العربي عبدالوهاب - رؤية على رؤية .. ومراتب اصطفاء الواصل للموصول قراءة فى ديوان (سدرة الوصل شهوة الموصول) للشاعر هشام محمود

إنها الرغبة والاشتهاء ، الاصفاء والتجلي، انبعاث الروح من ألق الغواية، من رماد الحزن، من هسيس الاستبداد، والدم المتخثر، والنار والرعد؛
ينحت الشاعر لغته من طوايا نص صوفي ممتد، يفرد أشرعته ظلالا على قصائد ديوان سدرة الوصل شهوة الموصول (1)
يعتمد الشعر فى تجلياته على نحت لغوي خاص بكل شاعر يتمايز فى قاموسه وصوره الشعرية، وطريقة أدائه الفني المتميز فى ذاته، والمتجاوزلغيره ممن خاضوا تجربة توحد الشعري بالصوفي .. الأرضي بالسماوي.
يقدم هشام محمود فى ديوانه تجربة تأتلق بنيران الذات الموعلة فى سبيل الكشف عن جوهر حقيقتها الأولى، ذات كاشفة لكافة ألوان الصدود من مفردات واقع، لا ينبع إلا من ركام أزمنة ولت، ومن وراء أقنعة حلت، بوجوه تجلت كالمسوخ، قصائد سدرة الوصل شهوة الموصول جديرة بالاحتفاء، بقدر ما هى تستحق التأمل والتحليل النقدي.
نراه فى قصيدة (نيل على نيل)، متوحدا بذاته فى النيل، والنيل يتجلى من وراء أزمنة قبل التاريخ، يمر عليه الفرعون والطاغي والمستبد، وهو النيل يجري، ولا يتوقف، موجود رغم الصدود والجحود؛ ولأن مصر هبة النيل كما قال (هيرودوت) فالشاعر المصري هشام محمود تمكن من الحلول فى جسد النيل ، وصار الخطاب الشعري معتمدا على جمل متكررة، مثل (قل هو النيل)
قل هو النيل انتشاء غامض
قل :
هو النيل ائتلاق
واحتراق
وكأن هذه الجمل روابط ومحطات للعودة حيث بدء النيل، فى رحلته الأبدية نحو اكتشاف الخونة والسفلة وتجار التاريخ.
يقول:
أنا النيلي
أشرق فى سماواتٍ ..
تنازع أمرها القديس والوثني
بينا الله فى ملكوته السامي
يعلم آدم الأسماء
ن
ي
ل
نلاحظ الاشارة للنص المقدس وتفعيله داخل بنية النص، تماما كما يستشهد بنصف بيت فى مقطع آخر داخل نفس القصيدة، للشاعر "عمرو ابن أبي سلمى" (ونشرب إن أردنا الماء صفوا) (2) .. وبالرغم من أن الفخر يجمع بين الشاعرين، فى ظاهر النص؛ إلا أن الشاعر المعاصر (هشام محمود)، كبقية شعراء قصيدة التفعلية الذين يعتمدون على تقنية (التناص) واستخدام القناع فى أشعارهم، يقوم باستلهام التراث، واعادة توظيفه بطرائق متعددة منها هنا (تقنية المفارقة).. فحال الذات ليست فى حال من الفخر، بل هو سنديان، ونحل طاعن:
سنديانٌ
يستظل بشقشقات الغيم
نحل طاعن فى السن
يألفى
وآلفه
وبالرغم من أن الفصول تبتكر التحولات،
وتولج الأرواح فى الأوراح
والأجساد فى الأجساد
إلا أن الشاعر المعاصر لم يزل يؤرقه اليقين، كأنه على شفا حفرة بين اليقين واللايقين، يدفعه الشك فى مراجعة تاريخه ومعتقداته، يعيد طرح العالم برؤاه الجديدة، وفى ثوب جديد من اللغة، وبطرائق أداء شعري غير مستهلكة، ومن ثم فتجربة هشام محمود، فى ديوانه هذا يجعل من ذاته، بوتقة لكينونة العالم الذى تنعكس على جسده التواريخ، وتتجلى فى روحه الأساطير، وهو فى غوايته تتكشف له عوالم مكتنزة بالشاعرية، ويتخلص من قناعاته السلفية، ومن وجوده الأرضي أحيانا فى رحلة صعوده، بـ (منطق رؤية الصوفيين) لاكتشاف ذاته محاولا اكتشاف حقيقتها من خلال الارتقاء والتجلي والدنو تلبية لشهوة الموصول الساعة للتوحد مع الواصل.
• والشاعر يستهل قصيدته (ألق على طمي الكتابة) بآية قرآنية، كما بدأها فى قصيدة سدرة الوصلبآية قرآنية أيضا.
(قل لو كان البحر مدادا)
والقول هنا يتناقص فى كل سطر جديد مفردة هكذا: ـ
قل لو كان البحر مداداً ...
قل لو كان البحر ...
قل لو كان ...
قل لو ...
وهذا التناقص يحمل دلالات عميقة، تفتح آفاق النص على قدسيته، ولأن السعي للوصول إلى الحقيقة له ثمنه الباهظ، إذن نكتشف بأن هذا الألق الذى تنوه عنه القصيدة فى عنوانها (ألق على طمي الكتابة)، له أيضا ضريبته.
بالاضافة إلى أن المقطع ينتهي إلى (قل لو...) وهذه الأداة الشرطية تفتح زوايا متعددة فى النص على احتمالات لا حصر لها، منها فى البدء
لو أن هندسة المجاز
تحدرت من عنفوان الحذف والايماء
درَّت سابحات القيظ
فى كبد التجارب
أيقظتْ
وقعا تناغم فى متون الصحو
ناراً
هذه النار، هى اليقظة من الغفو والانكسار والخنوع والتراجع، وانحدار الرمز من بوتقة وهندسة المجاز، ليساعد تلك الأجساد على الاشتعال، فيستحيل النشيج ألقا خصيبا.
والقصيدة اعتمدت على تكرار الخطاب بجملة حوارية واحدة تتكر من قبل السائل، وسرعان ما تنحرف نحو آفاق أخرى مسكوتٍ عنها،
بنفس الأداة الشرطية (لو)
ـ لو أن الرؤى ...!
ـ صمتا بليغا
أو يقول
ـ لو أن القصائد ...!
ـ وردة تلهو على جمر التوحش
كما يستمر فى الاعتماد على نفس الأداة.
ـ لو أن الجهات ...!
ـ أنا المهيأ للولوج إليك
من كل الجهات
وتبدو للقارئ فى ظاهر النص أنه ثمة لغة شعرية حوارية، وهذه التقنية (الحوارية) مستخدمة فى شعرية قصيدة التفعلية بكثرة عند معظم شعرائها، ولكن هذا الايهام الحواري؛ ما هو إلا حوار الذات مع ذاتها، بغية اكتشاف جوهر القصيدة والولوج إلى مجاهيليها، وصحرائها الشاسعة، لاحظ جملته الحوراية التى تستحيل معها القصائد إلى ( ـ وردة تلهو على جمر التوحش)
كما أن إعتماده على الاشارة الرياضية
) فى هذا المقطع بأداء شعري بديع أضاف للنص ألقاٍ.. يقول:
ـ أنا المهيأ للولوج إليك
من كل الجهات ...!
الرؤيةُ = الاسراءُ
(سبحان الذى أسرى)
احتراقي فى عيون الله = ميلادي
= تخلق جمرة اللغة العصية ..
فى بحيرة لازورد
إن هذه المعادلات التى يسعى إليها راجيا إياها بغية الوصول إلى التوحد مع جوهره، هو توحد مع أصل الأشياء وحقيقة الذات، وهو بالمفهوم الصوفي فى قمته يحدث (الحلول).. حلول الخالق فى المخلوق، والواصل فى الموصول، وسوف نرى ذلك متجليا فى قصيدة سدرة الوصل.
• والشاعر فى رحلته نحو تشكيل رؤيته تناوشه الأسئلة وتتنازعه الاحتمالات، رؤيته للعالم غير يقينية، ومعتقداته غير نهائية، ويقينياته لا تمنحه الاجابات الشافية، يظل الشاعر يتقلب على جمر الغواية والقلق، يدفع بخياله المحلق، وصوره الشعرية المتواترة، شهوة ورغبة فى كشف الحجب، ولمس أستار الحقيقة للوصول إلى ذاته الغريبة عن عالمها
يقدم فى قصيدة (سدرة الوصل ) تجربة تفعليلية، تعتمد على رؤية صوفية للعالم وللذات، يستدعى خلالها أبياتا (للحلاج ، وابن الفارض)، ولعل الاشارات والأقنعة فى الديوان رغم عدم كثرتها إلا أنها أشعرتنا بتفاعل هذا التناص الشعري مع تجليات شعرية أخرى ذات أزمنة خاصة ومستقرة فى وعي المتلقي، ومشكلة لوجدانه،
نراه فى قصيدته التى يحمل الديوان عنوانها؛ يستدعي أولا الحلاج بعد انكشاف العماء، والتحليق فى فضاءات الكشف ، فيتساءل فى حالة من حوارياته المتعددة مع ذاته
ـ نظرة
ـ (نظرى بدء علتي
ويح قلبي وما جنى
يا معين الضنى علىَّ
أنى على الضنى) (3)
هذا هو شقاء الرؤية المتولدة عن نظرة العارف، الذى يرى بنور بصيرته، ويتواءم مع نظرة الشاعر، ويحلق معه فى فضاءات وغياهب وأستار الكون، والذات معا
ومن ثم فشعوره بالغربة فى فضاء الكشف يرده غريبا.
هيئ الأرض
إنى غريب بتلك السماء
ـ غريبٌ ..؟
فتكرار مفردتى الغربة بهذا التوكيد تتضافر مع حالة الرعد الذى يخرج من أرض الله مغتربا ، ومن ثم ينعكس على الذات باطلالة النواميس من دمه . يقول:
أم تطل النواميس ..
من كوة فى دمي ..؟
تتكشف العوالم، والأستار أمام الشاعر فى رحلته نحو سمائه، مترنما بشهوة الموصول فى الارتقاء بذاته نحو الكمال، بالخلاص مما هو متدني، منتشيا بانفلاته من سقطاته الأرضية، وأنه كلما ارتقى ـ بالمفهوم الصوفي ـ كما خف من ثقله، وتمكنت بصيرته من كشف الأستار. رحلة من الكشف والتكشف. خلالها تتبدل التصورات السلفية، وتحل محلها رؤى مغايرة، فنرى (ملائكة شرسون / يجروننى من بهائي / ويفتروسون رؤاي) ونرى الأرض قابضة بأثقالها على روحه، بينما الاشتهاء لا يحده حد، يوغل فى الزمن. كأن الزمن الكوني بلا نهاية، ومن ثم فالاحتمالات لا تتوقف على اتصال (شهوة الموصول بالواصل، ولعل هذه الاحتمالات تندغم مع مفتتح القصيدة بالآية القرآنية (قد نرى تقلب وجهك فى السماء فلنولينك قبلة ترضاها) وقبلة الشاعر فى القصيدة هى الانتقال بذاته من وجعه الأرضي وثقل آثامه، رغبة فى السمو فوق كل ما يوازي ذلك شهوة فى اتصال الرؤى بالرؤى، والدنو من السدرة، التى تصهره، وتنقيه .
يتوزع الديوان على مستويين حسب الأداء الشعري فى تشكيل الصورة الشعرية جماليا.
فنرى قصائد (سدرة الوصل شهوة الموصول، ألق على طمي الكتابة، غاية الصوت غواية اللون، نيل على نيل، شاهد ومشهود ) مكتنزة بالصور الشعرية المتواترة، حالها حال القصيدة التفعيلية فى جيل التسعينيات، حيث كانت شعرية جيل السبيعينات لم تزل فارشة سطوتها سطوة على منجزات الشعراء فى حب زمنية تالية، ومن ثم كان على هذا الجيل (التسعيني) أن يتسلم الراية، ويدلي بدلوه، ويأتي بالجديد.
لذلك نرى الشاعر هنا يخرج عما أسسه وشكله من رؤاه الصوفية للعالم وللذات،
نراه يلجأ إلى تفكيك الصورة الشعرية، وتخليصها من أعبائها السلفية، وكأن الروح كلما شفت وصعدت تخلت عن درورعها اللغوية وأخذت فى طرح تجارب مختلفة، نراها متجلية فى قصائد أخرى فى الديوان (تناسخات، احتمالات، فصل لام، قالت الروح، شجوية)
أما قصتى (قل إنها هالة، وسفر المراثي) فكأنهما مفتتح القول، وختامه.
