د. أحمد الحطاب - تفجيرات أجهزة الاتِّصال اللاسِلكِي في جنوب لبنان لعلَّها تكون عِبرةً لمَن لهم عقولٌ يُفكِّرون بها

في 17 و 18 شتمبر 2024 حدث ما لم يكن في الحسبان. حدثت انفجارات متحكَّمٌ فيها عن بُعد. انفجاراتٌ بالجٌملة، أي ما يفوق 4000 جهاز من فئة pager أو talkie walkie كانت مُفخَّخة، أي وُضِعَت بداخلها مُتفجِّرات من طرَف شركة إسرائيلية، قبل بيعها لمليشية milice حزب الله بلبنان. حزب الله الذي هو، في الحقيقة، واحد من الأدرُعِ الموالية، سياسياً، للجمهورية الإيرانية.

الصراحة ولا شيءَ غير الصراحة تقتضي قولَ الحقيقة ولو كانت مُرَّةً أو صعبةَ الاستساغة. وهذه الحقيقة هي : "العالم يملكه الأقوياء". وفعل "يملكه" يعني، في هذه العبارة، حرِّية التَّصرُّف في هذا العالم بدون منازعٍ أو مُعارضٍ، وإن شئنا، بدون مقاومة. والتَّصرُّف، في هذه الحالة، يجب إدراكُه بأن الأقوياء هم أصحابُ الأمر والنَّهي، أو بعبارةٍ أخرى، يتحكَّمون في العالم حسب ما تقتضيه مصالحُهم الخاصة. أما القوة، في نفس العبارة، لا يجب إدراكُها بقوة السلاح واللجوء إلى العُنف والقهر والاستبداد والطُّغيان أو بالانتصار في الحروب… بل يجب إدراكُ هذه القوة ب"قوة العقل البشري على التَّفكير". فمن هم هؤلاء الأقوياء؟

كل بلد فيه ناسٌ يُحسِنون استعمالَ العقل البشري، أي يُحسنون التَّفكيرَ والإبداعَ فيه، فهو بلدٌ قوي. لماذا؟

لأن هذا النوع من العقول قادرٌ، على امتدادِ الزمان، على التأثير على الواقع وجعله يخدم مصالحَ البلدان التي تحتضن هذه العقول. ومصالح البلدان يمكن أن تكون اقتصادية كما يمكن أن تكونَ جيواستراتيجية أو جيوسياسية. وهنا، لا بدَّ من إثارة الانتباه أن كلَّ شيءٍ، على الإطلاق، اكتشفه أو اخترعه الإنسانُ، فهو من إنتاج العقل البشري. ولهذا، فالعقل البشري هو مصدر كل ما احتاجه، يحتاجه وسيحتاجه الإنسانُ في حياته اليومية. والحياة، هنا، يجب إدراكُها بالمعنى العام، أي كل ما يستوجب تنشيطَ هذه الحياة بأبعادِها المختلفة، سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية، صناعية، زراعية، استراتيجية، دفاعية، علمية، تكنولوجية، حضارية، عُمرانية… لا شيءَ له وجودٌ على سطح الأرض إلا وله علاقة بالعقل البشري، إما إدراكاً وإما إنتاجاً. فماذا يُدرك ويُنتِج العقل البشري؟

العقل البشري، هو الذي يُدرِك ما يجب فعلُه لتكونَ بلادُه متقدِّمة على جميع المستويات. فهو الذي يفكِّر ويُبدِع في التفكير. وهو الذي يَطمح لتكونَ بلادُه من أحسن البلدان علمياً وتكنولوجياً. والعقل البشري هو الذي أدرك ويُدرك أن مَن يملك العلمَ والتكنولوجيا، يملك العالمَ بأسره.

وأحسن وأنفع ما يُنتِجه العقل البشري هو العِلم. والعِلم فيه ما هو نظري وفيه ما هو تطبيقي. والتَّطبيقات العلمية قادت وتقود وستقود إلى مختلف أنواع التِّكنولوجيات التي غزت وتغزو وستغزو جميعَ مرافق الحياة. وهذا النوع من العقول لا يمكن أن يجدَ ضالَّتَه إلا في البلدان التي تؤمن بقوة العقل البشري.

ولهذا، فإن هذا النوعَ من العقول، بكل أسف، نادرٌ في بلداننا العربية والإسلامية. وهذه النُّدرة ليست راجعة لخللٍ في العقول. لا أبدا! العقل، كهِبةٍ من الله، موزَّعٌ بالتَّساوي على جميع الناس. المشكل ليس في وجود العقل. المشكل في كيفية تشغيلِه. ولهذا، فنُدرة هذا النوع من العقول في البلدان العربية والإسلامية، ليست راجعةٌ، كما سبق الذكرُ لخللٍ في العقول. بل إنها راجعة لكون العقول النابغة والمُبدِعة، لا تلقى التَّشجيعَ والمساندةَ من أجل إنتاج العلم النافع. لا تلقى التَّشجيع والمساندة من طرَف مَن بيدهم الأمر. لماذا؟ لأن أهدافَ مَن بيدهم الأمرُ وأهداف العقول المُبدِعة، مختلفة. مَن بيدهم الأمرُ مشغولون بما يضمن لهم الدوامَ في السلطة، بينما العقول المُبدِعة مشغولة برِفعة البلاد وتقدُّمها وازدهارها. واختلاف الأهداف كارثةٌ من الكوارث المسلَّطة على البلدان العربية والإسلامية، على الخصوص. فلا غرابةَ أن تُصابَ العقول المُبدِعة بالملَلُ la lassitude والإحباط la déception في جوٍّ لا يولي أي اهتمامٍ لقوَّة العقول البشرية. ولا غرابة أن تُهاجرَ هذه العقولُ إلى أمصارٍ تؤمن بقوة العقل البشري. فما هي الأمورُ التي تستهوي عقولَ مُعظم العقول العربية والإسلامية؟

في بلداننا العربية والإسلامية، شريحةٌ عريضةٌ من الناس تؤمن، بكل سهولة، بما يقوله البُخاري ومسلم وابن تيمية والأئمة الأربعة وابن ماجة وأبو هُريرة…، علماً أن هؤلاء الناس ليس لهم أَدِلَّة تُثبت، بكيفية قطعية، ما أنتجوه مما يُسمُّونه علماً.

في بلداننا العربية والإسلامية، قد يُمضي علماءُ وفقهاء الدين وأتباعُهم الساعاتِ الطِّوالَ وقد تؤلَّف كُتُبٌ بمئات الصفحات لتبرير ما هي القدمُ، هل اليُمنى أم اليُسرى، التي يجب وضعُها على عَتَبة المِرحاض أو المسجد قبل الدخول إليهما.

في بلداننا العربية والإسلامية، قد يُمضي علماءُ وفقهاءُ الدين وأتباعُهم الساعات الطِّوال لشرح الوضوء بينما هذا الوضوء واضِحٌ وضوح الشمس في القرآن الكريم. وبينما الوضوء ليس إلا إستعداد روحي ونفسي للصلاة. والدليل على ذلك أنه، في حالة عدم وجود الماء، يجوز التَّيمُّمُ. فهل التَّيمُّم يُزيل الوسخ؟

في بلداننا العربية والإسلامية، جعلَ علماءُ وفقهاءُ الدين من الدينِ أمرا جماعيا وهم يعرفون، حقَّ المعرفة، أن هذا الدين أمرٌ يدور بين خالقٍ مخلوق. والدليل على ذلك أن اللهَ، سبحانه وتعالى، يُحاسب الأفرادَ وليس الجماعات، مصداقا لقولِه، عزَّ وجلَّ : "وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (مريم، 95).

فرقٌ شاسع بين فردٍ عقلُه مُبدِعٌ وفردٍ يعبد اللهَ حقَّ عبادته ويخشاه ويطيعُه ويؤمن برسالاته وكتُبه وملائكته واليوم الآخر ويفعل الخيرَ، لكن عقلَه يبقى جامدا فيما يخصُّ الأمور الدنيوية، مصداقا لقولِه، سبحانه وتعالى : "وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (التوبة، 105). في هذه الآية، ليس فقط الله، سبحانه وتعالى، والرسول (ص) اللذان يُقدِّران عمل الناس. بل المؤمنون، هم كذلك، يُقدِّرون هذا العمل إن كان فيه نفعٌ لهم ولغيرهم. والله، سبحانه وتعالى، لم يحدِّد، في هذه الآية بالذات، عملا من الأعمال. بل ترك بابَ العملِ مفتوحا على مِصراعيه ليشملَ كلَّ الأعمال التي فيها نفعٌ للبلاد والعباد.

