هذا كتاب ممتع مفيد، طبَعَه يحيى حَقي طبعةً زهيدة. وهو يتكون من 230 صفحة من القطع الصغير ( 15 سنتم طولاً َو10 عرضاً )، ومعظم صفحاته تضمَّ ثمانيةً وعشرين سطراً ، كل سطر يتألف في الغالب من ثمان كلمات، ولو طبَعَه كما تُطْبَع الكتب اليوم، لامتدت صفحاته إلى أكثر من خمسمائة صفحة حسب تقديري، وقد تصل إلى قدر أكبر من الصفحات، ولجاء الغلافُ أنيقاً براقاً ذا ألوان زاهية جذابة، أو لزينَ بلوحة فنية لرسام عالمي أو لمُصمِّمِ أغلفِةِ الكتب في المطبعة. وفي الغالب يهيمن الجانبُ التجاري في هذه العَمَلِية، في حين قد يكونُ مضمونُ الكتابِ هزيلاً ،بناءً ودِلالَة، ولا يعكس جمالية الغلاف. ما يجعلنا نطلق عليه المثل الشعبي السائر المغربي: " يَالْمْزُوَّق مِنْ برَّة آش اخْبَاركْ منْ دَاخِل" ، وذلك بعد أن نطلع على ما بين دفتي الكتاب. كان يحيى حقي من الزَّاهدين في المظاهر والأَضْواء ، فأغْلَبُ ما نَشَرَهُ منْ من كتب ، طبعَه في طبعاتٍ زهيدة في مُتَناوُلِ جَميع فئاتِ المُجتمع، محققاً بذلك حقيقةً شعارَ (القراءة للجميع )، فقد طبع أهمَّ كتبه وأشهرَها في سلسلة "اقرأ"التِّي كانتْ تُصْدِرها دارُ المعارف بمصر ، أو في سلسلة "الكتاب الذهبي " ، نذكر منها هنا على سبيل المثال:"قنديل أم هاشم" ـ "دماء وطين"( سلسلة اقرأ ) ـ "أم العواجز "( سلسلة الكتاب الذهبي )؛ أوفي طبعاتٍ أخرى بعيدة عن الهاجس التجاري، مثل " خليها على الله " و" أنشودة البساطة " و"عنتر وجولييت " و"تعال معي إلى الكونسيير " و "كناسة الدكان "... كما أنه أعاد نشرَ روايته القصيرة الذائعة الصيت " قنديل أم هاشم" مع جيرانها بالإضافة إلى سيرته الذاتية الموجزة في كتاب " القراءة للجميع ". وكان لتقريرها في مقرر المؤلفات ببلادنا الفضل في إعادة طبعها من جديد بموجب اتفاق بين دار الثقافة / الأحباس الدار البيضاء ودار المعارف بمصر ( سلسلة اقرأ ) تحت إشراف وزارة التعليم المغربية.
أما كتاب " عطر الأحباب " الذي سنحاول مقاربتَه هنا ، فقد تمَّ طبعُه في مطابع الأهرام سنة 1971م. وهو كتاب على صغر حجمه ، غزير العلم، عظيم الفائدة. ويتألف من قسمين :
أ ـ القسم الأول : ويضم العناوين التالية :1ـ تنقيب / 2 ـ محاولة / 3 ـ فتح الباب / 4 ـ جِدٌّ وفكاهة / 5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي / 6 ـ الوجه من خلال الأثر.
ب ـ القسم الثاني : ويشتمل على الدراسات التالية :
1 ـ " رباعيات صلاح جاهين " / 2 ـ الأستتاكية والدينامية في أدب نجيب محفوظ / 3 ـ سخرية الناي لمحمود طاهر لاشين/ 3 ـ "عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حقي / 5 ـ "اللوحات القَلَمية" للشيخ مصطفى عبد الرَّازق / 6 ـ عباس علام .
وسنرصد في هذه القراءة الفصول التي تنضوي تحت كل من القسميْن :
أـ القسم الأول :
1 ـ تنقيب : ما يشغل يحيى حقي في هذا الفصل من كتابه، هو قضايا إنسانية عميقة، يتصل بعضها بالهموم الروحية التي يعانيها الإنسان في عصرنا الحديث في جل أرجاء العالم ، وهذه الهموم التي ألمحَ إليها هي التي سيعتمدها لتفسير أمراض الإنسان العقلية والبدنية. ويرجع الكاتب مأساة الإنسان الروحية إلى التخلي عن المنطق المفهوم والمعقول ،والانغمار في اللامَنطقي واللامفهوم واللاَّمَعقول ، وذلك لكي يصل بعد هذه المشقة الشاقَّة والجُهد الجَهيد إلى معاني عبر عنها السابقون بأيسر العبارات وأسهل الألفاظ. يقول توفيق الحكيم في مسرحيته " يا طالعَ الشجرة": " أصبحَ اللامنطق هو المنطقُ الوحيد المقبول" ( ص: 9 من كتاب "عطر الأحباب ") . وفي هذا الصدد يشير يحيى حَقي إلى أن الإنسانية، لم تربح من حروبها إلا موت آلاف البشر، وهو يعني هنا الحرب العالمية قريبة العهد بالكاتب التي لم تنته بانتصار طرفٍ على آخر. ( انظر ص: 6 )، ثم يتطرق الكاتب بعد ذلك إلى قضيتين على درجة كبيرة من الأهمية هما : أ ـ العقيدة الدينية ، وهل الأديان تصلح للحقبة التي نزل فيها الوحي ليعالج شؤون الناس الراهنة، أم أنها غير زمنية ( غير تاريخية ) تصلح لكل زمان ومكان عبر تعاقب الأزمان رغم ما يطرأ على المجتمع الإنساني من متغيرات؟ / ب ـ فصل الدين عن الدولة الذي عرفته أوروبا في القرن 19 . ويذهب المؤلف إلى أن اليهود هم الذين روجوا للأنظمة التي ظهرت في الغرب ، وخاصة المبادئ الديموقراطية ( المساواة والعدالة الاجتماعية.. ) من أجل تحقيق مصلحتهم المتمثلة في جعلهم يتمتَّعون بكل حقوق المواطنة التي يتمتع بها أهل البلد ( ص: 15 ). ويرى يحيى حَقي أن الأقلية اليهودية في كل الدول الغربية، انتفعت من هذه الأنظمة الجديدة، حيث صارت تتمتع بجميع الامتيازات والحقوق: بجنسية البلاد التي تقيم بها، فضلا عن الجنسية الإسرائيلية الصهيونية.
2 ـ محاولة: يشيرُ المؤلف هنا إلى تعدد القراءات في النص الفني الواحد، وأن ليس ثمَّةَ حقيقة يمتلكها رأي واحد كله لنفسه، بل إن الأحكام نسبية. لذلك عرف الفن التقسيمات إلى مذاهب ومدارس مختلفة. ويعتبر يحيى حقي الانتقال التاريخي من مذهب إلى آخر نمواً طبيعياً وليس ثورة قامت لتهدم المذهب الذي سبقها، ذلك "أن من أمتعِ قضايا الفن ـ في رأيه ـ هو تقدير نصيب الموروث والمبتكَر في كل مذهبٍ جديد " ( ص : 15 ). إن موقفه بعيد عن التطرف والجنوح لطرف دون آخر ، وهو لا يقول مع القائلين " هل غادر الشعراء من متردمِ " و" لا جديد تحت الشمس ". إنه خصم للشمول والأحكام القاطعة في الفن"، بل إنه يرى أن كلَّ جديد مبتكر لا يخلو من عناصرَ موروثة، وإن بدا أنها خفيت في بعض الأحيان. إن الكاتب يعتبر التحول من جيل إلى جيل مثل تبدل الأزياء حسب تغير الأذواق. وإذا تغيَّر الزِّي ُّ فإنَّ البَدَنَ لا يتغير. ويرى " أن الفنَّ الأصدقَ هو الذي يخاطبُ المعدنَ الأصيلَ في كل شعبٍ كما يبدو في آخر زيٍّ له. " ( ص: 17 )
3 ـ فتح الباب: ينتقلُ بنا يحيى حقي في هذا الفصل إلى الحديث عن جوستاف فلوبير الذي عرف بتجويد كتابته وأسلوبه ودعوته إلى الموضوعية وإخفاء ذات المؤلف، وعدم ظهوره من خلال مؤلفاته. فــ"على الأديب أن يشابهَ اللهَ في خلقه.. أنْ نشعرَ به في كلِّ مكان دون أن نلمحه"( ) ، ويرى المؤلف أنَّ فلوبير أراد أن يضع للقصة ( الرواية) "فناً له أحكامُهُ الضابطة لماهيته وشكلِه، فنّاً مستقلاً عن الأنواع الأدبية الأخرى: المقامة والمقالة والمواعظ والخطب المنبرية والأبحاث الأدبية .. والسيرة و التاريخ المتخيل والريبورتاج الصحفي وغيرها. ( انظر ص: 21 ) ويذكر الكاتب أن فلوبير يرى أن قيمة هذه الأعمال لا يمكن إنكارها، لكن بشرط أن يبقى كلُّ فرع في مجاله. ووسيلتها الوحيدة هي التعبير بالحادثة وبالتفاعل المستمرين بين الشخصيات، بحيث تنمو في تدرجٍ، بعيداً عن المباشرة والموعظة. ( ص: 21 )، لكن يحيى حَقي ليس مع الغلوِّ في الموضوعية في الكتابة الروائية كما عند فلوبير ، بل إنه "يعتبرُ أكبَرَ جريرةٍ في تطبيق هذا المنهج هو صرفُ الاهتمام عنْ صاحبِ النص إلى النص ذاته. ويرى أنهُ ليس في الوجود شيء قائم بذاتِه اسمُهُ الفَنّ، بل الموجود هم الْفنَّانونَ وليسَ غير . هم العباقرة الأفذاذ الذينَ ينشرونَ النُّورَ في هذه الأرض.. إنَّ في جمجمة كُلِّ واحدٍ من الأسرار والقوى ما يماثلُ في الرَّوعةِ جلائلَ المعجزات الخارقة.. فالمطلب الجدير بالتقديم هو أن نعرفَهم من أجلِ أن نعرفَ مِزاجَهم ، لا أن يطلبَ منهم أتباع فلوبير أن يختفوا وراء الستار .. وألا ينطِقُوا إلا بفم الغير الذي لا يطابقهم" ( ص: 24 ).
ونحنُ إذا ما عدنا إلى تطور الدراسات النقدية والأدبية ، نجد أنها سارت في عدة اتجاهات : فمن الأعمال (المضمونية) الإيديولوجية، سواء على مستوى التنظير أو الإبداع عند تروتسكي و غوركي وغيرهما من الاتجاه الماركسي ، إلى الشكلانيين الروس الذين عنوا بمكونات الخطاب الأدبي ومبناه الحكائي. يقول جاكبسون : " إن موضوعَ علمِ الأدب ليس هو الأدب وإنما الأدبية ( Littérarité) ، وبذلك حصروا اهتمامهم في نطاق النص" ( ) ، والاتجاه الاجتماعي وبالتحديد البنيوية التكوينية عند لوسيان كَولدمان الذي اهتمَّ بالشكل الروائي نفسِه ، وعلاقته ببنيات الحياة الاقتصادية في المجتمعات الغربية. ( ) أما نظرية التلقي التي ظهرتْ في ألمانيا على يد روبرت س هولاب ( ) وإيزر ( )، فكان لها الفضل في إعادة الاعتبار للمتلقي الذي تم تهميشه في البنيوية الشكلية وغيرها، مع أنه يشكل الطرف الثالث إلى جانب المؤلف والنص ، فالأدب في هذه النظرية " ينبغي أن يُدرسَ بوصفه عمليةَ جدل بينَ الإنتاج والتلقي ، فالأدب والفن لا يُصبحُ لهما تاريخٌ له خاصية السياق إلا عندما يَتحققُ تعاقبُ الأعمال ، لا من خلال الذات المنتِجة ، بل من خلالِ الذاتِ المستهلِكة كذلك، أي من خلال التفاعل بين المؤلف والجمهور ." ( )
4 ـ جدٌّ وفُكاهَة:
في هذا الفصل من القسم النَّظري، يدعو المؤلف القارئ إلى أن يتلقى النص الأدبي بحرية ، مباشرة دون وسيط، فهو يحب أن يجعل المتلقي مستمتعاً بالعمل الفني بقدر ما يحب ، وأن يفيدَ منه حسبما يشاء ، ذلك أن الكاتب "يريد أن يعيدَ التعادل بين القراء والنقاد. يتفاعلُ المتلقي مع النص بصفة مباشرة أولاً، ثم بعد ذلك يمكنه قراءة النقد ما عَصَمَه ما ملكَ من حرية وإرادة أن يساق سَوقَ القَطيع" ( ص: 25 ). يَذكر لنا يحيى حَقي أمثلةً من واقع التاريخ الأدبي: ففي العصر الجاهلي والعصر الأموي أو العباسي ،مثلاً، لم يكن الشاعر بجانبه ناقد واحد محترفٌ "يضعُ النظريات ويقَنِّنُ القوانين " ( ص: 26 )، بل كان الشَّاعرُ النَّاشئُ ، يقصد شاعراً يَكْتوي بنار الإبداع الشعري مثله، فيعرضُ عليه شعرهُ، ويستنيرُ برأيه، فكان الرأي الذي يسمعُه الشاعرُ بمثابة الغذاء له لا الدواء.( ص: 26 ). يرى الكاتب هنا أن ذلك العهد كان فيه الأدب يمتص النقد، بينما في عصرنا الحالي كاد يمتص النقد الأدب، فأمسى" اعتماد هم على التفسير اللاحق للمعنى " ( ص: 27 ) "و كانَ الأدب لقاءً بين قارئ عاشق ومؤلف معشوق، يقوم كما يقوم الحب بين طرفين. في هذا الفصل ينقد الكاتب أدب اللامعقول والمذهب السُّريالي في الفن والشعر، معترفاً بعدم فهم نصوصهما ولوحاتهما المغرقة في الإبهام، ويذكر على سبيل المثال مسرح بيكيت ( "في انتظار غودو" و"نهاية اللعبة "، وقصائد مجلة "شعر"اللبنانية لتوفيق الصايغ ( 1957 ) ولوحات الفن السُّريالي). إنَّ يحيى حَقِّي رغم قراءاته الواسعة في الأدب الغربي وفنونه، واطلاعه على الاتجاهات الأدبية الجديدة عربياً وغربياً، فإنه كان لا يسير على نهج أصحابها في الدعوة إلى الغموض في الفن بمختلف أشكاله. إن يحيى حَقي، وهو معروف بروح الفكاهة والسخرية في كتاباته، يعمد إليها هنا، كرد فعلٍ لخشيته الشديدة من غلو هذه الفنون في الغموض والإلغاز ما يجعلُ التواصل منقطعاً بين الكاتب ومجتمعه.. ومن باب الفكاهة طرحُه السُّؤال التالي : ماذا لو يترك السادةُ النقاد الدكاترة المحترفون "بَخيتاً" لـ"بخيتة"، بحيث يلتقي الفنانونَ والجمهور لقاءً حراً بعيداً عن أيِّ مُؤثِّر خارجي من لدن النقاد. ( انظر ص: 30 )
5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي:
يتحدثُ المؤلف في هذا الفصل عن عدة قضايا نقدية واجتماعية هامة تتمثل فيما يلي :
ـ ميل مزاجه إلى الدِّلالة الاجتماعية التي ينبغي أن يتضمنها النص الأدبي ( يعني هنا الفن القصصي: قصة ورواية )
ـ موقفه من استخدام بعض كتاب الفن القصصي العامِّيَة سواء في السَّرد أو الحوار. ويرى أن الفصحى هي القمينة بأن توظف في الكتابة الأدبية عموماً، وضمنها فن القصة.
ـ قضية المرأة التي ما زالت تعاني من الدونية والتهميش والتمييز في مجتمعنا العربي الذّكوري، وعلاقتها ما زالت غير متكافئة بينها وبين الرجل ،( انظر : ص 37 ) فالرجل مسموح له بارتكاب الخطايا باعتباره رجلا ، والمرأة مدانة. ويشير الكاتب إلى رواية لصبري موسى الموسومة بــ" حادث النصف متر" التي تعالج هذه القضية بصدقٍ وجلاء.
6 ـ الوجهُ من خلال الأثر: في هذا المبحث ينتقل بنا يحيى حَقي إلى الحديث عن مجال يُحبه و له اهتمام به هو الفنون الشعبية.من غناء وتراث شعبي ، وقد لاحظ المؤلف أن هذا النوع من التراث يتميز بحرية التعبير ، وليس ثمة معيار خارجي مفروض قسراً عليه ، يقول: " هنا لا معيار سوى معيار صدق الغريزة ، ومن أجل هذا الصدق تغتفرُ كل الذنوب " ( ص:39 ). ويَذكر لنا بهذا الخصوص مثالين : أ ـ "الحياء في الأغاني الشعبية ، متعجباً من رقتها وظرفها وكياستها وهي تعبر عن الجنس بتلميحات وتوريات وكنايات ورموز وإيماءات تبلغ بها قمة التعبير الفني" ( ص : 38 ) . ب : صراحة ألف ليلة وليلة. ( ص :39 ) . في هذا الفصل تتبدى لنا ثقافة يحيى حقي الواسعة سواء في التراث العربي القديم عند المتنبي والمعري والشريف الرضي، أو في التراث الغربي عند "دستويفسكي" و"بيتهوفن" و"ميجيل أنجلو" وجي دي موبسان وغيرهم .. ويبدي إعجابه بالأستاذ عباس محمود العقاد في قصة " سارة"، حيث "لمس أكمل صورة لتكوينه الفني، فهو قائم على صرامة المنطق العقلي، أحال عاطفة الحب والغيرة إلى مقدمات ونتائج "( انظر ص: 42 )
ب ـ القسم الثاني :
1 ـ رباعيات صلاح جاهين (1930 ـ 1986 )
يبدأُ المؤلف القسم الثاني من الكتاب بدراسة رباعيات صلاح جاهين، فيتناولُها بالدراسة والتحليل من الناحية الفنية والدلالية، مستخدما في نقدها ذوقه المرهف السليم القائم على الدربة والممارسة والصراحة والصدق والموضوعية. والرباعيات عند يحيى حَقي "من أحب قوالب الشعر لأنها تعينُ على نفي الفضول وعلى التحرر من أسر القافية، فتجيء كلُّ رباعيةٍ بمثابة الومضة المتألقة، أو بمثابة الحجر الكريم قيمته في اختصاره وصقله لا في كبرِ حجمه " (ص : 47 ) ويرى الكاتب أن بيت الرباعية الثالث غير المقفى بروي القوافي الثلاث هي عمادها, ذلك أن البيتين الأولين يعتبران عرضاً لأوليات الموقف، أما البيت الثالث فهو ارتفاعٌ مفاجئ إلى قمة، ليتبعَه فوراً من شاهق كأنه طعنة خنجر يختم بها البيت الرابعُ فصول المأساة .."( ص : 48 ) , ويستشهد يحيى حقي هنا بالرباعية السادسة ليبين لنا تركيبها، تقول :
" خَرَج ابنُ آدمَ من العدم، وقلتُ ياهْ ..
رجعْ ابنُ آدم للعدم قلتُ ياه ..
ترابْ بِيحيا وحيّْ يصير ترابْ
الأصل هو الموت ولا الحياة؟
عَجَبي ..."
يتابع المؤلف تحليل الرباعيات موجها النقد لبعضها، رافعاً معظمها بل جلَّها إلى آفاق الفن الرفيع .. ورغم أن الكاتب ينقد الشاعر أحياناً حين يخرج عن نمط الرباعية الذي تبناه ، فإنه من الذين يؤمنون أن ليس في الفن قيود كالحديد. ففيما يخص شاعرَنا، فإن رباعياتِه لم تسر في خط متتابع منطقي، إنه كتبها منجمة في كل عدد من صحيفة أسبوعية واحدة ( الأهرام )،فجاءت ومضات متألقة، لكنها في مجموعها تشكل رؤيته الخاصة العمبقة للحياة والوجود . وحين يقارن المؤلف بين رباعيات جاهين ورباعيات الخيام ، يجد أنهما مشتركتان في الحيرة التي تجعلك تقع في خدَر لذيذ ". إن كانت الحيرةُ مؤلمة ، فليس هناك لذة تفوق لذةَ هذه الحيرة التي يلقيك عمر الخيام في أحضانها أو بين مخالبها ." ( 52 )، وإلى نفس ذلك الخدر اللذيذ يأخذك صلاح جاهين لتركب في أرجوحة الصغار وتلتقي بفنان أصيل لا حدَّ لإنسانيته ورقته وصدق نظرته وعمقها. يرى يحي حَقي أنَّ رباعيات صلاح جاهين : بعيدة الغور ، بها تعبير عن هيمنة قوة الشر الكامنة في العالم ، لا قبل للإنسان بمواجهتها، مسلوب الإرادة ، رغمَ توقه إلى حب الحياة والخير والجمال. ( انظر، ص: 58 )، ويرى المؤلف أنه من هنا تأتي حيرة الشاعر في فهم الكون وقدر الإنسان، وكذا خوفه من العدم والفناء..
2 ـ الأستاتيكية والديناميكية في أدب نجيب محفوظ (1911 ـ 2006 )
يرى يحي حَقي خلال البحث عن ملامح المؤلف في أثره الفني ، أن الفنانين ينقسمون إلى نمطين رئيسيين :
أ ـ النمط الديناميكي المليء بالحركة ووهج المعارك ( اللص والكلاب)/ ب ـ النمط الأستاتيكي الذي ينجو من خوض المعارك، ويقوم على التأمل والتأني والصبر في البناء. يحدثنا الكاتب في البداية عن النمط الأَستاتيكي في أعمال نجيب محفوظ قبل " اللص والكلاب" ، فيلاحظ أن عناوين النمط الأول كلَّها هي أسماء لأماكن " زقاق المدق" ـ "خان الخليلي " ـ " بين القصرين " ـ قصر الشوق " ـ " السكرية " الخ. ويرى أنها عناوين تنتمي إلى معجم المعمار . كائنات جامدة باردة في وضع أستاتيكي توحي إلينا ببعدها عن الانفعال فما بالنا بالثورة، وتوحي إلينا كذلك أننا بإزاء عمل معماري هندسي سيتم بناؤه طوبة فوق طوبة بشكل محكم التنظيم. يلاحظ المؤلف أيضاً بهذا الخصوص أن فصول الرواية هي الأخرى متساوية الحجم، ويمكن الاستغناء عن الفواصل بينها دون أن تخسرَ شيئاً من فنيتها. ويقدم لنا الكاتب أمثلة من بعض الروايات التي لا يتم فيها الارتداد الزمني ، بل نجد أن الفصل مثلا في "خان الخليلي "، يمثل شهراً ونصف شهر ؛ وفي "زقاق المدق " ، يمثل ستة أشهر، وهكذا. ( انظر ص: 87 ) ، فالزمن في الروايات المدروسة في هذا الفصل زمن طولي كرونولوجي. يتحدث إلينا المؤلف في دراسته الدقيقة عن أعمال نجيب محفوظ ،عن بعض القضايا الهامة التي تطرحها. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : ازدواجية الشخصية ( سي السيد : أحمد عبدالجواد في "الثلاثية ") ـ اللذة الحسية وتندرج تحتها الغريزة الجنسية ـ اللذة العقلية، وصاحب هذه اللذة يعشق الفلسفة ويخوض في مسائل العلم ومشاكل المجتمع، ويجد في تأملها ومحاولة حل عقدها لذة لا تضاهيها لذة ـ اللذة الروحية، ونجدها في مجال العواطف المتنوعة ـ الاستوائية ، ويقصد بها الكاتب الوقوف موقف الحياد إزاء القيم التي تُؤمن بها شخصيات رواياته. ( ص : 106 )
يأخذ يحيى حَقي بيدنا بعد دراسته الأستاتيكية إلى النمط الديناميكي الذي تمثلهُ " اللص والكلاب" الأنموذج العبقري الفذ لهذا النمط ـ كما يعتقد الكاتب ـ لأنه وليد الانفعال. بلغ ذروةَ التعبير الفني كما بلغها في الثلاثية في الجانب المقابل الأستاتيكي,. إن " اللص والكلاب " تمثل هذا الاتجاه الديناميكي من خلال :
أ ـ العنوان = الانفعال ، الانفعال يتبدى لنا من عتبة النص ( العنوان )، فقد خرجت هذه العتبة النصية هنا عن الأسماء المتصلة بالمساكن والأحياء والحواري ليجعلنا ندخل إلى عالم النص من عتبة مختلفة ( إنسان وحيوان ) لأننا بصدد الدخول إلى عالم يغمره الصراع والتضاد ، ويوحي بما داخل المتن الروائي من دِلالات الشر والعداء والكراهية ( اللص السالب لمتاع الناس، والكلاب المستخدمة هنا استخداماً مجازياً للدلالة على الخسة والدناءة التي تعم المجتمع )
ب ـ الشكل والمضمون: ثمةَ فرقٌ كبيرٌ بين حَجْمِ "الثُّلاثِيَّة" وحَجْم "اللص والكلاب "، لذلك سماها الناقد الراحل أنور المعداوي بالرواية القصيرة ( النوفيل ـ Novela )، ويرجعُ المؤلف سبب اختلاف الحجمين إلى أن "اللص والكلاب " وليدة الانفعال ، وأثره المستهلك له هو شدة التوهج"( ص: 118) . يرى الكاتب أن القارئ في هذه الرواية يصاحب مؤلفاً منفعلاً. التريث مُمْتَنِع، يجري بك فتلهث إلى أن يصل بك إلى المتعة الفنية بطرائق فنية عديدة، فيستخدم الارتداد الزمني، فيعود بك إلى الماضي، أو الاستباق الزمني لينقلك من الماضي إلى المستقبل. يقول يحيى حَقي بأسلوبه الشائق الممتع الذي يَجْعل النقدَ عنده إبداعاً على إبداع: " أنت لا تملك إلا أن تستسلمَ له في متعةٍ لذيذة، وهو يجمع لك بين رؤية اليقظة ورؤية المنام" ( ص 148 ). وهذا ما نجده عند بعض كتابنا المعاصرين وأخصُّ هنا بالذكر الأديب المغربي الأستاذ عبد الفتاح كيليطو في كتبه الممتعة المفيدة ودراساته المدهشة، والأمثلة على ذلك تعز عن الحصر. في آخر هذا الفصل عن نجيب محفوظ، يعقد المؤلفُ مقارنة مركزة بين العملين الروائيين اللذين كانا مجال دراسته. يقول :"قد نجد في الثلاثية تفصيلاً للتفصيل أما في " اللص والكلاب " ، فلا نجد إلا خلاصة الخلاصة: الأقوال المقتضبة التي ينطق بها الشيخ علي الجنيدي التي تمثل خلاصةً لأعداد من كتب التصَوُف" ( ص : 120 ). في نفس هذه المقارنة، يذكر لنا الكاتب" تلك الصور القليلة العابرة التي بدت لنا فيها " نور" ( حبيبة سعيد مهران المخلصة العطوف، النور الوحيد الذي يضيء عتمة حياته القاتمة)، هي خلاصة لحياة بائعة هوى. الشيخ علي الجنيدي و"نور" هما القُطبان اللذان يتخبط سعيد مهران بين جَذْبَيْهما ". وتقديم الشخصيات الثلاث بهذا التلخيص المعجز، قد نجده أكثر وضوحاً من تقديم إحدى الشخصيات الرئيسية في الثلاثية بشكل أكثر تفصيلًاً, ولا يقتصر التلخيص في الرواية على الشخصيات ، بل يمتد إلى وصف بعض الفضاءات مثل : القهوة ـ منزل" نور " ، وإنها بدورها نتيجة هذا التلخيص ، بدتْ أشد وضوحاً للمتلقي ممَّا لو رسمها المؤلف بتفصيل وإسهاب.
ج ـ اللغة:
لاحظ الكاتب أن اللغة في النمط الأول احتفظتِ الألفاظ في معظم الأحوال بمعناها القاموسي. أما في النَّمط الديناميكي ، فقد تميزت بالانزياح عن اللغة العادية أو القاموسية.
ومن الجدير بالملاحظة أن يحيى حَقي ـ كما ألمحنا إلى ذلك آنفاً ـ كان مبدعاً في دراسته، وأن حبه لأدب نجيب محفوظ ، جعلَهُ يكتب هذه الدراسة ودراسات أخرى غيرها بأنامل رقيقة تقطر عطراً ومحبة.
3 ـ "سخرية الناي" لمحمود طاهر لاشين ( 1894 ـ 1954 )
بعد المقارنة الدقيقة بين عملين روائيين مختلفين في الحجم اختلافاً شاسعاً، هما "الثلاثية" و "اللص والكلاب"، ينتقل بنا المؤلفُ في هذا الفصل إلى فن القصة القصيرة، وذلك عند أحد روادها الأوائل هو محمود طاهر لاشين في مجموعته " سخرية الناي". يرى يحي حَقي أنَّ هذه المجموعة كانت صرخةً قوية تقول لنا إننا بإزاء بدء حركة تجديدية تتملص من قديم إلى جديد. فالأسلوب فيها ينجح في التملص من النثر الموروث، من عهد ابن المقفع والجاحظ إلى توفيق البكري، لكنه يُخْفقُ في التخلص من أسلوب محمد المويلحي والمنفلوطي. ثمة نجاح أيضاً في التملص من الأمثال العربية القديمة، لكن حلت محلها أمثال سائرة تدور في الحديث اليومي الدارج. واستطاع لاشين كذلك "التملص منَ اللغة الفصيحة عند نقل حوار العامة، فهو يكتُبُ طبقاً لنطقهم طلباً للصدق"( ص : 125 ). ويؤكد المؤلف أن كتابة حوار بالعامية ، لم يكن أمراً سهل القبول لدى كتاب الفن القصصي: حقيقة، مهد له محمود طاهر حقي ( 1907) في "عذراء دنشواي"، وتقبل محمد حسين هيكل بعضَ الألفاظ العامية ـ على استحياء ـ في روايته "زينب"سنة ( 1914) ، ورغم أن محمد تيمور ، كان يرفع لواء العامية في المسرح ، لكنه في القصة كان الأمر ما يزال خرقاً شديداً لحرمة الفصحى (انظر ص: 125 ). ويلاحظ يحيى حَقي أنه من حيث " الشكلُ والمضمونُ ـ وهذا مربط الفرس ـ نجد آثار التملص من أدب المقالة والمقامة .. إلى فن القصة القصيرة. وتنطقُ هذه المجموعة بكل ما في هذا التملص من جهد ومن معاناةٍ وقلقلة." (ص: 126 ). وأمر صعوبة ولادة الفن القصصي ليس بغريب ، فليس وراء كتاب القصة تراث بالمفهوم الفني للقصة يستندون إليه، وليس بجانبهم ناقد يمكن أن يحدد لهم معالم الطريق. فلجئوا إلى الاقتباس من أساتذتهم في الغرب، ولم يكونوا يجدون حرجاً في الإفصاح عن ذلك والجهر به. فاقتبس محمد تيمور من "جي دي موباسان" وطاهر لاشين من "تشيكوف" ، وقام عثمان جلال بتمصير مسرحيات موليير . وهكذا سنجد هؤلاء المبدعون تملصوا من أسلوب المقامة من جهة ، وتملصوا من الرومانسية إلى الواقعية من جهة ثانية ، وكانَ الهدف فيها كما يرى المؤلف رسم الحياة كما هي ، إلا أن التعبير لا يساير ملامح هذا الاتجاه، فتبقى عالقة بأسلوبه نغمة الحزن والبكاء الغالبة في إنتاج المنفلوطي. يقول الكاتب : " في بعض صفحات هذه المجموعة أحس أنَّ محمود طاهر لاشين يكاد يكون نسخة أخرى من المنفلوطي" ( ص: 127 ) ، ويفسر ذلك بأنه كان من العسير التخلص من هذه النزعة الرومانسية الحزينة باعتبارها تدخل في مزاج الإنسان الشرقي ، ولأن طريقُها كان مُعَبداً أمام الكاتب، فسار فيه قبلَ أن يصل إلى التعبير المناسب للمضمون الواقعي. ويذهب المؤلف إلى أن لثورة 1919 أثراَ كبيراً في تحويل كل مناحي الحياة الثقافية من غناء (سيد درويش ) ونحت (عند النحات المصري الشهير مختار) ، وعمارة (عند مهندس الفقراء حسن فتحي) ، وكان لابد أن يتحول الأدب بدوره من الرومانسية إلى الواقعية ، ويصير رجل الشارع والفلاح من الشخصيات الرئيسية في الفن القصصي ومنه قصص طاهر لاشين في إطار مذهبه الواقعي الذي كان نجمَه المتألق . ( ص: 129 ) . وتعتبر ( قصة "سخرية الناي" ) من أمثلة قصصه المستمدة من واقع حياته ( ص : 131 )، فيذكر بكل صراحة وشفافية موت شقيقه محمد عبد الرحيم ، ويلاحظ يحيى حَقي هذه الظاهرة في مجموعة أخرى مثل " يُحكى أن " حين يصفُ زيارة أبيه قبرَ ابنته ( قصة: الزائر الصامت" ). ومن الجدير بالملاحظة أن أعضاء هذه المدرسة ـ في معظمهم ـ اقتصرت عنايتهم بالمشاكل المعيشية الواقعية وتصوير العلاقات الاجتماعية في الحياة المصرية، أو وصف أنماط شاذة مضحكة من البشر. ( ص: 132 )
وينتهي الكاتب في ختام دراسته، إلى خلاصة مفادها أننا مدينون لهذه المدرسة الحديثة في الفن القصصي بالشيء الكثير، فهي التي كان لها الفضل في أن يكون لنا أدب أصيل .. وأسلوب متحرر من التكلف. هي التي ثبَّتَتْ لفن القصة قدمَه ووطدتْ سمعته، وبشرت بالمذهب الواقعي، وهي التي حاربت الظلم و الفقر والجهل والتخلف والنفاق التي كانت أكبر أعدائها" ( ص: 134 )
اللافت لانتباه القارئ، ما ذكره الكاتبُ من خصال أولئك الكتَّاب التي لم نعد نجدها في غالب الأحيان في يوم الناس هذا ، وهي " أنهمْ كانوا جميعاً يأخذونَ عملَهم الفني مأخذ الجد ، لا يبتغون مجدا ولا كسباً ، وكانت عيونهم مؤرقة وقلوبهم خافقة بحب مصر" ( ص: 134), وقد كان طاهر لاشين في مسرحها هو ممثِّلَها الأول ونجمها المتألق، كما يؤكد ذلك صديقه الدكتور حسين فوزي في كتابه " سندباد في رحلة الحياة " ( انظر، ص: 134 )
وفي ختام دراسته عن محمود طاهر لاشين، يرصد بعض مميزات كتابته كما يلي:
أ ـ سهولة الأسلوب، حيث يجعلكَ الكاتبُ قريباً منه، يحدثك حديثَ الصَّديق للصَّديق، ويحرصُ على منحك أكبر قدر من المتعة الفنية، يستطيعُ أن يغدقها عليك.
