في النصف الثاني من سبعينات القرن الماضي مع بداية استفحال الأزمة الاقتصادية والسياسية، كنا مجموعة من الشباب نعاني في صمت.. أغلبنا ينتمي لأسر فقيرة بالكاد تُوفر لقمة العيش في حدها الأدنى..
تأثرنا كباقي جيلنا بكل مظاهر الرفض التي كانت تسمح بها الظروف آنذاك.. أطلقنا شعرنا.. ارتدينا سراويل الجينز.. ابتلينا بتدخين الحشيش والقنب الهندي، وتناول المعجون.. استمعنا للأغاني الرومانسية والثورية من جميع بقاع العالم.. قرأنا الروايات.. تابعنا الوضع العام المرعب في البلد عبر الصحف والمجلات، وتعاطفنا مع المعتقلين السياسيين..
بعد الفطور في شهر رمضان المبارك، كنا نمر على حلقة طبيب الحشرات، ثم نذهب إلى مقهى (الدروج). لا أعرف لماذا أطلق عليها الزبائن هذا الاسم.. أغلب المقاهي المحيطة بساحة جامع الفنا أو القريبة منها أمام أبوابها سلالم تصعد بك إلى الواجهة أو إلى الداخل.. كانت هذه المقهى محاذية لمرآب حافلات الشقوري خلف مقر شرطة جامع الفنا..
كراسي قديمة، وطاولات فقدت لونها من كثرة الاستعمال، جعلا مظهر المقهى أكثر شعبية. يلعب الناس الورق في قاعة الطابق الأرضي، أو في السطح.. ويمر بها أيضا بعض المثقفين من اليسار..
كنا نلعب الورق في السطح المطل على ظهر المقر الرئيسي لشرطة المدينة القديمة، وندخن القنب الهندي، ونضحك مع بعضنا على بعضنا حتى يقترب آذان الفجر، فنُقفل عائدين إلى بيوتنا..
حمود ألف رحمة ونور على روحه الطيبة، كان يتحفنا بمقطع قصير من أغنية رائعة لمجموعة تكادة.. المقطع يؤديه مع الفرقة شاب من مراكش لا أتذكر اسمه الشخصي لكنه (ولد بلكبير) بائع الحلوى الشهير بسوق السمارين. بعد كل هذه السنين عثرت على الأغنية صدفة اليوم في الأنترنيت.. استمعت إليها بصوت فنان آخر ينتمي للمجموعة.. صوت أيقظ جروح الماضي.. اجتزأت المقطع الذي كنا نطلب من حمود ترديده كل ليلة ونحن عائدين إلى بيوتنا من رحلة الضياع اليومي..
بقى أقل من ساعة على آذان الفجر.. ونحن عائدين بين باب فتوح ودفة وربع، يصدح صوت حمود العذب في هذا الزقاق الخالي من المارة.. يصدح في صمت ما قبل الفجر بهذا الموال الحالم من الطرب الشعبي:
(أه أه حتى من دارو واسعة وعريضة
وحتى من عودو معلمو التبوريدة
وحتى من كلبو معلمو الصيدة
وا روح أبابا البراني عكوبتو لبلادو
و ا روح أبابا البراني عكوبتو لولادو
و ا روح أبابا البراني عكوبتو لحبابو...)
لم نكن نملك منازل واسعة أو عريضة.. لم نكن نملك خيلا للتبوريدة، ولا كلابا للصيد، لكن كنا نقتسم مع الغرباء حنينهم بالعودة إلى الديار..
مراكش 16 شتنبر 2024
تأثرنا كباقي جيلنا بكل مظاهر الرفض التي كانت تسمح بها الظروف آنذاك.. أطلقنا شعرنا.. ارتدينا سراويل الجينز.. ابتلينا بتدخين الحشيش والقنب الهندي، وتناول المعجون.. استمعنا للأغاني الرومانسية والثورية من جميع بقاع العالم.. قرأنا الروايات.. تابعنا الوضع العام المرعب في البلد عبر الصحف والمجلات، وتعاطفنا مع المعتقلين السياسيين..
بعد الفطور في شهر رمضان المبارك، كنا نمر على حلقة طبيب الحشرات، ثم نذهب إلى مقهى (الدروج). لا أعرف لماذا أطلق عليها الزبائن هذا الاسم.. أغلب المقاهي المحيطة بساحة جامع الفنا أو القريبة منها أمام أبوابها سلالم تصعد بك إلى الواجهة أو إلى الداخل.. كانت هذه المقهى محاذية لمرآب حافلات الشقوري خلف مقر شرطة جامع الفنا..
كراسي قديمة، وطاولات فقدت لونها من كثرة الاستعمال، جعلا مظهر المقهى أكثر شعبية. يلعب الناس الورق في قاعة الطابق الأرضي، أو في السطح.. ويمر بها أيضا بعض المثقفين من اليسار..
كنا نلعب الورق في السطح المطل على ظهر المقر الرئيسي لشرطة المدينة القديمة، وندخن القنب الهندي، ونضحك مع بعضنا على بعضنا حتى يقترب آذان الفجر، فنُقفل عائدين إلى بيوتنا..
حمود ألف رحمة ونور على روحه الطيبة، كان يتحفنا بمقطع قصير من أغنية رائعة لمجموعة تكادة.. المقطع يؤديه مع الفرقة شاب من مراكش لا أتذكر اسمه الشخصي لكنه (ولد بلكبير) بائع الحلوى الشهير بسوق السمارين. بعد كل هذه السنين عثرت على الأغنية صدفة اليوم في الأنترنيت.. استمعت إليها بصوت فنان آخر ينتمي للمجموعة.. صوت أيقظ جروح الماضي.. اجتزأت المقطع الذي كنا نطلب من حمود ترديده كل ليلة ونحن عائدين إلى بيوتنا من رحلة الضياع اليومي..
بقى أقل من ساعة على آذان الفجر.. ونحن عائدين بين باب فتوح ودفة وربع، يصدح صوت حمود العذب في هذا الزقاق الخالي من المارة.. يصدح في صمت ما قبل الفجر بهذا الموال الحالم من الطرب الشعبي:
(أه أه حتى من دارو واسعة وعريضة
وحتى من عودو معلمو التبوريدة
وحتى من كلبو معلمو الصيدة
وا روح أبابا البراني عكوبتو لبلادو
و ا روح أبابا البراني عكوبتو لولادو
و ا روح أبابا البراني عكوبتو لحبابو...)
لم نكن نملك منازل واسعة أو عريضة.. لم نكن نملك خيلا للتبوريدة، ولا كلابا للصيد، لكن كنا نقتسم مع الغرباء حنينهم بالعودة إلى الديار..
مراكش 16 شتنبر 2024