جاء في نبأ برقي من نيويورك أن الجماعة البريطانية المؤلفة للترفيه عن الجنود أعلنت أن ستين ألف كتاب ومجلة تجتاز الآن طريقها إلى الجيش الإمبراطوري في الشرق الأوسط؛ وهي أول ثمرة من ثمرات الدعوة التي بدئت في الولايات المتحدة قبل ذلك بأسبوع واحد لجمع مائتين وخمسين ألفاً من الكتب والمجلات لرجال الجنرال (أوفنلك) بمصر وجاراتها
وهذا في الولايات المتحدة
وهناك جماعات أخرى مبثوثة في أنحاء العالم - وبعضها في القاهرة والإسكندرية - تجمع الكتب بالألوف ومئات الألوف للترفيه عن المقاتلين أو المتحفزين للقتال
وهذه كتب ترسل إلى الجنود بغير ثمن، ولكن الجنود أنفسهم يشترون الكتب والمجلات حيث وجدوها بأثمان مضاعفة تربى على أثمانها المكتوبة عليها، ولا يكتفون بما يصل إليهم من طريق التبرع والمساعدة
ومن راقب المكتبات التي تبيع الكتب الأجنبية في العواصم المصرية عرف أن حركة البيع فيها مقرونة بحركة الجنود في نواحيها، فلا يكثر الجنود في عاصمة إلا كثر فيها بيع الكتب والمطبوعات على اختلاف موضوعاتها
وليست هذه الكتب والمطبوعات جميعها قصصاً أو من قبيل القصص كما يتبادر إلى الخاطر لأول وهلة؛ فإن الموضوعات القصصية تغلب عليها، إلا أنها تقترن بموضوعات شتى لها نصيب من إقبال الجنود غير مبخوس، ومن هذه الموضوعات الرحلات والملاحظات الحربية، والكلام على مستقبل العالم الاجتماعي والسياسي بعد الحرب الحاضرة، ومنها الدراسات الأدبية والفلسفية للقدماء والمحدثين من المؤلفين!
واتفق كثيراً أن المكتبات التي تعرف ما عندي من الكتب التي انقطع ورودها كانت تسألني عما استغني عنه منها، لأنها تطلب من تلك المكتبات ولا تستطيع جلبها من الخارج في أيام معدودات، وكنت أسأل أصحاب المكتبات أحياناً عمن يطلبونها فيدهشني أن أسمع أنهم في بعض الأحايين من طبقة الجنود الصغار وهم مع ذلك حريصون على استطلاع أحوال البلاد وتواريخها، أو أحوال العالم وقضاياه ومشكلاته، كأنهم سيدبرون أمر تلك القض والمشكلات، أو سيصنفون فيها الكتب والمقالات. ولاشيء من هذا وذاك يشغلهم في الحقيقة وإنما هو العقل المتفتح لما حوله لا يستطيع أن يحتجب عنه أو يحجبه عن الوصول أليه، ولو كان في ميدان قتال!
نعم ولو كان في ميدان قتال!
وينبغي أن نذكر هذا الاستدراك وأن نعيد ذكره ولا ننساه، فإن الجندي في ميدان القتال إما مشغول بحركة العمل الحربي، أو بحركة الرياضة والمرانة والاستعداد، أو هو إن فرغ من هذه وتلك منصرف إلى اللهو والتزود من متعة الحياة؛ فليس في وقته متسع للقراءة كائناً ما كان موضوعها من السهولة والتشويق، وأحرى ألا يبلغ من اتساع وقته لها أن يحتاج الجيش كله إلى كتب ومجلات تعد بمئات الألوف
ولكن الحاصل هو هذا
الحاصل أن الجنود المقاتلين أو المتأهبين للقتال يقرءون ويدرسون، ويشترون الكتب ولا يقنعون بمئات الألوف التي يتبرع لهم بها المتبرعون
وينبغي أن نعيد هنا توكيد ميدان القتال والقراءة على أهبة من دخول الميدان
فإن طوائف من الشبان المصريين - والشرقيين عامة - كنت إذا لمتهم في الإعراض عن القراءة والمعرفة قالوا لك إن العصر عصر رياضة ولعب وركوب ومسابقات، وليس بعصر قعود ودراسة وقبوع في المكتبات! فهم يعتذرون من خمود الذهن بما ينتحلونه من نشاط الجسد. . . وليس من النشاط أن يصاب الذهن الإنساني بالخمود ولو صحبته ألوف من الأذرع والسيقان لا ينقطع لها حراك
