ج4
51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟
في الحرب تذكرت غير مرة رواية إسحق الحسيني «مذكرات دجاجة» (١٩٤٣)، وتذكرت أكثر مواقف النقاد المتعددة والمتناقضة منها، فمنهم - مثل عميد الأدب العربي طه حسين - من رأى فيها «دجاجة عاقلة جد عاقلة... دجاجة شاعرة تجد ألم الحب ولذته وعواطفه المختلفة... دجاجة رحيمة تعطف على الضعفاء والبائسين وترق للمحرومين وتؤثرهم على نفسها وإن كان بها خصاصة؛ وهي على هذا كله بليغة فصيحة تفكر فتحسن التفكير وتؤدي فتجيد الأداء... تجد من حب الخير وبغض الشر... ما يجده كل عربي من أهل فلسطين بل من أهل الشرق العربي كله» (المقدمة ١٩٤٣)، ومنهم - مثل الناقد الفلسطيني فاروق وادي - من رأى فيها «دجاجة خلقها مؤلفها من موقع أيديولوجي طبقي ليسبغ عليها حكمته، لكنه، بوعي أو دون وعي، خلق دجاجة فلسطينية تخون فلسطين وقضيتها» (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية ١٩٨٥)، وهناك - مثل عبد الحميد ياسين - من لم تعجبه مذكراتها فعارضها بـ «مذكرات ديك»، لأن سلوكها وفلسفتها لا تجدي في عالم يخضع للقوة شعاره «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب».
في الحرب تذكرت من الرواية صفحاتها الأخيرة التي أتى المؤلف فيها على موقف الزعيم من دجاج غريب طارئ أراد المأوى له وطرد أصحابه منه.
قرر الزعيم اللجوء إلى القوة للحفاظ على المأوى وطرد الدجاج الغريب الطارئ، وهذا ما لم توافقه الدجاجة صاحبة المذكرات عليه، فقد رأت أن القوة لا تحل خلافاً ولا تلتئم مع المثل العليا التي تمسكت بها طوال حياتها، وطلبت من الزعيم وأنصاره أن لا يلتجئوا إليها، وأن ينتشروا، بدلاً من استخدامها، في الأرض ويبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده ويقنعوا الباغي بأن بغيه يرديه «وعندئذ تحلون قضية عامة إنما قضيتكم جزء منها» وتطلب منهم أن يسيحوا في الأرض ويتوزعوا بين الخلق وينشروا بينهم المثل العليا والمبادئ السامية، وتنتهي الرواية بموافقتهم على اقتراحها، ويوافق الزعيم على ذلك، فتشعر بالرضا.
في حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ تذكرت الرواية غير مرة وشغلتني عدة أشهر، كما شغلتني أيضاً روايات غسان كنفاني «رجال في الشمس» و»عائد إلى حيفا» و»أم سعد»، بل وبعض قصصه القصيرة مثل قصة «العروس»، ذلك أن طروحاته فيها تتناقض كلياً مع طرح الدجاجة، فهو على لسان شخصية أبو الخيزران أثار السؤال:
- «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟»
وعلى لسان سعيد. س أورد عبارة:
- «تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب!»
وعلى لسان أم سعد ذكر عبارتها:
- «خيمة عن خيمة بتفرق» - أي الفرق بين خيمة المقاتل وخيمة اللاجئ.
هل شغلتني أيضاً مقولة إميل حبيبي «باق في حيفا» والرسالة ما قبل الأخيرة من رواية «المتشائل» وهي «الجلوس على الخازوق».
مرة في أثناء المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة كتبت أن نصوص الأدب الفلسطيني تتصارع في رأسي، وكان سبب الكتابة متابعتي الحثيثة لموقف الكتاب والنشطاء الفيسبوكيين من أحداث ٧ أكتوبر، فقد تعددت وتباينت وهذا أمر طبيعي، ولكن ما لم أره طبيعياً هو أن أدباء عديدين لم يوافقوا، من قبل، الحسيني في طرح دجاجته ووقفوا إلى جانب كنفاني فيما تبناه، في رواياته الثلاث وفي قصصه القصيرة، ومجدوا شعار أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، اختلف موقفهم من أحداث ٧ أكتوبر وكتبوا ضدها، بل ومالوا إلى اقتراح الدجاجة، فغادروا قطاع غزة، دافعين الآلاف من الدولارات، علما بأنهم لاموا آباءهم حين خرجوا في العام ١٩٤٨، أو أنهم تشبثوا بالخازوق، كما تشبث به حبيبي من قبل، مرددين «باق في غزة»، كما ردد «باق في حيفا»، ويستطيع المرء أن يذكر أسماء من غادر ومن بقي ومن نزح ومن ارتقى، أو على الأقل أستطيع أنا شخصياً أن أفعل ذلك، لمتابعتي الحثيثة لأخبار الكتاب وكتاباتهم، وقد أشرت إلى هذا في يوميات الحرب التي أكتبها منذ السابع من أكتوبر يومياً، ولا يعدم المرء قراءة طروحات مثل «القضية عامة والحل فردي»، وهذا مغاير كلياً للفكرة التي توصل إليها النقاد بعد قراءتهم «رجال في الشمس» لكنفاني؛ الفكرة التي استنتجت من موت الرجال الثلاثة في الخزان ومقصد الروائي من قتلهم.
ما تجدر كتابته هو أن تأويل النقاد لمغزى عبارة كنفاني «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟» ومقصده من وراء قتل شخوص الرواية بدأ يتراجع لدى فئات من الفلسطينيين، فنطقوا بعبارة مختلفة وردت في روايات لاحقة على لسان فلسطينيين من العائدين كما في رواية زكريا محمد «عصا الراعي» (٢٠٠٣/ مقالي في الأيام ٢٠/ ٨/ ٢٠٢٣) وفلسطينيي لبنان بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في ١٩٨٢، وهذا نقرؤه في رواية سامية عيسى «خلسة في كوبنهاجن» (٢٠١٣). «المشكلة جماعية، لكن الحل لازم يكون فردي»، وما تجدر كتابته أيضاً أن عبارة شبيهة تكررت في كتابات بعض كتاب غزة منذ ٧ أكتوبر، والكتابة تطول.
هل يئسنا لأن نكبة ١٩٤٨ بعد ٧٦ عاماً ما زالت مستمرة أم؟
منا من يأخذ بما رأته دجاجة الحسيني، ومنا من يواصل دق جدران الخزان، ومنا من هو راضٍ بخازوقه يتشبث به، وأبو يائير لا يريدنا هنا.
***
52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»
اليوم الأحد ٦/ ١٠/ ٢٠٢٤ هو اليوم الأخير من عام الحرب الأول الذي بدأ يوم سبت في ٧/ ١٠/ ٢٠٢٣.
مضى العام وكانت النتيجة عشرات آلاف القتلى ومائة ألف جريح ومشوّه ويتيم وأرمل وأرملة، ومحو عائلات بأكملها من السجل المدني، وتدمير قطاع غزة تدميراً شبه كامل لجعل الحياة فيه، لأهل غزة في قادم الأيام، شبه مستحيلة، وهذا ما طمحت إليه الحركة الصهيونية منذ مؤتمرها الأول، رافعةً شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» متسائلةً عن مستقبل سكان البلاد، وهو ما شغل بال الأب الروحي للحركة الصهيونية (ثيودور هرتسل) في روايته «أرض قديمة جديدة» (١٩٠٢).
في بداية الحرب أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أن الحرب حرب وجود، وقال إنه تلميذ (جابوتنسكي) الذي رأى أن السلام في المنطقة يتحقق بالقوة/ بالسيف، وهذا ما لم يتحقق منذ بداية المشروع الصهيوني، فالمقاومة ما زالت مستمرة والفلسطينيون ما زال نصفهم في أرضهم.
في ثلاثينيات القرن العشرين فهم الشاعر إبراهيم طوقان كُنه المشروع الصهيوني فلخّصه بأبيات شعرية منها:
«أجَلاءً عن البلاد تريدون فنجلو أم محوَنا والإزالة؟»
و
«يا قومُ ليس عدوكم ممن يلين ويرحم
يا قوم ليس أمامكم إلا الجلاء فحزموا».
ويبدو أنه قرأ ما انشغل به آباء الصهيونية في الموقف من سكان البلاد. ماذا سنفعل بهؤلاء الأغيار الغرباء الذين أقفروا بلاد آبائنا وصحّروها في أثناء غياب آبائنا عنها؟
ويبدو أن طوقان قرأ وجهتَي النظر المختلفتين في النهج، المتفقتين في النتيجة، وهما وجهة نظر تيار رأى التضييق على سكان البلاد العرب، حتى يرحلوا من تلقاء أنفسهم، ووجهة نظر تيار ثانٍ ذهب إلى أن ذلك لا بد من أن يُنجز بالقوة، ومنذ العام ١٩٤٨ والتياران يتصارعان حتى آل الصراع إلى غلبة التيار الثاني ممثلاً الآن بـ (بنيامين نتنياهو) وحزبه و (ايتمار بن غفير) و (بتسلئيل سموتريتش)، ويبدو أن العام الثاني من الحرب سيتواصل في قطاع غزة وفي الجنوب اللبناني معاً وفي الوقت نفسه، ويبدو أن إسرائيل مصرة على تحقيق شعارها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بالقوة، أو على الأقل «أرض أكثر وعرب أقل».
في العام الأول من الحرب صار المرء عداد موتى وجرحى، وعداد إحصاء دبابات دُمرت وآليات أُعطبت وبيوت نُسفت على رؤوس أصحابها، وما تحقق معكوساً هو أن العرب ليسوا أبناء صحراء يدمرون الطبيعة ويخربونها، وهذا ما حفلت به الأدبيات الصهيونية، وإنما هم بنوا وشيّدوا المشافي والمدارس والجامعات، وجاء الإسرائيليون ليقفروها ويصحروا قطاع غزة، كأنما أسقط الصهيونيون في أدبياتهم، صفاتهم التي تقبع في أعماقهم، على العرب، وهنا نتذكر ثانية ما قاله طوقان فيهم:
«أعداؤنا - منذ أن كانوا - صيارفةٌ
ونحن - منذ هبطنا الأرض - زُرّاع».
في عام الحرب الأول استرجع المرء أحداث مائة عام من الصراع، كأنما كان زبدتها كلها. لقد عشنا النكبة الجديدة وعشنا معها أيضاً النكبة الأولى وما بينهما، فما من حدث إلا ذُكر بمثيله، بل وأكثر.
وإذا كان طوقان نفسه قال:
« أمامك أيها العربي يوم
تشيب لهوله سود النواصي
مناهج للإبادة واضحات
وبالحسنى تنفذ والرصاص
لنا خصمان ذو حول وطول
وآخر ذو احتيال واقتناص
تواصَوا بينهم فأتى وَبالاً
وإذلالاً لنا ذاك التواصي»
فإن الخصمين ما زالا هما هما مع حلول الولايات المتحدة الأمريكية محل بريطانيا العظمى، دون أن تتخلى الأخيرة كلياً عن دورها القذر، فطائرات تجسّسها ترصد الأماكن التي يقبع فيها المقاومون، وتقدم المعلومات التي تجمعها إلى الجهة الإسرائيلية، لتتمكن الأخيرة من تتبعهم وتصفيتهم.
مر العام الأول ونحن نرصد أحداثه ساعة ساعة ويوماً يوماً وشهراً شهراً، ونتابع أخبار الجبهات في الشمال والجنوب وما يلم بالسكان المدنيين، نتابع هذا كله متابعةً حثيثة حتى فقدنا الشغف بالحياة في أبسط مظاهرها. الشغف بالقراءة والشغف بالسفر والشغف بمتابعة مسلسل والشغف بحضور مؤتمر أو إلقاء محاضرة ومحاورة جمهور الحاضرين.
عندما أقارن في باب القراءة مثلا بين ما قرأته في هذا العام بما قرأته في أعوام سابقة أرى الفرق واضحاً. فلأول مرة منذ خمسة عقود لم أقرأ في عام كامل سوى ثلاث روايات، حتى الدراسات الطويلة والمقالات التي تزيد على خمس صفحات أُكمل قراءتها بالكاد. صرت قلقاً لا يثبت على حال، قلقاً حتى لكأن المتنبي قال بيته يصف حالتي:
على قلقٍ كأنَّ الريح تحتي
أُوجهها جَنوباً أو شَمالا.
لا أستقر لساعة دون أن أبحث عن آخر الأخبار، وفي الأيام الأخيرة بدأت الأوضاع تتأزّم أكثر وأكثر و... و....
***
53- خسارات القصة والرواية الفلسطينية: في وداع رشاد أبو شاور
في الثامن والعشرين من أيلول الماضي فارقنا الروائي رشاد أبو شاور، كأنما أصر أن يودع الحياة في اليوم نفسه الذي ارتقى فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي أحبه وظل يكتب عنه في ذكرى رحيله، وكأنما أراد أيضاً أن يفارق في اليوم نفسه الذي اغتيل فيه السيد حسن نصرالله، وكان رشاد في مقالاته من المدافعين عن نهجه؛ نهج المقاومة، بقوة. وأنا لا أعرف أديباً فلسطينياً مقيماً في العالم العربي أفصح بوضوح عن مواقفه السياسية، منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، كرشاد الذي أقام في العقدين الأخيرين في الأردن.
ربما لا تتجاوز لقاءاتي برشاد عدد أصابع اليد الواحدة أغلبها في عمان في مكتبة دار الشروق، ومرة واحدة التقينا، بعد مجيء السلطة الفلسطينية، في مدينة نابلس على هامش مناسبة أدبية. ولكني عرفت رشاد أديباً منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، فقد قرأت بعض قصصه القصيرة وروايته «العشاق» وقصصه الطويلة الأقرب إلى النوفيلا وهي «أيام الحب والموت» و»البكاء على صدر الحبيب» و «أرض العسل» و «شبابيك زينب». وغالباً ما كنت آتي على ذكر أعماله في كتاباتي عن موضوعات وظواهر في الأدب الفلسطيني. وفي العقدين الأخيرين، وبعد التعرف إليه قرأت رواياته الأربع الأخيرة وكتبت عنها. «سأرى بعينيك يا حبيبي» (٢١٠٢) و «وداعا يا زكرين» (٢٠١٦) و»ليالي الحب والبوم» (٢٠١٨) و»ترويض النسر» (٢٠١٩).
وربما يكون قراء الأرض المحتلة عرفوه من خلال روايته «العشاق» التي أعادت وزارة الثقافة الفلسطينية طباعتها، وربما لم يقرأ له غيرها، هنا في الأرض المحتلة ١٩٤٨ و ١٩٦٧، إلا الأدباء والنقاد. فرشاد لم تعد طباعة أعماله هنا، ولم يشارك هنا كثيراً في المؤتمرات الأدبية والندوات، ولم يكتب عموداً ثابتاً في الصحف الصادرة في فلسطين التاريخية.
غالباً ما كنت أتذكر رشاد ونصوصه في كتاباتي التي تعالج موضوعاً محدداً في الأدب الفلسطيني أو ظاهرة فنية ما، كأن أكتب عن اليهود أو المخيم أو استحضار الماضي أو ظاهرة النقد السياسي في الأدب الفلسطيني أو الروح المرحة في الرواية الفلسطينية.
كانت «أرض العسل» مهمة لي وأنا أكتب عن اليهود، وكانت «العشاق» تحضر باستمرار كلما أتيت على المخيم، أما «أيام الحب والموت» فغالباً ما أشرت إليها أنها الأولى في الكتابة عن مجزرة الدوايمة في العام ١٩٤٨، بل وغالباً ما رددت أن كاتبها سبق المؤرخين الإسرائيليين الجدد في الكتابة عن المجزرة المنسية، وأما «البكاء على صدر الحبيب» فغالباً ما أشير إليها كلما تحدثت أو كتبت عن ظاهرة النقد السياسي الذاتي للثورة الفلسطينية، وكانت هذه القصة من أبكر القصص التي انتقد فيها كاتب فلسطيني نهج الثورة، وإذ التفتّ مرة إلى الروح المرحة في حياة الفلسطينيين، وندرة حضورها في أدبياتنا، لم أغفل الإشارة إلى رشاد إلى جانب توفيق زياد وإميل حبيبي.
وغالباً ما أتيت على ذكر قصته الطويلة «شبابيك زينب» التي كتب فيها عن مدينة نابلس في الانتفاضة الأولى، مقارناً الكتابة عن المدينة المذكورة في روايات سحر ابنتها ورشاد الذي لم يكن زارها.
والتفتّ إلى رشاد روائياً أكثر من التفاتي إليه كاتب قصة قصيرة، علماً بأنه عُرف كاتب قصة أكثر مما عُرف روائياً.
في السنوات العشر الأخيرة قرأت رواياته الأربع والتفتّ إليها وكانت موضع أسئلة عديدة أثرتها شغلت ذهني في الكتابة النقدية.
لم يكتب رشاد في أكثر كتاباته عن طفولته، وفي القصتين اللتين استحضر فيهما التاريخ، وهما «أرض العسل» و «أيام الحب والموت» كتب عن أحداث وأمكنة لم يرها ولم يكن شاهداً عليها. وهو ما اختلف في باقي أعماله كلها، فالمبكرة منها مثل «العشاق» و «البكاء على صدر الحبيب» كتب عن بيئته وتجاربه التي عاشها؛ عن مخيمات أريحا التي عاش فيها وكان قريباً منها، وعن تجربته في الثورة في المنفى، وواصل هذا فيما كتبه بعد الخروج من بيروت، في «آه يا بيروت» و»الرب لم يسترح في اليوم السابع».
في «وداعاً يا زكرين» و «ليالي الحب والبوم» استرجع رشاد حياة القرية زكرين التي ولد فيها في العام ١٩٤٢ وغادرها في عام النكبة ١٩٤٨، وفي الثانية واصل الكتابة عن اللجوء إلى الخليل فمخيمات بيت لحم وأريحا، وكتب عن حياته وحياة والده فيها حتى العام ١٩٦٧.
أما روايتاه «سأرى بعينيك يا حبيبي» و «ترويض النسر» فتتطابق فيهما أزمنة السرد الثلاثة؛ زمن الكتابة وزمن السرد والزمن الروائي، ويكتب فيهما عن ثنائيات البداوة والمدنية وزحف العاصمة نحو البادية واختلاط القيم وتضاربها، والسلطة والمثقف الكاتب المعارض الذي يقتل بسبب مقالاته، ثم محاولات الشركات رشوة صاحب الضمير وترويضه دون أن تنجح مع قليلين في ذلك.
والروايتان المشار إليهما تثيران أسئلة حول لجوء الكاتب في شرق المتوسط للتعميم وعدم التحديد تحسبا لردة فعل السلطة تجاهه، وهذا عموما ما تجادلت ورشاد حوله.
في السنوات الأخيرة من حياته عاد رشاد إلى طفولته ليكتب عنها قصصاً قصيرة وردت في «وداعاً يا زكرين» و «أيام الحب والموت»، وغالباً ما عقبت عليها بعبارة «وردت هذه القصة في رواية... .
برحيل رشاد أبو شاور تكون الرواية والقصة القصيرة الفلسطينية خسرت علماً مهماً من أعلامها وعلاماتها.
***
54- كتبوا أو رسموا واستشهدوا: صاحب «الشوك والقرنفل» شهيداً
وأخيراً ارتقى يحيى السنوار صاحب السيرة الروائية «الشوك والقرنفل» (٢٠٠٤) المولود في مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين.
وليس السنوار أول كاتب فلسطيني يستشهد، فقد سبقه، منذ العام ١٩٣٨، عديدون.
في ١٩٣٨ ارتقى الشاعر الشعبي نوح إبراهيم صاحب «كنا نغني بالأعراس/ جفرا عتابا ودحية / واليوم نغني بالرصاص/ هالجهادية الجهادية»، بل ويمكن أن نذهب إلى فترة زمنية أسبق تعود إلى العام ١٩٢٩ حين كتب الثائر عوض النابلسي ليلة إعدامه على جدار زنزانته قصيدته الشعبية الوحيدة التي وصلتنا «يا ليل خلي الأسير تايكمل نواحه».
وربما تكون الذاكرة الفلسطينية ظلت تستحضر شاعراً واحداً ارتقى شهيداً في أرض المعركة في العام ١٩٤٨ وهو عبد الرحيم محمود صاحب قصيدة «سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى»، ومع أنه لم يكن أبرز شاعر فلسطيني في حينه، كما يرى إحسان عباس، وأن شعره فيه من الهنات والضعف ما فيه، إلا أنه شاعر شهيد والشاعر الشهيد نادر الحضور في الأدب العالمي، ولهذا وضعه عباس إلى جانب إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).
عرف عبد الرحيم من شعره واستشهاده، ولكنّ شاعراً آخر قليل الشعر عرف لسبب آخر هو قيادته المعارك ونادراً ما عرف الفلسطينيون أنه شاعر، هو عبد القادر الحسيني الذي ارتقى في معركة القسطل في العام ١٩٤٨ أيضاً، وسنعرف لاحقاً أنه كتب الشعر، من خلال بعض المقالات التي تناولته شاعراً، مثل مقال الروائي رشاد أبو شاور الذي ظهر في كتابه «مقالات في الأدب الفلسطيني» (٢٠٠٧) ومن خلال الرواية التي كتبتها عنه الروائية سحر خليفة «حبي الأول» (٢٠١٠).
ولكني أشك في أن أكثرنا حفظاً للشعر يحفظ له بيتاً من شعره، كما يحفظ أغلب شعبنا بيت عبد الرحيم محمود المذكور.
منذ اغتيال غسان كنفاني في بيروت في ٨ تموز من العام ١٩٧٢، صار يحتفل بذكراه سنوياً، وحظي استشهاده بما لم يحظَ به استشهاد أي ممن سبقوه، ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى أنه ترك لنا إرثاً أدبياً مميزاً لم يترك مثله أي من الثلاثة المذكورين.
لقد أنجزت مئات الكتب والدراسات والمقالات عن كنفاني، وتناصت مع أعماله عشرات القصص والروايات، وشاع كثير من عباراته شيوع بيت عبد الرحيم محمود، وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات العالمية الحية.
ومع أنّ هناك أدباء فلسطينيين آخرين ارتقوا بعد كنفاني إلا أنهم لم يحظوا بما حظي هو به؛ لأنهم لم ينجزوا في الأدب إلا شعراً قليلاً أو مجموعة قصصية أو رواية أو أكثر قليلاً، ومن هؤلاء كمال ناصر وعز الدين القلق وماجد أبو شرار وعلي فودة.
أصدر الأول خمسة دواوين شعرية جمعها إحسان عباس معاً، ولكنّ الجانب السياسي فيه غلب على الجانب الأدبي، وأصدر القلق مجموعة قصصية واحدة «شهداء بلا تماثيل» ونادراً ما التُفت في ذكراه إليها، وأصدر أبو شرار مجموعة «الخبز المر»، ومع أنه أعيدت طباعتها مضافاً إليها بعض القصص، إلا أن الاحتفاء بها ظل قليلاً، وأصدر فودة ديوان شعر أو ديوانين ورواية «الفلسطيني الطيب» إلا أنه ظل في ذكراه قليل الحضور أيضاً، وربما عرفنا عن القلق وأبو شرار أكثر، واستحضرنا في ذكراهما رثاء محمود درويش لهما، فقد شاعت قصيدتاه فيهما أكثر من شيوع نتاجهما، والقصيدتان هما «الحوار الأخير في باريس» و»اللقاء الأخير في روما»، وعلى الرغم من أن فدوى طوقان رثت كمال ناصر شعراً إلا أن ما كتبته لم ينتشر انتشار قصيدتي درويش.
هناك آخرون استشهدوا لم نعرف أنهم شعراء إلا من خلال روايات كتبها روائيون عنهم، مثلهم مثل عبد القادر الحسيني، ومن هؤلاء زياد الخليل.
لقد عرفت عنه من خلال ثلاثية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي «ذاكرة الجسد/ عابر سرير/ فوضى الحواس» وكنت أظن أنه شخصية مخترعة لولا أن أخبرني الشاعر أحمد دحبور أنه شاعر فلسطيني حقيقي، وحتى اللحظة لم أقرأ شخصياً أياً من أشعاره.
في العام ١٩٨٧ اغتيل فنان الكاريكاتور ناجي العلي، فحققت رسوماته انتشاراً لافتاً واحتفل بذكرى استشهاده احتفالاً لا يقل عن الاحتفال بكنفاني.
منذ طوفان الأقصى ٧ أكتوبر ارتقى العديد من الأدباء. ارتقت هبة أبو ندى وارتقى سليم النفار ورفعت العرعير وفتحي غبن ومحاسن الخطيب وأخيراً يحيى السنوار الذي حقق ما ورد في بيت عبد الرحيم محمود «سأحمل روحي على راحتي».
كتب السنوار رواية واحدة نشرها في العام ٢٠٠٤ حين كان سجيناً ولم يلتفت إليها إلا في العام ٢٠٢١ حين كتبت عنها، وسرعان ما نسيت، حتى أعدت الكتابة عنها في ٧ أكتوبر سلسلة مقالات وخربشات، ما أدى إلى إشهارها وعقد الندوات حولها وكتابة المقالات فيها، بل وإعادة طباعتها، ولقد تناولها صحافيون عالميون كتبوا عنها في كبريات الصحف الأميركية.
«نصر أو استشهاد» هو الشعار الذي يرفعه إبراهيم الشخصية الرئيسة في الرواية وتنتهي باستشهاده، وقد كانت نهاية المؤلف مشابهة، فقد ارتقى في ١٥/ ١٠/ ٢٠٢٤.
هل ستخلد هذه الرواية كاتبها كما خلد بيت شعر عبد الرحيم محمود، حتى اللحظة، قائله؟
ننتظر ونرى ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
رحم الله الشهداء!
***
55- الطفل الناجي في الحرب
في صفحة محمد العطار Muhammad Al-Attar من جباليا نقرأ في العشرة الأخيرة من شهر أكتوبر ٢٠٢٤، عن ارتقاء أخيه الشاب الممرض مصطفى المتزوج وله ثلاثة أطفال، ونقرأ عن إصابة أخيه الثاني أحمد، وأيضاً عن الطفل الناجي.
حين طلب جيش الاحتلال، في جباليا شمال قطاع غزة، إخلاء من بداخل مستشفى كمال عدوان، تحركت سيارات الإسعاف من المستشفى وهي تنقل أماً وضعت مولودها قبل ساعتين من الإخلاء ومعها مرافقة أخرى.
بعد خمسين متراً من تحرك سيارة الإسعاف استهدفها الجيش الإسرائيلي، بشكل مباشر، ليرتقي جميع من كانوا بداخلها.
لم تنتهِ المعاناة، فبعد مرور ٢٤ ساعة مرت فرق الإنقاذ الدولية بمكان الاستهداف، فسمع أفرادها صوت بكاء بين الجثث المتفحمة التي تأكلها الكلاب داخل السيارة.
كان الصوت صوت الوليد الجديد؛ طفل الشهيدة «رغدة البسيوني» و»عناية الله به أنه لم يخدش ولم تقترب منه الكلاب»، وهو بصحة جيدة، لكنه أضحى يتيماً وعمره يوم.
في الفترة نفسها قرأنا على صفحات الناشطين من شمال قطاع غزة عما فعله الجيش الإسرائيلي أيضاً بأهالي مخيم جباليا حتى يجبروهم على المغادرة.
حفر الجيش حفرتين وضع النساء في واحدة والأطفال في ثانية وترك دباباته تثير الغبار حولهما، ثم صار يخرج النساء ويأمرهن بالتقاط أي طفل والمضي به حتى لو لم يكن الطفل طفلها.
وماذا لو لم يلتقِ الطفل فيما بعد بأمه الحقيقية؟ وماذا لو ربته المرأة التي التقطته؟!
أعرف في المخيم الذي نشأت فيه حكايات مشابهة إلى حد ما. عرفت رمزي منذ ستة عقود ولم أعرف أن أباه ارتقى في اللد في العام ١٩٤٨، ولم أسأل لماذا يكنى عمه الذي رباه بـ «أبو هشام»، لا بـ «أبو رمزي»، فرمزي أكبر من هشام، وقبل سنة عرفت القصة.
ارتقى والد رمزي فاقترن أخوه بزوجته وربى ابن أخيه/ ابنها. كم قصة تشبه هذه ستشهد غزة في قادم الأيام؟!
قبل الحادثة المذكورة في أول المقال حدثت قصص كثيرة مشابهة لأطفال نجوا واستشهدت عائلاتهم ومنها قصة الأختين تولين وتوجان. قصت تولين حكايتها، وأختها صامتة حزينة إلى جانبها، بأسلوب بسيط واضح دون أن تتعثر، على الرغم من فظاعة ما ألم بهما.
كانت تولين عندما قصف بيتهم تتناول وجبة الفاصوليا والرز إلى جانب أختها، فيم بقية الأسرة تتناول طعامها في مكان قريب.
عندما طلبت منها أختها الشراب ذهبت لإحضار كأس لها وثانٍ لأختها، وفجأة تم القصف، ولما كانت قريبة من الشباك فقد أخذت تنادي وتم إنقاذها وأختها، وستعرف لاحقاً أن أمها وأباها وأخاها مازن وأختها تايلا قد ارتقوا.
تقيم الأختان الآن في بيت جدتهما. عندما استبد بي الفضول لمعرفة أسرتهما بحثت في الفيس بوك وعثرت على صفحة الأم؛ صفحة (أم مازن) ولكن المعلومات لم تسعفني.
في السنوات الأخيرة قرأت ثلاثية إلياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم ونجمة البحر ورجل يشبهني»، وأنجزت حولها كتاباً وعشرات المقالات وربطتها بنصوص روائية أسبق منها. وقرأت أيضاً رواية أكرم مسلم «بنت من شاتيلا» والتفت فيهما إلى الطفلة الناجية، وكتبت مقالين في الموضوع استعرضت فيهما الظاهرة في أعمال أدبية فلسطينية سابقة، وفي مقالي عن أولاد الغيتو ذهبت إلى أبعد من الرواية الفلسطينية، متتبعاً الفكرة في الأدب العالمي والرواية العربية أيضاً.
تناص إلياس خوري بوعي كامل مع رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» (١٩٦٩) لدرجة أن آدم المؤلف الضمني لأولاد الغيتو وصف لنا مشاعره حين قرأ الرواية قائلاً:
«الشعور بالحزن الذي ضربني حين قرأت رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا».. ولوهلة اعتقدت أن الروائي الفلسطيني يتكلم عني...».
مات آدم وربته منال ولم يكن يعرف شيئاً عن أبيه البيولوجي.
هل نعثر في روايات عربية وفلسطينية أخرى على أطفال فلسطينيين نجوا أو سرقوا وربوا ممن تبناهم؟
هنا أشير إلى رواية رضوى عاشور «الطنطورية «ورواية سوزان أبو الهوى» بينما ينام العالم أو صباحات جنين».
تأتي رضوى في روايتها على مذبحة صبرا وشاتيلا وتحكي عن الطفلة التي تبناها الطبيب الفلسطيني أمين كما لو أنها ابنته (ينظر الفصل ٢١ «هدية أمين» ص ١٧٧)، أما سوزان أبو الهوى فتكتب عن نكبة ١٩٤٨ وسرقة جندي إسرائيلي عقيم لا ينجب طفلاً من أمه ويربيه ليغدو مثل خلدون في رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا».
النكبة تتكرر فصولها وتتكرر أحداثها وتتشابه قصصها ونحن نقرأ ما نعتقده في الروايات معاداً مكروراً، لا لأن الروائيين والروائيات يتناصون مع روايات سابقة وحسب، وإنما لأن تجاربنا وحكاياتنا في الواقع تتكرر أيضاً.
النكبة مستمرة ورحم الله الروائي إلياس خوري صاحب كتاب «النكبة المستمرة».
***
56- الطفل الفلسطيني القتيل
كتبتُ في الأسبوع الماضي عن الطفل الفلسطيني الباقي والناجي، وبعد قراءة المقال منشوراً تذكرت عبارة إميل حبيبي «أنا هو الطفل القتيل» التي جعلها محمود درويش وإلياس خوري عنواناً للمقابلة التي أجرياها معه، في العام ١٩٨٠ في براغ العاصمة التشيكية، ونشراها في العدد الأول من مجلة «الكرمل» الصادرة في شتاء العام ١٩٨١.
كانت سهام داود أعادت على صفحتها نشر المقابلة، فالتفت إليها سليم البيك محرر موقع رمان الإلكتروني وأعاد نشرها، وأرى أنها مقابلة مهمة لفهم إميل حبيبي وأدبه.
لقد أثارت العبارة «أنا هو الطفل القتيل» فضولي، فإميل عاش ستة وسبعين عاماً، وتأكدتُ من أنه لا يقصد القتل البيولوجي.
يروي إميل في المقابلة عن طفولته وعن أسرته، وعن اهتمامه بالأدب والسياسة، وعن العرب الباقين في أرضهم، يوم قامت الدولة الإسرائيلية، كما يروي عن الأنظمة العربية وتخلّيها عن فلسطين، بل وعن إسهام قسم منها في ترحيل الفلسطينيين خارج ديارهم وترك من تبقى منهم كالأيتام على مأدبة اللئام، كما يقص عن عزلة الباقين الأدبية وعن ثقافتهم العربية وحرصهم، رغم ذلك، على لغتهم. لقد عاشوا منسيين كما لو أنهم قتلى.
وذكرتني قراءة المقال أيضاً بما رد به في روايته «المتشائل» (١٩٧٤) على أسطر محمود درويش الشعرية:
«نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً».
يكتب إميل معقباً:
«ولم يدر، إلا أخيراً، بأن هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيا منسياً».
