كثيراً ما يكون أن تؤدي الحوادث إلى أمور جسام، ما من أحد إلا رأى ثمرة تسقط عن شجرة فلم يبال. ولكن السير اسحق نيوتن رأى يوم تفاحة تسقط من شجرتها فتنبه إلى سبب سقوطها. وكان من جراء تفكيره فيه أنه اكتشف ناموس الجاذبية واستنبط (حساب التفاضل والتمام) الذي يعد في قمة العلوم الرياضية
والحب غريزة في الأحياء حتى في الجماد. وكل إنسان يحب ويعشق. على أن الآدميين متفاوتون في سورة الحب. وجميل بثنية لا يعد نادرة الزمان في العشق والغرام. فمثله كثيرون: كقيس ليلى وقيس لبنى وكثير عزة ومثالهم ممن كناهم الناس بأسماء معشوقاتهم أو لم يكنوهم. ولكنهم اشتهروا بشغفهم وافتتانهم وغرامهم المضني
والأستاذ عباس العقاد اتخذ عشق جميل بثينة (تفاحة نيوتونية) لكي يتوسل به إلى أبحاث سيكولوجية وأخلاقية واجتماعية في الحب والعشق. فأوغل في صميم هذه الأبحاث في كتابه جميل بثينة حتى استخرج منها نواميس الحب العليا كما استخرج نيوتن من سقوط (تفاحة) ناموس الجاذبية الكونية). ولا بدع فكلا الحب والجاذبية نبضة واحدة في الطبيعة وعند التحقيق تجد أن لهما ناموساً واحداً
إنما جاذبية الكون حبٌّ ... وكذا الحب في الورى جاذبية
وعندي أن أقوى ما يسترعى الأذهان في مباحث العقاد إصابته موضوع (الهوى العذري). وهو بالحقيقة موضوع سيكولوجي ليس بالهين الخوض فيه والغوص إلى قرار بحره؛ لأن: الهوى العذري ظاهرة نفسية إنسانية تناقض سنة الغريزة النسلية في خط مستقيم. وفي الطبيعة البشرية الآن كثير من الظاهرات الأخلاقية التي تناقض الغرائز الطبيعية في الأحياء حتى العليا منها. وأظهرها سنة التنازع، (تنازع البقاء وبقاء الأنسب). تقوم تجاهها في العالم الاجتماعي (سنة التعاون والتضامن) فهذه طبيعة اجتماعية أخلاقية تناقض على خط مستقيم سنة تنازع البقاء البيولوجية
والمسألة التي هي موضوع التحليل والتعليل في الناحيتين هي: إلى أي حد يند الهوى العذري عن الحب الطبيعي الغريزي. ففي فصل عشق جميل وبثنية بحث مستفيض ف هذا
ولى في تعليل الهوى العذري كلمة أبسطها فيما يلي تمشياً مع الأستاذ في بحثه:
إذا كان المعشوق على منال اليد من العاشق كان الحب غريزياً لا يخيل فيه ولا تصور. الذات حاضرة فلا لزوم للصورة ولا وظيفة لها. والحقيقة قائمة فلا سبيل للخيال. ومتى طلعت الشمس اختفى الظلام، وإذا تفتحت العينان أمحى الطيف من المخيلة
الحب الغريزي هو المبدأ الأول، هو لهب الشهوة. فإذا انطفأت هذه الشهوة خمد الحب، ومتى تيقظت احتدم. فإذا كان الحبيب بعيد المنال تولى الخيال العمل في دولة الحب بإيعاز الشهوة. حينئذ تخترع المخيلة الجمال وتبدع في تصويره إلى أن تصبح صورة الحبيب في صفحة التصور أجمل من الحبيب نفسه في هيكل المادة. حتى إذا استعرض الصب حبيبه رآه كما صورته المخيلة لا كما ترى عيناه هيكله المادي. ولهذا قد تستغرب إذ ترى معشوقاً لا مزية له على سائر الناس يفتن عاشقه دون سائر الناس، ويفتتن به عاشقه دون سائر الناس. فتستغرب هذا الافتتان وتندهش من وله هذا العاشق وهيامه بحبيب لا يتفوق بشيء عن سائر المعاشيق. ولا يزيل دهشتك هذه إلا آية الغرام الذهبية وهي (الجمال في عين الرائي)
