د. سيد شعبان - عناوين!...

لم تتبق غير ساعات معدودة؛ أمسك بقلمي وأشيائي التي يعز علي أن أرحل دون أن ترافقني، لقد صحبتني سنوات عمري: كتبي التي دونت في هوامش صفحاتها تعليقاتي، الخطابات التي لم تجد من يتسلمها فعادت إلي؛ لأنه لم يستدل على عناوين أصحابها، بعض الصور التي سجلت لحظات مسروقة من الزمن الرديء، حاولت أن أتخفف منها، فالمسافر يحتاج أقل الأشياء وزنا وأكثرها قيمة، تبين أن ذلك الوهم يمثل قيدا، ثمة أشياء ظلت في حنايا الذاكرة، تختفي وراء تلال العتمة التي تسكن بلادي التي تصر أن تخاصم ضوء القمر وتلتحف الشتاء الطويل.
بحثت عن الذين أمضوا معي العمر نقتات فيه من سراب الأحلام، بعضهم في الأقبية السوداء والآخرون يذرعون بلاد الله، يحملون حقائبهم كأنما هي كنزهم الذي يحرسونه. كثيرا ما شاغبتهم زمن الصبا؛ عرفوني متمردا على كل شيء، أرفض وأمعن في الممر المفضي إلى الهاوية، كنت سعيدا بكل هذه المشاغبات؛ يرونني تائها أو غبيا، يسعدني أن أكون مختلفا عنهم.
تمنيت أن أن يتبدل العالم بأن تمطر السماء كل الأمنيات التي حلم بها الطيبون، ترى هل يأتي ذلك اليوم؟
ارتديت قناعا أتخفى وراءه؛ أطلقت لحيتي فبدوت كائنا ليليا؛ كانت أمي تعلق في رقبتي حبلا أخضر؛ به ورقة فيها تعاويذ وأدعية، لم تغن عني هذه الأشياء، اهتديت إلى حيلة ماكرة: أن أغير اسمي في بطاقة الهوية الممغنطة التي تختزن كل ما يبحث عنه الواقفون عند مداخل المدن.
مفردات ظلت باقية في ذاكرتي، وأحلام غائمة وراء سدف الظلام، هل يأتي يوم وتمطر فيه السماء الأمنيات التي زهت بها الفتيات في الليالي المقمرة بفرسان فوق الجياد البيضاء؟
أن تتوقف قاذفات الخراب فوق الأرض المباركة.
يبدو أن ذلك الحلم صار غريبا كما الطيببن في عالم يتضور خرابا وفقرا.
داخلني هاجس غريب، أعيش في متاهة ولا أدري وجهتي.
ثمة كائن آخر يرتدي ثيابي وينتحل اسمي ويحمل بطاقة هويتي؛ يسكن حجرتي ويمتلك أشيائي، يساومني على ذاتي، ويجري في شراييني؛ وصلات عقلي تستجيب له، لم يعد لي غير ذلك الوجه المطلي بزرقة الموت.
وجوه غريبة تمتليء بها الشوارع؛ حافلات النقل ترفض أن يستقلها الذين شربوا من ماء النهر، حين ذاك بدا لي أن الاغتراب قدر الذين أدمنوا الخنوع وابتلعوا ألسنتهم خورا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى