د. سيد شعبان - بقجة سمعان...

يشق النهار طريقه لا يعوقه ظلام الليل ولا يمنعه نوم الكسالى، يزحف في بطء كما لو كان دودة تعرف منعرجات الطريق، يحمل سمعان بقجة القماش، قادم من الزمن الأول، لا يعرف أحد فصله أو أصله، في أبلسة عرف كل الأسرار؛ بل وحتى وشم الأجداد، يوم فر نابليون من المحروسة، كان جده مع يعقوب الأرميني، طالت هذه الحكاية حتى نسيها الرواي؛ فالناس في المحروسة مصابة بفقد الذاكرة، كلما جاءتهم مصيبة أنستهم أختها.
ثيابه مخططة بالأبيض والأزرق، يرتدي طاقية تسرح فيها الوطاويط؛ تعلو ظهره حدبة، يستند على عصاه، يخفي في فمه طاقم أسنان ذهبي، يبدو أن سكان زقاق المدق تسللوا إلى بلاد المحروسة؛ زمن قطار الدلتا مضى وبقي منه هؤلاء.
يحمل البقجة التي تحوي أسراره، بها جيب سحري.
يدور بها من قرية إلى عزبة ومن حارة إلى أخرى، يبيع لهؤلاء القابعين في بلاد لا تعرف غير صوت المذياع، يلتفون حوله حين يأتي المساء، يخامرهم بحكايات الطرب؛ يذغدغ أجسادهم، يشترون منه النداغة وشعر البنات، حتى النسوة المجدرات يصلحن من عكارة وجوههن بما يزينه لهن من دهان.
يفترشون جرن الوسية، تظنهم الحورايين وجدوا المسييح بعد كد وعناء، ينصتون خاشعين، خدر لذيذ يسري في نفوسهم، وحده يعرف قيمة ما يمتلكون من ثروة لا تقدر؛ في كفر ناء أخفى الأجداد حليهم؛ صنعوا منها محاريث وتماثيل.
قط وثور، لوح كبير به علامات تشير إلى سر ما، كل هذه الأشياء لا يهتم بها الناس هنا، ثمة حجرة كبيرة عند الجدار الغربي للجامع البحري، عليها نقوش عجيبة، رسوم لأبقار ترعى في أرض خضراء، تلعب حولها كلاب رقطاء، طفل صغير يعزف بناي من بوص الغاب، جهة النهر توجد مغارة يخرج منها سمعان حاملا بقجته، يغريهم بأثواب للنساء، حمراء زاهية كقرص الشمس في الضحى، يتعاركون أيهم يبيع عنزته ليأتي لزوجته بما يشبع نهمها لتكون الأنثى الأجمل؛ يلعب الفأر في خزانة الطعام؛ تساقط الأسقف مطرا أسود مما اختزنت من روث.
زجاجات عطر، حناء، حبة تعيد للعاجز قوته في ليالي القهر التي تتداخل فيها الحوائط بالأبواب، ثم يغطون في نوم عميق، دارت الأيام وجاء سمعان بعربة تجرها بغلة، يضع ألوانا من العلب، يطوف بهم في حقولهم، يلهثون وراءه؛ تخور الأبقار؛ فلا ساقية دارت ولا أرض أخرجت نبتها.
تعلو ظهره حدبة كأنها حجرة، منخاره أشبه بإبرة بثقبين، له حيل تفوق جن سليمان، حتى إن الناس اعتقدت أنه ولي من أولياء الله الصالحين، فالمدد يأتي مع ريالة وخرقة ممزقة؛ كلمات وطلاسم، أفعال الحواة تخدع الدراويش، مدد مدد يا سيدي سمعان؛ تلك كانت صيحة المولد في الليلة الكبيرة.
يلف منديله المحلاوي حول رأسه، تتدلى من رقبته مسبحة العاج، له رائحة تشم من بعيد؛ أشبه برائحة كن الدحاج، بيديه سلة يضع فيها كتابا أصفر؛ يخفي حية من ذهب.
حام حول المكان ينتهز فرصة ليقتنص الحجر العتيق، تقول الحكاية: سمعان ساحر، حيث شاهده الناس في جرن الوسية يلاعب البيض والحجر، يذبح الديك ثم ينهضه حيا يصيح من جديد؛
الآخرون قالوا: إن سمعان عنده كتب صفراء مدفونة في تابوت موسى، هذه خرافة وما أكثرها في الكفر المحجوب عن نور الله؛ هذه القرية يجرى بها" تركيب اليهود"؛نهير صغير، يأتي بالماء من ساقية وسط النهر؛ حين لا يكون الفيضان.
وﻷنهم يعيشون في الجهل ويتمرغون في الوحل، أوهمهم أن التماثيل والأبقار الموجودة في مغارة النهر لعنة عليهم، سلموه كل ما اختزنوه في المغارة العتيقة، حمل بعير جاء به من كفر العرب؛ رست سفينة عند ضفة النهر، نزل منها أناس ذوي لحية صفراء؛ يرطنون بكلمات غريبة، في الصباح لم تعد الحجرة الكبيرة عند جدار الجامع.
يأتي صوت من المذياع : كنز من ذهب سرقه سمعان؛ تلطم النسوة؛ يلعن الرجال -الذين تطوح بهم الريح- بعضهم بعضا، تشتعل الحرائق في جرن الوسية، هبت العاصفة، يشتد عواء الذئاب، تنبح الكلاب في مناحة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى