1
في أحياء أسمرا الجميلة، التي تعانقها الجبال وتكتنفها سحب الصباح، نشأتُ طفلاً ينام مبكرًا تحت أغطية دافئة، ويستفيق على أطياف الشمس التي تنسجم مع تفاصيل المدينة في سكونٍ مهيب.
كان ذلك هو نمط حياتي الذي أبعدني عن سحر الليل المظلم، ذاك الذي كنت أهابه، وعن صفاء الفجر الذي كنت أجهل جماله في صغري ، قبل أن ينقلب الحال الآن .
كانت الشمس هي رفيقتي الوحيدة في ساعات الصباح، أصحو عندما كانتْ تشرق وتغسل المدينة بضوءها الذهبي ، وبعد أن تتوارى عن الأنظار وقبل أن يكتهل الليل كنتُ أغرق في نومٍ عميقٍ ، وأغيب عن تلك اللحظات التي لا تقدّر بثمن.
كنتُ أستسلم لنوم الفجر بكل ما فيه من لذة، حتى الصلاة، تلك الفريضة ؛ كنتُ أتأخر عن أدائها في كثير من الأحيان. كانت الأوقات التي تسبق الفجر هي الأجمل بالنسبة لي، خاصة عندما كنت أختبئ تحت البطانيات الثقيلة في الشتاء الأسمراوي القارس، الذي لم يكن لي أمل في مقاومته.
لكنّ أمي، أمد الله في عمرها، كانت تشكل العنصر الوحيد الذي يعكر صفو تلك الساعات الجميلة. كانت تستيقظ باكرًا لتحضر لي ماء دافئًا في الحمام الداخلي الذي يجاور غرفتي، وتحرص على أن يكون بدرجة حرارة مثالية حتى لا أتمكن من إيجاد أعذار لمواصلة النوم.
كانت تُوقِظني برفقٍ، تارةً باللمس، وتارةً بالكلمات الحانية، ولكنني كنت أتظاهر بالنوم العميق، وأطلق شخيرًا مزيفًا كلما اقتربت من غرفتي.
كنت أخشى أن أترك سريري الدافئ، حيث كانت أغطية الشتاء ثقيلة وأسرني دفء المكان.
وكم من مرة كانت أمي تعيد تدفئة الماء، وفي كل مرة أعدها بأنني سأستيقظ إذا تركتني وشأني، لكنني كنت أعود إلى النوم بعد أن تغادر الغرفة، حتى اكتشفتْ أخيرًا خدعتي. فكان لا بد لي من الاستيقاظ أمامها، وهي واقفة تنتظرني، متسلحة بصبر الأم المتفاني. وكان عليّ أداء الصلاة أمامها.
2
مرت الأيام، ومع تقدم الزمن بدأت تتغير أولوياتي. حينما بدأ تأثير الصحوة الدعوية ينمو في أسمرا، بدأتُ أتعلم عن ديننا الحنيف بطرق أعمق وأوسع، فصقلت موروثي الإيماني وبدأت أعيش تعاليم الدين من خلال دراسته. بدأنا نلتزم بما تعلمناه، وكلما ازداد إيماني، كلما اقتربت من الفهم الحقيقي للعبادة والنية الطيبة.
وكأي صبي أسمراوي، اختبرت تلك الصحوة في مساجد المدينة، حيث اعتكفنا مع أصدقاء من أقراني كانوا بمثابة أشقائي في حلقات الذكر والتعلم. وفي تلك الأوقات، كانت الصحبة الطيبة التي تحمل البراءة والإخلاص، هي الرفيق الذي لا يمل ولا يكل.
تعلمت من إخوتي التي جمعتني بهم تلك البقعة المباركة؛ كيف تكون النية الطاهرة، وكيف يكون التنافس الشريف في العبادة، كان حبهم لي نقيًا ببراءته، لكن الحياة لا تسير دائمًا على وتيرة واحدة، وكان لا بد من مواجهة الحقيقة.
3
سرعان ما اكتشفت أن ليس كل البشر طيبين كما نظن ، بعد أن فارقت الإخوة وبدأت أوسع علاقتي ، كانت تلك اللحظات هي درس الحياة الأكبر لي؛ فقد كنت أظن أن الجميع على نفس الدرجة من الطيبة والصدق، ولكنني صُدمت بخيبات أمل من بعض الأشخاص الذين كانوا يتظاهرون بالحرص عليّ، ليخدعوني في النهاية.
كنت قد سمعت في مرحلة من حياتي عن مقولة مورغان فريمان: "أكثر الناس حرصًا على عدم إثارة الفزع في قلوب العصافير هم الصيادون". وفي تلك اللحظة، فهمت عميقًا معنى تلك الكلمات.
على الرغم من خيبة الأمل التي عشتها، كان لها الأثر العميق في نفسي، فقد تعلمت ألا أترك نفسي فريسة للآخرين بسهولة، وأن العالم ليس كما يبدو في الظاهر ، والحياة ليست كلها بيضاء أو سوداء، لكنها مليئة بتفاصيل تكشفها التجارب. كان ذلك درسًا في الحذر، والتأني، والتحقق من النوايا.
4
وقد دفعني هذا الاختبار إلى الاستيقاظ طواعية، دون تذمر، بل أصبح لدي شغف خاص لوقت الفجر. أدركت حينها أن النوم لم يعد هو الهدف، بل كان الفجر هو الزمان الذي يجب أن أعيشه بكل حواسي، وسط الصمت الرهيب وهواء الصباح المنعش، متأملًا في عظمة الله الذي خلق هذا الكون بكل تفاصيله.
أصبح لي في الفجر موعد مع الروح، وفي الصلاة أجد سكينتي وراحتي. وكنت أعلم يقينًا أن الحياة مليئة بالاختبارات، وأن الإنسان إنْ عزم على فعل شيء بقلب صادق، فلن تعيقه أية ظروف.
إذا عزمت على السير في طريق ما ، فسوف تجد نفسك تسير عليه بلا عوائق تذكر، لأن الإرادة هي التي تمنح الإنسان القوة والقدرة على تخطي كل الأشياء .
5
سردت لكم هذه القصة ؛ اليوم وقبل أن أذهب لصلاة الجمعة، استمعت إلى تلاوة عذبة للقارئ علي جابر، وكان صوته يملأ المكان بعمق وصدق، فاستعدت الذكريات الجميلة لتلك الأيام الخالية التي كنت أستمع فيها لتلاوات القرآن قبيل صلاة الفجر مع الأصدقاء في جامع "خالد بن الوليد" الواقع في حي "بيا جيدا" .
كانت تلك اللحظات هي الأكثر صفاء، حيث كان صوت القارئ العذب يلامس القلب ، ويعطي راحة للأذهان .
في أحياء أسمرا الجميلة، التي تعانقها الجبال وتكتنفها سحب الصباح، نشأتُ طفلاً ينام مبكرًا تحت أغطية دافئة، ويستفيق على أطياف الشمس التي تنسجم مع تفاصيل المدينة في سكونٍ مهيب.
كان ذلك هو نمط حياتي الذي أبعدني عن سحر الليل المظلم، ذاك الذي كنت أهابه، وعن صفاء الفجر الذي كنت أجهل جماله في صغري ، قبل أن ينقلب الحال الآن .
كانت الشمس هي رفيقتي الوحيدة في ساعات الصباح، أصحو عندما كانتْ تشرق وتغسل المدينة بضوءها الذهبي ، وبعد أن تتوارى عن الأنظار وقبل أن يكتهل الليل كنتُ أغرق في نومٍ عميقٍ ، وأغيب عن تلك اللحظات التي لا تقدّر بثمن.
كنتُ أستسلم لنوم الفجر بكل ما فيه من لذة، حتى الصلاة، تلك الفريضة ؛ كنتُ أتأخر عن أدائها في كثير من الأحيان. كانت الأوقات التي تسبق الفجر هي الأجمل بالنسبة لي، خاصة عندما كنت أختبئ تحت البطانيات الثقيلة في الشتاء الأسمراوي القارس، الذي لم يكن لي أمل في مقاومته.
لكنّ أمي، أمد الله في عمرها، كانت تشكل العنصر الوحيد الذي يعكر صفو تلك الساعات الجميلة. كانت تستيقظ باكرًا لتحضر لي ماء دافئًا في الحمام الداخلي الذي يجاور غرفتي، وتحرص على أن يكون بدرجة حرارة مثالية حتى لا أتمكن من إيجاد أعذار لمواصلة النوم.
كانت تُوقِظني برفقٍ، تارةً باللمس، وتارةً بالكلمات الحانية، ولكنني كنت أتظاهر بالنوم العميق، وأطلق شخيرًا مزيفًا كلما اقتربت من غرفتي.
كنت أخشى أن أترك سريري الدافئ، حيث كانت أغطية الشتاء ثقيلة وأسرني دفء المكان.
وكم من مرة كانت أمي تعيد تدفئة الماء، وفي كل مرة أعدها بأنني سأستيقظ إذا تركتني وشأني، لكنني كنت أعود إلى النوم بعد أن تغادر الغرفة، حتى اكتشفتْ أخيرًا خدعتي. فكان لا بد لي من الاستيقاظ أمامها، وهي واقفة تنتظرني، متسلحة بصبر الأم المتفاني. وكان عليّ أداء الصلاة أمامها.
2
مرت الأيام، ومع تقدم الزمن بدأت تتغير أولوياتي. حينما بدأ تأثير الصحوة الدعوية ينمو في أسمرا، بدأتُ أتعلم عن ديننا الحنيف بطرق أعمق وأوسع، فصقلت موروثي الإيماني وبدأت أعيش تعاليم الدين من خلال دراسته. بدأنا نلتزم بما تعلمناه، وكلما ازداد إيماني، كلما اقتربت من الفهم الحقيقي للعبادة والنية الطيبة.
وكأي صبي أسمراوي، اختبرت تلك الصحوة في مساجد المدينة، حيث اعتكفنا مع أصدقاء من أقراني كانوا بمثابة أشقائي في حلقات الذكر والتعلم. وفي تلك الأوقات، كانت الصحبة الطيبة التي تحمل البراءة والإخلاص، هي الرفيق الذي لا يمل ولا يكل.
تعلمت من إخوتي التي جمعتني بهم تلك البقعة المباركة؛ كيف تكون النية الطاهرة، وكيف يكون التنافس الشريف في العبادة، كان حبهم لي نقيًا ببراءته، لكن الحياة لا تسير دائمًا على وتيرة واحدة، وكان لا بد من مواجهة الحقيقة.
3
سرعان ما اكتشفت أن ليس كل البشر طيبين كما نظن ، بعد أن فارقت الإخوة وبدأت أوسع علاقتي ، كانت تلك اللحظات هي درس الحياة الأكبر لي؛ فقد كنت أظن أن الجميع على نفس الدرجة من الطيبة والصدق، ولكنني صُدمت بخيبات أمل من بعض الأشخاص الذين كانوا يتظاهرون بالحرص عليّ، ليخدعوني في النهاية.
كنت قد سمعت في مرحلة من حياتي عن مقولة مورغان فريمان: "أكثر الناس حرصًا على عدم إثارة الفزع في قلوب العصافير هم الصيادون". وفي تلك اللحظة، فهمت عميقًا معنى تلك الكلمات.
على الرغم من خيبة الأمل التي عشتها، كان لها الأثر العميق في نفسي، فقد تعلمت ألا أترك نفسي فريسة للآخرين بسهولة، وأن العالم ليس كما يبدو في الظاهر ، والحياة ليست كلها بيضاء أو سوداء، لكنها مليئة بتفاصيل تكشفها التجارب. كان ذلك درسًا في الحذر، والتأني، والتحقق من النوايا.
4
وقد دفعني هذا الاختبار إلى الاستيقاظ طواعية، دون تذمر، بل أصبح لدي شغف خاص لوقت الفجر. أدركت حينها أن النوم لم يعد هو الهدف، بل كان الفجر هو الزمان الذي يجب أن أعيشه بكل حواسي، وسط الصمت الرهيب وهواء الصباح المنعش، متأملًا في عظمة الله الذي خلق هذا الكون بكل تفاصيله.
أصبح لي في الفجر موعد مع الروح، وفي الصلاة أجد سكينتي وراحتي. وكنت أعلم يقينًا أن الحياة مليئة بالاختبارات، وأن الإنسان إنْ عزم على فعل شيء بقلب صادق، فلن تعيقه أية ظروف.
إذا عزمت على السير في طريق ما ، فسوف تجد نفسك تسير عليه بلا عوائق تذكر، لأن الإرادة هي التي تمنح الإنسان القوة والقدرة على تخطي كل الأشياء .
5
سردت لكم هذه القصة ؛ اليوم وقبل أن أذهب لصلاة الجمعة، استمعت إلى تلاوة عذبة للقارئ علي جابر، وكان صوته يملأ المكان بعمق وصدق، فاستعدت الذكريات الجميلة لتلك الأيام الخالية التي كنت أستمع فيها لتلاوات القرآن قبيل صلاة الفجر مع الأصدقاء في جامع "خالد بن الوليد" الواقع في حي "بيا جيدا" .
كانت تلك اللحظات هي الأكثر صفاء، حيث كان صوت القارئ العذب يلامس القلب ، ويعطي راحة للأذهان .