القسم الأول
هذا كتاب ممتع مفيد، طبَعَه يحيى حَقي طبعةً زهيدة. وهو يتكون من 230 صفحة من القطع الصغير ( 15 سنتم طولاً َو10 عرضاً )، ومعظم صفحاته تضمَّ ثمانيةً وعشرين سطراً ، كل سطر يتألف في الغالب من ثمان كلمات. ولو طبَعَه كما تُطْبَع الكتب اليوم، لامتدت صفحاته إلى أكثر من خمسمائة صفحة حسب تقديري، وقد تصل إلى قدر أكبر من الصفحات. ولجاء الغلافُ أنيقاً براقاً ذا ألوان زاهية جذابة، أو لزينَ بلوحة فنية لرسام عالمي أو لمُصمِّمِ أغلفِ الكتب في المطبعة. وفي الغالب يهيمن الجانبُ التجاري في هذه العَمَلِية، في حين قد يكونُ مضمونُ الكتابِ هزيلاً ،بناءً ودِلالَة، ولا يعكس جمالية الغلاف. ما يجعلنا نطلق عليه المثل الشعبي السائر المغربي: " يَالْمْزُوَّق مِنْ برَّة آش اخْبَاركْ منْ دَاخِل" ، وذلك بعد أن نطلع على ما بين دفتي الكتاب. كان يحيى حقي من الزَّاهدين في المظاهر والأَضْواء ، فأغْلَبُ ما نَشَرَهُ منْ من كتب ، طبعَه في طبعاتٍ زهيدة في مُتَناوُلِ جَميع فئاتِ المُجتمع، محققاً بذلك حقيقةً شعار ( القراءة للجميع )، فقد طبع أهمَّ كتبه وأشهرَها في سلسلة "اقرأ"التِّي كانتْ تُصْدِرها دارُ المعارف بمصر ، أو في سلسلة "الكتاب الذهبي " ، نذكر منها هنا على سبيل المثال:"قنديل أم هاشم" ـ "دماء وطين"( سلسلة اقرأ ) ـ "أم العواجز "( سلسلة الكتاب الذهبي )؛ أوفي طبعاتٍ أخرى بعيدة عن الهاجس التجاري، مثل " خليها على الله " و" أنشودة البساطة " و"عنتر وجولييت " و"تعال معي إلى الكونسيير " و "كناسة الدكان "... كما أنه أعاد نشرَ روايته القصيرة الذائعة الصيت " قنديل أم هاشم" مع جيرانها بالإضافة إلى سيرته الذاتية الموجزة في كتاب " القراءة للجميع ". وكان لتقريرها في مقرر المؤلفات ببلادنا الفضل في إعادة طبعها
أما كتاب " عطر الأحباب " الذي سنحاول مقاربتَه هنا ، فقد تمَّ طبعُه في مطابع الأهرام سنة 1971م. وهو كتاب على صغر حجمه ، غزير العلم، عظيم الفائدة. ويتألف من قسمين :
أ ـ القسم الأول : ويضم العناوين التالية :1ـ تنقيب / 2 ـ محاولة / 3 ـ فتح الباب / 4 ـ جِدٌّ وفاكهة / 5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي / 6 ـ الوجه من خلال الأثر.
ب ـ القسم الثاني : ويشتمل على الدراسات التالية :
1 ـ " رباعيات صلاح جاهين " / 2 ـ الإستتاكية والدينامية في أدب نجيب محفوظ / 3 ـ سخرية الناي لمحمود طاهر لاشين/ 3 ـ "عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حقي / 5 ـ "اللوحات القَلَمية" للشيخ مصطفى عبدالرازق / 6 ـ عباس علام .
وسنرصد في هذه القراءة الفصول التي تنضوي تحت كل من القسميْن :
أـ القسم الأول : 1 ـ تنقيب : ما يشغل يحيى حقي في هذا الفصل من كتابه، هو قضايا إنسانية عميقة، يتصل بعضها بالهموم الروحية التي يعانيها الإنسان في عصرنا الحديث في جل أرجاء العالم ، وهذه الهموم التي ألمح إليها هي التي سيعتمدها لتفسير أمراض الإنسان العقلية والبدنية. ويرجع الكاتب مأساة الإنسان الروحية إلى التخلي عن المنطق المفهوم والمعقول ،والانغمار في اللامَنطقي واللامفهوم واللاَّمَعقول ، وذلك لكي يصل بعد هذه المشقة الشاقَّة والجُهد الجَهيد إلى معاني عبر عنها السابقون بأيسر العبارات وأسهل الألفاظ. يقول توفيق الحكيم في مسرحيته " يا طالعَ الشجرة": " أصبحَ اللامنطق هو المنطقُ الوحيد المقبول" ' ص: 9 من كتاب "عطر الأحباب ") ، وفي هذا الصدد يشير يحيى حقي إلى أن الإنسانية ، لم تربح من حروبها إلا موت آلاف البشر ، وهو يعني هنا الحرب العالمية قريبة العهد بالكاتب التي لم تنته بانتصار طرفٍ على آخر. ( انظر ص: 6 )، ثم يتطرق الكاتب بعد ذلك إلى قضيتين على درجة من الأهمية هما : أ ـ العقيدة الدينية ، وهل الأديان تصلح للحقبة التي نزل فيها الوحي ليعالج شؤون الناس الراهنة، أم أنها غير زمنية ( تاريخية ) تصلح لكل زمان ومكان عبر تعاقب الأزمان رغم ما يطرأ على المجتمع الإنساني من متغيرات؟ / ب ـ فصل الدين عن الدولة الذي عرفته أوروبا في القرن 19 . ويذهب المؤلف إلى أن اليهود هم الذين روجوا للأنظمة التي ظهرت في الغرب ، وخاصة المبادئ الديموقراطية ( المساواة والعدالة الاجتماعية.. ) من أجل تحقيق مصلحتهم المتمثلة في جعلهم يتأن متعون بكل حقوق المواطنة التي يتمتع بها أهل البلد ( ص: 15 ). ويرى يحيى حقي أن الأقلية اليهودية في كل الدول الغربية، انتفعت من هذه الأنظمة الجديدة، حيث صارت تتمتع بجميع الامتيازات والحقوق: بجنسية البلاد التي تقيم بها، فضلا عن الجنسية الإسرائيلية الصهيونية.
2 ـ محاولة: يشيرُ المؤلف هنا إلى تعدد القراءات في النص الفني الواحد، وأن ليس ثمَّةَ حقيقة يمتلكها رأي واحد كله لنفسه، بل إن الأحكام نسبية. لذلك عرف الفن التقسيمات إلى مذاهب ومدارس مختلفة. ويعتبر يحيى حقي الانتقال التاريخي من مذهب إلى آخر نمواً طبيعياً وليس ثورة قامت لتهدم المذهب الذي سبقها، ذلك "أن من أمتعِ قضايا الفن ـ في رأيه ـ هو تقدير نصيب المورث والمبتكَر في كل مذهبٍ جديد " ( ص : 15 ). إن موقفه بعيد عن التطرف والجنوح لطرف دون آخر ، وهو لا يقول مع القائلين " هل غادر الشعراء من متردمِ " و" لا جديد تحت الشمس "، بل إنه خصم للشمول والأحكام القاطعة في الفن" ( ص : 17 )، بل إنه يرى أن كلَّ جديد مبتكر لا يخلو من عناصرَ موروثة ، وإن بدا أنها خفيت في بعض الأحيان. إن الكاتب يعتبر التحول من جيل إلى جيل مثل تبدل الأزياء حسب تغير الأذواق. وإذا تغيَّر الزِّي ُّ فإنَّ البَدَنَ لا يتغير. ويرى " أن الفنَّ الأصدقَ هو الذي يخاطبُ المعدنَ الأصيلَ في كل شعبٍ كما يبدو في آخر زيٍّ له. " ( ص: 17 )
3 ـ فتح الباب: ينتقلُ بنا يحيى حقي في هذا الفصل إلى الحديث عن جوستاف فلوبير الذي عرف بتجويد كتابته وأسلوبه ودعوته إلى الموضوعية وإخفاء ذات المؤلف، وعدم ظهوره من خلال مؤلفاته. فــ"على الأديب أن يشابهَ اللهَ في خلقه.. أنْ نشعرَ به في كلِّ مكان دون أن نلمحه"( ) ، ويرى المؤلف أنَّ فلوبير أراد أن يقيم القصة ( الرواية) فنَّاًله أحكامه، مستقلاً عن الأشكال الأدبية ( المقامة ـ السيرة و التاريخ المتخيل ـ المقالة ـ الريبورتاج الصحفي ـ الخطب المنبرية وغيرها ) ويذكر أن قيمة هذه الأعمال محفوظة لا يمكن إنكارها ، وذلك بشرط أن يبقى كل فرع في مجاله. ووسيلتها الوحيدة هي التعبير بالحادثة وبالتفاعل المستمرين بين الشخصيات، بحيث تنمو في تدرجٍ، بعيداً عن المباشرة والموعظة. ( ص: 21 )، لكن يحيى حقي مع الغلو في الموضوعية في الكتابة الروائية كما عند فلوبير ومن نحا نحوه، بل إنه "يعتبرُ أكبَرَ جريرةٍ في تطبيق هذا المنهج هو صرفُ الاهتمام عنْ صاحبِ النص إلى النص ذاته، ويرى أنهُ ليس في الوجود شيء قائم بذاتِه اسمُهُ الفَنّ، بل الموجود هم الْفنَّانونَ وليس غير . هم العباقرة الأفذاذ الذينَ ينشرونَ النُّورَ في هذه الأرض.. إنَّ في جمجمة كُلِّ واحدٍ من الأسرار والقوى .. فالمطلب الجدير بالتقديم هو أن نعرفَهم من أجلِ أن نعرفَ مزاجهم ، لا أن يطلبَ منهم أتباع فلوبير أن يختفوا وراء الستار .. وألا ينطِقُوا إلا بفم الغير الذي لا يطابقهم" ( ص: 24 ). وإذا ما عدنا إلى تطور الدراسات النقدية والأدبية ، نجد أنها سارت في عدة اتجاهات : فمن الأعمال المضومنية الإيديولوجية، سواء على مستوى التنظير أو الإبداع عند تروتسكي و غوركي وغيرهما من الاتجاه الماركسي ، إلى الشكلانيين الروس الذين عنوا بمكونات الخطاب الأدبي ومبناه الحكائي. يقول جاكبسون : " إن موضوعَ علمِ الأدب ليس هو الأدب وإنما الأدبية ( Littérarité) ، وبذلك حصروا اهتمامهم في نطاق النص" ( ) ، والاتجاه الاجتماعي وبالتحديد البنيوية التكوينية عند لوسيان كَولدمان الذي اهتمَّ بالشكل الروائي نفسِه ، وعلاقته ببنيات الحياة الاقتصادية في المجتمعات الغربية. ( ) أما نظرية التلقي التي ظهرتْ في ألمانيا على يد روبرت س هولاب () وإيزر ( )، فكان لها الفضل في إعادة الاعتبار للمتلقي الذي تم تهميشه في البنيوية الشكلية وغيرها، مع أنه يشكل الطرف الثالث إلى جانب المؤلف والنص ، فالأدب في هذه النظرية " ينبغي أن يُدرسَ بوصفه عمليةَ جدل بينَ الإنتاج والتلقي ، فالأدب والفن لا يُصبحُ لهما تاريخٌ له خاصية السياق إلا عندما يَتحققُ تعاقبُ الأعمال ، لا من خلال الذات المنتِجة ، بل من خلالِ الذاتِ المستهلِكة كذلك، أي من خلال التفاعل بين المؤلف والجمهور ." ( )
4 ـ جدٌّ وفُكاهَة:
في هذا الفصل من القسم النظري،يدعو المؤلف القارئ إلى أن يتلقى النص الأدبي بحرية ، مباشرة دون وسيط ، فهو يحب أن يجعل المتلقي مستمتعاً بالعمل الفني بقدر ما يحب ، وأن يفيدَ منه حسبما يشاء ، ذلك أن الكاتب يريد أن يعيدَ التعادل بين القراء والنقاد. يتفاعلُ المتلقي مع النص بصفة مباشرة أولاً، ثم بعد ذلك يمكنه قراءة النقد ما عَصَمَه ما ملكَ من حرية وإرادة أن يساق سَوقَ القَطيع. يَذكر لنا يحيى حَقي أمثلةً من واقع التاريخ الأدبي: في عهد ازدهار المسرح عند الإغريق، لم يكن ثمَّة نقادٌ محترفون، ولم يكن النقد آنذاك قد انفصل عن الأدب. وفي شعرنا الجاهلي لم يكن الشاعر بجانبه ناقد واحد محترفٌ "يضعُ النظريات ويقَنِّنُ القوانين " ( ص: 26 )، بل كان الشَّاعرُ النَّاشئُ ، يقصد شاعراً يَكْتوي بنار الإبداع الشعري مثله، فيعرضُ عليه شعرهُ، ويستنيرُ برأيه، فكان الرأي الذي يسمعُه الشاعر بمثابة الغذاء له لا الدواء. ص: 26 ) . يرى الكاتب هنا أن ذلك العهد كان فيه الأدب يمتص النقد، بينما في عصرنا الحالي كاد يمتص النقد الأدب، فأمسى" اعتماد هم على التفسير اللاحق للمعنى " ( ص: 27 ) " لقد كانَ الأدب لقاءً بين قارئ عاشق ومؤلف معشوق، يقوم كما يقوم الحب بين طرفين . أمَّا الآن، فقد أصبح مطاردة غرامية يشترك فيها ثلاثة: مؤلف وناقد وقارئ" ( ص: 26 ) والكاتب هنا ينتقد أدب اللامعقول والمذهب السُّوريالي في الفن والشعر، معترفاً بعدم فهم نصوصهما ولوحاتهما المغرقة في الإبهام، ويذكر على سبيل المثال مسرح بيكيت ( "في انتظار غودو" و"نهاية اللعبة " وقصائد مجلة "شعر " المعروفة ولوحات الفن السُّوريالي). إنَّ يحيى حَقِّي رغم قراءاته الواسعة في الأدب الغربي وفنونه، واطلاعه على الاتجاهات الأدبية الجديدة عربياً وغربياً، فإنه كان لا يسير على نهج أصحابها في الدعوة إلى الغموض في الفن بمختلف أشكاله، ولا يسايرهم في الرأي الذي مفاده أنه " ليس المقصود أن نفهم، بلْ أن نُحِسَّ. الكلمةُ ليس لها معنى ظاهر ، بل هو غائبٌ في رنينٍ أو عَلاقاتٍ تَحْتانِيَّة جداً بين كلامٍ سبَقه، وكلامٍ سيلحقُه.. " ( ص:28 ). لذلك نجدهُ يطرح التساؤل الوجيه التالي: " أليس هذا الوضعُ يُعَرٍّضُ الأدبَ والمسرحَ والفنونَ إلى الانعزال، إلى إهدار دورها التفاعلي داخلَ المجتمع؟" إن يحيى حَقي، وهو معروف بروح الفكاهة في كتاباته، يعمد إليها هنا، كرد فعلٍ لخشيته الشديدة من غلو هذه الفنون في الغموض والإلغاز ما يجعلُ التواصل منقطعاً بين الكاتب ومجتمعه، وعدم القدرةِ إلى النفوذِ إلى ضميره. ومن باب الفكاهة أيضاً طرحُه السُّؤال التالي : ماذا لو يترك السادةُ النقاد الدكاترة المحترفون "بَخيتاً" لـ"بخيتة" بحيث يلتقي الفنانونَ والجمهور لقاءً حراً بعيداً عن أيِّ مُؤثِّر خارجي من لدن النقاد. ( انظر ص: 30 ) ؟
5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي:
يتحدثُ المؤلف في هذا الفصل عن عدة قضايا نقدية هامة تتمثل فيما يلي :
ـ ميل مزاجه إلى الدِّلالة الاجتماعية التي ينبغي أن يتضمنها النص الأدبي ( يعني بالتحديد عن الفن القصصي )
ـ موقفه من استخدام بعض كتاب الفن القصصي العامية سواء في السرد أو الحوار. يرى أن الفصحى هي القمينة باستخدامها وسيلةً للكتابة الأدبية عموماً، وضمنها فن القصة، وذلك لاعتبارين :
أ ـ أن الأدب الجدير بالبقاء هو الذي يصاغ باللغة العربية الفصيحة، لأنها هي وحده التي تُمِدُّ المؤلفَ بتراثها الزاخر بالكنوز اللغوية القمينة بإغناء أسلوبه وتجويد تعبيره ( ص: 33 )
ب ـ إيمان الكاتب بأنَّ الفٌصْحى هي الرباط بين الأمم العربية، ولا يمكن أن يتم التواصل والتفاهم بينها إلا بواسطتها.
ـ قضية المرأة التي ما زالت تعاني من الدونية والتهميش والتمييز في مجتمعنا العربي الذّكوري، وعلاقتها ما زالت غير متكافئة بينها وبين الرجل ( انظر : ص 37 )، فالرجل مسموح له بارتكاب الخطايا باعتباره رجلا ، والمرأة مدانة ، لا يُقبل خروجها عن الأعراف. ويستشهد يحيى حَقِّي على هذه الوضعية بقصة"حادث النصف متر " لموسى صبري من نقد الناقد يوسف الشاروني. يقول المؤلف في هذه القصة تصوير جميل مذهل لهذه العلاقة، مذهل لأنه صادق. إنَّ بطل قصته يبكي ويريد السارد أن نبكي معه على حبه الذي اغتالته يد الحبيبة الخائنة... مذهلٌ لأن هذا القديس الطَّاهر الباكي، لا يقلٌّ عنِ الفتاةِ غرقاً في الرذيلة.. فما أعجب أن يَطلبَ منا هذا البطلُ أن نَبكي معهُ، ولكن هذه الفِعْلةُ لَيْسَتْ إلا نتيجةَ اعتقادِ الفتى أنه أرقى من الفتاة، وأن الذي يلوثها لا يلوثُه " ( انظر، ص : 36 وما بعدها )
( يتبع )
هذا كتاب ممتع مفيد، طبَعَه يحيى حَقي طبعةً زهيدة. وهو يتكون من 230 صفحة من القطع الصغير ( 15 سنتم طولاً َو10 عرضاً )، ومعظم صفحاته تضمَّ ثمانيةً وعشرين سطراً ، كل سطر يتألف في الغالب من ثمان كلمات. ولو طبَعَه كما تُطْبَع الكتب اليوم، لامتدت صفحاته إلى أكثر من خمسمائة صفحة حسب تقديري، وقد تصل إلى قدر أكبر من الصفحات. ولجاء الغلافُ أنيقاً براقاً ذا ألوان زاهية جذابة، أو لزينَ بلوحة فنية لرسام عالمي أو لمُصمِّمِ أغلفِ الكتب في المطبعة. وفي الغالب يهيمن الجانبُ التجاري في هذه العَمَلِية، في حين قد يكونُ مضمونُ الكتابِ هزيلاً ،بناءً ودِلالَة، ولا يعكس جمالية الغلاف. ما يجعلنا نطلق عليه المثل الشعبي السائر المغربي: " يَالْمْزُوَّق مِنْ برَّة آش اخْبَاركْ منْ دَاخِل" ، وذلك بعد أن نطلع على ما بين دفتي الكتاب. كان يحيى حقي من الزَّاهدين في المظاهر والأَضْواء ، فأغْلَبُ ما نَشَرَهُ منْ من كتب ، طبعَه في طبعاتٍ زهيدة في مُتَناوُلِ جَميع فئاتِ المُجتمع، محققاً بذلك حقيقةً شعار ( القراءة للجميع )، فقد طبع أهمَّ كتبه وأشهرَها في سلسلة "اقرأ"التِّي كانتْ تُصْدِرها دارُ المعارف بمصر ، أو في سلسلة "الكتاب الذهبي " ، نذكر منها هنا على سبيل المثال:"قنديل أم هاشم" ـ "دماء وطين"( سلسلة اقرأ ) ـ "أم العواجز "( سلسلة الكتاب الذهبي )؛ أوفي طبعاتٍ أخرى بعيدة عن الهاجس التجاري، مثل " خليها على الله " و" أنشودة البساطة " و"عنتر وجولييت " و"تعال معي إلى الكونسيير " و "كناسة الدكان "... كما أنه أعاد نشرَ روايته القصيرة الذائعة الصيت " قنديل أم هاشم" مع جيرانها بالإضافة إلى سيرته الذاتية الموجزة في كتاب " القراءة للجميع ". وكان لتقريرها في مقرر المؤلفات ببلادنا الفضل في إعادة طبعها
أما كتاب " عطر الأحباب " الذي سنحاول مقاربتَه هنا ، فقد تمَّ طبعُه في مطابع الأهرام سنة 1971م. وهو كتاب على صغر حجمه ، غزير العلم، عظيم الفائدة. ويتألف من قسمين :
أ ـ القسم الأول : ويضم العناوين التالية :1ـ تنقيب / 2 ـ محاولة / 3 ـ فتح الباب / 4 ـ جِدٌّ وفاكهة / 5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي / 6 ـ الوجه من خلال الأثر.
ب ـ القسم الثاني : ويشتمل على الدراسات التالية :
1 ـ " رباعيات صلاح جاهين " / 2 ـ الإستتاكية والدينامية في أدب نجيب محفوظ / 3 ـ سخرية الناي لمحمود طاهر لاشين/ 3 ـ "عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حقي / 5 ـ "اللوحات القَلَمية" للشيخ مصطفى عبدالرازق / 6 ـ عباس علام .
وسنرصد في هذه القراءة الفصول التي تنضوي تحت كل من القسميْن :
أـ القسم الأول : 1 ـ تنقيب : ما يشغل يحيى حقي في هذا الفصل من كتابه، هو قضايا إنسانية عميقة، يتصل بعضها بالهموم الروحية التي يعانيها الإنسان في عصرنا الحديث في جل أرجاء العالم ، وهذه الهموم التي ألمح إليها هي التي سيعتمدها لتفسير أمراض الإنسان العقلية والبدنية. ويرجع الكاتب مأساة الإنسان الروحية إلى التخلي عن المنطق المفهوم والمعقول ،والانغمار في اللامَنطقي واللامفهوم واللاَّمَعقول ، وذلك لكي يصل بعد هذه المشقة الشاقَّة والجُهد الجَهيد إلى معاني عبر عنها السابقون بأيسر العبارات وأسهل الألفاظ. يقول توفيق الحكيم في مسرحيته " يا طالعَ الشجرة": " أصبحَ اللامنطق هو المنطقُ الوحيد المقبول" ' ص: 9 من كتاب "عطر الأحباب ") ، وفي هذا الصدد يشير يحيى حقي إلى أن الإنسانية ، لم تربح من حروبها إلا موت آلاف البشر ، وهو يعني هنا الحرب العالمية قريبة العهد بالكاتب التي لم تنته بانتصار طرفٍ على آخر. ( انظر ص: 6 )، ثم يتطرق الكاتب بعد ذلك إلى قضيتين على درجة من الأهمية هما : أ ـ العقيدة الدينية ، وهل الأديان تصلح للحقبة التي نزل فيها الوحي ليعالج شؤون الناس الراهنة، أم أنها غير زمنية ( تاريخية ) تصلح لكل زمان ومكان عبر تعاقب الأزمان رغم ما يطرأ على المجتمع الإنساني من متغيرات؟ / ب ـ فصل الدين عن الدولة الذي عرفته أوروبا في القرن 19 . ويذهب المؤلف إلى أن اليهود هم الذين روجوا للأنظمة التي ظهرت في الغرب ، وخاصة المبادئ الديموقراطية ( المساواة والعدالة الاجتماعية.. ) من أجل تحقيق مصلحتهم المتمثلة في جعلهم يتأن متعون بكل حقوق المواطنة التي يتمتع بها أهل البلد ( ص: 15 ). ويرى يحيى حقي أن الأقلية اليهودية في كل الدول الغربية، انتفعت من هذه الأنظمة الجديدة، حيث صارت تتمتع بجميع الامتيازات والحقوق: بجنسية البلاد التي تقيم بها، فضلا عن الجنسية الإسرائيلية الصهيونية.
2 ـ محاولة: يشيرُ المؤلف هنا إلى تعدد القراءات في النص الفني الواحد، وأن ليس ثمَّةَ حقيقة يمتلكها رأي واحد كله لنفسه، بل إن الأحكام نسبية. لذلك عرف الفن التقسيمات إلى مذاهب ومدارس مختلفة. ويعتبر يحيى حقي الانتقال التاريخي من مذهب إلى آخر نمواً طبيعياً وليس ثورة قامت لتهدم المذهب الذي سبقها، ذلك "أن من أمتعِ قضايا الفن ـ في رأيه ـ هو تقدير نصيب المورث والمبتكَر في كل مذهبٍ جديد " ( ص : 15 ). إن موقفه بعيد عن التطرف والجنوح لطرف دون آخر ، وهو لا يقول مع القائلين " هل غادر الشعراء من متردمِ " و" لا جديد تحت الشمس "، بل إنه خصم للشمول والأحكام القاطعة في الفن" ( ص : 17 )، بل إنه يرى أن كلَّ جديد مبتكر لا يخلو من عناصرَ موروثة ، وإن بدا أنها خفيت في بعض الأحيان. إن الكاتب يعتبر التحول من جيل إلى جيل مثل تبدل الأزياء حسب تغير الأذواق. وإذا تغيَّر الزِّي ُّ فإنَّ البَدَنَ لا يتغير. ويرى " أن الفنَّ الأصدقَ هو الذي يخاطبُ المعدنَ الأصيلَ في كل شعبٍ كما يبدو في آخر زيٍّ له. " ( ص: 17 )
3 ـ فتح الباب: ينتقلُ بنا يحيى حقي في هذا الفصل إلى الحديث عن جوستاف فلوبير الذي عرف بتجويد كتابته وأسلوبه ودعوته إلى الموضوعية وإخفاء ذات المؤلف، وعدم ظهوره من خلال مؤلفاته. فــ"على الأديب أن يشابهَ اللهَ في خلقه.. أنْ نشعرَ به في كلِّ مكان دون أن نلمحه"( ) ، ويرى المؤلف أنَّ فلوبير أراد أن يقيم القصة ( الرواية) فنَّاًله أحكامه، مستقلاً عن الأشكال الأدبية ( المقامة ـ السيرة و التاريخ المتخيل ـ المقالة ـ الريبورتاج الصحفي ـ الخطب المنبرية وغيرها ) ويذكر أن قيمة هذه الأعمال محفوظة لا يمكن إنكارها ، وذلك بشرط أن يبقى كل فرع في مجاله. ووسيلتها الوحيدة هي التعبير بالحادثة وبالتفاعل المستمرين بين الشخصيات، بحيث تنمو في تدرجٍ، بعيداً عن المباشرة والموعظة. ( ص: 21 )، لكن يحيى حقي مع الغلو في الموضوعية في الكتابة الروائية كما عند فلوبير ومن نحا نحوه، بل إنه "يعتبرُ أكبَرَ جريرةٍ في تطبيق هذا المنهج هو صرفُ الاهتمام عنْ صاحبِ النص إلى النص ذاته، ويرى أنهُ ليس في الوجود شيء قائم بذاتِه اسمُهُ الفَنّ، بل الموجود هم الْفنَّانونَ وليس غير . هم العباقرة الأفذاذ الذينَ ينشرونَ النُّورَ في هذه الأرض.. إنَّ في جمجمة كُلِّ واحدٍ من الأسرار والقوى .. فالمطلب الجدير بالتقديم هو أن نعرفَهم من أجلِ أن نعرفَ مزاجهم ، لا أن يطلبَ منهم أتباع فلوبير أن يختفوا وراء الستار .. وألا ينطِقُوا إلا بفم الغير الذي لا يطابقهم" ( ص: 24 ). وإذا ما عدنا إلى تطور الدراسات النقدية والأدبية ، نجد أنها سارت في عدة اتجاهات : فمن الأعمال المضومنية الإيديولوجية، سواء على مستوى التنظير أو الإبداع عند تروتسكي و غوركي وغيرهما من الاتجاه الماركسي ، إلى الشكلانيين الروس الذين عنوا بمكونات الخطاب الأدبي ومبناه الحكائي. يقول جاكبسون : " إن موضوعَ علمِ الأدب ليس هو الأدب وإنما الأدبية ( Littérarité) ، وبذلك حصروا اهتمامهم في نطاق النص" ( ) ، والاتجاه الاجتماعي وبالتحديد البنيوية التكوينية عند لوسيان كَولدمان الذي اهتمَّ بالشكل الروائي نفسِه ، وعلاقته ببنيات الحياة الاقتصادية في المجتمعات الغربية. ( ) أما نظرية التلقي التي ظهرتْ في ألمانيا على يد روبرت س هولاب () وإيزر ( )، فكان لها الفضل في إعادة الاعتبار للمتلقي الذي تم تهميشه في البنيوية الشكلية وغيرها، مع أنه يشكل الطرف الثالث إلى جانب المؤلف والنص ، فالأدب في هذه النظرية " ينبغي أن يُدرسَ بوصفه عمليةَ جدل بينَ الإنتاج والتلقي ، فالأدب والفن لا يُصبحُ لهما تاريخٌ له خاصية السياق إلا عندما يَتحققُ تعاقبُ الأعمال ، لا من خلال الذات المنتِجة ، بل من خلالِ الذاتِ المستهلِكة كذلك، أي من خلال التفاعل بين المؤلف والجمهور ." ( )
4 ـ جدٌّ وفُكاهَة:
في هذا الفصل من القسم النظري،يدعو المؤلف القارئ إلى أن يتلقى النص الأدبي بحرية ، مباشرة دون وسيط ، فهو يحب أن يجعل المتلقي مستمتعاً بالعمل الفني بقدر ما يحب ، وأن يفيدَ منه حسبما يشاء ، ذلك أن الكاتب يريد أن يعيدَ التعادل بين القراء والنقاد. يتفاعلُ المتلقي مع النص بصفة مباشرة أولاً، ثم بعد ذلك يمكنه قراءة النقد ما عَصَمَه ما ملكَ من حرية وإرادة أن يساق سَوقَ القَطيع. يَذكر لنا يحيى حَقي أمثلةً من واقع التاريخ الأدبي: في عهد ازدهار المسرح عند الإغريق، لم يكن ثمَّة نقادٌ محترفون، ولم يكن النقد آنذاك قد انفصل عن الأدب. وفي شعرنا الجاهلي لم يكن الشاعر بجانبه ناقد واحد محترفٌ "يضعُ النظريات ويقَنِّنُ القوانين " ( ص: 26 )، بل كان الشَّاعرُ النَّاشئُ ، يقصد شاعراً يَكْتوي بنار الإبداع الشعري مثله، فيعرضُ عليه شعرهُ، ويستنيرُ برأيه، فكان الرأي الذي يسمعُه الشاعر بمثابة الغذاء له لا الدواء. ص: 26 ) . يرى الكاتب هنا أن ذلك العهد كان فيه الأدب يمتص النقد، بينما في عصرنا الحالي كاد يمتص النقد الأدب، فأمسى" اعتماد هم على التفسير اللاحق للمعنى " ( ص: 27 ) " لقد كانَ الأدب لقاءً بين قارئ عاشق ومؤلف معشوق، يقوم كما يقوم الحب بين طرفين . أمَّا الآن، فقد أصبح مطاردة غرامية يشترك فيها ثلاثة: مؤلف وناقد وقارئ" ( ص: 26 ) والكاتب هنا ينتقد أدب اللامعقول والمذهب السُّوريالي في الفن والشعر، معترفاً بعدم فهم نصوصهما ولوحاتهما المغرقة في الإبهام، ويذكر على سبيل المثال مسرح بيكيت ( "في انتظار غودو" و"نهاية اللعبة " وقصائد مجلة "شعر " المعروفة ولوحات الفن السُّوريالي). إنَّ يحيى حَقِّي رغم قراءاته الواسعة في الأدب الغربي وفنونه، واطلاعه على الاتجاهات الأدبية الجديدة عربياً وغربياً، فإنه كان لا يسير على نهج أصحابها في الدعوة إلى الغموض في الفن بمختلف أشكاله، ولا يسايرهم في الرأي الذي مفاده أنه " ليس المقصود أن نفهم، بلْ أن نُحِسَّ. الكلمةُ ليس لها معنى ظاهر ، بل هو غائبٌ في رنينٍ أو عَلاقاتٍ تَحْتانِيَّة جداً بين كلامٍ سبَقه، وكلامٍ سيلحقُه.. " ( ص:28 ). لذلك نجدهُ يطرح التساؤل الوجيه التالي: " أليس هذا الوضعُ يُعَرٍّضُ الأدبَ والمسرحَ والفنونَ إلى الانعزال، إلى إهدار دورها التفاعلي داخلَ المجتمع؟" إن يحيى حَقي، وهو معروف بروح الفكاهة في كتاباته، يعمد إليها هنا، كرد فعلٍ لخشيته الشديدة من غلو هذه الفنون في الغموض والإلغاز ما يجعلُ التواصل منقطعاً بين الكاتب ومجتمعه، وعدم القدرةِ إلى النفوذِ إلى ضميره. ومن باب الفكاهة أيضاً طرحُه السُّؤال التالي : ماذا لو يترك السادةُ النقاد الدكاترة المحترفون "بَخيتاً" لـ"بخيتة" بحيث يلتقي الفنانونَ والجمهور لقاءً حراً بعيداً عن أيِّ مُؤثِّر خارجي من لدن النقاد. ( انظر ص: 30 ) ؟
5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي:
يتحدثُ المؤلف في هذا الفصل عن عدة قضايا نقدية هامة تتمثل فيما يلي :
ـ ميل مزاجه إلى الدِّلالة الاجتماعية التي ينبغي أن يتضمنها النص الأدبي ( يعني بالتحديد عن الفن القصصي )
ـ موقفه من استخدام بعض كتاب الفن القصصي العامية سواء في السرد أو الحوار. يرى أن الفصحى هي القمينة باستخدامها وسيلةً للكتابة الأدبية عموماً، وضمنها فن القصة، وذلك لاعتبارين :
أ ـ أن الأدب الجدير بالبقاء هو الذي يصاغ باللغة العربية الفصيحة، لأنها هي وحده التي تُمِدُّ المؤلفَ بتراثها الزاخر بالكنوز اللغوية القمينة بإغناء أسلوبه وتجويد تعبيره ( ص: 33 )
ب ـ إيمان الكاتب بأنَّ الفٌصْحى هي الرباط بين الأمم العربية، ولا يمكن أن يتم التواصل والتفاهم بينها إلا بواسطتها.
ـ قضية المرأة التي ما زالت تعاني من الدونية والتهميش والتمييز في مجتمعنا العربي الذّكوري، وعلاقتها ما زالت غير متكافئة بينها وبين الرجل ( انظر : ص 37 )، فالرجل مسموح له بارتكاب الخطايا باعتباره رجلا ، والمرأة مدانة ، لا يُقبل خروجها عن الأعراف. ويستشهد يحيى حَقِّي على هذه الوضعية بقصة"حادث النصف متر " لموسى صبري من نقد الناقد يوسف الشاروني. يقول المؤلف في هذه القصة تصوير جميل مذهل لهذه العلاقة، مذهل لأنه صادق. إنَّ بطل قصته يبكي ويريد السارد أن نبكي معه على حبه الذي اغتالته يد الحبيبة الخائنة... مذهلٌ لأن هذا القديس الطَّاهر الباكي، لا يقلٌّ عنِ الفتاةِ غرقاً في الرذيلة.. فما أعجب أن يَطلبَ منا هذا البطلُ أن نَبكي معهُ، ولكن هذه الفِعْلةُ لَيْسَتْ إلا نتيجةَ اعتقادِ الفتى أنه أرقى من الفتاة، وأن الذي يلوثها لا يلوثُه " ( انظر، ص : 36 وما بعدها )
( يتبع )