فإذا تعذر اتصال المحب بالحبيب تحول غرامه إلى طيف الحبيب وخياله. يصبح عاشقاً خيالاً قائماً في مخيلته وهو ما نسميه (الحب الروحاني). يرتفع الحب في نفس الإنسان من حضيض المادة إلى سماء الروح. ويحلق في أعالي تلك السماء حتى يصبح العاشق وهو يبتغي تمتعاً نفسانياً لا جسدياً. حينئذ يتواري الحب الغريزي وراء الحب الروحاني. وهذا قابل دون ذاك للتعاظم إلى ما لا نهاية له. يتعاظم الحب الروحاني ويتضاءل الحب الجسداني، إلى أن يصبح ذاك برجا هائلاً، وهذا حصاة في أسفل البرج. يصبح العاشق كله روحاً تطوف في سماء الوجود، بل تكاد تمدد خيال المعشوق حتى يشمل الكون كله، أو تقلص الكون كله حتى ينطوي في خيال المعشوق. حينئذ يقنع العاشق بنسمة من أنفاس المعشوق، وبنظرة في صورته، ويسمع كلمة رضى منه، كما قال ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه ... فعندي إذا صح الهوى حسن المطلُ
وما دام هوى العاشق. يتجسم على هذا النحو، والعاشق يتلذذ بهذا الوهم، ولا يمكنه أن يحصل على الحقيقة. فهواه هذا هو الذي نسميه (الهوى العذري). ونعني بالهوى العذري الحب الذي خلا من نبضة الغريزة النسلية وتوارت فيه الشهوة الجنسية
هو العنب الذي أعرض عنه الثعلب لأنه عال لا يمكنه أن يثب إليه، فقال: (إنه عنب حامض)
فإذا قدرت ما تقدم من التعليل فلا تستغرب أن يعظم هذا الحب الروحي إلى حد يطمس أن الحب الغريزي، ويتمادى العاشق في تولهه وهيامه حتى يتراءى له أن اللذة الجسدية أصبحت ثانوية عنده
ولكن متى زالت موانع الاتصال بالحبيب ارتد الهوى الروحاني إلى الوراء، وبرز الهوى الغريزي إلى الأمام وقضى على عذرية الحب
على أن الهوى الروحاني لا تذهب قوته سدى بل تضاعف قوة الهوى الغريزي، لأنه كلما حلق الحب في جو الخيال وسبح في فضاء الروحانيات انقض إلى حضيض الحب الغريزي متى زالت موانع الاتصال بالحبيب. وكلما كان ارتفاعه عظيما كان انقضاضه قوياً
وفي رأي مارى ستوب مؤلفة كتاب (الحياة الزوجية) أنه يحسن بالزوجين أن يفترقا حيناً بعد حين ويعيشا منفردين لكي يتعاظم في قلبيهما الحب الروحاني العذري حتى متى اشتد شوقهما التقيا بقوة حب شديد
ولذلك ما نسميه هوى عذرياً ليس إلا فرقاً أثيرياً وهمياً يزول بزوال الموانع من لقاء الحبيبين
أما الموانع فلا يجهلها أحد. فمنها ما هوة شرعي كارتباط أحد المتعاشقين بزواج آخر. أو ما هو شبه شرعي كتفاوتهما في المقام والشرف والنسب الخ. أو ما هو عرفي كالحشمة الفائقة التي تأبى عليهما اتصالاً بلا مسوغ شرعي. وهذا المانع الأخير كان قوياً عند العرب وله أشكال مختلفة. ومنها عند العرب تشبيب الشاعر بعشيقة يحرم عليه الزواج منها. وكنا نود أن يشرح لنا الأستاذ العقاد هذه الشريعة العرفية عند العرب ويفسر لنا سببها وفلسفتها
والمرأة عند الأمم العريقة في الحضارة ولا سيما الأمم العربية متصونة كل التصون. وفي كثير من العصور كانت في الخدور والعرض مقدس بعد قداسة المعبود. ولذلك كان الحب الغريزي محتبساً في نطاق ضيق من الأدب ولا يجد له منفذاً إلا من نافذة التخيلات الشعرية. فمتى عز على العاشق لقاء محبوبه جنح إلى التأمل العقلي حتى تسنى له أن يتمثل لقاءه بحبيبه ويشاهد جماله الفتان وبهاءه اللامع ولطفه الأثيري فيتمتع به تخيلياً
إذن فهذا الهوى العذري الذي هو منطق الحب الروحاني الخيالي هو موحى الشعر الغزلي. ولولاه لما كان ثمت شعر، لأن الحب الغريزي لا يوحي بشيء سوى طاعة الطبيعة فقط. والإنسان والحيوان فيه سواء
بهذا الحب الشعري يتلذذ المحب ويترفع عن الشهوة البهيمية. وفي هذا الفردوس الغرامي الذي تبتدعه المخيلة ينشأ إله الشعر أجل، في هذه الخلوة العقلية التي يحتكر فيها الحب القوي العقلية ويحصرها في التأملات الغرامية تتيقظ في نفس العاشق غريزة الشاعرية. فكل عاشق شاعر بحكم الحب. ولكن ليس كل شاعر ينظم
بناء على ما تقدم لا يمكن أن يكون حب جميل لبثينة عذرياً إلا حين يكون جميل ممنوعاً عنها، وكان إنه إذا اتصل بها عاد حبه غريزياً كما فهم من سيرة حياته التي تخللت كتاب الأستاذ العقاد، ولا ريب أن ذلك المنع الذي منى به جميل تارة من قبل أهله وتارة من قبل أهل بثينة عظم فيه الهوى الروحي الشعري، ثم الهوى العذري في حين الصد والمنع
بقيت كلمة في باب من أبواب الحب طرقه الأستاذ العقاد وناقش فيه الأستاذ الدكتور طه حسين بك وهو غدر المحب بالحبيب وتعريضه للفضيحة. ولذلك قصة رواها الدكتور وهي:
(زعموا أن أهل بثينة أذاعوا في الناس أن جميلاً لا يشبب بابنتهم بل بأمة لهم. فغضب جميل لهذه القالة وأراد أن يكذبها فواعد بثينة والتقيا ذات ليلة وتحدثا. ثم عرض عليها جميل أن تضجع فما نعت، ثم قبلت. وأخذها النوم. فلما استوثق جميل من ذلك نهض إلى راحلته فمضى، وأصبح الناس فرأوا بثينة نائمة في غير بيتها فلم يشكوا في أنها كانت مع جميل وقال جميل في ذلك شعراً)
قال الدكتور: (أتظن أن مثل هذا الخبر يمكن أن يكون حقاً؟ وأن رجلاً كجميل كان يحب بثينة حباً كالذي نجده في شعره يستطيع أن يعرض حبيبته لمثل هذه الفضيحة!) اهـ
وفي رأي الأستاذ العقاد (أن حب جميل لا يمنع أن يعرضها لتلك الفضيحة، لأنها لا تتجاوز معنى قصيدة من القصائد الكثيرة تغنى فيها بحبها ولقائها ومناجاتها، ثم أرسلها في أفواه الرواة تطوف البادية والحاضرة حيث يقدر لها المطاف)
فالدكتور يعتقد أن العاشق الذي يحب ذلك الحب العذري لا يمكن أن يغدر بحبيبته ذلك الغدر، والأستاذ لا يحسب تعريضها للفضيحة غدراً بها ينقض حبه لها فهو يمكن أن يحبها حباً جماً ولا يبالي بفضحها على ذلك الشكل
وإني لأستأذن حضرة الأستاذين الكبيرين أن أقول: إن تصرف جميل مع بثينة في ذلك الحادث وفي قصائده التي تمس سمعتها ليس قاعدة لتصرف العشاق جميعاً. على أن تصرفا كهذا لا يتوقف على الحب وشدته أو ضعفه، وإنما يتوقف على أخلاق العاشق ونوع تربيته، فقد يتورع عاشق غير جميل عن أن يعرض حبيبته لفضيحة، وجميل لا يتورع، لأن لذلك خلقاً نبيلاً ليس لجميل، فيتحاشى أن يعرض حبيبته لملامة أو فضيحة بل يمكن أن يكون أنبل من ذلك فيعرض نفسه دون حبيبته لفضيحة لكي ينقذها منها أو من مثلها، وفي الروايات كثير من أمثلة ذلك. والروايات تمثل على الغالب حقائق لا مثلاً عليا وهمية فقط. ولا بد أن يكون بعض القراء قد وقعت لهم أو لذويهم حوادث من هذا القبيل. فالمسألة مسألة أخلاق لا مسألة حب. بل هي مسألة أنانية أو غيرية
والغالب أن الهوى العذري يعصم العاشق عن أذى معشوقه أو فضحه. وجميل لم يهو هوى عذرياً، لأنه لم يكن ممنوعاً من بثينة. أو أنه كان يتخطى المنع فيتصل بها على الرغم ممانعة أهله وأهلها وأراجيف الناس. وإن كان في شعره أو قوله ما يدل على أنه عذري الهوى فهو من قبيل الدعوى الكاذبة بالنزاهة والتعفف كما يفعل كثير من الناس حرصاً على سمعتهم وكرامتهم ومقامهم وهم كاذبون
نقولا حداد
مجلة الرسالة - العدد 569
بتاريخ: 29 - 05 - 1944
والحب غريزة في الأحياء حتى في الجماد. وكل إنسان يحب ويعشق. على أن الآدميين متفاوتون في سورة الحب. وجميل بثنية لا يعد نادرة الزمان في العشق والغرام. فمثله كثيرون: كقيس ليلى وقيس لبنى وكثير عزة ومثالهم ممن كناهم الناس بأسماء معشوقاتهم أو لم يكنوهم. ولكنهم اشتهروا بشغفهم وافتتانهم وغرامهم المضني
والأستاذ عباس العقاد اتخذ عشق جميل بثينة (تفاحة نيوتونية) لكي يتوسل به إلى أبحاث سيكولوجية وأخلاقية واجتماعية في الحب والعشق. فأوغل في صميم هذه الأبحاث في كتابه جميل بثينة حتى استخرج منها نواميس الحب العليا كما استخرج نيوتن من سقوط (تفاحة) ناموس الجاذبية الكونية). ولا بدع فكلا الحب والجاذبية نبضة واحدة في الطبيعة وعند التحقيق تجد أن لهما ناموساً واحداً
إنما جاذبية الكون حبٌّ ... وكذا الحب في الورى جاذبية
وعندي أن أقوى ما يسترعى الأذهان في مباحث العقاد إصابته موضوع (الهوى العذري). وهو بالحقيقة موضوع سيكولوجي ليس بالهين الخوض فيه والغوص إلى قرار بحره؛ لأن: الهوى العذري ظاهرة نفسية إنسانية تناقض سنة الغريزة النسلية في خط مستقيم. وفي الطبيعة البشرية الآن كثير من الظاهرات الأخلاقية التي تناقض الغرائز الطبيعية في الأحياء حتى العليا منها. وأظهرها سنة التنازع، (تنازع البقاء وبقاء الأنسب). تقوم تجاهها في العالم الاجتماعي (سنة التعاون والتضامن) فهذه طبيعة اجتماعية أخلاقية تناقض على خط مستقيم سنة تنازع البقاء البيولوجية
والمسألة التي هي موضوع التحليل والتعليل في الناحيتين هي: إلى أي حد يند الهوى العذري عن الحب الطبيعي الغريزي. ففي فصل عشق جميل وبثنية بحث مستفيض ف هذا
ولى في تعليل الهوى العذري كلمة أبسطها فيما يلي تمشياً مع الأستاذ في بحثه:
إذا كان المعشوق على منال اليد من العاشق كان الحب غريزياً لا يخيل فيه ولا تصور. الذات حاضرة فلا لزوم للصورة ولا وظيفة لها. والحقيقة قائمة فلا سبيل للخيال. ومتى طلعت الشمس اختفى الظلام، وإذا تفتحت العينان أمحى الطيف من المخيلة
الحب الغريزي هو المبدأ الأول، هو لهب الشهوة. فإذا انطفأت هذه الشهوة خمد الحب، ومتى تيقظت احتدم. فإذا كان الحبيب بعيد المنال تولى الخيال العمل في دولة الحب بإيعاز الشهوة. حينئذ تخترع المخيلة الجمال وتبدع في تصويره إلى أن تصبح صورة الحبيب في صفحة التصور أجمل من الحبيب نفسه في هيكل المادة. حتى إذا استعرض الصب حبيبه رآه كما صورته المخيلة لا كما ترى عيناه هيكله المادي. ولهذا قد تستغرب إذ ترى معشوقاً لا مزية له على سائر الناس يفتن عاشقه دون سائر الناس، ويفتتن به عاشقه دون سائر الناس. فتستغرب هذا الافتتان وتندهش من وله هذا العاشق وهيامه بحبيب لا يتفوق بشيء عن سائر المعاشيق. ولا يزيل دهشتك هذه إلا آية الغرام الذهبية وهي (الجمال في عين الرائي)
فإذا تعذر اتصال المحب بالحبيب تحول غرامه إلى طيف الحبيب وخياله. يصبح عاشقاً خيالاً قائماً في مخيلته وهو ما نسميه (الحب الروحاني). يرتفع الحب في نفس الإنسان من حضيض المادة إلى سماء الروح. ويحلق في أعالي تلك السماء حتى يصبح العاشق وهو يبتغي تمتعاً نفسانياً لا جسدياً. حينئذ يتواري الحب الغريزي وراء الحب الروحاني. وهذا قابل دون ذاك للتعاظم إلى ما لا نهاية له. يتعاظم الحب الروحاني ويتضاءل الحب الجسداني، إلى أن يصبح ذاك برجا هائلاً، وهذا حصاة في أسفل البرج. يصبح العاشق كله روحاً تطوف في سماء الوجود، بل تكاد تمدد خيال المعشوق حتى يشمل الكون كله، أو تقلص الكون كله حتى ينطوي في خيال المعشوق. حينئذ يقنع العاشق بنسمة من أنفاس المعشوق، وبنظرة في صورته، ويسمع كلمة رضى منه، كما قال ابن الفارض:
عديني بوصل وامطلي بنجازه ... فعندي إذا صح الهوى حسن المطلُ
وما دام هوى العاشق. يتجسم على هذا النحو، والعاشق يتلذذ بهذا الوهم، ولا يمكنه أن يحصل على الحقيقة. فهواه هذا هو الذي نسميه (الهوى العذري). ونعني بالهوى العذري الحب الذي خلا من نبضة الغريزة النسلية وتوارت فيه الشهوة الجنسية
هو العنب الذي أعرض عنه الثعلب لأنه عال لا يمكنه أن يثب إليه، فقال: (إنه عنب حامض)
فإذا قدرت ما تقدم من التعليل فلا تستغرب أن يعظم هذا الحب الروحي إلى حد يطمس أن الحب الغريزي، ويتمادى العاشق في تولهه وهيامه حتى يتراءى له أن اللذة الجسدية أصبحت ثانوية عنده
ولكن متى زالت موانع الاتصال بالحبيب ارتد الهوى الروحاني إلى الوراء، وبرز الهوى الغريزي إلى الأمام وقضى على عذرية الحب
على أن الهوى الروحاني لا تذهب قوته سدى بل تضاعف قوة الهوى الغريزي، لأنه كلما حلق الحب في جو الخيال وسبح في فضاء الروحانيات انقض إلى حضيض الحب الغريزي متى زالت موانع الاتصال بالحبيب. وكلما كان ارتفاعه عظيما كان انقضاضه قوياً
وفي رأي مارى ستوب مؤلفة كتاب (الحياة الزوجية) أنه يحسن بالزوجين أن يفترقا حيناً بعد حين ويعيشا منفردين لكي يتعاظم في قلبيهما الحب الروحاني العذري حتى متى اشتد شوقهما التقيا بقوة حب شديد
ولذلك ما نسميه هوى عذرياً ليس إلا فرقاً أثيرياً وهمياً يزول بزوال الموانع من لقاء الحبيبين
أما الموانع فلا يجهلها أحد. فمنها ما هوة شرعي كارتباط أحد المتعاشقين بزواج آخر. أو ما هو شبه شرعي كتفاوتهما في المقام والشرف والنسب الخ. أو ما هو عرفي كالحشمة الفائقة التي تأبى عليهما اتصالاً بلا مسوغ شرعي. وهذا المانع الأخير كان قوياً عند العرب وله أشكال مختلفة. ومنها عند العرب تشبيب الشاعر بعشيقة يحرم عليه الزواج منها. وكنا نود أن يشرح لنا الأستاذ العقاد هذه الشريعة العرفية عند العرب ويفسر لنا سببها وفلسفتها
والمرأة عند الأمم العريقة في الحضارة ولا سيما الأمم العربية متصونة كل التصون. وفي كثير من العصور كانت في الخدور والعرض مقدس بعد قداسة المعبود. ولذلك كان الحب الغريزي محتبساً في نطاق ضيق من الأدب ولا يجد له منفذاً إلا من نافذة التخيلات الشعرية. فمتى عز على العاشق لقاء محبوبه جنح إلى التأمل العقلي حتى تسنى له أن يتمثل لقاءه بحبيبه ويشاهد جماله الفتان وبهاءه اللامع ولطفه الأثيري فيتمتع به تخيلياً
إذن فهذا الهوى العذري الذي هو منطق الحب الروحاني الخيالي هو موحى الشعر الغزلي. ولولاه لما كان ثمت شعر، لأن الحب الغريزي لا يوحي بشيء سوى طاعة الطبيعة فقط. والإنسان والحيوان فيه سواء
بهذا الحب الشعري يتلذذ المحب ويترفع عن الشهوة البهيمية. وفي هذا الفردوس الغرامي الذي تبتدعه المخيلة ينشأ إله الشعر أجل، في هذه الخلوة العقلية التي يحتكر فيها الحب القوي العقلية ويحصرها في التأملات الغرامية تتيقظ في نفس العاشق غريزة الشاعرية. فكل عاشق شاعر بحكم الحب. ولكن ليس كل شاعر ينظم
بناء على ما تقدم لا يمكن أن يكون حب جميل لبثينة عذرياً إلا حين يكون جميل ممنوعاً عنها، وكان إنه إذا اتصل بها عاد حبه غريزياً كما فهم من سيرة حياته التي تخللت كتاب الأستاذ العقاد، ولا ريب أن ذلك المنع الذي منى به جميل تارة من قبل أهله وتارة من قبل أهل بثينة عظم فيه الهوى الروحي الشعري، ثم الهوى العذري في حين الصد والمنع
