د. أحمد الحطاب - التَّأرجُح بين الحداثة والمحافظة

إن كان هناك بلدٌ تتأرجح الغالبية العُظمى من أهلِه، سلوكياً، بين الحداثة modernité أو modernisme والمحافظة conservatisme، فالمثال الحيُّ والدَّامغ هو بلدُنا السعيد.
وهذا التَّأرجُح واضحٌ وضوحَ الشمس في جلِّ مظاهر الحياة اليومية للناس. إلى درجة أن هذا التَّأرجح خلق ويخلُق صراعا اجتماعيا دفينا أو مُعلنا بين تيارين فكرتين متناقضين، علما أن كلَّ تيار يعتقد اعتقادا راسحا بأن نظرتَه للأمور هي الصحيحة وهي التي تليق بالمجتمع المغربي.

قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، من المفيد جدا أن نتعرَّفَ على مفهومَي الحداثة والمُحافظة، ليسهُلَ على القارئ إدراكَ ما سأقوله لاحقا.

الحداثةَ، كحركةٍ فكرية واجتماعية mouvement intellectuel et social، ظهرت في العالم الغربي في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وخصوصا، بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

والسِِّمَة الأساسية للحداثة، هي أن كلَّ شيءٍ، في حياة الإنسان، قابل للتَّغيير، أو بالأحرى، قابل للتَّطوُّر. والتَّطوُّر، هنا، يجب إدراكُه كانتقالٍ من وضعٍ كان غير مُقنِعٍ إلى وضعٍ آخرَ مُقنِع ومتلائمٍ مع الواقع. أو الانتقال من وضعٍ كان حسناً إلى وضعٍ آخر جديد أحسن منه. ولا داعيَ للقول أن كلَّ ما انتجته الحركات الحداثية من تجديدٍ، هو نتيجة لأنماط فكرية modes de pensée يتميَّز بها المجتمع الحداثي. والحداثةُ هي، في الحقيقة، انتقالٌ من عالمٍ كان، أساساً في موطنه، زراعيا monde agraire إلى عالمٍ فرض نفسَه من خلال التَّصنيع industrialisation والتَّحضُّر أو التَّمدُّن urbanisation.

وزيادةً في التوضيح، فكل ما يُعتبَر ثابتاً، في نظر المحافظين، فهو نسبي، في نظر الحداثيين. وهذا يعني أن تفكيرَ الحداثيين يبحث دائما عن الجديد أو التَّجديد innovation. ولهذا، فالحداثة تُهمِّش التقاليد والعادات وتسعى دائما إلى تجاوز الماضي والإتيان بالجديد. وهذا الموقف يستدعي إعطاءَ الأولوية للعقل واعتبار ما أنتجه الفكرُ البشري من أفكارٍ ومعارف له علاقة بالظروف الزمانية والمكانية التي يعيش في إطارها المُنتِجون.

بينما المحافظة conservatisme، كتيَّار فكري واجتماعي courant de pensée intellectuel et social، يمكن أن تشملَ، في إطار فكرها، ما هو اجتماعي، ما هو سياسي، ما هو ديني، ما هو ثقافي، ما هو اقتصادي… والمُحافظة قديمة قِدَمَ الإنسان على وجه الأرض. وسِِمتُها الأساسية أنها ترفض التَّغيير وتتشبَّثُ بقِيم الماضي valeurs du passé وبِنياته ses structures وتعتبرها ثابتة وتصلح لكل زمان ومكان، بل إلى أن يرثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها. وبما أن هذه القيم والبِنيات صالِحة لكل زمانٍ ومكانٍ، فلا داعيَ لتشغيل العقل لتغييرها. بالنسبة للمُحافظين، الماضي والتّقاليد والتَّنظيم القديم للمجتمع أشياءٌ مقدَّسة.

وهذا يعني أن المبادرة واستقلال الفكر والـَّجديد لا مكانَ لهم عند المُحافظين. والمحافظون، بصفة عامة، وخصوصا أولئك الذين يدَّعون أنهم مسلمون أكثرَ من غبرهم، غالباً ما يكونوا مُتزمِّتين fanatiques، متشدِّدين rigides وغير متسامحين intolérants…
قبل الدخول في تفاصيل هذه المقالة، أذكِّرَ بأني قلتُ أعلاه أن التَّأرجحَ بين الحداثة والمحافظة، هو صراعٌ بين تيارين فكريين متناقضين conflit entre deux courants de pensée antagonistes. في الحقيقة، إنه صراعٌ إيديولوجي قائمٍ بين مجموعتين من القِيمِ يَنظر لها مُناصِروها بتناقضٍ صارخٍ. فهناك القيمُ القابلة للتَّغيير، أي تتأقلم مع الواقع وتُسايره. وهناك القيم الثابتة التي قد تعود للماضي القريب أو البعيد والتي لا يجب أن يطالَها التَّغيير. فأين يوجد التأرجح؟

التَّأرجح، بالنسبة لهذه المقالة، هو عدم الثبوت على رؤيةٍ فكرية معيَّنة. والمقصود ب"التَّأرجح"، هنا، هو إظهار سلوكٍ له علاقة بالحداثة بينما العقلية تندرج في التيار الفكري المحافظ. والأمثلة، في هذا الصدد، كثيرة.

يكفي أن نُلقيَ نظرةً على حياتنا اليومية لنلاحِظَ أن مظاهرَ هذه الحياة كلها حداثية من لباسٍ وأكلٍ وشُربٍ وتنقُّلٍ ومواصلات واتصال… وجميع ما وفَّرته التكنولوجيا من أدوات وآلات وأجهزة بدأً بالهاتف المحمول الذي أصبح عبارة عن حاسوب صغير ينظِّم حياةَ الأشخاص ويدفعهم إلى مزيدٍ من التَّناقض بين ما يتبنَّونه من مظاهر الحداثة وعقلياتهم المحافظة. فما هو مصدر هذا التناقض؟

مصدر هذا التَّناقص هو التَّديُّن. أقول التَّديُّن وليس الدين. وللتمييز بين الدين والتَّديُّن، أدعو القارئ للاطِّلاع على مقالة نشرتُها على صفحتي بتاريخ 7 يونيو 2023 تحت عنوان : "الدين لله والتَّدين للفرد".

كلنا نعرف، حقَّ المعرفة، بعد وفاة الرسول، أن الغالبية العظمى من المسلمين، مسلمون بالتَّوارث. بمعنى أن الناسَ، بعد ولادتهم، وجدوا آباءَهم وأمهاتِهم على دين الإسلام، فقلَّدوهم وساروا على نهجهم. قلَّدوهم في ممارسة الطقوس الدينية وما يصاحبُها من قِيمٍ إنسانية وأخلاقية وسلوكات في الحياة اليومية. بل الأباءُ والأمهات يتدخَّلون، أحيانا، في هذا التَّديُّن بعُنفٍ لفظي وتخويفٍ مُرعبٍ، طبقاً لما ورثوه، هم أنفسُهم، من آبائهم وأجدادهم.

وهذا يعني أن جلَّ المسلمين، مسلمون إما بالتَّقليد الاعمى وإما بالتَّخويف، وليس بالاطلاع العقلاني على الدين الإسلامي الذي ينصُّ عليه القرآن الكريم. وهنا، يبرز دورُ علماء وفقهاء الدين الذين، عوض أن يُقرِّبوا الناسَ من الدين كما أراده الله، سبحانه وتعالى، أي دينَ يُسر وليس دين عُسر، فإنهم عقّدوه. بل جعلوا منه دينا موازياً معقَّداً يستجيب لرغباتهم للسيطرة على عقول الناس، عوض أن يوضِّحوه للناس طبقا لما حاء في القرآن الكريم.

وهذان التَّقليد والتَّخويف هما اللذان يجعلان كثيرا من الناس يتأرجحون بين سلوكياتٍ حداثية وعقليات محافظة. وهذا التَّأرجحُ ناتجٌ، في الحقيقة، عن عدم الإلمامِ بالدين والتَّمعُّن فيه، طِبقا لِما ينصُّ عليه القرآن الكريم. فمِن ماذا يخاف المسلمون المُتديِّنون بالتَّقليد أو بالتَّخويف؟

أولا، يخافون من انتقادات المجتمع، التي قد لا ينجو منها أحدُ في المجتمعات المتديِّنة بالتَّوارث. ولا يخفى على أحدٍ أن انتقادات المجتمع، غالبا ما تكون مبنيةً حصريا على القيل والقال commérages والأحكام المُسبقة préjugés.