ب ـ القدرة الهائلة على الوصف الدقيق، فهو لا يصفُ إلا ما رأتهُ عيناه. ( ص: 135 )
ج ـ علمه بأسرار النفوس، والانتباه إلى ما في الحياة من مفارقات، بعضها يبعثُ على الضحك ، وبعضها الآخر يثير في النفس الشجن والحزن .
د ـ القدرة الفائقة على استخدام الدعابة التي تنطوي تحتها أحياناً غلالة من الإشفاق على ضُعْف الإنسان وقلة حيلته في هذه الحياة.
4 ـ "عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حَقي( ) ( 1984 ـ 1890 )
يمكن اعتبار هذه الرواية عملاً تسجيلياً وثائقياً تتعلق بحادثة "دنشواي" سنة 1906 ( ) كما حدثت في الواقع، وأن عنصر الخيال فيها جد ضئيل. وأعجبُ ما يذكره يحيى حقي عن هذه الرواية هو أنها "أول رواية مصرية مؤلفة تباعُ منها آلافُ مؤلفةٌ من النسخ فَوْرَ صُدورِها. أُعيدَ طبعُها عدة مرات في فترة وجيزة" ( ص: 136 ). وهكذا استطاعت هذه الرواية أن تغزو على نطاق واسع جماهير غفيرة من القراء ، ولم تعد قصراً على المهتمين بقراءة هذا الفن الجديد, ويرى يحي حقي " أن (عذراء دنشواي) هي التي هيأتْ أذهان عامة القراء لتقبل الفن القصصي، هي التي أعدت المسرح الذي سيتجول فيه هذا الفن حتى يبلغَ رقيه الذي بلغهُ اليوم. " ( ص: 147 )، وما جعلها تحظى بهذا التلقي غير المسبوق، هو ارتباط موضوعها بوجدان الشعب، نتيجة الحادثة المأساوية التي تعرض لها أبناء جلدتهم الأبرياء في قرية " دنشواي "، ورصدها حياتهم ومشاكلهم وهمومهم، كما تنقل لنا لهجتَهم العامية كما ينطقونها في حياتهم ومعاملاتهم اليومية. ويعتبر المؤلف أن هذه الرواية التي كتبها صاحبها سنة 1909، كانت الممهدة لرواية "زينب" التي يَعُدها النقاد بداية الرواية العربية بمفهومها الفني. يقول :" وأكادُ لا أعدو الحقيقة كثيراً إذا قلتُ إن "عذراء دنشواي"، هي البذرة التي مهدتْ ـ في نظري ـ لمحمد حسين هيكل أن يكتبَ في سنة 1912 رواية "زينب"، وجعل حوادثها تجري في الريف وبعض أبطالها من الفلاحين " ( ص :149 )
5 ـ " اللَّوَحاتُ القَلَمِيَّة " للشيخ مصطفى عبدالرازق: (حوالي 1304 هـ / 1885م - 24 ربيع الأول 1366 هـ / 15 فبراير 1947م. )
يخرج الشيخ مصطفى عبدالرازق عن القوالب المقررة المعتمدة في الكتابة، فما يكتبه يقع بين المقالة الأدبية والقصة القصيرة. وهذا النوع الأدبي إذ وقع بين النوعين المشار إليهما، قد التزم جانب الثانية ( القصة القصيرة )، لا الأولى ( المقالة )، وهو بذلك كان رافداً ثرياً كبيراً لها. إن الكاتب هنا يتحدث عن هذا الضرب من التأليف الذي يمكن تسميته بالمقالة القصصية. وهذا النوع الأدبي لا يكتبه إلا قلة من الأدباء أهمهم الدكتور حسين فوزي الأديب الرحالة الباحث عن أسرار البحار ، الغائص في أعماق بحار اللغة العربية وكنوزها. وقد أطلق المؤلفُ اسم لوحة قلميَّة على هذا النوع من الكتابة، لأن صاحبها كان همه الأوحد ، ومتعته الكبرى الرسم بالكلمات لا باللون والفرشاة، فهو أقرب إلى الفنون التشكيلية . وقد عنون الشيخ عبدالرازق هذه اللوحات بعنوان " مذكرات الشيخ فزارة" ، ويلاحظ يحيى حقي أن هذا العمل الجليل، لم يحظ من النقاد بما هو جدير به من الالتفات والعناية ( ص: 185 ). يقول يحيى حقي " يحيد الضوء عن أغلى الجواهر ، ويتسلط على المحظوظ من فصوص الزجاج البراق" ( ص: 165 ) والحال أن الشيخ مصطفى قد وضع بهذه المقالات بذرة من بذور القصة القصيرة عندنا.( ص: 168 ) ، ومن الجدير بالذكر أن مصطفى عبد الرازق أتم دراسته في باريس بفرنسا والتقى بالشيخ محمد عبده ، وتأثر بأسلوبه. " بل إن ظلَّ الإمام مبسوط على المقالات كلها، كأنها من وحيه، مكتوبة، رغم الغربة، تحت بصره" ( ص: 167 )، وإن كانا يختلفان في الطبع الذي انعكس على أسلوبهما. لقد كان في طبع محمد عبده حدة استمدها من أستاذه جمال الدين الأفغاني، بينما نجد مصطفى عبد الرازق يميل بطبعه إلى الرفق والسماحة التي تكره الغضب، وترهب الثورة. ويرى يحيى حقي بعد دراسة مقالات الشيخ عبدالرازق أو لوحاته القلمية أنه في هذه المقالات من أوائل المبشرين بالاتجاه الواقعي الذي حمل لواءه بعد ذلك رواد المدرسة الحديثة في الفن القصصي. ولا ينبغي أن ننسى الإشارة إلى أن هذه اللوحات القلمية رصدها صاحبها للحديث عن موضوعين: الدراسة في الأزهر وضيقه بها وبمناهجها ؛ وصف الريف المصري وظروف حياة الفلاحين المتقشفة الشاقة بالأسلوب الواقعي الذي ألمحنا إليه.
6 ـ عباس علام (1892 - 1950)
ينتقل بنا المؤلف في هذا الفصل، ليعرفنا بمسرحي نجهله بل يجهله حتى الأجيال من أدباء بلده، هو عباس علام. إنه المسرحي عاشق ممثلة مسرحياته " فيكتوريا موسى ". يقول المؤلف : " إن قصة حب عباس لفيكتوريا موسى صورة فذة لانجذاب المؤلف المسرحي إلى الممثلة التي تقوم بأدوار البطولة في رواياته." ( ص: 162). ويُحيلنا إلى مثل هذا العشق الذي كان سائدا بين أكبر الشعراء وأشهر المطربات، ويذكر لنا على سبيل المثال أحمد رامي وأم كلثوم، وإن كان من طرف واحد، وينطوي على الكثير من الكتمان. وهذا ما يرويه المؤلف عن عباس علام " مجنون ليلى العصر الحديث " كما يلقبه ، فحين عجز عن كتم أشجانهِ وأحب أن يفضيَ بها ، حتى ولو لنفسه وحدها ، كتبها في أوراق وجمعها بين غلافين جلديين فاخرين ، ثم بعد ذلك سلمها إلى صديق أمين ، وطلب منه أن يحتفظ بها ، وأن لا يفضي بسرها إلى أحد، وأن يسلمها إلى حبيبته. ويذكر المؤلف هذا الصديق باسمه: هو الأستاذ صلاح كامل الذي كتب مؤلَّفه الشيق عن سيرة هذا المسرحي العاشق. وخلال حديثه الشيق الكاتب عن هذا الحب العذري العارم، يحدثنا عن بعض مسرحياته و عن الحركة المسرحية في مصر عهد ذاك، ومساهمة أعراق وأديان مختلفة في الفن المصري سواء في الموسيقى أو المسرح. من الجدير بالملاحظة أن عباس علام الذي كادت يد النسيان تمحو اسمه من تاريخ المسرح في مصر له مسرحيات عديدة، وكلها مثلت على خشبات المسرح، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر هي : 1 ـ كوثر ( 1924 ) / 2 ـ سهام ( 1925 ) / 3 ـ زهرة الشاي ( 1925 ـ 1926 )/ 4 ـ المرأة الكذابة ( 1926 ) / 5 ـ الساحر ( 1926) ص: 229 ).
