في العصر العباسي ظاهرة غريبة تلذ الباحث بطرافتها ولطافتها، هي التحامق وإظهار البلاهة تارة والغفلة مرة
وقد تدهش بادئ ذي بداءة وتعجب؛ فإذا انثنيْتَ على نفسك مفكراً متأملاً معتبراً، أو مقايساً باحثاً، علمتَ أن في هذا التحامق من الصواب ما ينبئ عن حدة ذهن، ودقة فهم، وجودة حدس
فلقد وجد الناس في ذلك ضروباً من الفائدة، فكانوا يلجئون إليه كلما ضاق عليهم الأمر، وعسرت أمامهم المسالك؛ فينالون ما يشتهون، ويحظون بما يحبون. وما كانوا ليتحامقوا بعد علمهم أن أولئك الناس العوام أشدُّ منهم حمقاً، وأقل فطنة، وأكثر غباوة. وما لهم لا يتحامقون في عصر قال العتابيُّ الشاعر عن ناسه إنهم بقر لا يفقهون
فقد ذكروا عن عثمان الوراق أنه رأى العتابي الشاعر يأكل الخبز على الطريق بباب الشام (في بغداد)، فقال له: ويحك، أما تستحي؟ قال: أرايت لو كنا في دار بقر كنتَ تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟ قال الوراق: لا. قال فاصبر حتى أعلمكَ أنهم بقر. فقام العتابي، فوعظ وقصَّ ودعا؛ حتى كثُرَ الزحام عليه، ثم قال لهم: (روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار!) فما بقى أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدّره يبلغُها أم لا. . . فلما تفرّقوا التفت العتابي إلى صاحبه وقال: (ألم أخبرك أنهم بقر. . .؟!)
وكان أناس يرون في الحمق الرَوْح والراحة، وطيب العيش فسعوا إليه، وتحدّث الشعراء بذلك، فقال أحدهم:
الروح والراحة في الحمق
وفي زوالِ العقلِ والخُرْق
فمن أراد العيش في راحةٍ
فليلزمِ الجهلَ مع الحمقِ
وما ذلك إلا لأن العقل كان عدو الإنسان في ذلك الزمان.
يقول الشاعر القُمَّي:
تحامق، تطبْ عيشاً ولا تكُ عاقلاً
فعقلُ الفتى في ذا الزمان عدوّه
ولأن من يتحامق يربح ويستريح. فقد سُئل مرة زيد بن سعيد العبدي عن تحامقه، فقال: (جَددت فشقيتُ، ثم تحامقتُ فأرحتُ واسترحت)
وكان أناس آخرون يتحامقون لينالوا الغنى. قالوا إنه كان في بغداد رجل عاقل، أديب فَهْمٌ، شاعر، يقال له عامر. وكان مع أدبه محرماً مجازفاً. فلما ضاق صدره، أظهر التحامق والتجانن، فتفقده صاحب له، وجعل يطلبه حتى ظفر به في بعض القرى، وحوله الصبيان، يضحك ويضحكون، فقال له: يا عامر، مذ كم صرت بهذه الحال؟ فقال:
جنَنْتُ نفسي لكي أنال الغنى
فالعقل في ذا الزمان حِرمان
وقد يدرك المتحامق الملوك بتحامقه فتحسن حاله، ويزيد ماله. قالوا إن علياً القصريُّ كان ممن يجيد الشعر؛ وكان محروماً لا يؤبه له. فتحامقَ وأخذ في الهزل، فحسُنت حاله، وراج أمره، حتى أن الملوك والأشراف أولعوا به، فأفاد من هزله وحمقه المال الوافر، والنشبَ الكثير. وذلك لأنه:
إن كنتَ تهوى أن تنال المالا
فالبس من الحمقِ غداً سربالاً
فيسهل ما عسر، وتوسر وتغنى، ... وتقوم بقوت عيالك وأهلك
عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقلهم ألذُّ وأحلى
ولقد قلتُ حين أغروا بلوْمي=أيها اللائمون في الحمق مهلا
حمقى قائمٌ بقوت عيالي ... ويموتون إن تعاقلت هزلا
وقد يتحامقون لينجوا من آفة أو بلاء. أُدخِل عُبادةُ المخنث على الواثق، والناسُ يُضربونَ ويُقتلون في الامتحان. (قتال): فقلتُ والله لئن امتحنني قتلني؛ فبدأته، فقلت: أعظم الله أجرك أيها الخليفة. قال فيمن؟ قلتُ في القرآن! قال: ويحك، والقرآن يموت؟ قلت: نعم، كل مخلوق يموت. فإذا مات القرآن في شعبان فبأيش يصلِّي الناس في رمضان؟ قال: أخرجوه فإنه مجنون!
وكثيراً ما كان العلماء يتحامقون أو يتجانّون إذا دُعوا إلى القضاء. وكانوا يرون فيه مهلكة لا ينجو منها إلا من رحم الله. ويخافون أن يزلّوا فيعاقبوا. دعا المنصور أبا حنيفة وسفياناً الثوري، ومسعراً، وشريكاً، ليوليهم القضاء. قال أبو حنيفة: أنا أتحامق فيكم، فأُقال وأتخلص. وأما مسعر فيتجان ويتملص، وأما سفيان فيهرب. وأما شريك فيقع. فدخلوا على المنصور، فتحامق أبو حنيفة، وتجانن الثوري ومسعر، فنجوا
ومثل هذا فعل عبد الله بن وهب لما دعاه الخليفة ليتولى قضاء مصر، فقد تجنن نفسه، فلزم بيته
وقد حفلت كتب الأدب بنوادر رائعة، غير ما ذكرنا، عن التحامق والتجانن في هذا الباب، فمن أطرف ما يروى في ذلك أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء. فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد. فخرجَ على أن يسأل أول من نظر إليه. فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عَظم، وسوّد وجهه، وركب قصبته. فسلَّم عليه الرجل، وقال له: مسألة. فقال المجنون: سل ما يعنيك، وإياك وما لا يعنيك. قال الرجل: فقلت مجنون والله، ثم حدثته أني أصبتُ من النساء بلاء، وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس، وأنت تمام المائة. فقال اعلم أن النساء ثلاث. واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك. فأما التي لك، فشابة طرية لم تمس الرجال؛ فهي إن رأت خيراً حمدت، وإن رأت شراً قالت: كل الرجال على مثل هذا. وأما التي عليك، فامرأة ذات ولد من غيرك، فهي تسلخ الزوج لتجمع لولدها. وأما التي لا لك ولا عليك، فامرأة قد تزوجت قبلك. فإن رأت خيراً قالت هكذا يجب، وإن رأت شراً، حنت إلى زوجها الأول. فأعجبني كلامه، وملأ نفسي، فسألته ما الذي غير من أمره: قال. رشحت للقضاء، فاخترت ما ترى على القضاء
فهذي طرف تضحك بادئ ذي بدء، فإذا تأملها الإنسان وجد في عمل أصحابها العقل الحسن؛ والتدبير الحازم، والرأي السديد
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
مجلة الرسالة - العدد 581
بتاريخ: 21 - 08 - 1944
وقد تدهش بادئ ذي بداءة وتعجب؛ فإذا انثنيْتَ على نفسك مفكراً متأملاً معتبراً، أو مقايساً باحثاً، علمتَ أن في هذا التحامق من الصواب ما ينبئ عن حدة ذهن، ودقة فهم، وجودة حدس
فلقد وجد الناس في ذلك ضروباً من الفائدة، فكانوا يلجئون إليه كلما ضاق عليهم الأمر، وعسرت أمامهم المسالك؛ فينالون ما يشتهون، ويحظون بما يحبون. وما كانوا ليتحامقوا بعد علمهم أن أولئك الناس العوام أشدُّ منهم حمقاً، وأقل فطنة، وأكثر غباوة. وما لهم لا يتحامقون في عصر قال العتابيُّ الشاعر عن ناسه إنهم بقر لا يفقهون
فقد ذكروا عن عثمان الوراق أنه رأى العتابي الشاعر يأكل الخبز على الطريق بباب الشام (في بغداد)، فقال له: ويحك، أما تستحي؟ قال: أرايت لو كنا في دار بقر كنتَ تستحي وتحتشم أن تأكل وهي تراك؟ قال الوراق: لا. قال فاصبر حتى أعلمكَ أنهم بقر. فقام العتابي، فوعظ وقصَّ ودعا؛ حتى كثُرَ الزحام عليه، ثم قال لهم: (روى لنا غير واحد أنه من بلغ لسانه أرنبة أنفه لم يدخل النار!) فما بقى أحد إلا أخرج لسانه يومئ به نحو أرنبة أنفه ويقدّره يبلغُها أم لا. . . فلما تفرّقوا التفت العتابي إلى صاحبه وقال: (ألم أخبرك أنهم بقر. . .؟!)
وكان أناس يرون في الحمق الرَوْح والراحة، وطيب العيش فسعوا إليه، وتحدّث الشعراء بذلك، فقال أحدهم:
الروح والراحة في الحمق
وفي زوالِ العقلِ والخُرْق
فمن أراد العيش في راحةٍ
فليلزمِ الجهلَ مع الحمقِ
وما ذلك إلا لأن العقل كان عدو الإنسان في ذلك الزمان.
