لا حاجة بي إلى تذكير القارئ بالمكانة البارزة التي تحتلها رواية (يوليسيس), للكاتب الأيرلندي جيمس جويس, في المشهد الروائي العالمي للقرن العشرين. فهذا الأمر أصبح من نافلة القول ويكفي أن نُشير إلى حقيقتين تتعلقان بهذا العمل حتى يتسنى لنا أدراك أبعاده الاستثنائية التي استرعت انتباه كبار النقاد والباحثين في الغرب: الأولى نقدية, إذ يقول (مونرو أدمونسون) في كتابه (عن الفن الشعبي والأدب) أن عدد من يتحدثون اللغة الإنكليزية في العالم يبلغ ( 338 مليون), ومن يقرءون باللغة الإنكليزية ( 276 مليون) والعمل الأدبي الذي يمثلهم هو "يوليسيس" لجيمس جويس. أما الحقيقة الأخرى فهي إحصائية وغاية في البساطة تقف دالةً شاخصةً على فرادة هذا العمل الروائي: إذ يبلغ طول هذه الرواية حوالي ( 265 ألف كلمة), ويُوظف جويس فيها قاموساً لغوياً هائلاً يصل إلى ( 30 ألف) مفردة (تشمل أسماء الأعلام وصيغ الجمع ومختلف تصريفات الأفعال) ويظهر أكثر من نصف هذه الكلمات لمرة واحدة فقط في النص وذلك بالتأكيد يشكل سابقة مدهشة في عالم السرد الروائي إذ لم يمتلك أي روائي قبل جويس هذه الثروة اللغوية الهائلة.
لكن قراءة هذه الرواية عن كثب كفيلة بالكشف عن نسق رمزي مُضمَر, مخبوءٌ بدهاء بين الأستار الفنية واللغوية السميكة التي أسدلها جويس حول روايته بأحكام. وتتراكم عند هذا النسق مجموعه حاشدة من أصابع الاتهام التي تلقي على الرواية ظلالاً قاتمة من الشُبهات والاتهامات المثيرة للجدل. وهذا ليس بالأمر الجديد, إذ لطالما اندلعت سلسلة صاخبة ومحتدمة من المناقشات الأكاديمية وغير الأكاديمية عن هذا العمل يُطلق عليها في العادة (حروب جويس/ Joyce Wars). لكن العتمة تداهم القارئ الحذر منذ الوهلة الأولى التي يستهل بها قراءة مدخل الرواية السردي (الحلقة الأولى تليماخ), ناهيك عن دلالات تمركز الرواية الرهيب على خط مسير الشخصية الأساسية في العمل (ليوبولد بلوم), وهو الموازي الرمزي ليوليسيس في ملحمة هوميروس (الأوديسة).
العتمة التي نحاول تقحمها هنا ليست عتمة إباحية, وهي تهمة لطالما عانت منها هذه الرواية, بل هي عتمةٌ (أثنيةٌ) مخاتلة , تحاول التواري خلف نَسق رمزي غايةٌ في الدهاء. فمَن هو (ليوبولد بلوم)؟ يهودي (يدعي اعتناقه البروتستانتية), قوّاد يجول شوارع دبلن ويحاول الانقضاض على جسد زوجته (البروتستانتية) الشَبِقة بكل السبل المتاحة وغير المتاحة حتى بإدخاله الرجال عليها. يهودي لا يطأ جسد زوجته البروتستانتية فحسب بل وجسد مدينة دبلن برمتها حينما ترصد الرواية مسيرته اليومية عبر حانات وأزقة دبلن الموبوءة. يهودي مستذئب فهو مغرم بأكل أحشاء الحيوانات والطيور:
"أكل ليوبولد بلوم بشهية أحشاء الحيوانات والطيور.كان يحب حساء الطيور الثخين والقوانص ذات النكهة اللوزية, والقلب المشوي المحشو, وشرائح الكبد المقلية مع لب الخبز اليابس, وبطارخ السمك. أكثر ما كان يحب كُلى الضأن المشوية التي لحاسة ذوقه نكهة رائعة لأثر خفيف من رائحة البول." ص 123
وبالرغم من محاولة جويس أظهار لا مبالاة (بلوم) وسخريته من يهوديته (كما في حلقة المواطن في فصل سايكلوب) إلا انه يُمعِن في إلصاق جميع الرذائل و الخساسات الجنسية الضاربة عمقا في سلوك هذه الشخصية وخاصة ولعه وهوسه بالعلاقة الغرامية الصارخة بين زوجته ومديرها (بويلان) لا بل أنه لا يتوانى حتى عن تصويره وهو يتبرَّز أمام القارئ.
هذا الإصرار الرمزي (والصريح في أحيان كثيرة) على يهودية (بلوم) يحمل في طياته ظلاً أثنياً لا يمكن التعاطي معه ضمن إطار التبريرات التقليدية لمحاولة الرواية وضع استقراء موضوعي للمشهد الأثني السائد في القرن العشرين ورصد النزعة المعادية للسامية فيه.
ويتفاقم هذا الظل الأثني و يتغول بدهاء غاية في المواربة حينما يستحضر الروائي أسمي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون) في الحلقة الأولى: فتحْتَ ذريعة تيار الوعي والتجلي المتشرذم لهذا الوعي (Fragmentary Revelation) يدس جويس سم الأثنية في العسل السردي هذه المرة مستغلاً سمة التشرذم والتجزء في وعي (ستيفن) وهو يحاول مساعدة أحد التلاميذ البلداء , المدعو (سارجنت), في نهاية حصته الدراسية. هذا التشرذم هو حصان طروادة الذي يجعل القارئ يظن أن جويس يُبيح لنفسه سكب لحظات من التداعي الحر لخبرات الوعي اليومي لستيفن حتى تبدو هذه الخبرات للوهلة الأولى وكأنها غير متجانسة وخارجة عن المفهوم التقليدي لمساوقة وعي السارد أو أحدى شخصياته مع بواعث ومحركات هذا الوعي. والخدعة تكتمل حينما يُساق القارئ سوقاً إلى تقبل الفوضى الوهمية من اللاتجانس السياقي على اعتبار أن الخبرات المُستحضَرة لخليط الوعي المتشرذم تُبيح للقارئ أن يتقافز كالأرنب البري من سياق إلى أخر حتى وأن بدا مجموع هذه السياقات أشبه ما يكون بكولاج تلتصق فيه سياقات متنافرة إلى جانب بعضها البعض دون وجود أي رابط فعلي يجمعها في سياق ماكروي واحد.
هذه خدعة ماكرة! وأليكم جزء من النص الذي ورد فيه أسمي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون):
"جالساً إلى جواره حل ستيفن الأحجية. لقد برهن عن طريق الجبر بأن شبح شكسبير هو جد هاملت. حملق سارجنت شزراً من خلال عويناته المائلة. مضارب الهوكي تطقطق في حجرة الأدوات الرياضية: ضربة جوفاء لكرة ونداءات من الملعب.
عبر الصفحة تحركت الرموز الرياضية بجدية رقصة مورس (المغربية), في عرض حروفها الصامت, لابسات قبعات جذابة, مربعات ومكعبات. أشترك في الرقص, رُح جيئةً وذهوباً, أنحن لمراقصك: كذا: يا عفاريت الخيال المغاربة. رحل أيضاً عن الدنيا, أبن رشد وموسى بن ميمون, رجلان داكنان في الطلعة والنزعة, يعكسان في مراياهما الصورية نفس العالم المعتمة, ظلمة وضئيلة في اللمعان لم يدركها.
وبجرات قلم طويلة مرتعشة, أستنسخ سارجنت المعلومات. منتظراً دائماً كلمة مساعدة, نقلت يده بأمانة, الرموز الرياضية غير المستتبة, لون خفيف من الخجل يومض تحت جلده الأربد." ص58
لا يمكن للقارئ الحذر أن لا يستحضر تقابل ثنائيتين في النص أعلاه (ستيفن/ سارجنت) إزاء (أبن رشد/ أرسطو). هنالك تأكيد واضح على بلادة (سارجنت) التلميذ واقتصار سلوكه المعرفي على (الاستنساخ الأمين وإن كان بخطٍ مرتعش) فحسب و يردفه (ستيفن) بوصفٍ غايةٍ في القبح "للهيئة الشائنة للصبي": " شعره الثخين, ورقبته المهزولة, شهدا على عدم الرغبة والإقبال ومن خلال عويناته المضببة, عينان ضعيفتان تطلعتا بتضرع. على خده, كدِراً وخالياً من الدم, بقعة حبر ليّنة, . . .الخ" ص57.
الصبي الجاهل ذو البصيرة القاصرة أو المُستنسِخ الأمين لا يحظى باهتمام ستيفن على الإطلاق, ستيفن المعلم والفنان والفيلسوف. هذا التأكيد على سلوك الاستنساخ (الأمين) لدى الصبي ربما يكون هو الخيط السياقي الماكر الذي يربط (ابن رشد) تحديداً بتراث (أرسطو) الفلسفي. إذ كما هو معروف أشتهر (أبن رشد) في الثقافة الغربية بصفته ناقلا ( أو مستنسخاً أميناً) لفلسفة أرسطو (المعلم الأول). ولا يتعدى التراث الفلسفي الذي خلفه (أبن رشد), و (موسى بن ميمون) من بعده, كونه (عفرتة) تلاميذ امتلكوا شيئاً ما من الخيال (عفاريت الخيال المغاربة ص 58).
وليس هذا فحسب بل أنهما, أي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون), يحملان نفس القبح الذي نسبه ستيفن للصبي: "رجلان داكنان في الطلعة والنزعة" ص 58. ربما بوسعي أن أتفهم دُكنة طلعتهما, فهما رغم كل شيء ينتميان إلى جغرافية شمال أفريقيا (القارة الداكنة) ولكني لم أفهم بتاتاً مسوغات (جويس/ ستيفن) لنعت (نزعتهما) بالداكنة! إذ تستمر الدُكنة والعتمة لتكونا مقترنتين بمجمل النتاج المعرفي الذي يعكسه أبن رشد (الفيلسوف المسلم) و موسى بن ميمون (الفيلسوف اليهودي), فهما يعكسان ( . . في مراياهما الصورية نفس العالم المعتمة - في الأصل الإنكليزي وردت mocking mirrors أي المرايا الساخرة أو المتهكمة ولا أعلم لمَّ ترجم صلاح نيازي هذه الكلمة إلى الصورية). هذه هي التركة التي خلفاها هذان الفيلسوفان: صورة داكنة عن العالم, بوسعها التعاطي بسهولة مع مساحات الريبة والشك تاركةً الباب مشرعاً للكثير من الأسئلة دون جواب, أنهما يتسامحان كثيراً مع المناطق المظلمة للغيب والأيمان ويقدمان جسداً معتماً للمعرفة وبالتالي لا يخلفان سوى صورة ممجوجة عن العالم تملئها العتمة, عتمة الأسئلة المتروكة لغموض الأيمان وضبابياته الأشراقية اللامسؤولة. ناهيك عن أن هذه الظلمة أو العتمة التي يتركانها لا يدركها (اللمعان) البرهاني الذي خلفه أرسطو لأبن رشد على وجه التحديد, "ظلمة وضئيلة في اللمعان لم يدركها". هذه الدُكنة في بشرتي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون) وفي نزعتهما الفلسفية الظلامية تأتي على نحو العلامة الفارقة التي تربطهما معاً بالصبي البليد الذي فاقمت (بقعة الحبر الليّنة) الداكنة هي الأخرى من قبحه.
وبالتالي يتوازى حضور سارجنت (التلميذ الذي لا يُجيد سوى الاستنساخ الأمين) إزاء معلمه ستيفن (الفنان والفيلسوف) مع الحضور المعرفي المجتزئ لأبن رشد تحديدا (بصفته ناسخاً أميناً هو الأخر) إزاء معلمه الأول أرسطو.
هذا التقافز الماكر بين مفاهيم (التلميذ/ المعلم), و(الدُكنة/ النور) و (الاستنساخ/ الإبداعية) يضع المنظومة الثقافية الهائلة لجيمس جويس برمتها في دائرة التصنيفات الأثنية الشائعة في القرن التاسع عشر للأعراق البشرية. بل أن نسبة (ابن رشد) إلى (أرسطو), حسبما يراها جويس في يوليسيس, تحيلنا مباشرةً إلى الرؤية الكولينالية للشرق وفقاً لطروحات (مكاولي) في كتابه الشهير ( مذكرة حول القانون والتعليم) والصادر في 1835. إذ يرى (مكاولي) في كتابه هذا " أن رفاً واحداً من مكتبة أوربية عامرة يساوي مجمل الأدب الوطني الهندي والعربي." أن أقصى ما قام به الشرق (بنسخته الإسلامية على الأقل) هو توفير قناة (ناسخة وأمينه بعض الشيء) تكفلت بنقل التراث الفلسفي اليوناني (دون أي إضافة) إلى الجهة الأخرى من العالم. استنساخ مجرد استنساخ يفتقر إلى أي بصيرة نافذة بوسعها أن تلتمع في ظلمات الشرق الدامسة.
هذه هي رؤية جويس لجوهر المساهمة, والأحرى الدور المحدود, الذي قام به الشرق في رسم خارطة المعارف البشرية. ويجب أن لا ننسى أبدا الثقافة المسيحية لجويس ( إذ أنخرط تحت تأثير والديه المؤمنين في دراسة اللاهوت المسيحي في مدرسة اليسوعيين – الجزويت - الدينية في سني شبابه) وكان لتوما الأكويني أثراً بالغاً في رسم الخطوط الأولى للوعي الفلسفي والديني لدى جويس (الروائي الشاب). أن توما الأكويني هذا, وهو أحد فلاسفة اللاهوت الذائعي الصيت في القرون الوسطى وهو أحد معلمي الكنيسة الثلاثة والثلاثين, كان مكباً على دراسة شروحات (أبن رشد) لمؤلفات (أرسطو) الفلسفية غير أنه لم يعمد أطلاقاً إلى وضع أي أشارة صريحة لأسم (أبن رشد) في كتاباته وكان يكتفي بذكره بصفته معلقاً (Commentator) فحسب.
الغريب في الأمر أن جويس كان ثائراً على جميع النمطيات الثقافيه السائدة في عصره سواء الأدبية منها أو الفلسفية أو حتى الدينية, ففي حين أن جمهور المثقفين في دبلن كانوا مأخوذين بأعمال وليم شكسبير راح هو يمجد أعمال بن جونسن, كما كان يبغض أشعار ييتس التي لاقت رواجاً هائلاً آنذاك. أما فلسفياً ودينياً فكان يعد (جوردانو برونو) القس الكاثوليكي أباً حقيقياً للفلسفة الحديثة والإصلاح الديني. كان يحاول الانعتاق من أي سلطة معرفية قد تحجم من مساحة الفضاء الحر الذي تنشده أجنحة الفنان الرافضة لكل أنواع التسلط الثقافي والديني. غير أنه يتخلى عن تمرده هذا وينساق مذعنا مع أكثر الرؤى نمطيةً عن الشرق. هذه سابقة لا تنسجم عادةً مع السياق الثوري والمتمرد الذي يُطرح فيه فن جيمس جويس في الآلاف من الدراسات والمقالات الأكاديمية. فحينما يتعلق الأمر بالشرق يقفل جويس عائدا إلى القطيع متخلياً عن رغبته العارمة بالتمرد والاختلا ف مع ما هو سائد ونمطي.
لكن قراءة هذه الرواية عن كثب كفيلة بالكشف عن نسق رمزي مُضمَر, مخبوءٌ بدهاء بين الأستار الفنية واللغوية السميكة التي أسدلها جويس حول روايته بأحكام. وتتراكم عند هذا النسق مجموعه حاشدة من أصابع الاتهام التي تلقي على الرواية ظلالاً قاتمة من الشُبهات والاتهامات المثيرة للجدل. وهذا ليس بالأمر الجديد, إذ لطالما اندلعت سلسلة صاخبة ومحتدمة من المناقشات الأكاديمية وغير الأكاديمية عن هذا العمل يُطلق عليها في العادة (حروب جويس/ Joyce Wars). لكن العتمة تداهم القارئ الحذر منذ الوهلة الأولى التي يستهل بها قراءة مدخل الرواية السردي (الحلقة الأولى تليماخ), ناهيك عن دلالات تمركز الرواية الرهيب على خط مسير الشخصية الأساسية في العمل (ليوبولد بلوم), وهو الموازي الرمزي ليوليسيس في ملحمة هوميروس (الأوديسة).
العتمة التي نحاول تقحمها هنا ليست عتمة إباحية, وهي تهمة لطالما عانت منها هذه الرواية, بل هي عتمةٌ (أثنيةٌ) مخاتلة , تحاول التواري خلف نَسق رمزي غايةٌ في الدهاء. فمَن هو (ليوبولد بلوم)؟ يهودي (يدعي اعتناقه البروتستانتية), قوّاد يجول شوارع دبلن ويحاول الانقضاض على جسد زوجته (البروتستانتية) الشَبِقة بكل السبل المتاحة وغير المتاحة حتى بإدخاله الرجال عليها. يهودي لا يطأ جسد زوجته البروتستانتية فحسب بل وجسد مدينة دبلن برمتها حينما ترصد الرواية مسيرته اليومية عبر حانات وأزقة دبلن الموبوءة. يهودي مستذئب فهو مغرم بأكل أحشاء الحيوانات والطيور:
"أكل ليوبولد بلوم بشهية أحشاء الحيوانات والطيور.كان يحب حساء الطيور الثخين والقوانص ذات النكهة اللوزية, والقلب المشوي المحشو, وشرائح الكبد المقلية مع لب الخبز اليابس, وبطارخ السمك. أكثر ما كان يحب كُلى الضأن المشوية التي لحاسة ذوقه نكهة رائعة لأثر خفيف من رائحة البول." ص 123
وبالرغم من محاولة جويس أظهار لا مبالاة (بلوم) وسخريته من يهوديته (كما في حلقة المواطن في فصل سايكلوب) إلا انه يُمعِن في إلصاق جميع الرذائل و الخساسات الجنسية الضاربة عمقا في سلوك هذه الشخصية وخاصة ولعه وهوسه بالعلاقة الغرامية الصارخة بين زوجته ومديرها (بويلان) لا بل أنه لا يتوانى حتى عن تصويره وهو يتبرَّز أمام القارئ.
هذا الإصرار الرمزي (والصريح في أحيان كثيرة) على يهودية (بلوم) يحمل في طياته ظلاً أثنياً لا يمكن التعاطي معه ضمن إطار التبريرات التقليدية لمحاولة الرواية وضع استقراء موضوعي للمشهد الأثني السائد في القرن العشرين ورصد النزعة المعادية للسامية فيه.
ويتفاقم هذا الظل الأثني و يتغول بدهاء غاية في المواربة حينما يستحضر الروائي أسمي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون) في الحلقة الأولى: فتحْتَ ذريعة تيار الوعي والتجلي المتشرذم لهذا الوعي (Fragmentary Revelation) يدس جويس سم الأثنية في العسل السردي هذه المرة مستغلاً سمة التشرذم والتجزء في وعي (ستيفن) وهو يحاول مساعدة أحد التلاميذ البلداء , المدعو (سارجنت), في نهاية حصته الدراسية. هذا التشرذم هو حصان طروادة الذي يجعل القارئ يظن أن جويس يُبيح لنفسه سكب لحظات من التداعي الحر لخبرات الوعي اليومي لستيفن حتى تبدو هذه الخبرات للوهلة الأولى وكأنها غير متجانسة وخارجة عن المفهوم التقليدي لمساوقة وعي السارد أو أحدى شخصياته مع بواعث ومحركات هذا الوعي. والخدعة تكتمل حينما يُساق القارئ سوقاً إلى تقبل الفوضى الوهمية من اللاتجانس السياقي على اعتبار أن الخبرات المُستحضَرة لخليط الوعي المتشرذم تُبيح للقارئ أن يتقافز كالأرنب البري من سياق إلى أخر حتى وأن بدا مجموع هذه السياقات أشبه ما يكون بكولاج تلتصق فيه سياقات متنافرة إلى جانب بعضها البعض دون وجود أي رابط فعلي يجمعها في سياق ماكروي واحد.
هذه خدعة ماكرة! وأليكم جزء من النص الذي ورد فيه أسمي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون):
"جالساً إلى جواره حل ستيفن الأحجية. لقد برهن عن طريق الجبر بأن شبح شكسبير هو جد هاملت. حملق سارجنت شزراً من خلال عويناته المائلة. مضارب الهوكي تطقطق في حجرة الأدوات الرياضية: ضربة جوفاء لكرة ونداءات من الملعب.
عبر الصفحة تحركت الرموز الرياضية بجدية رقصة مورس (المغربية), في عرض حروفها الصامت, لابسات قبعات جذابة, مربعات ومكعبات. أشترك في الرقص, رُح جيئةً وذهوباً, أنحن لمراقصك: كذا: يا عفاريت الخيال المغاربة. رحل أيضاً عن الدنيا, أبن رشد وموسى بن ميمون, رجلان داكنان في الطلعة والنزعة, يعكسان في مراياهما الصورية نفس العالم المعتمة, ظلمة وضئيلة في اللمعان لم يدركها.
وبجرات قلم طويلة مرتعشة, أستنسخ سارجنت المعلومات. منتظراً دائماً كلمة مساعدة, نقلت يده بأمانة, الرموز الرياضية غير المستتبة, لون خفيف من الخجل يومض تحت جلده الأربد." ص58
لا يمكن للقارئ الحذر أن لا يستحضر تقابل ثنائيتين في النص أعلاه (ستيفن/ سارجنت) إزاء (أبن رشد/ أرسطو). هنالك تأكيد واضح على بلادة (سارجنت) التلميذ واقتصار سلوكه المعرفي على (الاستنساخ الأمين وإن كان بخطٍ مرتعش) فحسب و يردفه (ستيفن) بوصفٍ غايةٍ في القبح "للهيئة الشائنة للصبي": " شعره الثخين, ورقبته المهزولة, شهدا على عدم الرغبة والإقبال ومن خلال عويناته المضببة, عينان ضعيفتان تطلعتا بتضرع. على خده, كدِراً وخالياً من الدم, بقعة حبر ليّنة, . . .الخ" ص57.
الصبي الجاهل ذو البصيرة القاصرة أو المُستنسِخ الأمين لا يحظى باهتمام ستيفن على الإطلاق, ستيفن المعلم والفنان والفيلسوف. هذا التأكيد على سلوك الاستنساخ (الأمين) لدى الصبي ربما يكون هو الخيط السياقي الماكر الذي يربط (ابن رشد) تحديداً بتراث (أرسطو) الفلسفي. إذ كما هو معروف أشتهر (أبن رشد) في الثقافة الغربية بصفته ناقلا ( أو مستنسخاً أميناً) لفلسفة أرسطو (المعلم الأول). ولا يتعدى التراث الفلسفي الذي خلفه (أبن رشد), و (موسى بن ميمون) من بعده, كونه (عفرتة) تلاميذ امتلكوا شيئاً ما من الخيال (عفاريت الخيال المغاربة ص 58).
وليس هذا فحسب بل أنهما, أي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون), يحملان نفس القبح الذي نسبه ستيفن للصبي: "رجلان داكنان في الطلعة والنزعة" ص 58. ربما بوسعي أن أتفهم دُكنة طلعتهما, فهما رغم كل شيء ينتميان إلى جغرافية شمال أفريقيا (القارة الداكنة) ولكني لم أفهم بتاتاً مسوغات (جويس/ ستيفن) لنعت (نزعتهما) بالداكنة! إذ تستمر الدُكنة والعتمة لتكونا مقترنتين بمجمل النتاج المعرفي الذي يعكسه أبن رشد (الفيلسوف المسلم) و موسى بن ميمون (الفيلسوف اليهودي), فهما يعكسان ( . . في مراياهما الصورية نفس العالم المعتمة - في الأصل الإنكليزي وردت mocking mirrors أي المرايا الساخرة أو المتهكمة ولا أعلم لمَّ ترجم صلاح نيازي هذه الكلمة إلى الصورية). هذه هي التركة التي خلفاها هذان الفيلسوفان: صورة داكنة عن العالم, بوسعها التعاطي بسهولة مع مساحات الريبة والشك تاركةً الباب مشرعاً للكثير من الأسئلة دون جواب, أنهما يتسامحان كثيراً مع المناطق المظلمة للغيب والأيمان ويقدمان جسداً معتماً للمعرفة وبالتالي لا يخلفان سوى صورة ممجوجة عن العالم تملئها العتمة, عتمة الأسئلة المتروكة لغموض الأيمان وضبابياته الأشراقية اللامسؤولة. ناهيك عن أن هذه الظلمة أو العتمة التي يتركانها لا يدركها (اللمعان) البرهاني الذي خلفه أرسطو لأبن رشد على وجه التحديد, "ظلمة وضئيلة في اللمعان لم يدركها". هذه الدُكنة في بشرتي (أبن رشد) و (موسى بن ميمون) وفي نزعتهما الفلسفية الظلامية تأتي على نحو العلامة الفارقة التي تربطهما معاً بالصبي البليد الذي فاقمت (بقعة الحبر الليّنة) الداكنة هي الأخرى من قبحه.
وبالتالي يتوازى حضور سارجنت (التلميذ الذي لا يُجيد سوى الاستنساخ الأمين) إزاء معلمه ستيفن (الفنان والفيلسوف) مع الحضور المعرفي المجتزئ لأبن رشد تحديدا (بصفته ناسخاً أميناً هو الأخر) إزاء معلمه الأول أرسطو.
هذا التقافز الماكر بين مفاهيم (التلميذ/ المعلم), و(الدُكنة/ النور) و (الاستنساخ/ الإبداعية) يضع المنظومة الثقافية الهائلة لجيمس جويس برمتها في دائرة التصنيفات الأثنية الشائعة في القرن التاسع عشر للأعراق البشرية. بل أن نسبة (ابن رشد) إلى (أرسطو), حسبما يراها جويس في يوليسيس, تحيلنا مباشرةً إلى الرؤية الكولينالية للشرق وفقاً لطروحات (مكاولي) في كتابه الشهير ( مذكرة حول القانون والتعليم) والصادر في 1835. إذ يرى (مكاولي) في كتابه هذا " أن رفاً واحداً من مكتبة أوربية عامرة يساوي مجمل الأدب الوطني الهندي والعربي." أن أقصى ما قام به الشرق (بنسخته الإسلامية على الأقل) هو توفير قناة (ناسخة وأمينه بعض الشيء) تكفلت بنقل التراث الفلسفي اليوناني (دون أي إضافة) إلى الجهة الأخرى من العالم. استنساخ مجرد استنساخ يفتقر إلى أي بصيرة نافذة بوسعها أن تلتمع في ظلمات الشرق الدامسة.
هذه هي رؤية جويس لجوهر المساهمة, والأحرى الدور المحدود, الذي قام به الشرق في رسم خارطة المعارف البشرية. ويجب أن لا ننسى أبدا الثقافة المسيحية لجويس ( إذ أنخرط تحت تأثير والديه المؤمنين في دراسة اللاهوت المسيحي في مدرسة اليسوعيين – الجزويت - الدينية في سني شبابه) وكان لتوما الأكويني أثراً بالغاً في رسم الخطوط الأولى للوعي الفلسفي والديني لدى جويس (الروائي الشاب). أن توما الأكويني هذا, وهو أحد فلاسفة اللاهوت الذائعي الصيت في القرون الوسطى وهو أحد معلمي الكنيسة الثلاثة والثلاثين, كان مكباً على دراسة شروحات (أبن رشد) لمؤلفات (أرسطو) الفلسفية غير أنه لم يعمد أطلاقاً إلى وضع أي أشارة صريحة لأسم (أبن رشد) في كتاباته وكان يكتفي بذكره بصفته معلقاً (Commentator) فحسب.
الغريب في الأمر أن جويس كان ثائراً على جميع النمطيات الثقافيه السائدة في عصره سواء الأدبية منها أو الفلسفية أو حتى الدينية, ففي حين أن جمهور المثقفين في دبلن كانوا مأخوذين بأعمال وليم شكسبير راح هو يمجد أعمال بن جونسن, كما كان يبغض أشعار ييتس التي لاقت رواجاً هائلاً آنذاك. أما فلسفياً ودينياً فكان يعد (جوردانو برونو) القس الكاثوليكي أباً حقيقياً للفلسفة الحديثة والإصلاح الديني. كان يحاول الانعتاق من أي سلطة معرفية قد تحجم من مساحة الفضاء الحر الذي تنشده أجنحة الفنان الرافضة لكل أنواع التسلط الثقافي والديني. غير أنه يتخلى عن تمرده هذا وينساق مذعنا مع أكثر الرؤى نمطيةً عن الشرق. هذه سابقة لا تنسجم عادةً مع السياق الثوري والمتمرد الذي يُطرح فيه فن جيمس جويس في الآلاف من الدراسات والمقالات الأكاديمية. فحينما يتعلق الأمر بالشرق يقفل جويس عائدا إلى القطيع متخلياً عن رغبته العارمة بالتمرد والاختلا ف مع ما هو سائد ونمطي.