وهذا الفصل هو مسك ختام هذا الكتاب القيم للكاتب الكبير يحيى حَقي، ومن أعذب فصوله وأمتعها وأغزرها من حيث المعلومات التي يقدمها حول الحركة الفنية والمسرحية في العشرينيات.
وقد سبق لي أن أشرتُ إلى أن يحيى حقي مبدع في كتاباته النقدية ، يتسربلُ أسلوبه أحيانا بالشَّاعرية التي لا تتوفر في بعض شعرنا اليوم. أود أن أختم عرضي المتواضع لكتاب "عطر الأحباب" بفقرة منه تقطر شعراً وعطرا وجمالاً يتحدث فيها عن كيفية تشكل الإبداع الفني عند الكتاب الذين أحبهم، وتعطر بعطر أدبهم, ومنهم (عباس علام). يقول فيها: "نبض فهمهمةٌ فتخلقٌ ثم استواء. هذه هي مراحل ولادة النغمة عند الشاعر . والنبض ممضٌ والهمهمة همهمة جن، والتخلق كانعقاد الحِمَم، أما الاستواء فعلى ذروة الجمال، تَحرُّرُها يخالط السحاب، ويطلُّ على قمم الجبال الشاهقة. تهبط إليه من عالم الغيب ، من عالم الأحلام المبهمة، أو تسمو إليهِ من أغوار تسكنها أشواقُ الخلاص وعذابات الضياع والأنين." ( ص: 187 )
الهوامش :
أما كتاب " عطر الأحباب " الذي سنحاول مقاربتَه هنا ، فقد تمَّ طبعُه في مطابع الأهرام سنة 1971م. وهو كتاب على صغر حجمه ، غزير العلم، عظيم الفائدة. ويتألف من قسمين :
أ ـ القسم الأول : ويضم العناوين التالية :1ـ تنقيب / 2 ـ محاولة / 3 ـ فتح الباب / 4 ـ جِدٌّ وفكاهة / 5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي / 6 ـ الوجه من خلال الأثر.
ب ـ القسم الثاني : ويشتمل على الدراسات التالية :
1 ـ " رباعيات صلاح جاهين " / 2 ـ الأستتاكية والدينامية في أدب نجيب محفوظ / 3 ـ سخرية الناي لمحمود طاهر لاشين/ 3 ـ "عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حقي / 5 ـ "اللوحات القَلَمية" للشيخ مصطفى عبد الرَّازق / 6 ـ عباس علام .
وسنرصد في هذه القراءة الفصول التي تنضوي تحت كل من القسميْن :
أـ القسم الأول :
1 ـ تنقيب : ما يشغل يحيى حقي في هذا الفصل من كتابه، هو قضايا إنسانية عميقة، يتصل بعضها بالهموم الروحية التي يعانيها الإنسان في عصرنا الحديث في جل أرجاء العالم ، وهذه الهموم التي ألمحَ إليها هي التي سيعتمدها لتفسير أمراض الإنسان العقلية والبدنية. ويرجع الكاتب مأساة الإنسان الروحية إلى التخلي عن المنطق المفهوم والمعقول ،والانغمار في اللامَنطقي واللامفهوم واللاَّمَعقول ، وذلك لكي يصل بعد هذه المشقة الشاقَّة والجُهد الجَهيد إلى معاني عبر عنها السابقون بأيسر العبارات وأسهل الألفاظ. يقول توفيق الحكيم في مسرحيته " يا طالعَ الشجرة": " أصبحَ اللامنطق هو المنطقُ الوحيد المقبول" ( ص: 9 من كتاب "عطر الأحباب ") . وفي هذا الصدد يشير يحيى حَقي إلى أن الإنسانية، لم تربح من حروبها إلا موت آلاف البشر، وهو يعني هنا الحرب العالمية قريبة العهد بالكاتب التي لم تنته بانتصار طرفٍ على آخر. ( انظر ص: 6 )، ثم يتطرق الكاتب بعد ذلك إلى قضيتين على درجة كبيرة من الأهمية هما : أ ـ العقيدة الدينية ، وهل الأديان تصلح للحقبة التي نزل فيها الوحي ليعالج شؤون الناس الراهنة، أم أنها غير زمنية ( غير تاريخية ) تصلح لكل زمان ومكان عبر تعاقب الأزمان رغم ما يطرأ على المجتمع الإنساني من متغيرات؟ / ب ـ فصل الدين عن الدولة الذي عرفته أوروبا في القرن 19 . ويذهب المؤلف إلى أن اليهود هم الذين روجوا للأنظمة التي ظهرت في الغرب ، وخاصة المبادئ الديموقراطية ( المساواة والعدالة الاجتماعية.. ) من أجل تحقيق مصلحتهم المتمثلة في جعلهم يتمتَّعون بكل حقوق المواطنة التي يتمتع بها أهل البلد ( ص: 15 ). ويرى يحيى حَقي أن الأقلية اليهودية في كل الدول الغربية، انتفعت من هذه الأنظمة الجديدة، حيث صارت تتمتع بجميع الامتيازات والحقوق: بجنسية البلاد التي تقيم بها، فضلا عن الجنسية الإسرائيلية الصهيونية.
2 ـ محاولة: يشيرُ المؤلف هنا إلى تعدد القراءات في النص الفني الواحد، وأن ليس ثمَّةَ حقيقة يمتلكها رأي واحد كله لنفسه، بل إن الأحكام نسبية. لذلك عرف الفن التقسيمات إلى مذاهب ومدارس مختلفة. ويعتبر يحيى حقي الانتقال التاريخي من مذهب إلى آخر نمواً طبيعياً وليس ثورة قامت لتهدم المذهب الذي سبقها، ذلك "أن من أمتعِ قضايا الفن ـ في رأيه ـ هو تقدير نصيب الموروث والمبتكَر في كل مذهبٍ جديد " ( ص : 15 ). إن موقفه بعيد عن التطرف والجنوح لطرف دون آخر ، وهو لا يقول مع القائلين " هل غادر الشعراء من متردمِ " و" لا جديد تحت الشمس ". إنه خصم للشمول والأحكام القاطعة في الفن"، بل إنه يرى أن كلَّ جديد مبتكر لا يخلو من عناصرَ موروثة، وإن بدا أنها خفيت في بعض الأحيان. إن الكاتب يعتبر التحول من جيل إلى جيل مثل تبدل الأزياء حسب تغير الأذواق. وإذا تغيَّر الزِّي ُّ فإنَّ البَدَنَ لا يتغير. ويرى " أن الفنَّ الأصدقَ هو الذي يخاطبُ المعدنَ الأصيلَ في كل شعبٍ كما يبدو في آخر زيٍّ له. " ( ص: 17 )
3 ـ فتح الباب: ينتقلُ بنا يحيى حقي في هذا الفصل إلى الحديث عن جوستاف فلوبير الذي عرف بتجويد كتابته وأسلوبه ودعوته إلى الموضوعية وإخفاء ذات المؤلف، وعدم ظهوره من خلال مؤلفاته. فــ"على الأديب أن يشابهَ اللهَ في خلقه.. أنْ نشعرَ به في كلِّ مكان دون أن نلمحه"( ) ، ويرى المؤلف أنَّ فلوبير أراد أن يضع للقصة ( الرواية) "فناً له أحكامُهُ الضابطة لماهيته وشكلِه، فنّاً مستقلاً عن الأنواع الأدبية الأخرى: المقامة والمقالة والمواعظ والخطب المنبرية والأبحاث الأدبية .. والسيرة و التاريخ المتخيل والريبورتاج الصحفي وغيرها. ( انظر ص: 21 ) ويذكر الكاتب أن فلوبير يرى أن قيمة هذه الأعمال لا يمكن إنكارها، لكن بشرط أن يبقى كلُّ فرع في مجاله. ووسيلتها الوحيدة هي التعبير بالحادثة وبالتفاعل المستمرين بين الشخصيات، بحيث تنمو في تدرجٍ، بعيداً عن المباشرة والموعظة. ( ص: 21 )، لكن يحيى حَقي ليس مع الغلوِّ في الموضوعية في الكتابة الروائية كما عند فلوبير ، بل إنه "يعتبرُ أكبَرَ جريرةٍ في تطبيق هذا المنهج هو صرفُ الاهتمام عنْ صاحبِ النص إلى النص ذاته. ويرى أنهُ ليس في الوجود شيء قائم بذاتِه اسمُهُ الفَنّ، بل الموجود هم الْفنَّانونَ وليسَ غير . هم العباقرة الأفذاذ الذينَ ينشرونَ النُّورَ في هذه الأرض.. إنَّ في جمجمة كُلِّ واحدٍ من الأسرار والقوى ما يماثلُ في الرَّوعةِ جلائلَ المعجزات الخارقة.. فالمطلب الجدير بالتقديم هو أن نعرفَهم من أجلِ أن نعرفَ مِزاجَهم ، لا أن يطلبَ منهم أتباع فلوبير أن يختفوا وراء الستار .. وألا ينطِقُوا إلا بفم الغير الذي لا يطابقهم" ( ص: 24 ).
