حيدر الناصري - ثيوديسيا...

جذبني حديثه الثريّ واسترساله، في تفريغ فكرة الشرّ الموجودة عند البشر من إلتباسها، وإلقاءها في
أرض الحريّة، التي وهبها اللهُ الإنسان؛ فأجبته مدافعا:
- كان الأجدى أن يتدخّل؛ ليمنع حدوث الشرور!
لكنّه لم يسمع كلامي؛ أصوات صافرات سيّارات الإطفاء وسيّارة الإسعاف، أخرست أصوات
المتجمهرين أمام بيت جارنا المشتعل، وأبعدتنا إلى الرصيف المقابل.
سحب الدخان كانت تندفع بشراسة من النوافذ، كذئاب شرسة فحميّة اللون، أطلق سراحها توّا من
الأسر.
دخل رجال الإطفاء البيت، بعد أن وضعوا أقنعة الغاز على وجوههم... ليخرج إطفائيّ بعد مدّة بخبر فتاة ميّتة تحت أفرشة متفّحّمة، وظهرها عليه آثار طعنات في الغرفة الأخيرة، ورجل كبير ميّت بطعنة في عنقه في المطبخ لم تمسّه النار.
- الأب وابنته!، أجبته؛ فردّ عليّ بثقة: أعرف، مَنْ سيكون سواهما بتصوّرك؛ هذا سفيه -أقصد شريف-، واقف أمام بيته المحترق، وخبر أبيه وأخته مرّ عليه، ولم تتغيّر ملامح وجهه، لو كان يتابع مباراة كرة قدم لتأثّر!
- لا يغرّك وقوفه أمام بيته، هو في عالم ثانٍ الآن، وحده مَن يعلم حجم سكره في هذه اللحظة!
- ربّما هو فعلها، لا تستغرب!

حضرت الشرطة وبدأت تأخذ الإفادات، وصلوا إلى شريف الغارق في صمته العميق، وقبل أن يوجّه له
الضابط أي سؤال، انهار على منظر جثّتي أبيه وأخته على حمّالتي المسعفين، جثا على ركبتيه وصرخ:
شخص في رأسي أمرني بالقتل والحرق.
أحاط به رجال الشرطة، كان مستسلما لهم كحيوان داجن، لا يدري ما الذي ينتظره، أركبوه السيّارة
ومضوا، أنظاره كانت مثبّته على بيته، حتى تلاشى منظره مع السيّارة في انعطافة الشارع، بعدها بدأت كتل المتجمهرين تتفتّت وتذوب وتتبخّر.
أنظرُ إلى الأدخنة، وهي ترتفع من البيت المنطفئ، على شكل خيوط بيضاء هزيلة جدّا، توّدع المكان؛
لتضيع وتتلاشى كلّما علت وابتعدت نحو السماء الفضيّة.
انتبهتُ إلى بقائنا وحدنا على الرصيف، فسألته:
- أتعرف؟
فردّ عليّ بنبرة الزاهد في المعلومة التي أمتلكها:
- أسمعك!
- شريف استنجد بوالد زوج أخته الساكن في نهاية الشارع؛ أبلغه أن بيتهم يحترق، وأباه وأخته لا
يعرف عنهم شيء.
- تصوّرتُ كلامك عن هويّة صاحب الصوت في رأس شريف!، أجاب هازئا.
- ما قيمة صوت في رأس سكران، أجبتُه منفعلا.

فردّ عليّ بجواب مباغت:
- ها أنت تردّ على حقيقة معلومتك؛ مجرّد صوت في رأس سكران!
ألجمني جوابه الخاطف؛ فشعرتُ بالخجل من تفوّقه في النقاش طيلة الوقت. انتصبَ، وأنا اتتبّع وقوفه، أشّرَ بسبّابته إلى بيت شريف، وبنبرة يشوبها حزن حادّ:
- جثّة ثالثة نسوها!
تمسّكتُ ببنطاله وقمتُ متعثّرا مصدوما لا أعرف معنى كلامه.
مسك يدي؛ وسرنا نحو البيت المنطفئ، وبدأ يتكلّم وأنا مآخوذ بما أسمع، كلّ ظنّي أنّنا ندخل البيت لنرى الجثّة، ونعاود الاتّصال بالجهات المعنيّة، لكن من هي ياترى؟!
- أمّه، وقبل أن تسأل سأروي لك الحادثة:
في أيام طفولة شريف، كانت أمّه تحرص عليه حتى من النسيم العذب الذي يلامس وجهه ويحرّك
خصلات شعره، وفي ليلة من الليالي، انتشرت الشرطة، تطارد بعض تجّار المخدّرات الصغار؛ وكون
بيتهم ضعيف،لا يقوى على صدّ أي رصاصة؛ قصدت بيت أخيها، فوجدوها على الرصيف مقتولة
وتحتها شريف لم يُمسّ... بعد الحادثة بسنوات، عوّضت الحكومة الأب؛ ليتغيّر حالهم، وينساق شريف في سكّة الطيش والسُكر والمشاكل، والنهاية ها هي ماثلة أمامك: دماء وحرائق!
قبل أن أفلت يدي من أصابعه، وأعود أجرجر نفسي عائدا إلى الرصيف:
- متى يتدّخل؟، سألته بحرقة، وعيناي معلّقتان في سماء صامتة.

- في أي نقطة تريده أن يتدخّل: في ولادته، في فقره، في ضغطة الزناد الطائشة من قبل الشرطيّ تلك الليلة، في كسب أبيه قضيّة التعويض، في انحرافه، في إقدامه على قتل عائلته،... لا تجري الأمور على هواك، ردّ بانزعاج.
- كيف تجري إذن!
- تجري مثل ما جرت هناك في أوّل البدايات.
بقينا صامتين، أنا على رصيف، وهو على رصيف آخر، تفصلنا الأسئلة المحيّرة، والأجوبة الشحيحة،
والإسفلت الناقع بمياه خراطيم الإطفائيّين، المسخّم ببقايا آثار النيران.


* ثيوديسيا: العدل الإلهيّ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...