ولطالما كتبت عن الطفولة الفلسطينية المنتهكة المسلوبة وأبرز ما كتبته هو عن طفولة محمود درويش نفسه - وأنا أدرس دال الطفولة في «جدارية» ( ٢٠٠٠ ) في ضوء أشعاره السابقة «الطفولة: لم أكن طفلاً سعيداً».
وأنا أتابع ما يجري في غزة لم يمرَّ يوم من الأيام الأربعمائة لأيام الحرب دون الالتفات إلى ما يلمُّ بالأطفال الذين يربو عدد القتلى منهم على الثمانيةَ عشرَ ألفاً، عدا الآلاف المشوهة منهم، واحترتُ كيف نصنّف الكتابة عن الأطفال في غزة الآن:
- الطفل الناجي
- الطفل المسروق
- الطفل المنسي
- الطفل القتيل
- الطفل المشوه
- الأجنة.
ربما يرى كثيرون منا أن قطاع غزة كله معاً ودفعة واحدة هو طفل العالم العربي القتيل الجديد كما رأى إميل حبيبي في الفلسطينيين الباقين في المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ الطفل القتيل في حينه، وكان واحداً منهم وكان يمكن أن يموت في أية لحظة، هو ابن العائلة المكونة من تسعة أفراد، سبعة ذكور وأنثيان وحين عاد من المنفى وبحث عن والديه اللذين تركا حيفا إلى قريتهم شفا عمرو وجد أمه فقط، فقد توفي أبوه وهاجر إخوتُه إلى لبنان.
كم صفحةً يحتاج الكاتب إن رصد مآسي الأطفال في غزة، بل كم مجلداً، وكم رواية سيكتب الروائيون عن هؤلاء الأطفال الذين تجاوز عددهم الـ ١٨ عشر ألفاً، وكم قصيدة سيكتب الشعراء؟!
ما من متابع لما يجري إلا ألم بقصة الدكتورة آلاء القطراوي المتخصصة في الأدب العربي والتي تكتب أيضاً الشعر. لقد فقدت أطفالها الأربعة إذ قصف بيت جدتهم حيث كانوا يقيمون، وظلوا ثلاثة أشهر تحت الأنقاض قبل أن يُعثر على جثامينهم ويُدفنوا في قبور. كتبت أمهم الشاعرة فيهم قصائد تقطر ألماً وتفيض حزناً حتى نعتها بعض الكتاب بـ «خنساء» فلسطين كما لقبوا فدوى طوقان بهذا من قبل؛ فدوى التي رثت إخوتها وأباها وآخرين من أبناء عائلتها ورموز الحركة الوطنية.
ما عليك إلا أن تتابع بعض الصفحات لتقرأ عن تايلا أخت توجان وتولين اللتين أتيتُ على ذكرهما في المقال الماضي، أو عن يوسف أبو شعر كيرلي، أو عن ديما محمد عوكل وشقيقتها ريما اللتين ارتقَتا في ٢٨ / ١٠ / ٢٠٢٤، بصحبة والدتهما سهاد محمد النجار في مخيم جباليا، في الوقت الذي يقبع فيه الأب / الزوج في السجن.
وتابع صفحة «أخبار غزة. متابعة» لتشاهد صورة عائلة لستة عشر طفلاً مع رجل كبير من العائلة تم محوها بالكامل ( ٥ / ١١ / ٢٠٢٤ ) .
وثمة صور تقطع نياط القلب لأمهات دفنَّ أبناءهن في الرمال وعُدن يبحثن عن قبورهم وأخذن يندبنهم.
ومما قرأته في صفحة «منار أيمن - متابعة» صرخة امرأة تقول «أولادي ٣ يا عالم... دوّروا بلكي بلاقي لي واحد عايش».
هل اختلف الأمر في جنوب لبنان؟
عنوان المقال هو «الطفل الفلسطيني القتيل» ولربما تتبع كاتب لبناني مأساة أطفال لبنان أيضاً، وقد لفت نظري وأنا أبحث في الموضوع صورة لأربعةِ أطفال قتلوا في ٣٠ / ١٠ / ٢٠٢٤ وكتب تحت الصورة «شهداء بلدة الصرفند اليوم».
النكبة مستمرة والمأساة أكبر مما نتصور و»أبكيكِ دماً يا طفولتي»!
***
57- أهل غزة: «إحنا مش بخير»
في صفحة يافا أبو عكر على «فيسبوك» تقرأ السطرين الآتيين: «النوم في الخيم كفيلة تخليك تحقد على كل العالم .. إحنا مش بخير».
عندما أدرجتُ ما كتبت يافا على صفحتي، قرأتُ التعليقات الآتية: «وأنت تعد فطورك.. لا تنس شعب الخيام»، و»كل الحق معك الله يفرجها»، و»حسبنا الله ونعم الوكيل»، و»نعم صدقت»، و»لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، و»المهم حكام العرب بخير وعافية»، و»في الصميم»، و»كلّ ما يحدث حالياً يجعلك تحقد على العالم»، و»والله إحنا لا يعلم بحالنا إلا الله»، و»النومة حلوة في الخيمة بس لو في أمن وهداة بال مثل بيت الشعر»، و»نعم لصناعة الرغيف لا لصناعة الصواريخ»، ولا نريد الرياح الشرقية»، أما في صفحة يافا فتلحظ، بعد ثلاثة أيام من نشرها السطرين ٣٣١٩ إعجاباً و ٣٤٧ تعليقاً، وما لا يقل عن ٢٩٠٠ مشاركة.
وتقرأ في صفحتها فقرات أخرى تصوّر ما ألمّ بأهل قطاع غزة، ومنها: «في غزة.. قد لا يتسنى لك الحصول على بطانيّة تلتحف بها إلا حين تصبح جثة؛ معظم هؤلاء الشهداء المكفنين لم يجربوا شعور الغطاء منذ ١٤ شهراً، وهؤلاء الذين منحوهم أغطيتهم الوحيدة يفعلون ذلك أملاً أن يجدوا مثلها إذا استشهدوا».
أو «تخيّل إلك سنة وأكثر عايش تتخيل كل لحظة كيف حينزل عليك الصاروخ»، و «ما أصعب هذه الليلة.. صوتُ غول السماء لا يفارقنا.. قريباً قريباً جداً منّا.. صوتٌ مرعبٌ لطيران الاستطلاع في المواصي».
وتعرض يافا صورة مئات الغزيين يتدافعون على التكايا بأيديهم صحونهم، وتكتب مُعلّقة: «المجاعة والمأساة في مدينة غزة تتجلى في هذه الصور.. يتجمع المئات حول التكية لمحاولة الحصول على حصة من العدس والبقوليات ليسد رمق جوعهم.. هذه مشاهد لم نعهدها من قبل، ولم يصل الناس والأطفال لهذه الدرجة من التحمل لولا المجاعة الحقيقية»، مضيفة: «صرخات أهالي الشهداء بمجزرة قصف مقهى بالمواصي هزت مشفى ناصر وهزت بدني.. يا الله اجبر قلوبهم يا الله».
«نازحون من الخيام ذهبوا إلى خيمة أوسع يسميها البؤساء (كافي شوب هابي تايم)/ في منطقة مواصي خان يونس، ليفتحوا شبكة نت ضعيفة وبائسة مثل أحوالهم، لعلهم يقرؤون خبراً جميلاً يمنحهم أملاً».. «عشرة أقمار صعدت أرواحهم وعدد آخر من الجرحى بعد أن باغتهم صاروخ».. «حلّ الليل على أهل غزة، باتت الأمنية الوحيدة هنا أن لا يأتي الظلام ويخيّم على المدينة المقهورة.. لا نريد أن نموت وننتظر الصباح ليجدوا أشلاءنا وما تبقى من جسد تشاهد بدل المرة ألف».. في الليل تدفن آلاف القصص التي تنتهي صباحا بـ»هنيئاً وجدنا جثته.. إنه شهيد شهيد». وكان ذلك شيء ممّا كتبته يافا في الفترة من ١٠ إلى ١٣ تشرين الثاني الجاري، ويمكن أن تتابع صفحتها لتقرأ المزيد عن الأيام السابقة.
موقع (N12) الإسرائيلي نشر تقريراً عمّا يجري في قطاع غزة عززه بشريط فيديو لمئات النازحين من مكان إلى آخر، ويسأل فيه المراسل عدداً من بسطاء أهلنا هناك، من نساء وأطفال، عن رأيهم فيما آلوا إليه والمسؤول عما جرى ويجري.
لا النساء كبيرات السن ولا الأطفال قرؤوا الشاعر اليهودي النمساوي إريك فريد، ليتلو على مسامع الجندي مقطعاً من قصيدته: «اسمع يا إسرائيل»، يقول فيه: «فتّش عن الأسباب»، والأسباب معروفة بدأت في العام ١٩٤٨، بل ومنذ بداية المشروع الصهيوني القائم على مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، ولاحقاً على مقولة «أرض أكثر وعرب أقل» ، وفي الأدبيات الصهيونية على مقولة «العربي الجيد هو العربي الميت».
تحمل المرأة الفلسطينية العجوز التي تعاني، منذ السابع من أكتوبر، الويلات، تحمل أمتعتها على ظهرها، وبقجتها بيديها، ومثلها أطفالها أو أحفادها، وتبحث عن مكان جديد وطعام وشربة ماء حتى لا تموت من الجوع أو العطش، ويسير وراءها البقية الباقية من العائلة، ولكي تتمكن من المرور عبر الحاجز الإسرائيلي وتنجو تضع المسؤولية على حركة حماس.
الحق يقال إن ما يمرّ به أهل قطاع غزة الآن أقسى بكثير ممّا مر به أجدادنا وآباؤنا ونحن أيضاً مواليد الخيام في خمسينيات القرن العشرين.
في العام ١٩٤٨ هجر ٦٥٠ ألف فلسطيني وسكنوا أولاً في المدارس والجوامع ثم في الخيام حتى ١٩٥٨، وفي العام ١٩٦٧ أقيمت في الأردن مخيمات جديدة للنازحين، كالبقعة وشنلر، استمرت لفترة حتى استبدلت بيوت الصفيح بالخيام، ووقف اللاجئون والنازحون أيضاً طوابير طوابير؛ أمام عين الماء ومراكز التموين وتوزيع الإعاشة الشهرية والمطاعم والحمامات، وغيرها.
«إحنا مش بخير»، تكتب يافا أبو عكر، ونحن أيضاً، بقية الفلسطينيين غير المقيمين في غزة، لسنا بخير.. و «لسّة طويلة».
***
=============
51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟
52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»
53- خسارات القصة والرواية الفلسطينية: في وداع رشاد أبو شاور
54- كتبوا أو رسموا واستشهدوا: صاحب «الشوك والقرنفل» شهيداً
55- الطفل الناجي في الحرب
56- الطفل الفلسطيني القتيل
57- أهل غزة: «إحنا مش بخير»
.
51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟
في الحرب تذكرت غير مرة رواية إسحق الحسيني «مذكرات دجاجة» (١٩٤٣)، وتذكرت أكثر مواقف النقاد المتعددة والمتناقضة منها، فمنهم - مثل عميد الأدب العربي طه حسين - من رأى فيها «دجاجة عاقلة جد عاقلة... دجاجة شاعرة تجد ألم الحب ولذته وعواطفه المختلفة... دجاجة رحيمة تعطف على الضعفاء والبائسين وترق للمحرومين وتؤثرهم على نفسها وإن كان بها خصاصة؛ وهي على هذا كله بليغة فصيحة تفكر فتحسن التفكير وتؤدي فتجيد الأداء... تجد من حب الخير وبغض الشر... ما يجده كل عربي من أهل فلسطين بل من أهل الشرق العربي كله» (المقدمة ١٩٤٣)، ومنهم - مثل الناقد الفلسطيني فاروق وادي - من رأى فيها «دجاجة خلقها مؤلفها من موقع أيديولوجي طبقي ليسبغ عليها حكمته، لكنه، بوعي أو دون وعي، خلق دجاجة فلسطينية تخون فلسطين وقضيتها» (ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية ١٩٨٥)، وهناك - مثل عبد الحميد ياسين - من لم تعجبه مذكراتها فعارضها بـ «مذكرات ديك»، لأن سلوكها وفلسفتها لا تجدي في عالم يخضع للقوة شعاره «إذا لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب».
في الحرب تذكرت من الرواية صفحاتها الأخيرة التي أتى المؤلف فيها على موقف الزعيم من دجاج غريب طارئ أراد المأوى له وطرد أصحابه منه.
قرر الزعيم اللجوء إلى القوة للحفاظ على المأوى وطرد الدجاج الغريب الطارئ، وهذا ما لم توافقه الدجاجة صاحبة المذكرات عليه، فقد رأت أن القوة لا تحل خلافاً ولا تلتئم مع المثل العليا التي تمسكت بها طوال حياتها، وطلبت من الزعيم وأنصاره أن لا يلتجئوا إليها، وأن ينتشروا، بدلاً من استخدامها، في الأرض ويبشروا الخلق بالخضوع للحق وحده ويقنعوا الباغي بأن بغيه يرديه «وعندئذ تحلون قضية عامة إنما قضيتكم جزء منها» وتطلب منهم أن يسيحوا في الأرض ويتوزعوا بين الخلق وينشروا بينهم المثل العليا والمبادئ السامية، وتنتهي الرواية بموافقتهم على اقتراحها، ويوافق الزعيم على ذلك، فتشعر بالرضا.
في حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤ تذكرت الرواية غير مرة وشغلتني عدة أشهر، كما شغلتني أيضاً روايات غسان كنفاني «رجال في الشمس» و»عائد إلى حيفا» و»أم سعد»، بل وبعض قصصه القصيرة مثل قصة «العروس»، ذلك أن طروحاته فيها تتناقض كلياً مع طرح الدجاجة، فهو على لسان شخصية أبو الخيزران أثار السؤال:
- «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟»
وعلى لسان سعيد. س أورد عبارة:
- «تستطيعان البقاء مؤقتاً في بيتنا، فذلك شيء تحتاج تسويته إلى حرب!»
وعلى لسان أم سعد ذكر عبارتها:
- «خيمة عن خيمة بتفرق» - أي الفرق بين خيمة المقاتل وخيمة اللاجئ.
هل شغلتني أيضاً مقولة إميل حبيبي «باق في حيفا» والرسالة ما قبل الأخيرة من رواية «المتشائل» وهي «الجلوس على الخازوق».
مرة في أثناء المقتلة والمهلكة وحرب الإبادة كتبت أن نصوص الأدب الفلسطيني تتصارع في رأسي، وكان سبب الكتابة متابعتي الحثيثة لموقف الكتاب والنشطاء الفيسبوكيين من أحداث ٧ أكتوبر، فقد تعددت وتباينت وهذا أمر طبيعي، ولكن ما لم أره طبيعياً هو أن أدباء عديدين لم يوافقوا، من قبل، الحسيني في طرح دجاجته ووقفوا إلى جانب كنفاني فيما تبناه، في رواياته الثلاث وفي قصصه القصيرة، ومجدوا شعار أن ما أخذ بالقوة لا يسترد بغيرها، اختلف موقفهم من أحداث ٧ أكتوبر وكتبوا ضدها، بل ومالوا إلى اقتراح الدجاجة، فغادروا قطاع غزة، دافعين الآلاف من الدولارات، علما بأنهم لاموا آباءهم حين خرجوا في العام ١٩٤٨، أو أنهم تشبثوا بالخازوق، كما تشبث به حبيبي من قبل، مرددين «باق في غزة»، كما ردد «باق في حيفا»، ويستطيع المرء أن يذكر أسماء من غادر ومن بقي ومن نزح ومن ارتقى، أو على الأقل أستطيع أنا شخصياً أن أفعل ذلك، لمتابعتي الحثيثة لأخبار الكتاب وكتاباتهم، وقد أشرت إلى هذا في يوميات الحرب التي أكتبها منذ السابع من أكتوبر يومياً، ولا يعدم المرء قراءة طروحات مثل «القضية عامة والحل فردي»، وهذا مغاير كلياً للفكرة التي توصل إليها النقاد بعد قراءتهم «رجال في الشمس» لكنفاني؛ الفكرة التي استنتجت من موت الرجال الثلاثة في الخزان ومقصد الروائي من قتلهم.
ما تجدر كتابته هو أن تأويل النقاد لمغزى عبارة كنفاني «لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟» ومقصده من وراء قتل شخوص الرواية بدأ يتراجع لدى فئات من الفلسطينيين، فنطقوا بعبارة مختلفة وردت في روايات لاحقة على لسان فلسطينيين من العائدين كما في رواية زكريا محمد «عصا الراعي» (٢٠٠٣/ مقالي في الأيام ٢٠/ ٨/ ٢٠٢٣) وفلسطينيي لبنان بعد خروج المقاومة الفلسطينية من بيروت في ١٩٨٢، وهذا نقرؤه في رواية سامية عيسى «خلسة في كوبنهاجن» (٢٠١٣). «المشكلة جماعية، لكن الحل لازم يكون فردي»، وما تجدر كتابته أيضاً أن عبارة شبيهة تكررت في كتابات بعض كتاب غزة منذ ٧ أكتوبر، والكتابة تطول.
هل يئسنا لأن نكبة ١٩٤٨ بعد ٧٦ عاماً ما زالت مستمرة أم؟
منا من يأخذ بما رأته دجاجة الحسيني، ومنا من يواصل دق جدران الخزان، ومنا من هو راضٍ بخازوقه يتشبث به، وأبو يائير لا يريدنا هنا.
***
52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»
اليوم الأحد ٦/ ١٠/ ٢٠٢٤ هو اليوم الأخير من عام الحرب الأول الذي بدأ يوم سبت في ٧/ ١٠/ ٢٠٢٣.
مضى العام وكانت النتيجة عشرات آلاف القتلى ومائة ألف جريح ومشوّه ويتيم وأرمل وأرملة، ومحو عائلات بأكملها من السجل المدني، وتدمير قطاع غزة تدميراً شبه كامل لجعل الحياة فيه، لأهل غزة في قادم الأيام، شبه مستحيلة، وهذا ما طمحت إليه الحركة الصهيونية منذ مؤتمرها الأول، رافعةً شعار «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» متسائلةً عن مستقبل سكان البلاد، وهو ما شغل بال الأب الروحي للحركة الصهيونية (ثيودور هرتسل) في روايته «أرض قديمة جديدة» (١٩٠٢).
في بداية الحرب أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو) أن الحرب حرب وجود، وقال إنه تلميذ (جابوتنسكي) الذي رأى أن السلام في المنطقة يتحقق بالقوة/ بالسيف، وهذا ما لم يتحقق منذ بداية المشروع الصهيوني، فالمقاومة ما زالت مستمرة والفلسطينيون ما زال نصفهم في أرضهم.
في ثلاثينيات القرن العشرين فهم الشاعر إبراهيم طوقان كُنه المشروع الصهيوني فلخّصه بأبيات شعرية منها:
«أجَلاءً عن البلاد تريدون فنجلو أم محوَنا والإزالة؟»
و
«يا قومُ ليس عدوكم ممن يلين ويرحم
يا قوم ليس أمامكم إلا الجلاء فحزموا».
ويبدو أنه قرأ ما انشغل به آباء الصهيونية في الموقف من سكان البلاد. ماذا سنفعل بهؤلاء الأغيار الغرباء الذين أقفروا بلاد آبائنا وصحّروها في أثناء غياب آبائنا عنها؟
ويبدو أن طوقان قرأ وجهتَي النظر المختلفتين في النهج، المتفقتين في النتيجة، وهما وجهة نظر تيار رأى التضييق على سكان البلاد العرب، حتى يرحلوا من تلقاء أنفسهم، ووجهة نظر تيار ثانٍ ذهب إلى أن ذلك لا بد من أن يُنجز بالقوة، ومنذ العام ١٩٤٨ والتياران يتصارعان حتى آل الصراع إلى غلبة التيار الثاني ممثلاً الآن بـ (بنيامين نتنياهو) وحزبه و (ايتمار بن غفير) و (بتسلئيل سموتريتش)، ويبدو أن العام الثاني من الحرب سيتواصل في قطاع غزة وفي الجنوب اللبناني معاً وفي الوقت نفسه، ويبدو أن إسرائيل مصرة على تحقيق شعارها «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بالقوة، أو على الأقل «أرض أكثر وعرب أقل».
في العام الأول من الحرب صار المرء عداد موتى وجرحى، وعداد إحصاء دبابات دُمرت وآليات أُعطبت وبيوت نُسفت على رؤوس أصحابها، وما تحقق معكوساً هو أن العرب ليسوا أبناء صحراء يدمرون الطبيعة ويخربونها، وهذا ما حفلت به الأدبيات الصهيونية، وإنما هم بنوا وشيّدوا المشافي والمدارس والجامعات، وجاء الإسرائيليون ليقفروها ويصحروا قطاع غزة، كأنما أسقط الصهيونيون في أدبياتهم، صفاتهم التي تقبع في أعماقهم، على العرب، وهنا نتذكر ثانية ما قاله طوقان فيهم:
«أعداؤنا - منذ أن كانوا - صيارفةٌ
ونحن - منذ هبطنا الأرض - زُرّاع».
في عام الحرب الأول استرجع المرء أحداث مائة عام من الصراع، كأنما كان زبدتها كلها. لقد عشنا النكبة الجديدة وعشنا معها أيضاً النكبة الأولى وما بينهما، فما من حدث إلا ذُكر بمثيله، بل وأكثر.
وإذا كان طوقان نفسه قال:
« أمامك أيها العربي يوم
تشيب لهوله سود النواصي
مناهج للإبادة واضحات
وبالحسنى تنفذ والرصاص
لنا خصمان ذو حول وطول
وآخر ذو احتيال واقتناص
تواصَوا بينهم فأتى وَبالاً
وإذلالاً لنا ذاك التواصي»
فإن الخصمين ما زالا هما هما مع حلول الولايات المتحدة الأمريكية محل بريطانيا العظمى، دون أن تتخلى الأخيرة كلياً عن دورها القذر، فطائرات تجسّسها ترصد الأماكن التي يقبع فيها المقاومون، وتقدم المعلومات التي تجمعها إلى الجهة الإسرائيلية، لتتمكن الأخيرة من تتبعهم وتصفيتهم.
مر العام الأول ونحن نرصد أحداثه ساعة ساعة ويوماً يوماً وشهراً شهراً، ونتابع أخبار الجبهات في الشمال والجنوب وما يلم بالسكان المدنيين، نتابع هذا كله متابعةً حثيثة حتى فقدنا الشغف بالحياة في أبسط مظاهرها. الشغف بالقراءة والشغف بالسفر والشغف بمتابعة مسلسل والشغف بحضور مؤتمر أو إلقاء محاضرة ومحاورة جمهور الحاضرين.
عندما أقارن في باب القراءة مثلا بين ما قرأته في هذا العام بما قرأته في أعوام سابقة أرى الفرق واضحاً. فلأول مرة منذ خمسة عقود لم أقرأ في عام كامل سوى ثلاث روايات، حتى الدراسات الطويلة والمقالات التي تزيد على خمس صفحات أُكمل قراءتها بالكاد. صرت قلقاً لا يثبت على حال، قلقاً حتى لكأن المتنبي قال بيته يصف حالتي:
على قلقٍ كأنَّ الريح تحتي
أُوجهها جَنوباً أو شَمالا.
لا أستقر لساعة دون أن أبحث عن آخر الأخبار، وفي الأيام الأخيرة بدأت الأوضاع تتأزّم أكثر وأكثر و... و....
***
53- خسارات القصة والرواية الفلسطينية: في وداع رشاد أبو شاور
في الثامن والعشرين من أيلول الماضي فارقنا الروائي رشاد أبو شاور، كأنما أصر أن يودع الحياة في اليوم نفسه الذي ارتقى فيه الرئيس المصري جمال عبد الناصر الذي أحبه وظل يكتب عنه في ذكرى رحيله، وكأنما أراد أيضاً أن يفارق في اليوم نفسه الذي اغتيل فيه السيد حسن نصرالله، وكان رشاد في مقالاته من المدافعين عن نهجه؛ نهج المقاومة، بقوة. وأنا لا أعرف أديباً فلسطينياً مقيماً في العالم العربي أفصح بوضوح عن مواقفه السياسية، منذ ٧ أكتوبر ٢٠٢٣، كرشاد الذي أقام في العقدين الأخيرين في الأردن.
ربما لا تتجاوز لقاءاتي برشاد عدد أصابع اليد الواحدة أغلبها في عمان في مكتبة دار الشروق، ومرة واحدة التقينا، بعد مجيء السلطة الفلسطينية، في مدينة نابلس على هامش مناسبة أدبية. ولكني عرفت رشاد أديباً منذ بداية ثمانينيات القرن العشرين، فقد قرأت بعض قصصه القصيرة وروايته «العشاق» وقصصه الطويلة الأقرب إلى النوفيلا وهي «أيام الحب والموت» و»البكاء على صدر الحبيب» و «أرض العسل» و «شبابيك زينب». وغالباً ما كنت آتي على ذكر أعماله في كتاباتي عن موضوعات وظواهر في الأدب الفلسطيني. وفي العقدين الأخيرين، وبعد التعرف إليه قرأت رواياته الأربع الأخيرة وكتبت عنها. «سأرى بعينيك يا حبيبي» (٢١٠٢) و «وداعا يا زكرين» (٢٠١٦) و»ليالي الحب والبوم» (٢٠١٨) و»ترويض النسر» (٢٠١٩).
وربما يكون قراء الأرض المحتلة عرفوه من خلال روايته «العشاق» التي أعادت وزارة الثقافة الفلسطينية طباعتها، وربما لم يقرأ له غيرها، هنا في الأرض المحتلة ١٩٤٨ و ١٩٦٧، إلا الأدباء والنقاد. فرشاد لم تعد طباعة أعماله هنا، ولم يشارك هنا كثيراً في المؤتمرات الأدبية والندوات، ولم يكتب عموداً ثابتاً في الصحف الصادرة في فلسطين التاريخية.
غالباً ما كنت أتذكر رشاد ونصوصه في كتاباتي التي تعالج موضوعاً محدداً في الأدب الفلسطيني أو ظاهرة فنية ما، كأن أكتب عن اليهود أو المخيم أو استحضار الماضي أو ظاهرة النقد السياسي في الأدب الفلسطيني أو الروح المرحة في الرواية الفلسطينية.
كانت «أرض العسل» مهمة لي وأنا أكتب عن اليهود، وكانت «العشاق» تحضر باستمرار كلما أتيت على المخيم، أما «أيام الحب والموت» فغالباً ما أشرت إليها أنها الأولى في الكتابة عن مجزرة الدوايمة في العام ١٩٤٨، بل وغالباً ما رددت أن كاتبها سبق المؤرخين الإسرائيليين الجدد في الكتابة عن المجزرة المنسية، وأما «البكاء على صدر الحبيب» فغالباً ما أشير إليها كلما تحدثت أو كتبت عن ظاهرة النقد السياسي الذاتي للثورة الفلسطينية، وكانت هذه القصة من أبكر القصص التي انتقد فيها كاتب فلسطيني نهج الثورة، وإذ التفتّ مرة إلى الروح المرحة في حياة الفلسطينيين، وندرة حضورها في أدبياتنا، لم أغفل الإشارة إلى رشاد إلى جانب توفيق زياد وإميل حبيبي.
وغالباً ما أتيت على ذكر قصته الطويلة «شبابيك زينب» التي كتب فيها عن مدينة نابلس في الانتفاضة الأولى، مقارناً الكتابة عن المدينة المذكورة في روايات سحر ابنتها ورشاد الذي لم يكن زارها.
والتفتّ إلى رشاد روائياً أكثر من التفاتي إليه كاتب قصة قصيرة، علماً بأنه عُرف كاتب قصة أكثر مما عُرف روائياً.
في السنوات العشر الأخيرة قرأت رواياته الأربع والتفتّ إليها وكانت موضع أسئلة عديدة أثرتها شغلت ذهني في الكتابة النقدية.
لم يكتب رشاد في أكثر كتاباته عن طفولته، وفي القصتين اللتين استحضر فيهما التاريخ، وهما «أرض العسل» و «أيام الحب والموت» كتب عن أحداث وأمكنة لم يرها ولم يكن شاهداً عليها. وهو ما اختلف في باقي أعماله كلها، فالمبكرة منها مثل «العشاق» و «البكاء على صدر الحبيب» كتب عن بيئته وتجاربه التي عاشها؛ عن مخيمات أريحا التي عاش فيها وكان قريباً منها، وعن تجربته في الثورة في المنفى، وواصل هذا فيما كتبه بعد الخروج من بيروت، في «آه يا بيروت» و»الرب لم يسترح في اليوم السابع».
في «وداعاً يا زكرين» و «ليالي الحب والبوم» استرجع رشاد حياة القرية زكرين التي ولد فيها في العام ١٩٤٢ وغادرها في عام النكبة ١٩٤٨، وفي الثانية واصل الكتابة عن اللجوء إلى الخليل فمخيمات بيت لحم وأريحا، وكتب عن حياته وحياة والده فيها حتى العام ١٩٦٧.
أما روايتاه «سأرى بعينيك يا حبيبي» و «ترويض النسر» فتتطابق فيهما أزمنة السرد الثلاثة؛ زمن الكتابة وزمن السرد والزمن الروائي، ويكتب فيهما عن ثنائيات البداوة والمدنية وزحف العاصمة نحو البادية واختلاط القيم وتضاربها، والسلطة والمثقف الكاتب المعارض الذي يقتل بسبب مقالاته، ثم محاولات الشركات رشوة صاحب الضمير وترويضه دون أن تنجح مع قليلين في ذلك.
والروايتان المشار إليهما تثيران أسئلة حول لجوء الكاتب في شرق المتوسط للتعميم وعدم التحديد تحسبا لردة فعل السلطة تجاهه، وهذا عموما ما تجادلت ورشاد حوله.
في السنوات الأخيرة من حياته عاد رشاد إلى طفولته ليكتب عنها قصصاً قصيرة وردت في «وداعاً يا زكرين» و «أيام الحب والموت»، وغالباً ما عقبت عليها بعبارة «وردت هذه القصة في رواية... .
برحيل رشاد أبو شاور تكون الرواية والقصة القصيرة الفلسطينية خسرت علماً مهماً من أعلامها وعلاماتها.
***
54- كتبوا أو رسموا واستشهدوا: صاحب «الشوك والقرنفل» شهيداً
وأخيراً ارتقى يحيى السنوار صاحب السيرة الروائية «الشوك والقرنفل» (٢٠٠٤) المولود في مخيم خان يونس للاجئين الفلسطينيين.
وليس السنوار أول كاتب فلسطيني يستشهد، فقد سبقه، منذ العام ١٩٣٨، عديدون.
في ١٩٣٨ ارتقى الشاعر الشعبي نوح إبراهيم صاحب «كنا نغني بالأعراس/ جفرا عتابا ودحية / واليوم نغني بالرصاص/ هالجهادية الجهادية»، بل ويمكن أن نذهب إلى فترة زمنية أسبق تعود إلى العام ١٩٢٩ حين كتب الثائر عوض النابلسي ليلة إعدامه على جدار زنزانته قصيدته الشعبية الوحيدة التي وصلتنا «يا ليل خلي الأسير تايكمل نواحه».
وربما تكون الذاكرة الفلسطينية ظلت تستحضر شاعراً واحداً ارتقى شهيداً في أرض المعركة في العام ١٩٤٨ وهو عبد الرحيم محمود صاحب قصيدة «سأحمل روحي على راحتي/ وألقي بها في مهاوي الردى»، ومع أنه لم يكن أبرز شاعر فلسطيني في حينه، كما يرى إحسان عباس، وأن شعره فيه من الهنات والضعف ما فيه، إلا أنه شاعر شهيد والشاعر الشهيد نادر الحضور في الأدب العالمي، ولهذا وضعه عباس إلى جانب إبراهيم طوقان وعبد الكريم الكرمي (أبو سلمى).
عرف عبد الرحيم من شعره واستشهاده، ولكنّ شاعراً آخر قليل الشعر عرف لسبب آخر هو قيادته المعارك ونادراً ما عرف الفلسطينيون أنه شاعر، هو عبد القادر الحسيني الذي ارتقى في معركة القسطل في العام ١٩٤٨ أيضاً، وسنعرف لاحقاً أنه كتب الشعر، من خلال بعض المقالات التي تناولته شاعراً، مثل مقال الروائي رشاد أبو شاور الذي ظهر في كتابه «مقالات في الأدب الفلسطيني» (٢٠٠٧) ومن خلال الرواية التي كتبتها عنه الروائية سحر خليفة «حبي الأول» (٢٠١٠).
ولكني أشك في أن أكثرنا حفظاً للشعر يحفظ له بيتاً من شعره، كما يحفظ أغلب شعبنا بيت عبد الرحيم محمود المذكور.
منذ اغتيال غسان كنفاني في بيروت في ٨ تموز من العام ١٩٧٢، صار يحتفل بذكراه سنوياً، وحظي استشهاده بما لم يحظَ به استشهاد أي ممن سبقوه، ويعود السبب بالدرجة الأولى إلى أنه ترك لنا إرثاً أدبياً مميزاً لم يترك مثله أي من الثلاثة المذكورين.
لقد أنجزت مئات الكتب والدراسات والمقالات عن كنفاني، وتناصت مع أعماله عشرات القصص والروايات، وشاع كثير من عباراته شيوع بيت عبد الرحيم محمود، وترجمت أعماله إلى عشرات اللغات العالمية الحية.
ومع أنّ هناك أدباء فلسطينيين آخرين ارتقوا بعد كنفاني إلا أنهم لم يحظوا بما حظي هو به؛ لأنهم لم ينجزوا في الأدب إلا شعراً قليلاً أو مجموعة قصصية أو رواية أو أكثر قليلاً، ومن هؤلاء كمال ناصر وعز الدين القلق وماجد أبو شرار وعلي فودة.