ونحنُ إذا ما عدنا إلى تطور الدراسات النقدية والأدبية ، نجد أنها سارت في عدة اتجاهات : فمن الأعمال (المضمونية) الإيديولوجية، سواء على مستوى التنظير أو الإبداع عند تروتسكي و غوركي وغيرهما من الاتجاه الماركسي ، إلى الشكلانيين الروس الذين عنوا بمكونات الخطاب الأدبي ومبناه الحكائي. يقول جاكبسون : " إن موضوعَ علمِ الأدب ليس هو الأدب وإنما الأدبية ( Littérarité) ، وبذلك حصروا اهتمامهم في نطاق النص" ( ) ، والاتجاه الاجتماعي وبالتحديد البنيوية التكوينية عند لوسيان كَولدمان الذي اهتمَّ بالشكل الروائي نفسِه ، وعلاقته ببنيات الحياة الاقتصادية في المجتمعات الغربية. ( ) أما نظرية التلقي التي ظهرتْ في ألمانيا على يد روبرت س هولاب ( ) وإيزر ( )، فكان لها الفضل في إعادة الاعتبار للمتلقي الذي تم تهميشه في البنيوية الشكلية وغيرها، مع أنه يشكل الطرف الثالث إلى جانب المؤلف والنص ، فالأدب في هذه النظرية " ينبغي أن يُدرسَ بوصفه عمليةَ جدل بينَ الإنتاج والتلقي ، فالأدب والفن لا يُصبحُ لهما تاريخٌ له خاصية السياق إلا عندما يَتحققُ تعاقبُ الأعمال ، لا من خلال الذات المنتِجة ، بل من خلالِ الذاتِ المستهلِكة كذلك، أي من خلال التفاعل بين المؤلف والجمهور ." ( )
4 ـ جدٌّ وفُكاهَة:
في هذا الفصل من القسم النَّظري، يدعو المؤلف القارئ إلى أن يتلقى النص الأدبي بحرية ، مباشرة دون وسيط، فهو يحب أن يجعل المتلقي مستمتعاً بالعمل الفني بقدر ما يحب ، وأن يفيدَ منه حسبما يشاء ، ذلك أن الكاتب "يريد أن يعيدَ التعادل بين القراء والنقاد. يتفاعلُ المتلقي مع النص بصفة مباشرة أولاً، ثم بعد ذلك يمكنه قراءة النقد ما عَصَمَه ما ملكَ من حرية وإرادة أن يساق سَوقَ القَطيع" ( ص: 25 ). يَذكر لنا يحيى حَقي أمثلةً من واقع التاريخ الأدبي: ففي العصر الجاهلي والعصر الأموي أو العباسي ،مثلاً، لم يكن الشاعر بجانبه ناقد واحد محترفٌ "يضعُ النظريات ويقَنِّنُ القوانين " ( ص: 26 )، بل كان الشَّاعرُ النَّاشئُ ، يقصد شاعراً يَكْتوي بنار الإبداع الشعري مثله، فيعرضُ عليه شعرهُ، ويستنيرُ برأيه، فكان الرأي الذي يسمعُه الشاعرُ بمثابة الغذاء له لا الدواء.( ص: 26 ). يرى الكاتب هنا أن ذلك العهد كان فيه الأدب يمتص النقد، بينما في عصرنا الحالي كاد يمتص النقد الأدب، فأمسى" اعتماد هم على التفسير اللاحق للمعنى " ( ص: 27 ) "و كانَ الأدب لقاءً بين قارئ عاشق ومؤلف معشوق، يقوم كما يقوم الحب بين طرفين. في هذا الفصل ينقد الكاتب أدب اللامعقول والمذهب السُّريالي في الفن والشعر، معترفاً بعدم فهم نصوصهما ولوحاتهما المغرقة في الإبهام، ويذكر على سبيل المثال مسرح بيكيت ( "في انتظار غودو" و"نهاية اللعبة "، وقصائد مجلة "شعر"اللبنانية لتوفيق الصايغ ( 1957 ) ولوحات الفن السُّريالي). إنَّ يحيى حَقِّي رغم قراءاته الواسعة في الأدب الغربي وفنونه، واطلاعه على الاتجاهات الأدبية الجديدة عربياً وغربياً، فإنه كان لا يسير على نهج أصحابها في الدعوة إلى الغموض في الفن بمختلف أشكاله. إن يحيى حَقي، وهو معروف بروح الفكاهة والسخرية في كتاباته، يعمد إليها هنا، كرد فعلٍ لخشيته الشديدة من غلو هذه الفنون في الغموض والإلغاز ما يجعلُ التواصل منقطعاً بين الكاتب ومجتمعه.. ومن باب الفكاهة طرحُه السُّؤال التالي : ماذا لو يترك السادةُ النقاد الدكاترة المحترفون "بَخيتاً" لـ"بخيتة"، بحيث يلتقي الفنانونَ والجمهور لقاءً حراً بعيداً عن أيِّ مُؤثِّر خارجي من لدن النقاد. ( انظر ص: 30 )
5 ـ النقد التَّأثُّري الاجتماعي:
يتحدثُ المؤلف في هذا الفصل عن عدة قضايا نقدية واجتماعية هامة تتمثل فيما يلي :
ـ ميل مزاجه إلى الدِّلالة الاجتماعية التي ينبغي أن يتضمنها النص الأدبي ( يعني هنا الفن القصصي: قصة ورواية )
ـ موقفه من استخدام بعض كتاب الفن القصصي العامِّيَة سواء في السَّرد أو الحوار. ويرى أن الفصحى هي القمينة بأن توظف في الكتابة الأدبية عموماً، وضمنها فن القصة.
ـ قضية المرأة التي ما زالت تعاني من الدونية والتهميش والتمييز في مجتمعنا العربي الذّكوري، وعلاقتها ما زالت غير متكافئة بينها وبين الرجل ،( انظر : ص 37 ) فالرجل مسموح له بارتكاب الخطايا باعتباره رجلا ، والمرأة مدانة. ويشير الكاتب إلى رواية لصبري موسى الموسومة بــ" حادث النصف متر" التي تعالج هذه القضية بصدقٍ وجلاء.
6 ـ الوجهُ من خلال الأثر: في هذا المبحث ينتقل بنا يحيى حَقي إلى الحديث عن مجال يُحبه و له اهتمام به هو الفنون الشعبية.من غناء وتراث شعبي ، وقد لاحظ المؤلف أن هذا النوع من التراث يتميز بحرية التعبير ، وليس ثمة معيار خارجي مفروض قسراً عليه ، يقول: " هنا لا معيار سوى معيار صدق الغريزة ، ومن أجل هذا الصدق تغتفرُ كل الذنوب " ( ص:39 ). ويَذكر لنا بهذا الخصوص مثالين : أ ـ "الحياء في الأغاني الشعبية ، متعجباً من رقتها وظرفها وكياستها وهي تعبر عن الجنس بتلميحات وتوريات وكنايات ورموز وإيماءات تبلغ بها قمة التعبير الفني" ( ص : 38 ) . ب : صراحة ألف ليلة وليلة. ( ص :39 ) . في هذا الفصل تتبدى لنا ثقافة يحيى حقي الواسعة سواء في التراث العربي القديم عند المتنبي والمعري والشريف الرضي، أو في التراث الغربي عند "دستويفسكي" و"بيتهوفن" و"ميجيل أنجلو" وجي دي موبسان وغيرهم .. ويبدي إعجابه بالأستاذ عباس محمود العقاد في قصة " سارة"، حيث "لمس أكمل صورة لتكوينه الفني، فهو قائم على صرامة المنطق العقلي، أحال عاطفة الحب والغيرة إلى مقدمات ونتائج "( انظر ص: 42 )
ب ـ القسم الثاني :
1 ـ رباعيات صلاح جاهين (1930 ـ 1986 )
يبدأُ المؤلف القسم الثاني من الكتاب بدراسة رباعيات صلاح جاهين، فيتناولُها بالدراسة والتحليل من الناحية الفنية والدلالية، مستخدما في نقدها ذوقه المرهف السليم القائم على الدربة والممارسة والصراحة والصدق والموضوعية. والرباعيات عند يحيى حَقي "من أحب قوالب الشعر لأنها تعينُ على نفي الفضول وعلى التحرر من أسر القافية، فتجيء كلُّ رباعيةٍ بمثابة الومضة المتألقة، أو بمثابة الحجر الكريم قيمته في اختصاره وصقله لا في كبرِ حجمه " (ص : 47 ) ويرى الكاتب أن بيت الرباعية الثالث غير المقفى بروي القوافي الثلاث هي عمادها, ذلك أن البيتين الأولين يعتبران عرضاً لأوليات الموقف، أما البيت الثالث فهو ارتفاعٌ مفاجئ إلى قمة، ليتبعَه فوراً من شاهق كأنه طعنة خنجر يختم بها البيت الرابعُ فصول المأساة .."( ص : 48 ) , ويستشهد يحيى حقي هنا بالرباعية السادسة ليبين لنا تركيبها، تقول :
" خَرَج ابنُ آدمَ من العدم، وقلتُ ياهْ ..
رجعْ ابنُ آدم للعدم قلتُ ياه ..
ترابْ بِيحيا وحيّْ يصير ترابْ
الأصل هو الموت ولا الحياة؟
عَجَبي ..."
يتابع المؤلف تحليل الرباعيات موجها النقد لبعضها، رافعاً معظمها بل جلَّها إلى آفاق الفن الرفيع .. ورغم أن الكاتب ينقد الشاعر أحياناً حين يخرج عن نمط الرباعية الذي تبناه ، فإنه من الذين يؤمنون أن ليس في الفن قيود كالحديد. ففيما يخص شاعرَنا، فإن رباعياتِه لم تسر في خط متتابع منطقي، إنه كتبها منجمة في كل عدد من صحيفة أسبوعية واحدة ( الأهرام )،فجاءت ومضات متألقة، لكنها في مجموعها تشكل رؤيته الخاصة العمبقة للحياة والوجود . وحين يقارن المؤلف بين رباعيات جاهين ورباعيات الخيام ، يجد أنهما مشتركتان في الحيرة التي تجعلك تقع في خدَر لذيذ ". إن كانت الحيرةُ مؤلمة ، فليس هناك لذة تفوق لذةَ هذه الحيرة التي يلقيك عمر الخيام في أحضانها أو بين مخالبها ." ( 52 )، وإلى نفس ذلك الخدر اللذيذ يأخذك صلاح جاهين لتركب في أرجوحة الصغار وتلتقي بفنان أصيل لا حدَّ لإنسانيته ورقته وصدق نظرته وعمقها. يرى يحي حَقي أنَّ رباعيات صلاح جاهين : بعيدة الغور ، بها تعبير عن هيمنة قوة الشر الكامنة في العالم ، لا قبل للإنسان بمواجهتها، مسلوب الإرادة ، رغمَ توقه إلى حب الحياة والخير والجمال. ( انظر، ص: 58 )، ويرى المؤلف أنه من هنا تأتي حيرة الشاعر في فهم الكون وقدر الإنسان، وكذا خوفه من العدم والفناء..
2 ـ الأستاتيكية والديناميكية في أدب نجيب محفوظ (1911 ـ 2006 )
يرى يحي حَقي خلال البحث عن ملامح المؤلف في أثره الفني ، أن الفنانين ينقسمون إلى نمطين رئيسيين :
أ ـ النمط الديناميكي المليء بالحركة ووهج المعارك ( اللص والكلاب)/ ب ـ النمط الأستاتيكي الذي ينجو من خوض المعارك، ويقوم على التأمل والتأني والصبر في البناء. يحدثنا الكاتب في البداية عن النمط الأَستاتيكي في أعمال نجيب محفوظ قبل " اللص والكلاب" ، فيلاحظ أن عناوين النمط الأول كلَّها هي أسماء لأماكن " زقاق المدق" ـ "خان الخليلي " ـ " بين القصرين " ـ قصر الشوق " ـ " السكرية " الخ. ويرى أنها عناوين تنتمي إلى معجم المعمار . كائنات جامدة باردة في وضع أستاتيكي توحي إلينا ببعدها عن الانفعال فما بالنا بالثورة، وتوحي إلينا كذلك أننا بإزاء عمل معماري هندسي سيتم بناؤه طوبة فوق طوبة بشكل محكم التنظيم. يلاحظ المؤلف أيضاً بهذا الخصوص أن فصول الرواية هي الأخرى متساوية الحجم، ويمكن الاستغناء عن الفواصل بينها دون أن تخسرَ شيئاً من فنيتها. ويقدم لنا الكاتب أمثلة من بعض الروايات التي لا يتم فيها الارتداد الزمني ، بل نجد أن الفصل مثلا في "خان الخليلي "، يمثل شهراً ونصف شهر ؛ وفي "زقاق المدق " ، يمثل ستة أشهر، وهكذا. ( انظر ص: 87 ) ، فالزمن في الروايات المدروسة في هذا الفصل زمن طولي كرونولوجي. يتحدث إلينا المؤلف في دراسته الدقيقة عن أعمال نجيب محفوظ ،عن بعض القضايا الهامة التي تطرحها. نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر : ازدواجية الشخصية ( سي السيد : أحمد عبدالجواد في "الثلاثية ") ـ اللذة الحسية وتندرج تحتها الغريزة الجنسية ـ اللذة العقلية، وصاحب هذه اللذة يعشق الفلسفة ويخوض في مسائل العلم ومشاكل المجتمع، ويجد في تأملها ومحاولة حل عقدها لذة لا تضاهيها لذة ـ اللذة الروحية، ونجدها في مجال العواطف المتنوعة ـ الاستوائية ، ويقصد بها الكاتب الوقوف موقف الحياد إزاء القيم التي تُؤمن بها شخصيات رواياته. ( ص : 106 )
يأخذ يحيى حَقي بيدنا بعد دراسته الأستاتيكية إلى النمط الديناميكي الذي تمثلهُ " اللص والكلاب" الأنموذج العبقري الفذ لهذا النمط ـ كما يعتقد الكاتب ـ لأنه وليد الانفعال. بلغ ذروةَ التعبير الفني كما بلغها في الثلاثية في الجانب المقابل الأستاتيكي,. إن " اللص والكلاب " تمثل هذا الاتجاه الديناميكي من خلال :
أ ـ العنوان = الانفعال ، الانفعال يتبدى لنا من عتبة النص ( العنوان )، فقد خرجت هذه العتبة النصية هنا عن الأسماء المتصلة بالمساكن والأحياء والحواري ليجعلنا ندخل إلى عالم النص من عتبة مختلفة ( إنسان وحيوان ) لأننا بصدد الدخول إلى عالم يغمره الصراع والتضاد ، ويوحي بما داخل المتن الروائي من دِلالات الشر والعداء والكراهية ( اللص السالب لمتاع الناس، والكلاب المستخدمة هنا استخداماً مجازياً للدلالة على الخسة والدناءة التي تعم المجتمع )
ب ـ الشكل والمضمون: ثمةَ فرقٌ كبيرٌ بين حَجْمِ "الثُّلاثِيَّة" وحَجْم "اللص والكلاب "، لذلك سماها الناقد الراحل أنور المعداوي بالرواية القصيرة ( النوفيل ـ Novela )، ويرجعُ المؤلف سبب اختلاف الحجمين إلى أن "اللص والكلاب " وليدة الانفعال ، وأثره المستهلك له هو شدة التوهج"( ص: 118) . يرى الكاتب أن القارئ في هذه الرواية يصاحب مؤلفاً منفعلاً. التريث مُمْتَنِع، يجري بك فتلهث إلى أن يصل بك إلى المتعة الفنية بطرائق فنية عديدة، فيستخدم الارتداد الزمني، فيعود بك إلى الماضي، أو الاستباق الزمني لينقلك من الماضي إلى المستقبل. يقول يحيى حَقي بأسلوبه الشائق الممتع الذي يَجْعل النقدَ عنده إبداعاً على إبداع: " أنت لا تملك إلا أن تستسلمَ له في متعةٍ لذيذة، وهو يجمع لك بين رؤية اليقظة ورؤية المنام" ( ص 148 ). وهذا ما نجده عند بعض كتابنا المعاصرين وأخصُّ هنا بالذكر الأديب المغربي الأستاذ عبد الفتاح كيليطو في كتبه الممتعة المفيدة ودراساته المدهشة، والأمثلة على ذلك تعز عن الحصر. في آخر هذا الفصل عن نجيب محفوظ، يعقد المؤلفُ مقارنة مركزة بين العملين الروائيين اللذين كانا مجال دراسته. يقول :"قد نجد في الثلاثية تفصيلاً للتفصيل أما في " اللص والكلاب " ، فلا نجد إلا خلاصة الخلاصة: الأقوال المقتضبة التي ينطق بها الشيخ علي الجنيدي التي تمثل خلاصةً لأعداد من كتب التصَوُف" ( ص : 120 ). في نفس هذه المقارنة، يذكر لنا الكاتب" تلك الصور القليلة العابرة التي بدت لنا فيها " نور" ( حبيبة سعيد مهران المخلصة العطوف، النور الوحيد الذي يضيء عتمة حياته القاتمة)، هي خلاصة لحياة بائعة هوى. الشيخ علي الجنيدي و"نور" هما القُطبان اللذان يتخبط سعيد مهران بين جَذْبَيْهما ". وتقديم الشخصيات الثلاث بهذا التلخيص المعجز، قد نجده أكثر وضوحاً من تقديم إحدى الشخصيات الرئيسية في الثلاثية بشكل أكثر تفصيلًاً, ولا يقتصر التلخيص في الرواية على الشخصيات ، بل يمتد إلى وصف بعض الفضاءات مثل : القهوة ـ منزل" نور " ، وإنها بدورها نتيجة هذا التلخيص ، بدتْ أشد وضوحاً للمتلقي ممَّا لو رسمها المؤلف بتفصيل وإسهاب.
ج ـ اللغة:
لاحظ الكاتب أن اللغة في النمط الأول احتفظتِ الألفاظ في معظم الأحوال بمعناها القاموسي. أما في النَّمط الديناميكي ، فقد تميزت بالانزياح عن اللغة العادية أو القاموسية.
ومن الجدير بالملاحظة أن يحيى حَقي ـ كما ألمحنا إلى ذلك آنفاً ـ كان مبدعاً في دراسته، وأن حبه لأدب نجيب محفوظ ، جعلَهُ يكتب هذه الدراسة ودراسات أخرى غيرها بأنامل رقيقة تقطر عطراً ومحبة.
3 ـ "سخرية الناي" لمحمود طاهر لاشين ( 1894 ـ 1954 )
بعد المقارنة الدقيقة بين عملين روائيين مختلفين في الحجم اختلافاً شاسعاً، هما "الثلاثية" و "اللص والكلاب"، ينتقل بنا المؤلفُ في هذا الفصل إلى فن القصة القصيرة، وذلك عند أحد روادها الأوائل هو محمود طاهر لاشين في مجموعته " سخرية الناي". يرى يحي حَقي أنَّ هذه المجموعة كانت صرخةً قوية تقول لنا إننا بإزاء بدء حركة تجديدية تتملص من قديم إلى جديد. فالأسلوب فيها ينجح في التملص من النثر الموروث، من عهد ابن المقفع والجاحظ إلى توفيق البكري، لكنه يُخْفقُ في التخلص من أسلوب محمد المويلحي والمنفلوطي. ثمة نجاح أيضاً في التملص من الأمثال العربية القديمة، لكن حلت محلها أمثال سائرة تدور في الحديث اليومي الدارج. واستطاع لاشين كذلك "التملص منَ اللغة الفصيحة عند نقل حوار العامة، فهو يكتُبُ طبقاً لنطقهم طلباً للصدق"( ص : 125 ). ويؤكد المؤلف أن كتابة حوار بالعامية ، لم يكن أمراً سهل القبول لدى كتاب الفن القصصي: حقيقة، مهد له محمود طاهر حقي ( 1907) في "عذراء دنشواي"، وتقبل محمد حسين هيكل بعضَ الألفاظ العامية ـ على استحياء ـ في روايته "زينب"سنة ( 1914) ، ورغم أن محمد تيمور ، كان يرفع لواء العامية في المسرح ، لكنه في القصة كان الأمر ما يزال خرقاً شديداً لحرمة الفصحى (انظر ص: 125 ). ويلاحظ يحيى حَقي أنه من حيث " الشكلُ والمضمونُ ـ وهذا مربط الفرس ـ نجد آثار التملص من أدب المقالة والمقامة .. إلى فن القصة القصيرة. وتنطقُ هذه المجموعة بكل ما في هذا التملص من جهد ومن معاناةٍ وقلقلة." (ص: 126 ). وأمر صعوبة ولادة الفن القصصي ليس بغريب ، فليس وراء كتاب القصة تراث بالمفهوم الفني للقصة يستندون إليه، وليس بجانبهم ناقد يمكن أن يحدد لهم معالم الطريق. فلجئوا إلى الاقتباس من أساتذتهم في الغرب، ولم يكونوا يجدون حرجاً في الإفصاح عن ذلك والجهر به. فاقتبس محمد تيمور من "جي دي موباسان" وطاهر لاشين من "تشيكوف" ، وقام عثمان جلال بتمصير مسرحيات موليير . وهكذا سنجد هؤلاء المبدعون تملصوا من أسلوب المقامة من جهة ، وتملصوا من الرومانسية إلى الواقعية من جهة ثانية ، وكانَ الهدف فيها كما يرى المؤلف رسم الحياة كما هي ، إلا أن التعبير لا يساير ملامح هذا الاتجاه، فتبقى عالقة بأسلوبه نغمة الحزن والبكاء الغالبة في إنتاج المنفلوطي. يقول الكاتب : " في بعض صفحات هذه المجموعة أحس أنَّ محمود طاهر لاشين يكاد يكون نسخة أخرى من المنفلوطي" ( ص: 127 ) ، ويفسر ذلك بأنه كان من العسير التخلص من هذه النزعة الرومانسية الحزينة باعتبارها تدخل في مزاج الإنسان الشرقي ، ولأن طريقُها كان مُعَبداً أمام الكاتب، فسار فيه قبلَ أن يصل إلى التعبير المناسب للمضمون الواقعي. ويذهب المؤلف إلى أن لثورة 1919 أثراَ كبيراً في تحويل كل مناحي الحياة الثقافية من غناء (سيد درويش ) ونحت (عند النحات المصري الشهير مختار) ، وعمارة (عند مهندس الفقراء حسن فتحي) ، وكان لابد أن يتحول الأدب بدوره من الرومانسية إلى الواقعية ، ويصير رجل الشارع والفلاح من الشخصيات الرئيسية في الفن القصصي ومنه قصص طاهر لاشين في إطار مذهبه الواقعي الذي كان نجمَه المتألق . ( ص: 129 ) . وتعتبر ( قصة "سخرية الناي" ) من أمثلة قصصه المستمدة من واقع حياته ( ص : 131 )، فيذكر بكل صراحة وشفافية موت شقيقه محمد عبد الرحيم ، ويلاحظ يحيى حَقي هذه الظاهرة في مجموعة أخرى مثل " يُحكى أن " حين يصفُ زيارة أبيه قبرَ ابنته ( قصة: الزائر الصامت" ). ومن الجدير بالملاحظة أن أعضاء هذه المدرسة ـ في معظمهم ـ اقتصرت عنايتهم بالمشاكل المعيشية الواقعية وتصوير العلاقات الاجتماعية في الحياة المصرية، أو وصف أنماط شاذة مضحكة من البشر. ( ص: 132 )
وينتهي الكاتب في ختام دراسته، إلى خلاصة مفادها أننا مدينون لهذه المدرسة الحديثة في الفن القصصي بالشيء الكثير، فهي التي كان لها الفضل في أن يكون لنا أدب أصيل .. وأسلوب متحرر من التكلف. هي التي ثبَّتَتْ لفن القصة قدمَه ووطدتْ سمعته، وبشرت بالمذهب الواقعي، وهي التي حاربت الظلم و الفقر والجهل والتخلف والنفاق التي كانت أكبر أعدائها" ( ص: 134 )
اللافت لانتباه القارئ، ما ذكره الكاتبُ من خصال أولئك الكتَّاب التي لم نعد نجدها في غالب الأحيان في يوم الناس هذا ، وهي " أنهمْ كانوا جميعاً يأخذونَ عملَهم الفني مأخذ الجد ، لا يبتغون مجدا ولا كسباً ، وكانت عيونهم مؤرقة وقلوبهم خافقة بحب مصر" ( ص: 134), وقد كان طاهر لاشين في مسرحها هو ممثِّلَها الأول ونجمها المتألق، كما يؤكد ذلك صديقه الدكتور حسين فوزي في كتابه " سندباد في رحلة الحياة " ( انظر، ص: 134 )
وفي ختام دراسته عن محمود طاهر لاشين، يرصد بعض مميزات كتابته كما يلي:
أ ـ سهولة الأسلوب، حيث يجعلكَ الكاتبُ قريباً منه، يحدثك حديثَ الصَّديق للصَّديق، ويحرصُ على منحك أكبر قدر من المتعة الفنية، يستطيعُ أن يغدقها عليك.