ولهذا، فمَن يُبقي عقلَه جامدا في الأمور الدنيوية ولا يُشغِّله بما يفيد البلادَ والعبادَ، فإنه لن ينفعَ مجتمعَه. وما ينفع البلادَ والعبادَ لا يكون وراءه الدين فقط. بل يكون وراءه العقل، وما أدراك ما العقل. أما الدين، إن اقترن بالعقل، فإنه يحثُّ على القيم الإنسانية النبيلة، ومن ضِمنها قيم العمل والجد والاجتهاد. أما العقل، فدورُه الأساسي هو التَّفكير. بل الإبداع في التَّفكير لإعمار الأرض بما ينفع البلادَ والعبادَ.

وهذا هو ما حدث ويحدث في البلدان التي تؤمن بقوة العقل البشري. وقوة العقل البشري فرضت نفسَها منذ ظهور الإنسان العاقل على وجه الأرض. وقوة العقل البشري هي التي مكَّنت هذا الإنسان من قطع أشواطٍ مذهلة وخيالية في التَّقدُّم والازدهار والحضارة والتعمير والتَّصنيع والتثقيف…

غير أن أمماً أدركت أن الدينَ شأنٌ يتمُّ بين خالقٍ ومخلوقٍ، فأحسنت استعمالَ قوة العقل البشري. وهاهي اليوم، غير مُبالِية، تتحكَّم في العالم وتُسيِّره حسب ما تقتضيه مصالحُها الخاصة. أما بلداننا العربية والإسلامية، فإن علماءَها وفقهاءَها أبدعوا في تجميد العقل البشري بخلقِهم لدينٍ موازيٍّ مختلف عن ذلك الذي أنزله الله، سبحانه وتعالى، من خلال الوحي، على آخر الرسل والأنبياء، محمد (ص). فهل بلداننا العربية والإسلامية أخذت العِبرةَ من التفجيرات التي حدثت يومي 17 و 18 من شهر شتنبر 2024؟

لا أبدا! لم تأخذ العبرةَ ولن تأخذها ما دامت قوة العقل البشري غير معترف بها في بلداننا العربية والإسلامية. وإن أرادت هذه البلدانُ أن تأخذ العبرةَ، فلماذا لم تأخذها من حرب النَّكبة سنةَ 1948 ومن العُدوان الثلاثي (هجوم إسرائيل وفرنسا وبريطانيا على مصر) سنةَ 1956 ومن حرب 1967 التي أسفرت عن فقدان مصر لسناء وسوريا للجولان وفلسطين لجزء كبير من أراضيها؟ ولماذا لم تأخذ البلدان العربية العبرة من الربيع العربي ومن الحروب بين حزب الله وإسرائيل ومن فشل صدام حسين في تدمير إسرائيل ومن التَّهديدات المتكرِّرة الإيرانية لإزالة إسرائيل من الوجود…؟

الجواب على هذه الأسئلة بسيطٌ للغاية : "إنها بلدانٌ لا تؤمن بقوة العقل البشري!

قد يقول قائلٌ إن ما قامت به إسرائيل من تفجيرات عملٌ غير إنساني. بكل تأكيدٍ، إنه عملٌ غير إنساني و وَحْشي وضد الأخلاق والدين والإنسانية… لكن ألم تكن الحروب، بصفة عامة، والحروبُ الصليبية والحربان العالميتان وقتل الأبرياء، هنا وهناك، أعمالُ غير إنسانية!

فهل يُعقَل أن يُطلبَ مِن مَن يؤمن بقوة العقل البشري لخدمة مصالحِه الخاصة، أن يُراعيَ، فيما يقوم به من أعمالٍ، القيمَ الإنسانيةَ؟ مَن يؤمن بقوة العقل البشري لخدمة مصالحِه الخاصة له أهدافٌ مُعيَّنةٌ. وكل الطرق، مُطابقة أو غير مطابقة للقيم الإنسانية، تؤدِّي إلى تحقيق هذه الأهداف!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى