صابر رشدي - الولد الذى...

الولد الشاحب، مطفأ العينين، المخدر دائما بأحلامه المحرمة، كان يجلس بالمقعد الأخير بغرفة الدراسة، مشتتا، وشبه غائب عن الوعي، كفيلسوف للغرائز المحتقرة.
كان وجهه يضيء مرة واحدة في اليوم، فقط، عند حضور مدرسة اللغة الإنجليزية، تلمع عيناه بالفرح المفاجئ، والانتعاش المخالف لطبيعته. إنه يجلس وحيدا بعدما هرب كل التلاميذ من الجلوس إلى جواره، تاركين له كل هذا البراح. ممتعضين من فكرة الجلوس إلى جانبه.
هدوء ودماثة خلق المعلمة الشابة، لم يمنعا ملاحة بادية لامرأة في مقتبل العمر، تتمتع بكثير من الأشياء الجاذبة، تظهرها بدانة خفيفة ومحببة، تروق لأولئك المنتسبين للبروليتاريا الكادحة.
كانت لا تعاقب احدا من الطلبة، لكنها تستعيض عن ذلك باستدعاء الإختصاصي الاجتماعي للمدرسة، وهو رجل خاض حربين داميتين وذاق تجربة أسر مريرة. إنه يحمل عصا غليظة، يدير بها طابور الصباح، ثم يتجول بها بين الفصول، وفي فناء المدرسة، ربما وجد تلميذا بعيدا عن غرفة الدراسة بدون سبب، غالبا ما ستكون هناك مجزرة بلا مبررات موضوعية.
الولد الشاحب، وجد هوايته في أشياء غريبة، الحد الأقصى لهذه الهواية كان يأتى كتصفية حساب مع أستاذة اللغة الإنجليزية تحديدا، فقد كانت سببا في كل العقوبات التي وقعت عليه من الإخصائي. كان يعلق بصره على هيئتها، يحدق إليها فاغرا فاه، ولا يرفع عيناه عنها، رغم احتشامها في الملبس، ووقارها الحقيقي. يجن جنونه عندما تستدير، لتخط بالطباشير على السبورة السوداء. حاصرا رد فعله الإنتقامي في مشروع شبقي، قائما بأفعال متهورة، مستغلا اختفاء نصفه الأسفل وراء الدكة الخشبية، مندمجا في هذه المشاهد الحية مع لقطات مختزنة فى ذاكرته لبطلات سينما تلك المرحلة، حيث الأفلام موزعة بين رمال الشواطئ وغرف النوم. ينزلق إلى عالم حسي، متابعا لأدق تحركات السيدة، رجرجتها الحانية، تموجات الجسد المرن. ثمة انتصارات وهمية، ووثيقة الصلة بصراعه معها، تنتهي بخموده التام.
لم تكن تلك المرة الأولى التي تلاحظ فيها هذه الخطة السرية التي تدار من وراء ظهرها، فهي متحرجة، وتعرف أن الأمر مؤلم وشديد الحساسية. إنه تلميذ فاشل فى الدراسة؛ لكن ما يحدث في هذه اللحظات أشعل ثورة داخلها، حاولت قمعها بصعوبة. كانت غاضبة على نحو لا يوصف.
بمكر أنثوي، مشحون بالقهر والألم، ربما الخجل الصاعق، بدأت في الاقتراب من طاولته بعدما التقطت كتابا وراحت تقرأ فيه بصوت مخنوق ومتحشرج، حتى اقتربت منه تماما، ثم نظرت إلى الأرض تحت قدميه.
سألته:
- ما هذا؟
لم يرد
ـ ماهذا؟
ظل صامتا
سحقها التوتر
عاودت السؤال:
ـ ما هذا؟
- صدري تعبان. نطق أخيراً.
ـ ما دخل صدرك بهذه البقع التي تلطخ الأرض؟
ـ هذا بلغم. رد ببرود.
ـ يا سافل يابن ال.....
صرخت على نحو هستيري مدو.
فى غضون لحظات، حضرت قيادات المدرسة ومعظم المدرسين. تحول الفصل إلى ساحة جريمة، يعج بالمحققين والمتطفلين. لا يوجد هنا مجال لوصف الارتباك الناجم عن هذا المشهد، أو وضع عبارات مناسبة لتغطية ما حدث في هذا اليوم التاريخي. لكني أستطيع أن أجزم بأن هذه هي المرة الأخيرة التي رأيت فيهاهذا الولد داخل مدرستنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى