الإنسان كائن جنسي!
وهذه حقيقة لا يتعامى عن رؤيتها إنسان حي العقل وصادق الإنسانية، ومع ذلك عند الكتابة عن أية مسألة من مسائل الجنس في ثقافة مأزومة على كافة الصعد ولاسيما على الصعيد الجنسي كالثقافتين العربية والإسلامية، ليس من النادر أن يتعرض الكاتب لهجوم من قبل أصحاب الذهنية المحافظة التقليدية الذين يقترن لديهم الجنس بالعيب بشكل كلي، ويرون في الكتابة عن الجنس وقضاياه نشرا للفسق والرذيلة وانغماسا في الشهوانية، كما أنه ليس من النادر أيضا أن يتعرض الكاتب لنقد- قد يكون بعضه حادا- من قبل بعض من لا ينتمون إلى هذه الذهنية وقطعوا شوطا بيّنا على طريق التحرر والعلمنة والعلم، فبرأي هذه العينة: الاهتمام بقضايا الجنس والحب هو انشغال يتصف به العرب والمسلمين بخلاف باقي الناس الذين يعتبرونه نشاطا طبيعيا محضا ولا يشغلون أنفسهم بالتفكير به والكتابة عنه، وسبب ذلك هو أسوار الحظر التي رفعها المجتمع الذكوري المتدين عند العرب والمسلمين حول الجنس وحاصره بها وطوق التحريم الذي أحاطه به، لدرجة صار فيها الشخص يخشى الكلام عنه حتى بينه وبين نفسه، وبرأي العديد من هؤلاء الجنس هو حاجة مادية وبيولوجية، وهو أساس ما يسمى بالحب، وبهذا الشأن يقول أحد المفكرين العرب: "كل الحيوانات تمارس الجنس بقصد اللذة وبدافع الغريزة، وبما أن الإنسان هو الوحيد بينها القادر على الكذب فقد سماه حبا"!
بالطبع، تختلف النظرة إلى الجنس والمواقف منه في ثقافات وتواريخ الشعوب، وتتغير في الزمان والمكان والظرف، فتارة نجد الجنس يوضع في موضع الاحترام، وتارة يرفع إلى درجة القداسة، وحيناً يتم التعامل معه كأمر طبيعي اعتيادي، لكن في حين سواه يُحَط إلى دركة النجاسة، ويتم التعامل معه كفعل وضيع وكشر لا مفر منه!
ومما لا شك فيه أن للتابوهات الدينية المتداخلة مع العقد الذكورية الدور السيء الأكبر في تشويه صورة الحب والجنس في مجتمعاتها، ومنها مجتمعات العرب والمسلمين التي تنافس وتتنافس بجدارة على الصدارة في هذا الميدان في العالم المعاصر!
وتاريخيا اقترنت الصورة المتدنية للجنس والمرأة بهيمنة الرجل وانتشار الثقافة والأديان الذكورية، ولاسيما في الأديان الإبراهيمية!
بينما في العصر الأمومي، حيث كانت الألوهة تؤنث، وكانت المرأة هي السيدة في المجتمع، وكان الجنس يقترن بالخصب الذي يعتبر أساس الوجود والحياة، فقد كان الجنس طقسا له قدسيته، وكانت الأعضاء الجنسية تعتبر رموزا مباركة، وهذه النظرة ما تزال لها استمراريتها حتى اليوم في بعض المذاهب الدينية في بعض مناطق العالم، ومن أشهرها مذهب "التانترا" في الهند!
وبشكل عام الانشغال بالحب والجنس هو من القضايا المحورية في آداب وثقافات كل الشعوب، وهو بالطبع يُطرح ويتم تناوله وفقا لخصوصيات كل مجتمع، ويكفي دليلا على هذا أن نتابع ما ينتج سنويا من أفلام وفيديو كليبات عن الحب في مختلف بلدان العالم!
فالحب والجنس هما قضيتان جوهريتان في تكوين ونشاط الإنسان، ويخطئ من يظن أن (الغرب) المتقدم قد انتهى من هذه المسألة، وهي ليست مشكلة في حقيقتها، بحيث يمكن أن نجد لها حلا ناجعا في يوم من الأيام! فالجنس هو قوة إنسانية كبرى في الإنسان دائمة التجدد والتمظهر في أشكال اجتماعية وثقافية متغيرة متطورة مع تطور وعي وثقافة الإنسان.
وبالنسبة للغرب، نحن دائما نعاني من نوعين من الاستلاب في موقفنا منه بين من يشيطنه ومن يجعله قدوة مطلقة، وسأكتفي الآن بالدعوة لقراءة كتاب (أجيال في خطر) المنشور تحت عنوان (الإباحية ليست حلا)(1) وهو كتاب من تأليف أخصائية في علم النفس تعمل مرشدة نفسية في إحدى الجامعات الغربية، لنرى حجم المشكلة الجنسية في الغرب، ويمكنني شخصيا أن أضيف أنني شاهدت هذا عيانيا عند دراستي في الاتحاد السوفييتي السابق، ومدى الابتذال والاستهلاكية والخواء الإنساني في العلاقات ما بين الجنسين هناك، وأنا هنا لا أقول هذا الكلام انتصارا لثقافة الكبت الجنسي المتأزمة في مجتمعاتنا المتخلفة، بل عرضا لواقع الحال من زوايا مختلفة!
وفيما يخص الكتابة في موضوع الجنس، فعلينا أن نسأل أولا لماذا نكتب وعن الغاية من الكتابة نفسها في أي مجال؟!
بالطبع كل أدب أو فكر أو فن هو في جزء أساسي منه ابن واقعه، ومرتبط بحيثياته الواقعية على مختلف الصعد، والكتابة بدورها تشكل حالة انعكاسية ونقدية لهذا الواقع، ولذا يختلف مضمونها في الظرف والزمان والمكان، لكن الكتابة في جزئها الثاني هي فعل إبداعي، إنها عملية اكتشاف وخلق وقراءة للذات وإعادة تكوين للذات، والكاتب هنا يقف وجها لوجه أمام ذاته وأمام الكون ككل، ويعيد طرح أسئلة الوجود على نفسه، محاورا نفسه أولا، والآخرين ثانيا!
فإن لم نكتب عن الحب، ولم نكتب عن الجنس الآخر، ولم نكتب عن الله، ولم نكتب عن الإنسان، فعن ماذا سنكتب؟!
ولعل الجواب سيكون هو وما هو الداعي للكتابة؟ يمكننا أن نذهب خطوة أخرى في هذا المنحنى فنقول" وما هو الداعي للثقافة؟" ثم ننتهي إلى خلاصة مفادها وما هو "الداعي للإنسانية"؟!
وهذا فعليا ما تدفعنا إليه الرأسمالية النيوليبرالية المعولمة، المغرقة في ثقافة اللاثقافة والاستهلاك! التي يسميها الكثير من أبناء الغرب الرأسمالي نفسه بـ "الرأسمالية المتوحشة"! وفي حالة اللاثقافة هذه يصبح رأي كالرأي المذكور في المقدمة عن كذبة الحب شكلا من أشكال الاستجابة السلبية الانعكاسية للواقع اللاإنساني!
وهو رأي صاحبه في المحصلة!
وهذا الرأي قد طرح مرات ومرات من قبل مفكرين كبار، لم يروا في الإنسان إلا شكلا من أشكال الحيوانات المتطورة، فبرأي إيميل زولا- وهو من ممثلي مدرسة "الواقعية الطبيعية" المتميزين- الذي أوجزه الدكتور عبد الهادي صالحة في ما يلي:" الإنسان هو حيوان تسيره غرائزه الطبيعية و حاجاته العضوية، ولذا فسلوكه وفكره ومشاعره هي نتائج حتمية لبنيته العضوية ولما تقوله قوانين الوراثة، وأما حياته الشعورية والعقلية فظاهرة طفيلية تتسلق على حقيقته العضوية. وكل شيء في الإنسان يمكن تحليله ورده إلى حالته الجسمية و إفرازات غدده)(2)، وهذا النوع من الفكر المادي سماه فلاسفة الماركسية بـ "المادية المبتذلة"!
أوشو بدوره يطرح شيئا مشابها عن الحب كقناع للجنس(3)، رغم بعده الشاسع عن الفلاسفة الغربيين والمفكرين الماديين والعقلانيين في طبيعة التفكير والتعاطي مع الجنس!
وفي الختام يحق لي أن أسأل: لماذا علي أن أصدق فلان أو فلان وأكذب نفسي؟!
ما يقوله هذا أو يراه ذاك هو حصيلة تجربته المعاشة والفكرية في المجال المعني!
ووفقا لتجربتي أقول بثقة أن الحب حقيقة عليا، وهي عليا بقدر ما تعلو في وبإنسانيتنا وبالعكس!
وكتابتي في هذا المجال تتم وفق تصوري لشكل أرقى وأسمى من أشكال الإنسانية، التي لا تتأطر فقط في البعد الاجتماعي للإنسان، بل وتمتد بلا حدود في كونية الإنسان!
لكن من نافل الكلام التذكير بأن الاختلاف في الرأي لا يفسد للود قضية، وفي الفكر تكون الفكرة المختلفة أو المخالفة ذات قيمة كبيرة، فهي من ناحية ترينا جانبا آخر تفوتنا رؤيته من المسألة، ومن ناحية أخرى قد تطرح سؤالا مستفزا ينقل النقاش في المسألة والتعاطي معها إلى دائرة جديدة، تغني المسألة وتوسع أفق معالجتها.
والخلاصة أن أهمية الكتابة في وعن الجنس ومسائله ومشاكله وجوانبه المتعددة، لها أهميتها وضروراتها التالية:
- فهي فعل إصلاحي، فالنقص دوما موجود في كل مجالات النشاط والإنتاج الإنساني، والكتابة عنها تعري مكامن الثغرات ومواضع العيب فيها، وتطرح إمكانيات وكيفيات تحسينها وجعلها أفضل!
وهذه المسألة تصبح أهميتها مضاعفة في المجتمعات المتخلفة كالمجتمعات العربية والإسلامية، حيث تكون حجوم المشاكل مضاعفة وجذورها مستفحلة، وتجد الكتابة نفسها في مواجهة نوعين من التحديات:
- تحديات المشكلة في ميدانها الخاص.
- وتحديات التخلف على المستوى العام.
- وهي فعل تربوي-ثقافي، فالتربية والثقافة خاصيتان وضرورتان من خواص وضرورات الإنسان فردا ومجتمعا، ولا يمكن للإنسان أن يحقق إنسانيته إلا بوجود التربية والثقافة على كافة الصعد، ولاسيما الصعيد الجنسي، الذي يتم كعلاقة كيانية حميمية بين الإنسان والإنسان كفرد، ويرتبط بالاستمرارية والبقاء على مستوى النوع!
- وهي فعل تجديدي تطويري، فالعالم البشري عالم متطور، والتطور إحدى أهم ميزاته ولوازمه، والعلاقات الجنسية فيه لا تخرج من إطار التغير والتطور، وبالتالي تلعب الكتابة فيها دورها الهام في المواكبة الاستجابية للتطور من ناحية، وفي المبادرة الفتحية له من ناحية أخرى!
- وهي أخيرا فعل إبداعي، فالإنسان كائن خلاق مبدع، وهو يمارس التخليق ويقوم بالإبداع في كافة مجالات حياته، والجنس بصفته العلاقة والنشاط الأكثر حميمة وحرارة لدى الإنسان، يمكنه أن يكون مجالا واسعا وعميقا للإبداع والجمال فنا وأدبا وفكرا وسواها..
هذا طرح موجز لأهمية وضررة الكتابة الجنسية، التي يجب أن تأخذ دورها ومكانها ومكانتها ضمن مجالات الكتابة الأخرى، وتتكامل وتتضافر معها في عملية الإبداع والتطوير وبناء الإنسان الشاملة!
***
[1] - مريام جروسمان، أجيال في خطر، ترجمة وائل الهلاوي بعنوان "الإباحية ليست حلا"، إصدارات سطور الجديدة،2011.
[2] - عبد الهادي صالحة، مقالة غي دو موباسان.. تشيكوف فرنسا، محلة المعرفة السورية، العدد 549، حزيران\يونيو 2009م، ص 81.
[3] - أوشو، التانترا الطاقة والنشوة، ترجمة مكسيم بيان صالحة، دار نوافذ للنشر، دمشق، 2012.
***
المقال منشور أيضا على:
- الحوار المتمدن
- صوت العلمانية
***
[SIZE=4]و أهلا و سهلا بكم إلى
مدونة رسلان عامر على جست بيست إت[/SIZE]