ثانيا، يخافون من العقاب الإلهي، علما أن اللهَ سبحانه وتعالى، وهب العقلَ لبني آدم ليعيشوا أحراراً في الدنيا، بعد أن بيَّن لهم طريقَ الخير وطريقَ الشر. والعقل البشري هو الذي يختار أحدَ الطريقين.

ولا داعيَ للقول أن علماءَ وفقهاءَ الدين، وهم من كبار المحافظين فكريا وعمليا، لهم دورٌ مهم في بث التَّخويف والرُّعب في نفوس الناس بتبنِّيهِم لدينٍ فيه الانتقام والقتل والاعتداء والعذاب في القبر قبل الآخرة… باختصار شديد، دينٌ كلُّه رُعبٌ وترهيب…، علما أن اللهَ، سبحانه وتعالى، خاطب رسولَه الكريم (ص)، قائلاً : :وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ" (الأنبياء، 107). وهذه الرحمة هي الغائبة في الدين الموازي الذي أراده علماءُ وفقهاءُ الدين.

والدين الذي أراده الله لعباده ليس فيه لا إكراهٌ ولاعنفٌ ولا تخويف ولا ترهيب... إنه، كما سبق الذكرُ، دينُ يُسرٍ وليس، على الإطلاق، دين عُسر. بل الله، سبحانه وتعالى، فضَّل بني آدمَ على الملائكة وأمرهم أن يسجدوا له، تقديرا لهذا التَّفضيل، بعد أن خلقَه من طين ونفخ فيه من روحه. فلماذا خلق الله، سبحانه وتعالى، بني آدم ونفخ فيهم من روحه وفضَّلهم على الملائكة؟

عندما نقرأ القرآنَ الكريمَ، نلاحظ أنه، عزَّ وجلَّ، خلق بني آدم لأنه يريد، أصلاً، أن يُدخلِهم الجنةَ إن هم أطاعوه واتَّبعوا ما سنَّه لهم من طريقٍ مستقيمٍ، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "...أُولَٰئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ" (البقرة، 221)، أو مصداقا لقولِه، عزَّ وجلَّ : "وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (يوتس، 25).

ولهذا، فالدين المتوارث، أي الذي ورثناه عن آبائنا وأمَّهاتنا دين إكراهٍ وعنفٍ وتخويف وترهيب. وهو متناقضُ تمامَ التَّناقص مع الدين الذي نصَّ عليه القرآنُ الكريمُ، الذي هو دينٌ فيه الاختيار والمحبة والمغفرة والتَّواب والرأفة والرحمة واللطف والرِّفق…

فلا غرابةَ أن يحتفظَ عددٌ كبيرٌ من المسلمين، في ذاكرتهم بهذا النوع من الدين المقترن بالإكراه والعنف والتَّخويف والتَّرهيب. وهذا النوع من الدين، هو الذي يجعل غالبيةً عظمى من المتدينين بالتوارث محافظين فكريا وحداثيين سلوكيا. وهذا يعني أن الفكرَ غير متطابق مع السلوك. فتراهم ينطقون بالشهادتين يوميا أثناء الصلاة، ويصلون ويزكون ويصومون ويحجون، خوفا من العذاب الذي لا يفتأ عالمُ أو فقيهٌ أن يُرهبَ به الناس.

ما أختم به هذه المقالة، هو أن يبتعد علماء وفقهاء الدين عن دين المذاهب والطوائف والفرق وأن يعودوا إلى الدين الذي أراده الله للناس أجمعين وبعث آخرَ الرسل والأنبياء، محمد (ص) لنشره بين الناس. غير أن الرسولَ (ص) قد اشتكى، في زمانه، لله قائلا : "...يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَـٰذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (الفرقان، 30). فما بالُك بنفس القوم، الذين، في عصرنا الحاضر، زاد عددُهم أضعافاً مُضاعفة، والذين غَزَت الحداثةُ جميع مناحي حياتِهم اليومية، دون استشارتِهم؟

ملاحظات : أولا، هذه المقالة، الهدف منها هو التَّنوير وليس أشياء أخرى. ثانيا، قد يقول قائل، الدين مصدره القرآن الكريم والسنة. هذا صحيح. غير أن السنةَ، لمّا اختلطت بالسياسة، تمَّ تحريفُها بكثيرٍ من الأحاديث المنسوبة للرسول (ص). ويستحيل أن يكونَ الرسول (ص) هو مصدرها لأنها مُخالِفة للقرآن الكريم وحتى للعقل.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى