحْراوي... قراءة في كتاب "الإيقاع في شعر السَّيَّاب" للناقد د. سيد البحراوي - القسم الثاني

( القسم الثاني من الدراسة )


المستوى التطبيقي :
يشتمل المستوى التطبيقي في الدراسة على ثلاثة فصول ، كل فصل منها رُصد لدراسة شكل من الأشكال التي استخدمها السياب في شعره.
فالفصل الأول يتناول فيه الباحث بالدراسة والتحليل الشكل التقليدي ( العمودي ) ، وذلك من خلال عينة من قصائد هذا الشكل تتكون من سبع قصائد هي : يانهر ـ لحن جديد ـ حاطم الأغلال ـ عينان ـ عاشق الوهم ـ مرثية الآلهة ـ الزعيم المفتقد.
والفصل الثاني يخصصه لدراسة الشكل المقطوعي المتمثل في الأنماط الشعرية الآتية : المزدوج ـ، المربع ـ المخمس ـ المسمط ـ الموشح ، وذلك من خلال عينة اختارها الدارس مكونة من خمس قصائد هي : على الشاطئ ـ إلى حسناء القصر ـ إلى حسناء الكوخ ـ خواطر طائرة ـ نفس وقبر.
أما في الفصل الثالث ، فيدرس فيه قصيدة الشعر الحر ( التفعيلية ) ، وذلك من خلال عينة مختارة من قصائد هذا الشكل تتكون من خمس قصائد هي : هل كان حباً ؟ ـ غريب على الخليج ـ لأنني غريب ـ جيكور أمي ـ إقبال والليل.
والملاحظ أن الباحث راعى في اختياره العينات الثلاث ، أن تكون ممثلة لمختلف محطات تجربة الشاعر زمنياً وفنياً ومضمونياً ، ولذلك عني بتواريخ كتابة قصائد متنه المدروس في مختلف أشكاله.ومن أهم ما لاحظه الباحث في محطة تجربة الشعر الحر أن الشاعر عاد إلى كتابة القصيدة على الشكل العمودي في قصائد متفرقة .يقول الدكتور سيد البحراوي متسائلا : " فلماذا ، إذن ، عاد إلى الشكل التقليدي مرة أخرى ؟. وقد فسر الباحث تفسيراً أراه مقنعاً لعودة السياب فجأة عقب سنة 1954 إلى كتابة تسع قصائد على هذا الشكل بقوله : " إن السياب منذ ذلك التاريخ بدأ موقفه السياسي يتهافت ، وبدأ موقفه من الحياة يضعف ويشعر بفقدان الأمل في المستقبل ، وكان الماضي هو الطريق الوحيد أمامه ليستند إليه. فعاد إليه يستلهمه ، سواء كان هذا الماضي ماضيه أو ماضي أمته . والشكل التقليدي يجمع بين ماضيه الشخصي وبين ماضي أمته ، فلماذا لايعود إليه !"([33]).وبقوله كذلك : " إن عودة السياب إلى الشكل التقليدي ، في نهاية حياته ، ارتداد إلى الماضي بقيمه المثالية وموقفه الكلاسيكي. ولم يكن أمام السياب غير ذلك بعد أن أحرق سفنه مع الحاضر والمستقبل أيضاً. " ([34] )
إذا انتقلنا إلى الأقسام التي يتضمنها كل فصل من الفصول الثلاثة المنوه إليها لأعلاه نجدالباحث يقسمها بدورها إلى ثلاثة أقسام : الأول : دراسة وصفية لكل عينة / الثاني : دراسة تحليلية لها /
الثالث : دراسة وظيفة الإيقاع.



في القسم الأول يتناول بالدراسة والتحليل عناصر الإيقاع التي تعرفنا عليها في المهاد النظري. وهي : النظام المقطعي ـ النظام النبري ـ التنغيم والقافية ، وهكذا يعمد إلى دراسة إحصائية دقيقة للأوزان الشعرية المستخدمة في كل شكل ، وعدد الأنساق المقطعية ونسبة ورودها في قصائد كل عينة ، ومواضع النبر ، وعدد مرات ورود النماذج التي ورد بها نبر واحد أو نبران أو ثلاث نبرات ، كما يعمد لدى دراسة التنغيم إلى إحصاء أنماط الجمل في القصائد التي تناولها في كل شكل من تقرير واستفهام وأمر ونداء وتمن وتعجب وتحذير ودعاء. ثم يخلص بعد ذلك إلى دراسة القافية من حيث أنواعها المعروفة في العروض العربي من تأسيس ودخيل وردف ووصل وخروج ، مع بيان نوع الروي : مطلق أو مقيد . ثم يدرس حروف الروي في كل شكل من الأشكال الشعرية التي وظفها الشاعر، محصياً عدد ورود كل منها وبيان مخارجها الصوتية من جهر وهمس.
في القسم الثاني من كل فصل ، يتناول الدارس قصائد العينة التي اختارها للدراسة والتحليل ، فيبدأ برصد العناصر الشعرية المذكورة آنفاً في كل قصيدة على حدة بشكل تفصيلي ، فيدرس أولا النظام المقطعي للقصيدة ، ثم النظام النبري ، ثم التنغيم وإيقاع النهاية ثم أخيراً القافية والروي.
أما القسم الثالث من كل فصل ، فيخصصه لدراسة وظيفة الإيقاع ، يفرد الفصل الأول منه للشكل التقليدي ، والثاني للشكل المقطوعي ، والثالث للشعر الحر.
والجدير بالذكر أن الدكتور سيد البحراوي يحرص في سائر فصول كتابه على اتباع هذا المخطط المنهجي بدقة وصرامة ، لا يحيد عنه قيد أنملة. فنفس الخطوات المنهجية التي نلاحظها في الدراسة الوصفية لعموم المتن ، نصادفها لدى قراءتنا للدراسة التحليلية. وهذا النظام الصارم أكسب البحث طابعاً علمياً دقيقاً يدخل في إطار علمنة الدرس الأدبي ، لاسيما وأن البحث اعتمد في دراسة كل العناصر الإيقاعية على العد والإحصاء ، وذلك من خلال جداول إحصائية يتعلق كل منها بعنصر من هذه العناصروقد وردت كما يلي : جداول تبين الأوزان الشعرية التي استخدمها السياب في كل شكل ـ جداول تبين مدى توظيفه للأوزان التامة والمجزوءة ـ جداول تبين عدد الأنساق المقطعية وعدد مرات ورودها في كل شكل ـ جداول تبين عدد ورود النماذج التي بها نبر واحد أو نبران أوثلاث نبرات أو أكثر، ونسبها المئوية ـ جداول تبين أنماط الجمل في عينة قصائد كل شكل ـ جداول خاصة بالقوافي وحروف الروي المستعملة في جميع العينات المختارة من كل شكل .
في خاتمة البحث يعرض الباحث النتائج التي توصل إليها في دراسته للإيقاع في شعر السياب . وأهم هذه النتائج هي :
ـ أن المقاطع ظلت أكثر العناصر تنظيما وتوظيفاً في الشكلين التقليدي والمقطوعي، ولم تكن كذلك في الشكل الحر.
ـ أن النبر ظل أقل العناصر تنظيماً وتوظيفاً في كل الأشكال، ورغم فعاليته العالية في بعض القصائد إلا أنه لم يكن وحده العنصر الفعال في أية قصيدة كما أنه لم يقم عليه وحده إيقاع أية قصيدة.
ـ أن التنغيم كان محدوداً في الشكل التقليدي لغلبة الأسلوب التقريري الخبري ، بينما طغى الأسلوب الإنشائي على الجمل في الشكل المقطوعي ، وعرف إيقاع النهاية في هذا الشكل صعوداً وهبوطاً واستواءً. أما في الشعر الحر ، فكان التنغيم وإيقاع النهاية أهم العناصر جميعاً بسبب حرية الشاعر في اختيار جمله أو استعمال التضمين والتدوير وتوزيع القافية وأصواتها بطرق جديدة تحقق إيقاعاً واضحاً في إيقاع النهاية.
ـ أن السمة المهيمنة على إيقاع معظم قصائد العينة المدروسة هي البطء ، وهذا يرتبط بتجربة الشاعر الحياتية والشعرية ، ويفسر الباحث بطء الإيقاع في شعر السياب بما كان يعانيه من حزن وإحباط ويأس، ويفسر تطور رؤيته عبر حياته ، بالتطور في النظام الإيقاعي في مكوناته وتوظيفه. وكلما زاد الشاعر حزناً ويأساً ، يزداد الإيقاع بطءً.
ـ أن حركة العناصر الإيقاعية تتصف بطابع الدرامية والصراع ، فإذا كانت المقاطع ـ مثلا ـ في أغلب القصائد تطبع الإيقاع بطابع البطء ، فإن النبر يخفف من هذا البطء . ثم إن ثمة قصائد انتهكت طابع البطء وخرجت عليه.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...