بقيت كلمة في باب من أبواب الحب طرقه الأستاذ العقاد وناقش فيه الأستاذ الدكتور طه حسين بك وهو غدر المحب بالحبيب وتعريضه للفضيحة. ولذلك قصة رواها الدكتور وهي:
(زعموا أن أهل بثينة أذاعوا في الناس أن جميلاً لا يشبب بابنتهم بل بأمة لهم. فغضب جميل لهذه القالة وأراد أن يكذبها فواعد بثينة والتقيا ذات ليلة وتحدثا. ثم عرض عليها جميل أن تضجع فما نعت، ثم قبلت. وأخذها النوم. فلما استوثق جميل من ذلك نهض إلى راحلته فمضى، وأصبح الناس فرأوا بثينة نائمة في غير بيتها فلم يشكوا في أنها كانت مع جميل وقال جميل في ذلك شعراً)
قال الدكتور: (أتظن أن مثل هذا الخبر يمكن أن يكون حقاً؟ وأن رجلاً كجميل كان يحب بثينة حباً كالذي نجده في شعره يستطيع أن يعرض حبيبته لمثل هذه الفضيحة!) اهـ
وفي رأي الأستاذ العقاد (أن حب جميل لا يمنع أن يعرضها لتلك الفضيحة، لأنها لا تتجاوز معنى قصيدة من القصائد الكثيرة تغنى فيها بحبها ولقائها ومناجاتها، ثم أرسلها في أفواه الرواة تطوف البادية والحاضرة حيث يقدر لها المطاف)
فالدكتور يعتقد أن العاشق الذي يحب ذلك الحب العذري لا يمكن أن يغدر بحبيبته ذلك الغدر، والأستاذ لا يحسب تعريضها للفضيحة غدراً بها ينقض حبه لها فهو يمكن أن يحبها حباً جماً ولا يبالي بفضحها على ذلك الشكل
وإني لأستأذن حضرة الأستاذين الكبيرين أن أقول: إن تصرف جميل مع بثينة في ذلك الحادث وفي قصائده التي تمس سمعتها ليس قاعدة لتصرف العشاق جميعاً. على أن تصرفا كهذا لا يتوقف على الحب وشدته أو ضعفه، وإنما يتوقف على أخلاق العاشق ونوع تربيته، فقد يتورع عاشق غير جميل عن أن يعرض حبيبته لفضيحة، وجميل لا يتورع، لأن لذلك خلقاً نبيلاً ليس لجميل، فيتحاشى أن يعرض حبيبته لملامة أو فضيحة بل يمكن أن يكون أنبل من ذلك فيعرض نفسه دون حبيبته لفضيحة لكي ينقذها منها أو من مثلها، وفي الروايات كثير من أمثلة ذلك. والروايات تمثل على الغالب حقائق لا مثلاً عليا وهمية فقط. ولا بد أن يكون بعض القراء قد وقعت لهم أو لذويهم حوادث من هذا القبيل. فالمسألة مسألة أخلاق لا مسألة حب. بل هي مسألة أنانية أو غيرية
والغالب أن الهوى العذري يعصم العاشق عن أذى معشوقه أو فضحه. وجميل لم يهو هوى عذرياً، لأنه لم يكن ممنوعاً من بثينة. أو أنه كان يتخطى المنع فيتصل بها على الرغم ممانعة أهله وأهلها وأراجيف الناس. وإن كان في شعره أو قوله ما يدل على أنه عذري الهوى فهو من قبيل الدعوى الكاذبة بالنزاهة والتعفف كما يفعل كثير من الناس حرصاً على سمعتهم وكرامتهم ومقامهم وهم كاذبون
نقولا حداد
مجلة الرسالة - العدد 569
بتاريخ: 29 - 05 - 1944