• وتتبقى قصيدة (سفر الفتوحات ) تجربة من ناحية البناء مختلفة، وإن اعتمدت على تعدد الأصوات، وتنوع أشكال الأداء فى الصورة وفى الرؤى، بين منازعات أزمنته وتجلياته السالفة وبين انكساراته الحاضرة.
الفتح هنا يتجلى فى المفتتح، هو الانفتاح على السؤال
*مفتتح
جملة مغلقة
وفتى يفتحها ..
يفتح الأرض،
و.....
واو عطف تراوغه
ثم تفتح فى دمه .. كوة للسؤال.
وبالرغم من أن الدوائر تعيد بعضها البعض، ويظل الشاعر مشغولا بعوالمه، الأرضية، وبأسئلته التى بلا مجيب، وبتعددية الأصوات داخل الذات الواحدة الغريبة.. فى غالبية القصائد.
وإلا أن مستوى الأداء الشعري يتسم بالتنوع هنا، عندما يضم الشاعر مقطعا من الشعر الكلاسيكي، كأنه ملامح الذات فى أزمنته الغابرة، وفى أزمنة الشعر المرتبط بالبيت والوزن والقافية الواحدة،
ـ فتح ثان
جسد على جسد، وروح فى دمٍ
غض، وآلاء على آلاء.
تجتاحني حتى كأن جوانحي
وطنٌ تسوَّر غربة الغرباء
فتوحشت رؤياي فيك وأيقظت
رؤياك فيّ فمن أضل الرائي
هل هذه التنويعات الشعرية على مستوى الأداء تجسد تطور تجربة الشاعر غناها؛ أم أنها تعبر عن تحولات الأداء داخل بنية القصيدة؟، ولأن الشاعر غير منفصل عن معطيات عالمه، فنراه يمازج الشاعر بين ذائقتين شعريتين مرتبطتين بتواريخ متباعدة، ليس هذا فقط بقدر ما يبني قصيدته على (فتح أول ، وفتح ثان ... حتى الفتح الرابع)
وفى الفتحين الثاني والثالث يبتدأ بالجسد/ المعادل للوجود المادي، وربما كان مفارقا حسب التجربة الشعرية المستندة على ألق المرجعية الصوفية، وتجليات الذات من خلالها، فى تطوافها كالروح الهائمة حتى تتصل بواصلها فتتوحد عائدة من غربتها.
• التنوع فى قصائد ديوان سدرة الوصل منح الديوان حراكاً من نوع فريد حيث أنه فى مجمله يتكأ على صياغة متاعب وآلام الذات الشاعرة فى محيط عوالمها الأرضية، وشهوتها فى الارتقاء، وصولا لحالة التجلي التى تنكشف من ورائها أستار الغيب، وتتشكل الرؤية الكلية للعالم.. وكان الأداء الشعري فى القصائد يعتمد على الصور الشعرية المركبة والمبكرة فى نفس الآن وكانت روح الشجن متجلية ليس فقط فى قصيدة (شجوية) ولكن فى جنبات الديوان كله، تجربة هشام محمود أنبأت منذ ثلاثين عاما، وقت كتابة هذا عن شاعر متفجر بالشاعرية، وهذا ما دلت عليه من طرح الشاعر لمشروعه الشعري الذى تجاوز العشر دواوين، بين النثر والتفعلية.
• تجربة كما ذكرت تستحق الاحتفاء، والوقوف بتأنٍ أن ما يطرحه الشاعر هنا فى سدرة الوصل وما انبثق عن طروحاته الشعرية التالية خلال ربع قرن مضى.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش
1 ـ هشام محمود ـ ديوان سدرة الوصل شهوة الموصول ـ سلسلة إبداعات ـ هيئة قصور الثقافة 2006م
2 ـ الشاعر عمرو ابن كلثوم المتوفي (52 ق.هـ)
وكان يقول:
وأنا العاصمون إذا أُطعْنا ** وأنا العارمون إذا عُصينا
ونشرَب - إن وردنا الماء - صفوًا ** ويشرب غيرنا كدرًا وطينا
إذا ما الملْك سام الناس خسفًا ** أبينا أن نقرَّ الذلَّ فينا[
المرجع : شبكة الانترنت
3 ـ الأبيات للحلاج

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...