فهذه الطوائف من الشبان خليقة أن تعلم أية رياضة هي رياضة الجندي على أهبة القتال. فهو في رياضة لا انتهاء لها في صباح ولا مساء، بل في رياضة تبلغ من العنف أن تستنفذ جهود الأعضاء والإفهام
ومع هذا هم يطلعون ويستطلعون، وتضفر منهم المطالعة والاستطلاع بحصة من الوقت لا تضفران بعشر معاشرها من أوقات شبابنا في أبان البطالة والسلام
قال لي أديب يحب أن يتحذلق بالغريب من الآراء: أترى أن القراءة شاغل من شواغل الطبيعة؟ أليست هذه الكتب وهذه الأوراق بدعة من بدع الصناعة التي لا أساس لها في تكوين البنية، ولا حرج إذن على الشاب (المطبوع) أن يصدق عنها بفطرته وينصرف إلى ما تصرفه إليه طبيعة التكوين؟
وأديبنا هذا يحسب الكتب أوراقاً وحروفاً من صنع الحداد وابتداع المخترع الحديث؟
ولهذا هي عنده متاع (مصنوع) وليست بالمتاع المطبوع الذي له في البنية أساس كأساس الجوع والضما وسائر الشهوات
أما معاني الكتب وما تبعثه من شعور فلا تدخل له في حساب. ومعاني الكتب مع هذا شيء حيوي عضوي يمتزج بالتكوين الإنساني كما يمتزج به الغذاء واللهو والرياضة، لأنها من وظائف الوعي الذي هو خلاصة الشعور والإدراك. وهل للحياة الإنسانية بغير (الوعي) وجود؟ وهل لوجودها بغيره قيمة؟ وهل تختلف قيمة الإنسان الذي ينحصر وعيه في المطالب الحيوانية من قيمة الحيوان؟
فالقراءة ليست هي الورق المصنوع من الخرق والعيدان، وليست هي الحروف المسبوكة من المعدن، وليست هي المطبعة التي تدار بالبخار والكهرباء، وتدخل من أجل ذلك في عداد البدع والمستحدثات
كلا؛ بل القراءة هي اتساع الواعية بما يضاف إليها من التجارب والأحاسيس والمعارف والمعقولات، وهي امتداد الحياة إلى آفاق لم يكن يبلغها الفرد في عمره القصير، وهي بديل من السياحة، ومن البحث عن المجهول، ومن الإصغاء إلى النوادر والحكايات، ومن تحصيل التجارب التي يتحدث بها المجربون ومن كل تشوف مطبوع في أساس التكوين، لأنه امتداد لحواس النظر والسمع والإدراك على تعدد وسائله وأدواته. وليس يصح قول القائلين إن الكتاب لذة مصنوعة لأنه يطبع بالبخار والكهرباء إلا إذا صح إن يقال أن الرغيف لذة مصنوعة لأن البخار والكهرباء مما يصنع عليه الخبز في العصر الحديث
فالوعي هو الحاسة الكبرى التي تطلب القراءة
والوعي هو الحياة في أصدق معانيها وفي أوسعها وأرفعها على السواء
وهنا مناط الامتياز والتفرقة بين أجناس بني آدم، فأيهم كان أكثر وعياً فهو أكثر استطلاعاً بمختلف الأساليب، والقراءة أعم هذه الأساليب
ويبدو لنا على نحو يشبه اليقين أن الفرق بين الآدميين في مسألة (الوعي) كالفرق بين سلالة وسلالة أو عنصر وعنصر من عناصر الأحياء. ونعني أنه فرق لا يفسره اختلاف البيئة واختلاف التعليم واختلاف المصادفات العارضة، لأنه أعمق من ذلك وأعرق وأشد إيغالاً في الطبائع على مثال لا نراه إلا في اختلاف وظائف الأعضاء
ويجب أن يكون هذا الفرق قد تجمع في أجيال بعد أجيال، وفي موروثات بعد موروثات، حتى أصبح وشيكاً أن يفصل بين الآدمي والآدمي كما ينفصل الحيان المتباينان. ومناط ذلك فيما تعتقد الأعصاب ثم الخلايا التي يتألف منها نسيح الأجسام، لأن الأعصاب والخلايا هي أجزاء الجسم التي تتسع لتخزين الملكات والطبائع في العصور بعد العصور، والسلالات وراء السلالات. فيما أبعد الفارق بين إنسان تملأه المطالب التي تملأ الحيوان الأعجم حتى لا تبقى فيه بقية للمزيد، وبين إنسان يستوعب الأحاسيس والأفكار، ويستكنه المجهولات والأسرار، ولا يزال بعد ذلك كأنه في حاجة إلى أكوان وراء هذا الكون تملأ ما في نفسه من آفاق لا تمتلئ ولا تزال مشرئبة متشوفة إلى المزيد
هنا نفهم معنى الشوق إلى المعرفة ومنه الشوق إلى المطالعة، فإنه على هذا التفسير وظيفة حيوية في أصل البنية وليس بالبدعة الحديثة التي ظهرت بظهور الورق والمداد أو بظهور المطبعة والكهرباء
وهنا نعرف لماذا تضيق حياة الفرد في بعض الأمم حتى يوسعها بالفرجة والاستطلاع والرياضة واستيعاب الأخبار ومشاهدة الآثار والأقطار، ثم يكتفي الفرد في أمم أخرى بما يشغل الحيوان فلا يتعداه باختياره إلى أمد بعيد. وغاية ما نرجوه ألا يكون بين أمم الشرق وأمم الحضارة الحاضرة فارق كالذي نحسبه فيصلاً متغلغلاً في أصول التكوين. فكل ما عدا ذلك فهو قابل للإصلاح والعلاج
إذ الحقيقة أن القراءة لم تزل عندنا سخرة يساق إليها الأكثرون طلباً لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة الحاضرة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود. وربما تغيرت موضوعات الكتب وأثمانها وأساليب تداولها عندهم في الفترة بعد الفترة وفي العهد بعد العهد وفاقاً لتغيير الأحوال. أما أن تنقطع الكتب أو ينقطع الاطلاع فذلك عندهم أقرب شيء إلى المستحيل. ولو شئنا لأحصينا هنا عشرات الموضوعات التي أثارتها الحرب ونشطت لها أقلام الكتاب في زمن يخاله بعضنا صارفاً عن كل كتابة وكل قراءة، ولكننا في غنى بالمشاهدة عن الإحصاء.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 427
بتاريخ: 08 - 09 - 1941
وهذا في الولايات المتحدة
وهناك جماعات أخرى مبثوثة في أنحاء العالم - وبعضها في القاهرة والإسكندرية - تجمع الكتب بالألوف ومئات الألوف للترفيه عن المقاتلين أو المتحفزين للقتال
وهذه كتب ترسل إلى الجنود بغير ثمن، ولكن الجنود أنفسهم يشترون الكتب والمجلات حيث وجدوها بأثمان مضاعفة تربى على أثمانها المكتوبة عليها، ولا يكتفون بما يصل إليهم من طريق التبرع والمساعدة
ومن راقب المكتبات التي تبيع الكتب الأجنبية في العواصم المصرية عرف أن حركة البيع فيها مقرونة بحركة الجنود في نواحيها، فلا يكثر الجنود في عاصمة إلا كثر فيها بيع الكتب والمطبوعات على اختلاف موضوعاتها
وليست هذه الكتب والمطبوعات جميعها قصصاً أو من قبيل القصص كما يتبادر إلى الخاطر لأول وهلة؛ فإن الموضوعات القصصية تغلب عليها، إلا أنها تقترن بموضوعات شتى لها نصيب من إقبال الجنود غير مبخوس، ومن هذه الموضوعات الرحلات والملاحظات الحربية، والكلام على مستقبل العالم الاجتماعي والسياسي بعد الحرب الحاضرة، ومنها الدراسات الأدبية والفلسفية للقدماء والمحدثين من المؤلفين!
واتفق كثيراً أن المكتبات التي تعرف ما عندي من الكتب التي انقطع ورودها كانت تسألني عما استغني عنه منها، لأنها تطلب من تلك المكتبات ولا تستطيع جلبها من الخارج في أيام معدودات، وكنت أسأل أصحاب المكتبات أحياناً عمن يطلبونها فيدهشني أن أسمع أنهم في بعض الأحايين من طبقة الجنود الصغار وهم مع ذلك حريصون على استطلاع أحوال البلاد وتواريخها، أو أحوال العالم وقضاياه ومشكلاته، كأنهم سيدبرون أمر تلك القض والمشكلات، أو سيصنفون فيها الكتب والمقالات. ولاشيء من هذا وذاك يشغلهم في الحقيقة وإنما هو العقل المتفتح لما حوله لا يستطيع أن يحتجب عنه أو يحجبه عن الوصول أليه، ولو كان في ميدان قتال!
نعم ولو كان في ميدان قتال!
وينبغي أن نذكر هذا الاستدراك وأن نعيد ذكره ولا ننساه، فإن الجندي في ميدان القتال إما مشغول بحركة العمل الحربي، أو بحركة الرياضة والمرانة والاستعداد، أو هو إن فرغ من هذه وتلك منصرف إلى اللهو والتزود من متعة الحياة؛ فليس في وقته متسع للقراءة كائناً ما كان موضوعها من السهولة والتشويق، وأحرى ألا يبلغ من اتساع وقته لها أن يحتاج الجيش كله إلى كتب ومجلات تعد بمئات الألوف
ولكن الحاصل هو هذا
الحاصل أن الجنود المقاتلين أو المتأهبين للقتال يقرءون ويدرسون، ويشترون الكتب ولا يقنعون بمئات الألوف التي يتبرع لهم بها المتبرعون
وينبغي أن نعيد هنا توكيد ميدان القتال والقراءة على أهبة من دخول الميدان
فإن طوائف من الشبان المصريين - والشرقيين عامة - كنت إذا لمتهم في الإعراض عن القراءة والمعرفة قالوا لك إن العصر عصر رياضة ولعب وركوب ومسابقات، وليس بعصر قعود ودراسة وقبوع في المكتبات! فهم يعتذرون من خمود الذهن بما ينتحلونه من نشاط الجسد. . . وليس من النشاط أن يصاب الذهن الإنساني بالخمود ولو صحبته ألوف من الأذرع والسيقان لا ينقطع لها حراك
فهذه الطوائف من الشبان خليقة أن تعلم أية رياضة هي رياضة الجندي على أهبة القتال. فهو في رياضة لا انتهاء لها في صباح ولا مساء، بل في رياضة تبلغ من العنف أن تستنفذ جهود الأعضاء والإفهام
ومع هذا هم يطلعون ويستطلعون، وتضفر منهم المطالعة والاستطلاع بحصة من الوقت لا تضفران بعشر معاشرها من أوقات شبابنا في أبان البطالة والسلام
قال لي أديب يحب أن يتحذلق بالغريب من الآراء: أترى أن القراءة شاغل من شواغل الطبيعة؟ أليست هذه الكتب وهذه الأوراق بدعة من بدع الصناعة التي لا أساس لها في تكوين البنية، ولا حرج إذن على الشاب (المطبوع) أن يصدق عنها بفطرته وينصرف إلى ما تصرفه إليه طبيعة التكوين؟
وأديبنا هذا يحسب الكتب أوراقاً وحروفاً من صنع الحداد وابتداع المخترع الحديث؟
ولهذا هي عنده متاع (مصنوع) وليست بالمتاع المطبوع الذي له في البنية أساس كأساس الجوع والضما وسائر الشهوات
أما معاني الكتب وما تبعثه من شعور فلا تدخل له في حساب. ومعاني الكتب مع هذا شيء حيوي عضوي يمتزج بالتكوين الإنساني كما يمتزج به الغذاء واللهو والرياضة، لأنها من وظائف الوعي الذي هو خلاصة الشعور والإدراك. وهل للحياة الإنسانية بغير (الوعي) وجود؟ وهل لوجودها بغيره قيمة؟ وهل تختلف قيمة الإنسان الذي ينحصر وعيه في المطالب الحيوانية من قيمة الحيوان؟
فالقراءة ليست هي الورق المصنوع من الخرق والعيدان، وليست هي الحروف المسبوكة من المعدن، وليست هي المطبعة التي تدار بالبخار والكهرباء، وتدخل من أجل ذلك في عداد البدع والمستحدثات
كلا؛ بل القراءة هي اتساع الواعية بما يضاف إليها من التجارب والأحاسيس والمعارف والمعقولات، وهي امتداد الحياة إلى آفاق لم يكن يبلغها الفرد في عمره القصير، وهي بديل من السياحة، ومن البحث عن المجهول، ومن الإصغاء إلى النوادر والحكايات، ومن تحصيل التجارب التي يتحدث بها المجربون ومن كل تشوف مطبوع في أساس التكوين، لأنه امتداد لحواس النظر والسمع والإدراك على تعدد وسائله وأدواته. وليس يصح قول القائلين إن الكتاب لذة مصنوعة لأنه يطبع بالبخار والكهرباء إلا إذا صح إن يقال أن الرغيف لذة مصنوعة لأن البخار والكهرباء مما يصنع عليه الخبز في العصر الحديث
فالوعي هو الحاسة الكبرى التي تطلب القراءة
والوعي هو الحياة في أصدق معانيها وفي أوسعها وأرفعها على السواء
وهنا مناط الامتياز والتفرقة بين أجناس بني آدم، فأيهم كان أكثر وعياً فهو أكثر استطلاعاً بمختلف الأساليب، والقراءة أعم هذه الأساليب
ويبدو لنا على نحو يشبه اليقين أن الفرق بين الآدميين في مسألة (الوعي) كالفرق بين سلالة وسلالة أو عنصر وعنصر من عناصر الأحياء. ونعني أنه فرق لا يفسره اختلاف البيئة واختلاف التعليم واختلاف المصادفات العارضة، لأنه أعمق من ذلك وأعرق وأشد إيغالاً في الطبائع على مثال لا نراه إلا في اختلاف وظائف الأعضاء
ويجب أن يكون هذا الفرق قد تجمع في أجيال بعد أجيال، وفي موروثات بعد موروثات، حتى أصبح وشيكاً أن يفصل بين الآدمي والآدمي كما ينفصل الحيان المتباينان. ومناط ذلك فيما تعتقد الأعصاب ثم الخلايا التي يتألف منها نسيح الأجسام، لأن الأعصاب والخلايا هي أجزاء الجسم التي تتسع لتخزين الملكات والطبائع في العصور بعد العصور، والسلالات وراء السلالات. فيما أبعد الفارق بين إنسان تملأه المطالب التي تملأ الحيوان الأعجم حتى لا تبقى فيه بقية للمزيد، وبين إنسان يستوعب الأحاسيس والأفكار، ويستكنه المجهولات والأسرار، ولا يزال بعد ذلك كأنه في حاجة إلى أكوان وراء هذا الكون تملأ ما في نفسه من آفاق لا تمتلئ ولا تزال مشرئبة متشوفة إلى المزيد
هنا نفهم معنى الشوق إلى المعرفة ومنه الشوق إلى المطالعة، فإنه على هذا التفسير وظيفة حيوية في أصل البنية وليس بالبدعة الحديثة التي ظهرت بظهور الورق والمداد أو بظهور المطبعة والكهرباء
وهنا نعرف لماذا تضيق حياة الفرد في بعض الأمم حتى يوسعها بالفرجة والاستطلاع والرياضة واستيعاب الأخبار ومشاهدة الآثار والأقطار، ثم يكتفي الفرد في أمم أخرى بما يشغل الحيوان فلا يتعداه باختياره إلى أمد بعيد. وغاية ما نرجوه ألا يكون بين أمم الشرق وأمم الحضارة الحاضرة فارق كالذي نحسبه فيصلاً متغلغلاً في أصول التكوين. فكل ما عدا ذلك فهو قابل للإصلاح والعلاج
إذ الحقيقة أن القراءة لم تزل عندنا سخرة يساق إليها الأكثرون طلباً لوظيفة أو منفعة، ولم تزل عند أمم الحضارة الحاضرة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود. وربما تغيرت موضوعات الكتب وأثمانها وأساليب تداولها عندهم في الفترة بعد الفترة وفي العهد بعد العهد وفاقاً لتغيير الأحوال. أما أن تنقطع الكتب أو ينقطع الاطلاع فذلك عندهم أقرب شيء إلى المستحيل. ولو شئنا لأحصينا هنا عشرات الموضوعات التي أثارتها الحرب ونشطت لها أقلام الكتاب في زمن يخاله بعضنا صارفاً عن كل كتابة وكل قراءة، ولكننا في غنى بالمشاهدة عن الإحصاء.
عباس محمود العقاد
مجلة الرسالة - العدد 427
بتاريخ: 08 - 09 - 1941