يقول الشاعر القُمَّي:
تحامق، تطبْ عيشاً ولا تكُ عاقلاً
فعقلُ الفتى في ذا الزمان عدوّه
ولأن من يتحامق يربح ويستريح. فقد سُئل مرة زيد بن سعيد العبدي عن تحامقه، فقال: (جَددت فشقيتُ، ثم تحامقتُ فأرحتُ واسترحت)
وكان أناس آخرون يتحامقون لينالوا الغنى. قالوا إنه كان في بغداد رجل عاقل، أديب فَهْمٌ، شاعر، يقال له عامر. وكان مع أدبه محرماً مجازفاً. فلما ضاق صدره، أظهر التحامق والتجانن، فتفقده صاحب له، وجعل يطلبه حتى ظفر به في بعض القرى، وحوله الصبيان، يضحك ويضحكون، فقال له: يا عامر، مذ كم صرت بهذه الحال؟ فقال:
جنَنْتُ نفسي لكي أنال الغنى
فالعقل في ذا الزمان حِرمان
وقد يدرك المتحامق الملوك بتحامقه فتحسن حاله، ويزيد ماله. قالوا إن علياً القصريُّ كان ممن يجيد الشعر؛ وكان محروماً لا يؤبه له. فتحامقَ وأخذ في الهزل، فحسُنت حاله، وراج أمره، حتى أن الملوك والأشراف أولعوا به، فأفاد من هزله وحمقه المال الوافر، والنشبَ الكثير. وذلك لأنه:
إن كنتَ تهوى أن تنال المالا
فالبس من الحمقِ غداً سربالاً
فيسهل ما عسر، وتوسر وتغنى، ... وتقوم بقوت عيالك وأهلك
عذلوني على الحماقة جهلاً ... وهي من عقلهم ألذُّ وأحلى
ولقد قلتُ حين أغروا بلوْمي=أيها اللائمون في الحمق مهلا
حمقى قائمٌ بقوت عيالي ... ويموتون إن تعاقلت هزلا
وقد يتحامقون لينجوا من آفة أو بلاء. أُدخِل عُبادةُ المخنث على الواثق، والناسُ يُضربونَ ويُقتلون في الامتحان. (قتال): فقلتُ والله لئن امتحنني قتلني؛ فبدأته، فقلت: أعظم الله أجرك أيها الخليفة. قال فيمن؟ قلتُ في القرآن! قال: ويحك، والقرآن يموت؟ قلت: نعم، كل مخلوق يموت. فإذا مات القرآن في شعبان فبأيش يصلِّي الناس في رمضان؟ قال: أخرجوه فإنه مجنون!
وكثيراً ما كان العلماء يتحامقون أو يتجانّون إذا دُعوا إلى القضاء. وكانوا يرون فيه مهلكة لا ينجو منها إلا من رحم الله. ويخافون أن يزلّوا فيعاقبوا. دعا المنصور أبا حنيفة وسفياناً الثوري، ومسعراً، وشريكاً، ليوليهم القضاء. قال أبو حنيفة: أنا أتحامق فيكم، فأُقال وأتخلص. وأما مسعر فيتجان ويتملص، وأما سفيان فيهرب. وأما شريك فيقع. فدخلوا على المنصور، فتحامق أبو حنيفة، وتجانن الثوري ومسعر، فنجوا
ومثل هذا فعل عبد الله بن وهب لما دعاه الخليفة ليتولى قضاء مصر، فقد تجنن نفسه، فلزم بيته
وقد حفلت كتب الأدب بنوادر رائعة، غير ما ذكرنا، عن التحامق والتجانن في هذا الباب، فمن أطرف ما يروى في ذلك أن رجلاً آلى بيمين أن لا يتزوج حتى يستشير مائة نفس لما قاسى من بلاء النساء. فاستشار تسعة وتسعين نفساً وبقي واحد. فخرجَ على أن يسأل أول من نظر إليه. فرأى مجنوناً قد اتخذ قلادة من عَظم، وسوّد وجهه، وركب قصبته. فسلَّم عليه الرجل، وقال له: مسألة. فقال المجنون: سل ما يعنيك، وإياك وما لا يعنيك. قال الرجل: فقلت مجنون والله، ثم حدثته أني أصبتُ من النساء بلاء، وآليت أن لا أتزوج حتى أستشير مائة نفس، وأنت تمام المائة. فقال اعلم أن النساء ثلاث. واحدة لك، وواحدة عليك، وواحدة لا لك ولا عليك. فأما التي لك، فشابة طرية لم تمس الرجال؛ فهي إن رأت خيراً حمدت، وإن رأت شراً قالت: كل الرجال على مثل هذا. وأما التي عليك، فامرأة ذات ولد من غيرك، فهي تسلخ الزوج لتجمع لولدها. وأما التي لا لك ولا عليك، فامرأة قد تزوجت قبلك. فإن رأت خيراً قالت هكذا يجب، وإن رأت شراً، حنت إلى زوجها الأول. فأعجبني كلامه، وملأ نفسي، فسألته ما الذي غير من أمره: قال. رشحت للقضاء، فاخترت ما ترى على القضاء
فهذي طرف تضحك بادئ ذي بدء، فإذا تأملها الإنسان وجد في عمل أصحابها العقل الحسن؛ والتدبير الحازم، والرأي السديد
(دمشق)
صلاح الدين المنجد
مجلة الرسالة - العدد 581
بتاريخ: 21 - 08 - 1944