أصدر الأول خمسة دواوين شعرية جمعها إحسان عباس معاً، ولكنّ الجانب السياسي فيه غلب على الجانب الأدبي، وأصدر القلق مجموعة قصصية واحدة «شهداء بلا تماثيل» ونادراً ما التُفت في ذكراه إليها، وأصدر أبو شرار مجموعة «الخبز المر»، ومع أنه أعيدت طباعتها مضافاً إليها بعض القصص، إلا أن الاحتفاء بها ظل قليلاً، وأصدر فودة ديوان شعر أو ديوانين ورواية «الفلسطيني الطيب» إلا أنه ظل في ذكراه قليل الحضور أيضاً، وربما عرفنا عن القلق وأبو شرار أكثر، واستحضرنا في ذكراهما رثاء محمود درويش لهما، فقد شاعت قصيدتاه فيهما أكثر من شيوع نتاجهما، والقصيدتان هما «الحوار الأخير في باريس» و»اللقاء الأخير في روما»، وعلى الرغم من أن فدوى طوقان رثت كمال ناصر شعراً إلا أن ما كتبته لم ينتشر انتشار قصيدتي درويش.
هناك آخرون استشهدوا لم نعرف أنهم شعراء إلا من خلال روايات كتبها روائيون عنهم، مثلهم مثل عبد القادر الحسيني، ومن هؤلاء زياد الخليل.
لقد عرفت عنه من خلال ثلاثية الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي «ذاكرة الجسد/ عابر سرير/ فوضى الحواس» وكنت أظن أنه شخصية مخترعة لولا أن أخبرني الشاعر أحمد دحبور أنه شاعر فلسطيني حقيقي، وحتى اللحظة لم أقرأ شخصياً أياً من أشعاره.
في العام ١٩٨٧ اغتيل فنان الكاريكاتور ناجي العلي، فحققت رسوماته انتشاراً لافتاً واحتفل بذكرى استشهاده احتفالاً لا يقل عن الاحتفال بكنفاني.
منذ طوفان الأقصى ٧ أكتوبر ارتقى العديد من الأدباء. ارتقت هبة أبو ندى وارتقى سليم النفار ورفعت العرعير وفتحي غبن ومحاسن الخطيب وأخيراً يحيى السنوار الذي حقق ما ورد في بيت عبد الرحيم محمود «سأحمل روحي على راحتي».
كتب السنوار رواية واحدة نشرها في العام ٢٠٠٤ حين كان سجيناً ولم يلتفت إليها إلا في العام ٢٠٢١ حين كتبت عنها، وسرعان ما نسيت، حتى أعدت الكتابة عنها في ٧ أكتوبر سلسلة مقالات وخربشات، ما أدى إلى إشهارها وعقد الندوات حولها وكتابة المقالات فيها، بل وإعادة طباعتها، ولقد تناولها صحافيون عالميون كتبوا عنها في كبريات الصحف الأميركية.
«نصر أو استشهاد» هو الشعار الذي يرفعه إبراهيم الشخصية الرئيسة في الرواية وتنتهي باستشهاده، وقد كانت نهاية المؤلف مشابهة، فقد ارتقى في ١٥/ ١٠/ ٢٠٢٤.
هل ستخلد هذه الرواية كاتبها كما خلد بيت شعر عبد الرحيم محمود، حتى اللحظة، قائله؟
ننتظر ونرى ويأتيك بالأخبار من لم تزود.
رحم الله الشهداء!
***
55- الطفل الناجي في الحرب
في صفحة محمد العطار Muhammad Al-Attar من جباليا نقرأ في العشرة الأخيرة من شهر أكتوبر ٢٠٢٤، عن ارتقاء أخيه الشاب الممرض مصطفى المتزوج وله ثلاثة أطفال، ونقرأ عن إصابة أخيه الثاني أحمد، وأيضاً عن الطفل الناجي.
حين طلب جيش الاحتلال، في جباليا شمال قطاع غزة، إخلاء من بداخل مستشفى كمال عدوان، تحركت سيارات الإسعاف من المستشفى وهي تنقل أماً وضعت مولودها قبل ساعتين من الإخلاء ومعها مرافقة أخرى.
بعد خمسين متراً من تحرك سيارة الإسعاف استهدفها الجيش الإسرائيلي، بشكل مباشر، ليرتقي جميع من كانوا بداخلها.
لم تنتهِ المعاناة، فبعد مرور ٢٤ ساعة مرت فرق الإنقاذ الدولية بمكان الاستهداف، فسمع أفرادها صوت بكاء بين الجثث المتفحمة التي تأكلها الكلاب داخل السيارة.
كان الصوت صوت الوليد الجديد؛ طفل الشهيدة «رغدة البسيوني» و»عناية الله به أنه لم يخدش ولم تقترب منه الكلاب»، وهو بصحة جيدة، لكنه أضحى يتيماً وعمره يوم.
في الفترة نفسها قرأنا على صفحات الناشطين من شمال قطاع غزة عما فعله الجيش الإسرائيلي أيضاً بأهالي مخيم جباليا حتى يجبروهم على المغادرة.
حفر الجيش حفرتين وضع النساء في واحدة والأطفال في ثانية وترك دباباته تثير الغبار حولهما، ثم صار يخرج النساء ويأمرهن بالتقاط أي طفل والمضي به حتى لو لم يكن الطفل طفلها.
وماذا لو لم يلتقِ الطفل فيما بعد بأمه الحقيقية؟ وماذا لو ربته المرأة التي التقطته؟!
أعرف في المخيم الذي نشأت فيه حكايات مشابهة إلى حد ما. عرفت رمزي منذ ستة عقود ولم أعرف أن أباه ارتقى في اللد في العام ١٩٤٨، ولم أسأل لماذا يكنى عمه الذي رباه بـ «أبو هشام»، لا بـ «أبو رمزي»، فرمزي أكبر من هشام، وقبل سنة عرفت القصة.
ارتقى والد رمزي فاقترن أخوه بزوجته وربى ابن أخيه/ ابنها. كم قصة تشبه هذه ستشهد غزة في قادم الأيام؟!
قبل الحادثة المذكورة في أول المقال حدثت قصص كثيرة مشابهة لأطفال نجوا واستشهدت عائلاتهم ومنها قصة الأختين تولين وتوجان. قصت تولين حكايتها، وأختها صامتة حزينة إلى جانبها، بأسلوب بسيط واضح دون أن تتعثر، على الرغم من فظاعة ما ألم بهما.
كانت تولين عندما قصف بيتهم تتناول وجبة الفاصوليا والرز إلى جانب أختها، فيم بقية الأسرة تتناول طعامها في مكان قريب.
عندما طلبت منها أختها الشراب ذهبت لإحضار كأس لها وثانٍ لأختها، وفجأة تم القصف، ولما كانت قريبة من الشباك فقد أخذت تنادي وتم إنقاذها وأختها، وستعرف لاحقاً أن أمها وأباها وأخاها مازن وأختها تايلا قد ارتقوا.
تقيم الأختان الآن في بيت جدتهما. عندما استبد بي الفضول لمعرفة أسرتهما بحثت في الفيس بوك وعثرت على صفحة الأم؛ صفحة (أم مازن) ولكن المعلومات لم تسعفني.
في السنوات الأخيرة قرأت ثلاثية إلياس خوري «أولاد الغيتو: اسمي آدم ونجمة البحر ورجل يشبهني»، وأنجزت حولها كتاباً وعشرات المقالات وربطتها بنصوص روائية أسبق منها. وقرأت أيضاً رواية أكرم مسلم «بنت من شاتيلا» والتفت فيهما إلى الطفلة الناجية، وكتبت مقالين في الموضوع استعرضت فيهما الظاهرة في أعمال أدبية فلسطينية سابقة، وفي مقالي عن أولاد الغيتو ذهبت إلى أبعد من الرواية الفلسطينية، متتبعاً الفكرة في الأدب العالمي والرواية العربية أيضاً.
تناص إلياس خوري بوعي كامل مع رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا» (١٩٦٩) لدرجة أن آدم المؤلف الضمني لأولاد الغيتو وصف لنا مشاعره حين قرأ الرواية قائلاً:
«الشعور بالحزن الذي ضربني حين قرأت رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا».. ولوهلة اعتقدت أن الروائي الفلسطيني يتكلم عني...».
مات آدم وربته منال ولم يكن يعرف شيئاً عن أبيه البيولوجي.
هل نعثر في روايات عربية وفلسطينية أخرى على أطفال فلسطينيين نجوا أو سرقوا وربوا ممن تبناهم؟
هنا أشير إلى رواية رضوى عاشور «الطنطورية «ورواية سوزان أبو الهوى» بينما ينام العالم أو صباحات جنين».
تأتي رضوى في روايتها على مذبحة صبرا وشاتيلا وتحكي عن الطفلة التي تبناها الطبيب الفلسطيني أمين كما لو أنها ابنته (ينظر الفصل ٢١ «هدية أمين» ص ١٧٧)، أما سوزان أبو الهوى فتكتب عن نكبة ١٩٤٨ وسرقة جندي إسرائيلي عقيم لا ينجب طفلاً من أمه ويربيه ليغدو مثل خلدون في رواية غسان كنفاني «عائد إلى حيفا».
النكبة تتكرر فصولها وتتكرر أحداثها وتتشابه قصصها ونحن نقرأ ما نعتقده في الروايات معاداً مكروراً، لا لأن الروائيين والروائيات يتناصون مع روايات سابقة وحسب، وإنما لأن تجاربنا وحكاياتنا في الواقع تتكرر أيضاً.
النكبة مستمرة ورحم الله الروائي إلياس خوري صاحب كتاب «النكبة المستمرة».
***
56- الطفل الفلسطيني القتيل
كتبتُ في الأسبوع الماضي عن الطفل الفلسطيني الباقي والناجي، وبعد قراءة المقال منشوراً تذكرت عبارة إميل حبيبي «أنا هو الطفل القتيل» التي جعلها محمود درويش وإلياس خوري عنواناً للمقابلة التي أجرياها معه، في العام ١٩٨٠ في براغ العاصمة التشيكية، ونشراها في العدد الأول من مجلة «الكرمل» الصادرة في شتاء العام ١٩٨١.
كانت سهام داود أعادت على صفحتها نشر المقابلة، فالتفت إليها سليم البيك محرر موقع رمان الإلكتروني وأعاد نشرها، وأرى أنها مقابلة مهمة لفهم إميل حبيبي وأدبه.
لقد أثارت العبارة «أنا هو الطفل القتيل» فضولي، فإميل عاش ستة وسبعين عاماً، وتأكدتُ من أنه لا يقصد القتل البيولوجي.
يروي إميل في المقابلة عن طفولته وعن أسرته، وعن اهتمامه بالأدب والسياسة، وعن العرب الباقين في أرضهم، يوم قامت الدولة الإسرائيلية، كما يروي عن الأنظمة العربية وتخلّيها عن فلسطين، بل وعن إسهام قسم منها في ترحيل الفلسطينيين خارج ديارهم وترك من تبقى منهم كالأيتام على مأدبة اللئام، كما يقص عن عزلة الباقين الأدبية وعن ثقافتهم العربية وحرصهم، رغم ذلك، على لغتهم. لقد عاشوا منسيين كما لو أنهم قتلى.
وذكرتني قراءة المقال أيضاً بما رد به في روايته «المتشائل» (١٩٧٤) على أسطر محمود درويش الشعرية:
«نحن أدرى بالشياطين التي تجعل من طفل نبياً».
