مصطفى فودة - قراءة فى رواية "السفر آخر الليل" للكاتب العُمانى يعقوب الخنبشى

ربما يثير عنوان الرواية شعورا بالغربة والوحشة، فالسفر إنتقال وغربة فى المكان وآخر الليل ظرف زمان يوحى بالوحشة، وربما يؤكد ذلك الإحساس غلاف الرواية الذى يمثل لوحة تجريدية ربما لرجل وامرأة دون ملامح ويغلب اللون الأزرق الذى يوحى بالحزن، وربما يؤكد هذا المعنى ما تصدرت به الرواية من قول للكاتب العمانى الخطّاب المزروعى ينعى حياة المحرومين ويصف زمنهم بزمن الحنظل "أتذكر رائحة الخبز والقهوة فى الصباح الباكر، وزقزقة العصافير فى سدرة البيت، حتى هذا سُرق منى، لم يبقَ فيه شئ للمحرومين.. زمن حنظل.."وربما تمثل تلك العتبات الثلاثة حياة السارد وما نتهت إليه بالرواية على ما سنرى .
والرواية من نوع الرواية القصيرة (النوفيلا) تبلغ أربع وسبعين صفحة ، وقد قام بناء الرواية على الشكل التقليدى للرواية بداية ووسط ثم عقدة ثم نهاية، بدأت الرواية ببداية هادئة "كعادته كل يوم يودعها قبل أن يخرج من المنزل"، فأحمد هو الشخصية الرئيسية بالرواية عامل فى إحدى الجهات الحكومية لديه زوجة تدعى شريفة ذات عواطف باردة نحوه ولديه ثلاثة أبناء، ولديه سيارة أجرة يعمل عليها لتحسين دخله،ثم وسط الرواية حيث تسرع حركة السرد حيث يتعرف على فتاة جميلة تُدعى طاهرة وذلك أثناء إشارتها له لتوصيلها لأحد الأماكن ويقع فى حبها سريعا وقد سلبت عقله ربما لبرودة عواطف زوجته نحوه ، ورغم علمه بطبيعة عملها بعد ذلك أثناء توصيلها عدة مرات ومصاحبته لها وأنها تعمل فتاة ليل لم يستطع الإبتعاد عنها وازداد قربا منها ، هناك خيط ضئيل بالرواية تناول عمله كعامل بإحدى الجهات الحكومية ووصف ما بها من فساد أخلاقى بين المدير وأحد موظفيه الشباب .
تأتى عقدة الرواية بإدعاء الفتاة أنها حامل من أحمد وتحرر محضرا ضده تتهمه أنه سبب حملها، وعندما يصر على الرفض يُحول لإجراء تحاليل وفحوص مجهرية وهنا تبطئ حركة السرد قليلا انتظارا لما تسفر عنه تلك التحاليل ، ثم يسرع السرد عند الإقتراب من النهاية عندما تثبت براءته من إدعاء الفتاة حيث ثبت من التحاليل أنه عقيم وغير قادر على إنجاب الاولاد وقد أصابه الذهول عند سماعه ذلك الخبر من الضابط ، فعاد إلى زوجته سريعا وبعد ضربها والضغط عليها تعترف وهى بين الحياة والموت أنها على صلة بأخيه صالح ، وهنا قد يثور الحلم المزعج فى أول الرواية باعتباره نهاية محتملة للرواية حيث كان يحلم "بأجساد أطفال بلا رؤوس يدخلون فى بركة من الدم، ثم يخرجون الواحد تلو الآخر يجرون خلفه وهو يلهث إلى أن يفيق"ص8
اتسم السرد باستخدام التقنيات الحديثة كالمشهدية السينمائية وسرعة التنقل بين المشاهد فى أماكن عديدة ليلا بمسقط العاصمة وشوارعها ومطاعمها وعماراتها وشققها ونواديها ومزرعة كثيفة الأشجار يُقام بها الحفلات الراقصة حيث تمارس فتاة الليل عملها بممارسة الجنس مع الرجال، ومثال المشهدية مشهد إشارة فتاة الليل له لتوصيلها " لاح له شئ أسود يقف بعيدا عند محطة الانتظار..آه إنها فتاة .. قالت له بعد قليل: صباح الخير فى لقاء الفتاة بسيارة الأجرة " قالت له :صباح الخير، وعينها على مسجل السيارة بينما شدته رائحة البخور الظفارى الزكى ونقش الحناء المزين أناملها، بدت له وكأنها عروس فى ليلة زفافها وبخاصة بعد انحسار عباءتها المزركشة ، والتى كشفت عن فخذها الأيمن ، المكسو بثوب حرير أملس"ص13 هذه المشهدية والحركة والرائحة ووصف الفتاة وملبسها أضفت على السرد الحركة والحيوية والجاذبية، وقد جاء السرد بضمير الغائب (الراوى العليم بكل شئ) مع إتاحة فرصة ضئيلة إلى حد ما للشخصيات الأخرى للتعبيرعن نفسها بالحوار، كذلك استخدم الكاتب بعض التقنيات السردية الحديثة مثل حُلم الأطفال مقطوعى الرؤوس ببداية الرواية وكذلك حلم زيارة فتاة الليل له فى المنام "لقد مارس معها ساعة حب دافئة"ص33 كذلك استخدم الكاتب الأمثال الشعبية لربط السرد بالبيئة مثل (بعده العوق فى بيت الفوق) يضرب المثل فى الشخص الذى يحن لشئ بعينه بصفة دائمة(بالهامش)، كما استخدم السارد المنولوج الداخلى للشخصية للتعبيرعن ما فى داخلها مثل "تمتم فى داخله ياليتنى أستطيع السفر كما الناس"ص18
كانت لغة السرد بالفصحى البسيطة إلا فى بعض مواضع قليلة كانت بالعامية العمانية الملغزة أحيانا مثل (الشمبريشة) مما اضطر الكاتب ببيان بمعناها بالهامش وتعنى الاسم الشعبى الذى يطلق على أنواع الكولونيا الرخيصة والتى كان يشربها إحدى الشخصيات كبديل عن الخمور غالية الثمن (مثل من يتناولون الكحول أو السبرتو فى مصر بديلا عن الخمور)، وكذلك عبارة (الوسامات) وجاء بالهامش اسم يطلق على النساء اللاتى يمتهن العلاج بالكى والنار.
اتسمت اللغة بالجمال والشاعرية فى مواضع كثيرة بالرواية فقد استخدمت المجاز والتشبيه والإستعارة مثال ذلك "بدت الشمس تمتطى الشروق، ورائحة الصباح المشبعة بالرطوبة تعم زجاج السيارة ..طيور مهاجرة تحلق فى الأفق البعيد ..وطيور أخرى تبحث عن الرزق .."ص16 ، "بدت العصافير تتقاطر على الأشجار، معلنة قدوم مساء جديد"ص31 ، أما الحوار فكان باللهجة العُمانية المبسطة إلى حد ما مثل : وين رايحة ؟...وين تشتغلى ؟ ورايحة الشغل الحين؟ وأحيانا مزيجا من العامية والفصحى البسيطة "تفضلى لو تبغى عيونى أعطيك إياهن ، ما قلتلى إيش اسمك؟"ص24
برع السارد فى وصف مظاهر الجمال والأنوثة بالمرأة وإن مال قليلا نحو الحسية فى الوصف مثل"بدت متكاملة كمهرة جامحة ،استعصى على خيَّالها ترويضها كانت أطولهن ترتدى بنطونا من نوع (جينز) لونه أزرق، شدت عليه حزامًا مذهبًا وقميصًا أبيض يظهر نصف بطنها ، لتكشف سرتها وقد وضعت عليها حلقة صغيرة من الذهب المنقوش، شعرها أسود طويل ، ذو قصة متساوية من الأمام ، ينحدر قليلا على جبهتها ، ليجعل وجهها الطفولى كبدر قارب على الإختفاء خلف سحابة ممطرة"ص29 "ونقش الحناء المزين أناملها ، بدت له وكأنها عروس فى ليلة زفافها ! وبخاصة بعد انحسار عباءتها المزركشة، والتى كشفت عن فخذها الأيمن المكسو بثوب حرير أملس"ص13 ، كذلك ص33 وغيرها .
أكثر الراوى فى سرد أسماء شخصيات عائلة أحمد وزوجته وأولاده وأمه وأبيه وأخيه بطريقة تقريرية ومركزة فى عدة صفحات فى بداية الرواية مما جعل سرد تلك الشخصيات وأسمائها ووصفها تزيدا وإثقالا فى السرد ، كذلك أراد الراوى السخرية من الشخصيات غير الإخلاقية بالرواية وعقابها فأطلق عليها ألقابا تتناقض مع أفعالها، فزوجه أحمد تُدعى شريفة كانت تخون زوجها، وصالح يخون أخاه ، وفتاة الليل العاهرة تُدعى طاهرة ، ومنظم حفلات الجنس شاب شاذ يلبس ملابس النساء يدعى صالح أو صالحة .
وأخيرًا اتسمت الرواية بالجاذبية والمشهدية وبالتماسك السردى وبإيقاعها السريع بصفة عامة كما اتسمت لغتها بالجمال والشاعرية كما ذكرنا، كذلك جاءت نهاية الرواية مفاجئة ومذهلة وظلت منفتحة على مشاركة القارئ بوضع نهاية لها .
_____________________________________________
هامش1 : كُتبت رواية "السفر آخر الليل" بولاية الرستاق بسلطنة عُمان عام 2006 عن دار أزمنة بالطبعة الثانية عام 2015 وتقع فى أربع وسبعين صفحة .
هامش2 : أكثرت من الاستشهاد بفقرات من الرواية لإطلاع القارئ على طبيعة السرد واللغة وبناء الرواية وربما لعدم وجود الرواية بين يدى كثير من القراء .
قراءة مصطفى فودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...