ب ـ القدرة الهائلة على الوصف الدقيق، فهو لا يصفُ إلا ما رأتهُ عيناه. ( ص: 135 )
ج ـ علمه بأسرار النفوس، والانتباه إلى ما في الحياة من مفارقات، بعضها يبعثُ على الضحك ، وبعضها الآخر يثير في النفس الشجن والحزن .
د ـ القدرة الفائقة على استخدام الدعابة التي تنطوي تحتها أحياناً غلالة من الإشفاق على ضُعْف الإنسان وقلة حيلته في هذه الحياة.
4 ـ "عذراء دنشواي" لمحمود طاهر حَقي( ) ( 1984 ـ 1890 )
يمكن اعتبار هذه الرواية عملاً تسجيلياً وثائقياً تتعلق بحادثة "دنشواي" سنة 1906 ( ) كما حدثت في الواقع، وأن عنصر الخيال فيها جد ضئيل. وأعجبُ ما يذكره يحيى حقي عن هذه الرواية هو أنها "أول رواية مصرية مؤلفة تباعُ منها آلافُ مؤلفةٌ من النسخ فَوْرَ صُدورِها. أُعيدَ طبعُها عدة مرات في فترة وجيزة" ( ص: 136 ). وهكذا استطاعت هذه الرواية أن تغزو على نطاق واسع جماهير غفيرة من القراء ، ولم تعد قصراً على المهتمين بقراءة هذا الفن الجديد, ويرى يحي حقي " أن (عذراء دنشواي) هي التي هيأتْ أذهان عامة القراء لتقبل الفن القصصي، هي التي أعدت المسرح الذي سيتجول فيه هذا الفن حتى يبلغَ رقيه الذي بلغهُ اليوم. " ( ص: 147 )، وما جعلها تحظى بهذا التلقي غير المسبوق، هو ارتباط موضوعها بوجدان الشعب، نتيجة الحادثة المأساوية التي تعرض لها أبناء جلدتهم الأبرياء في قرية " دنشواي "، ورصدها حياتهم ومشاكلهم وهمومهم، كما تنقل لنا لهجتَهم العامية كما ينطقونها في حياتهم ومعاملاتهم اليومية. ويعتبر المؤلف أن هذه الرواية التي كتبها صاحبها سنة 1909، كانت الممهدة لرواية "زينب" التي يَعُدها النقاد بداية الرواية العربية بمفهومها الفني. يقول :" وأكادُ لا أعدو الحقيقة كثيراً إذا قلتُ إن "عذراء دنشواي"، هي البذرة التي مهدتْ ـ في نظري ـ لمحمد حسين هيكل أن يكتبَ في سنة 1912 رواية "زينب"، وجعل حوادثها تجري في الريف وبعض أبطالها من الفلاحين " ( ص :149 )
5 ـ " اللَّوَحاتُ القَلَمِيَّة " للشيخ مصطفى عبدالرازق: (حوالي 1304 هـ / 1885م - 24 ربيع الأول 1366 هـ / 15 فبراير 1947م. )
يخرج الشيخ مصطفى عبدالرازق عن القوالب المقررة المعتمدة في الكتابة، فما يكتبه يقع بين المقالة الأدبية والقصة القصيرة. وهذا النوع الأدبي إذ وقع بين النوعين المشار إليهما، قد التزم جانب الثانية ( القصة القصيرة )، لا الأولى ( المقالة )، وهو بذلك كان رافداً ثرياً كبيراً لها. إن الكاتب هنا يتحدث عن هذا الضرب من التأليف الذي يمكن تسميته بالمقالة القصصية. وهذا النوع الأدبي لا يكتبه إلا قلة من الأدباء أهمهم الدكتور حسين فوزي الأديب الرحالة الباحث عن أسرار البحار ، الغائص في أعماق بحار اللغة العربية وكنوزها. وقد أطلق المؤلفُ اسم لوحة قلميَّة على هذا النوع من الكتابة، لأن صاحبها كان همه الأوحد ، ومتعته الكبرى الرسم بالكلمات لا باللون والفرشاة، فهو أقرب إلى الفنون التشكيلية . وقد عنون الشيخ عبدالرازق هذه اللوحات بعنوان " مذكرات الشيخ فزارة" ، ويلاحظ يحيى حقي أن هذا العمل الجليل، لم يحظ من النقاد بما هو جدير به من الالتفات والعناية ( ص: 185 ). يقول يحيى حقي " يحيد الضوء عن أغلى الجواهر ، ويتسلط على المحظوظ من فصوص الزجاج البراق" ( ص: 165 ) والحال أن الشيخ مصطفى قد وضع بهذه المقالات بذرة من بذور القصة القصيرة عندنا.( ص: 168 ) ، ومن الجدير بالذكر أن مصطفى عبد الرازق أتم دراسته في باريس بفرنسا والتقى بالشيخ محمد عبده ، وتأثر بأسلوبه. " بل إن ظلَّ الإمام مبسوط على المقالات كلها، كأنها من وحيه، مكتوبة، رغم الغربة، تحت بصره" ( ص: 167 )، وإن كانا يختلفان في الطبع الذي انعكس على أسلوبهما. لقد كان في طبع محمد عبده حدة استمدها من أستاذه جمال الدين الأفغاني، بينما نجد مصطفى عبد الرازق يميل بطبعه إلى الرفق والسماحة التي تكره الغضب، وترهب الثورة. ويرى يحيى حقي بعد دراسة مقالات الشيخ عبدالرازق أو لوحاته القلمية أنه في هذه المقالات من أوائل المبشرين بالاتجاه الواقعي الذي حمل لواءه بعد ذلك رواد المدرسة الحديثة في الفن القصصي. ولا ينبغي أن ننسى الإشارة إلى أن هذه اللوحات القلمية رصدها صاحبها للحديث عن موضوعين: الدراسة في الأزهر وضيقه بها وبمناهجها ؛ وصف الريف المصري وظروف حياة الفلاحين المتقشفة الشاقة بالأسلوب الواقعي الذي ألمحنا إليه.
6 ـ عباس علام (1892 - 1950)
ينتقل بنا المؤلف في هذا الفصل، ليعرفنا بمسرحي نجهله بل يجهله حتى الأجيال من أدباء بلده، هو عباس علام. إنه المسرحي عاشق ممثلة مسرحياته " فيكتوريا موسى ". يقول المؤلف : " إن قصة حب عباس لفيكتوريا موسى صورة فذة لانجذاب المؤلف المسرحي إلى الممثلة التي تقوم بأدوار البطولة في رواياته." ( ص: 162). ويُحيلنا إلى مثل هذا العشق الذي كان سائدا بين أكبر الشعراء وأشهر المطربات، ويذكر لنا على سبيل المثال أحمد رامي وأم كلثوم، وإن كان من طرف واحد، وينطوي على الكثير من الكتمان. وهذا ما يرويه المؤلف عن عباس علام " مجنون ليلى العصر الحديث " كما يلقبه ، فحين عجز عن كتم أشجانهِ وأحب أن يفضيَ بها ، حتى ولو لنفسه وحدها ، كتبها في أوراق وجمعها بين غلافين جلديين فاخرين ، ثم بعد ذلك سلمها إلى صديق أمين ، وطلب منه أن يحتفظ بها ، وأن لا يفضي بسرها إلى أحد، وأن يسلمها إلى حبيبته. ويذكر المؤلف هذا الصديق باسمه: هو الأستاذ صلاح كامل الذي كتب مؤلَّفه الشيق عن سيرة هذا المسرحي العاشق. وخلال حديثه الشيق الكاتب عن هذا الحب العذري العارم، يحدثنا عن بعض مسرحياته و عن الحركة المسرحية في مصر عهد ذاك، ومساهمة أعراق وأديان مختلفة في الفن المصري سواء في الموسيقى أو المسرح. من الجدير بالملاحظة أن عباس علام الذي كادت يد النسيان تمحو اسمه من تاريخ المسرح في مصر له مسرحيات عديدة، وكلها مثلت على خشبات المسرح، نذكر بعضها على سبيل المثال لا الحصر هي : 1 ـ كوثر ( 1924 ) / 2 ـ سهام ( 1925 ) / 3 ـ زهرة الشاي ( 1925 ـ 1926 )/ 4 ـ المرأة الكذابة ( 1926 ) / 5 ـ الساحر ( 1926) ص: 229 ).
وهذا الفصل هو مسك ختام هذا الكتاب القيم للكاتب الكبير يحيى حَقي، ومن أعذب فصوله وأمتعها وأغزرها من حيث المعلومات التي يقدمها حول الحركة الفنية والمسرحية في العشرينيات.
وقد سبق لي أن أشرتُ إلى أن يحيى حقي مبدع في كتاباته النقدية ، يتسربلُ أسلوبه أحيانا بالشَّاعرية التي لا تتوفر في بعض شعرنا اليوم. أود أن أختم عرضي المتواضع لكتاب "عطر الأحباب" بفقرة منه تقطر شعراً وعطرا وجمالاً يتحدث فيها عن كيفية تشكل الإبداع الفني عند الكتاب الذين أحبهم، وتعطر بعطر أدبهم, ومنهم (عباس علام). يقول فيها: "نبض فهمهمةٌ فتخلقٌ ثم استواء. هذه هي مراحل ولادة النغمة عند الشاعر . والنبض ممضٌ والهمهمة همهمة جن، والتخلق كانعقاد الحِمَم، أما الاستواء فعلى ذروة الجمال، تَحرُّرُها يخالط السحاب، ويطلُّ على قمم الجبال الشاهقة. تهبط إليه من عالم الغيب ، من عالم الأحلام المبهمة، أو تسمو إليهِ من أغوار تسكنها أشواقُ الخلاص وعذابات الضياع والأنين." ( ص: 187 )
الهوامش :