يكتب إميل معقباً:
«ولم يدر، إلا أخيراً، بأن هذه الشياطين نفسها تجعل من طفل آخر نسيا منسياً».
ولطالما كتبت عن الطفولة الفلسطينية المنتهكة المسلوبة وأبرز ما كتبته هو عن طفولة محمود درويش نفسه - وأنا أدرس دال الطفولة في «جدارية» ( ٢٠٠٠ ) في ضوء أشعاره السابقة «الطفولة: لم أكن طفلاً سعيداً».
وأنا أتابع ما يجري في غزة لم يمرَّ يوم من الأيام الأربعمائة لأيام الحرب دون الالتفات إلى ما يلمُّ بالأطفال الذين يربو عدد القتلى منهم على الثمانيةَ عشرَ ألفاً، عدا الآلاف المشوهة منهم، واحترتُ كيف نصنّف الكتابة عن الأطفال في غزة الآن:
- الطفل الناجي
- الطفل المسروق
- الطفل المنسي
- الطفل القتيل
- الطفل المشوه
- الأجنة.
ربما يرى كثيرون منا أن قطاع غزة كله معاً ودفعة واحدة هو طفل العالم العربي القتيل الجديد كما رأى إميل حبيبي في الفلسطينيين الباقين في المناطق المحتلة في العام ١٩٤٨ الطفل القتيل في حينه، وكان واحداً منهم وكان يمكن أن يموت في أية لحظة، هو ابن العائلة المكونة من تسعة أفراد، سبعة ذكور وأنثيان وحين عاد من المنفى وبحث عن والديه اللذين تركا حيفا إلى قريتهم شفا عمرو وجد أمه فقط، فقد توفي أبوه وهاجر إخوتُه إلى لبنان.
كم صفحةً يحتاج الكاتب إن رصد مآسي الأطفال في غزة، بل كم مجلداً، وكم رواية سيكتب الروائيون عن هؤلاء الأطفال الذين تجاوز عددهم الـ ١٨ عشر ألفاً، وكم قصيدة سيكتب الشعراء؟!
ما من متابع لما يجري إلا ألم بقصة الدكتورة آلاء القطراوي المتخصصة في الأدب العربي والتي تكتب أيضاً الشعر. لقد فقدت أطفالها الأربعة إذ قصف بيت جدتهم حيث كانوا يقيمون، وظلوا ثلاثة أشهر تحت الأنقاض قبل أن يُعثر على جثامينهم ويُدفنوا في قبور. كتبت أمهم الشاعرة فيهم قصائد تقطر ألماً وتفيض حزناً حتى نعتها بعض الكتاب بـ «خنساء» فلسطين كما لقبوا فدوى طوقان بهذا من قبل؛ فدوى التي رثت إخوتها وأباها وآخرين من أبناء عائلتها ورموز الحركة الوطنية.
ما عليك إلا أن تتابع بعض الصفحات لتقرأ عن تايلا أخت توجان وتولين اللتين أتيتُ على ذكرهما في المقال الماضي، أو عن يوسف أبو شعر كيرلي، أو عن ديما محمد عوكل وشقيقتها ريما اللتين ارتقَتا في ٢٨ / ١٠ / ٢٠٢٤، بصحبة والدتهما سهاد محمد النجار في مخيم جباليا، في الوقت الذي يقبع فيه الأب / الزوج في السجن.
وتابع صفحة «أخبار غزة. متابعة» لتشاهد صورة عائلة لستة عشر طفلاً مع رجل كبير من العائلة تم محوها بالكامل ( ٥ / ١١ / ٢٠٢٤ ) .
وثمة صور تقطع نياط القلب لأمهات دفنَّ أبناءهن في الرمال وعُدن يبحثن عن قبورهم وأخذن يندبنهم.
ومما قرأته في صفحة «منار أيمن - متابعة» صرخة امرأة تقول «أولادي ٣ يا عالم... دوّروا بلكي بلاقي لي واحد عايش».
هل اختلف الأمر في جنوب لبنان؟
عنوان المقال هو «الطفل الفلسطيني القتيل» ولربما تتبع كاتب لبناني مأساة أطفال لبنان أيضاً، وقد لفت نظري وأنا أبحث في الموضوع صورة لأربعةِ أطفال قتلوا في ٣٠ / ١٠ / ٢٠٢٤ وكتب تحت الصورة «شهداء بلدة الصرفند اليوم».
النكبة مستمرة والمأساة أكبر مما نتصور و»أبكيكِ دماً يا طفولتي»!
***
57- أهل غزة: «إحنا مش بخير»
في صفحة يافا أبو عكر على «فيسبوك» تقرأ السطرين الآتيين: «النوم في الخيم كفيلة تخليك تحقد على كل العالم .. إحنا مش بخير».
عندما أدرجتُ ما كتبت يافا على صفحتي، قرأتُ التعليقات الآتية: «وأنت تعد فطورك.. لا تنس شعب الخيام»، و»كل الحق معك الله يفرجها»، و»حسبنا الله ونعم الوكيل»، و»نعم صدقت»، و»لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم»، و»المهم حكام العرب بخير وعافية»، و»في الصميم»، و»كلّ ما يحدث حالياً يجعلك تحقد على العالم»، و»والله إحنا لا يعلم بحالنا إلا الله»، و»النومة حلوة في الخيمة بس لو في أمن وهداة بال مثل بيت الشعر»، و»نعم لصناعة الرغيف لا لصناعة الصواريخ»، ولا نريد الرياح الشرقية»، أما في صفحة يافا فتلحظ، بعد ثلاثة أيام من نشرها السطرين ٣٣١٩ إعجاباً و ٣٤٧ تعليقاً، وما لا يقل عن ٢٩٠٠ مشاركة.
وتقرأ في صفحتها فقرات أخرى تصوّر ما ألمّ بأهل قطاع غزة، ومنها: «في غزة.. قد لا يتسنى لك الحصول على بطانيّة تلتحف بها إلا حين تصبح جثة؛ معظم هؤلاء الشهداء المكفنين لم يجربوا شعور الغطاء منذ ١٤ شهراً، وهؤلاء الذين منحوهم أغطيتهم الوحيدة يفعلون ذلك أملاً أن يجدوا مثلها إذا استشهدوا».
أو «تخيّل إلك سنة وأكثر عايش تتخيل كل لحظة كيف حينزل عليك الصاروخ»، و «ما أصعب هذه الليلة.. صوتُ غول السماء لا يفارقنا.. قريباً قريباً جداً منّا.. صوتٌ مرعبٌ لطيران الاستطلاع في المواصي».
وتعرض يافا صورة مئات الغزيين يتدافعون على التكايا بأيديهم صحونهم، وتكتب مُعلّقة: «المجاعة والمأساة في مدينة غزة تتجلى في هذه الصور.. يتجمع المئات حول التكية لمحاولة الحصول على حصة من العدس والبقوليات ليسد رمق جوعهم.. هذه مشاهد لم نعهدها من قبل، ولم يصل الناس والأطفال لهذه الدرجة من التحمل لولا المجاعة الحقيقية»، مضيفة: «صرخات أهالي الشهداء بمجزرة قصف مقهى بالمواصي هزت مشفى ناصر وهزت بدني.. يا الله اجبر قلوبهم يا الله».
«نازحون من الخيام ذهبوا إلى خيمة أوسع يسميها البؤساء (كافي شوب هابي تايم)/ في منطقة مواصي خان يونس، ليفتحوا شبكة نت ضعيفة وبائسة مثل أحوالهم، لعلهم يقرؤون خبراً جميلاً يمنحهم أملاً».. «عشرة أقمار صعدت أرواحهم وعدد آخر من الجرحى بعد أن باغتهم صاروخ».. «حلّ الليل على أهل غزة، باتت الأمنية الوحيدة هنا أن لا يأتي الظلام ويخيّم على المدينة المقهورة.. لا نريد أن نموت وننتظر الصباح ليجدوا أشلاءنا وما تبقى من جسد تشاهد بدل المرة ألف».. في الليل تدفن آلاف القصص التي تنتهي صباحا بـ»هنيئاً وجدنا جثته.. إنه شهيد شهيد». وكان ذلك شيء ممّا كتبته يافا في الفترة من ١٠ إلى ١٣ تشرين الثاني الجاري، ويمكن أن تتابع صفحتها لتقرأ المزيد عن الأيام السابقة.
موقع (N12) الإسرائيلي نشر تقريراً عمّا يجري في قطاع غزة عززه بشريط فيديو لمئات النازحين من مكان إلى آخر، ويسأل فيه المراسل عدداً من بسطاء أهلنا هناك، من نساء وأطفال، عن رأيهم فيما آلوا إليه والمسؤول عما جرى ويجري.
لا النساء كبيرات السن ولا الأطفال قرؤوا الشاعر اليهودي النمساوي إريك فريد، ليتلو على مسامع الجندي مقطعاً من قصيدته: «اسمع يا إسرائيل»، يقول فيه: «فتّش عن الأسباب»، والأسباب معروفة بدأت في العام ١٩٤٨، بل ومنذ بداية المشروع الصهيوني القائم على مقولة «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»، ولاحقاً على مقولة «أرض أكثر وعرب أقل» ، وفي الأدبيات الصهيونية على مقولة «العربي الجيد هو العربي الميت».
تحمل المرأة الفلسطينية العجوز التي تعاني، منذ السابع من أكتوبر، الويلات، تحمل أمتعتها على ظهرها، وبقجتها بيديها، ومثلها أطفالها أو أحفادها، وتبحث عن مكان جديد وطعام وشربة ماء حتى لا تموت من الجوع أو العطش، ويسير وراءها البقية الباقية من العائلة، ولكي تتمكن من المرور عبر الحاجز الإسرائيلي وتنجو تضع المسؤولية على حركة حماس.
الحق يقال إن ما يمرّ به أهل قطاع غزة الآن أقسى بكثير ممّا مر به أجدادنا وآباؤنا ونحن أيضاً مواليد الخيام في خمسينيات القرن العشرين.
في العام ١٩٤٨ هجر ٦٥٠ ألف فلسطيني وسكنوا أولاً في المدارس والجوامع ثم في الخيام حتى ١٩٥٨، وفي العام ١٩٦٧ أقيمت في الأردن مخيمات جديدة للنازحين، كالبقعة وشنلر، استمرت لفترة حتى استبدلت بيوت الصفيح بالخيام، ووقف اللاجئون والنازحون أيضاً طوابير طوابير؛ أمام عين الماء ومراكز التموين وتوزيع الإعاشة الشهرية والمطاعم والحمامات، وغيرها.
«إحنا مش بخير»، تكتب يافا أبو عكر، ونحن أيضاً، بقية الفلسطينيين غير المقيمين في غزة، لسنا بخير.. و «لسّة طويلة».
***
=============
51- تداعيات حرب ٢٠٢٣/ ٢٠٢٤: ما بين دجاجة الحسيني وخزان كنفاني وخازوق حبيبي؟
52- تداعيات حرب ٢٠٢٣ / ٢٠٢٤: «علـى قلـق كـأن الريح تحتي»
53- خسارات القصة والرواية الفلسطينية: في وداع رشاد أبو شاور
54- كتبوا أو رسموا واستشهدوا: صاحب «الشوك والقرنفل» شهيداً
55- الطفل الناجي في الحرب
56- الطفل الفلسطيني القتيل
57- أهل غزة: «إحنا مش بخير»
.