د. رسول محمد رسول - شعرية الواقع المتخيَّل في السَّرد الأقصوصي

بداية، أجد نفسي في مواجهة إشكالية مصطلح ذلك هو مصطلح (القصة القصيرة جداً)، أذكر أنني في عام 2012 قرأت كتاباً لأخي الدكتور جميل حمداوي، وعنوانه (من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جداً.. المقاربة الميكروسردية)(1 )، بذل فيه - حمداوي - جهداً تنظيرياً وتطبيقياً رائعاً. لكنني ما كنتُ أستسيغ مصطلح (القصة القصيرة جداً) لأمر يتعلَّق بذخيرتي المعرفية؛ فمنذ عام 1978، استقر في ذائقتي القرائية مصطلح (الأقصوصة)، يوم صدر كتاب (فن كتابة الأقصوصة)( 2) للناقدة (سيلفيا أي. كامرمان)، مترجماً إلى العربية من جانب الأستاذ كاظم سعد الدين؛ ذلك الكتاب الذي أثار جدلاً واسع النطاق في الأوساط النقدية والسَّردية العراقية والعربية آنذاك.
ويبدو لي، أن سعد الدين كان واعياً بضرورة التكثيف في بناء ورسم المصطلح وهو يترجمه إلى العربية، وهذا هو شأن مهمة ترجمة المصطلحات النقدية والفلسفية؛ فمصطلح (الأقصوصة) = (Short Short Story)، يمتلك خاصيَّة ما يُعرف بـ (القصة القصيرة جداً) على نحو كفيء، بل وأكثر، من حيث محدودية الجسد النَّصي الخاص بنمط السَّرد الأقصوصي، وبما يستتبع ذلك من قلَّة عدد الملفوظات المفردة، بل وقلَّة الملفوظات الجُملية، وهو ما توحي به دلالة التصغير التي نحت بها كاظم سعد الدين المصطلح، ناهيك عن إستراتيجية الإضمار إلى الداخل التي يتمتَّع بها الكون السَّردي الخاص بالأقصوصة، تلك الاستراتيجية التي، وبقدر ما تضمر، نراها تكشف عمّا يريد قوله النَّص (Text) والناص (Textor) معاً من خلال ما يجود به خطابهما معاً، وهنا مكمن شعرية الأقصوصة.
ما هي الأقصوصة؟
في ذلك الكتاب، أتى الدكتور حمداوي إلى تعريف جامع مانع للأقصوصة،؛ فهي بحسب منظوره: "جنس أدبي حديث، يمتاز بقصر الحجم، والإيحاء المكثف، والانتقاء الدقيق، ووحدة المقطع، علاوة على النزعة القصصية الموجزة، والمقصدية الرمزية المباشرة وغير المباشرة، فضلاً عن خاصيَّة التلميح، والاقتضاب، والتجريب، واستعمال النَّفس الجُملي القصير الموسوم بالحركية، والتوتر المضطرب، وتأزم المواقف والأحداث، بالإضافة إلى سمات الحذف والاختزال والإضمار، كما يتميز، هذا الخطاب الفني الجديد، بالتصوُّر البلاغي الذي يتجاوز السَّرد المباشر إلى ما هو بياني ومجازي يتوخى العدول عن الأصل المعجمي، وذلك ضمن بلاغة الإيحاء والانزياح والخرق الجمالي. وتتمثل سمات القصة القصيرة جداً ]الأقصوصة[ في الإدهاش، والإرباك، والاشتباك، والمفارقة، والحكائية، وتراكب الأفعال، والتركيز على الوظائف الأساسية دون الوظائف الثانوية، والإقبال على الجُمل الفعلية، والتكثيف، والتلغيز، والتنكيت، والترميز، والأسطرة، والانزياح، والتناص، والسخرية، وتنوُّع صيغ السَّرد القصصي؛ تهجيناً وأسلبة ومحاكاة، وتصغير الحجم أكثر ما يمكن تصغيره؛ انتقاءً وتدقيقاً وتركيزاً"( 3).
يتضح من هذا التعريف، سواء في دلالته المصطلحية الكلية أو في دلالاته المصطلحية المفردة، أنه يحيلنا، شئنا أو أبينا، إلى الخطاب؛ ذلك أن العمل الأدبي: "ليس في حدِّ ذاته هو موضوع الشِّعرية؛ فما تستنطقه - هذه الأخيرة - هو خصائص الخطاب النوعي الذي هو الخطاب الأدبي"، كما قال تودوروف( 4).
شعرية الأقصوصة
ولذلك، يمكن اعتبار الشِّعرية عنصراً فريداً، بل ذلك "العنصر ]الذي[ لا يمكن اختزاله، وعلى نحو ميكانيكي، إلى عناصر أخرى، هذا العنصر ينبغي تعريته، والكشف عن استقلاله. وبصفة عامة، فإن الشِّعرية هي مجرد مكوَّن من بنية تركيبية، إلا أنها مكوَّن يحوِّل بالضرورة العناصر الأخرى، ويحدِّد معها سلوك المجموع؛ وعلى المنوال نفسه، فإن الزيت ليس وجبة خاصَّة، ولكنه أيضاً ليس مجرَّد مكمَّل عرضي، ومكوَّن ميكانيكي؛ إنه يغيِّر مذاق كل ما يُؤكل، ويكون دوره، أحياناً، مؤشراً إلى حدّ أن سمكة صغيرة تفقد تسميتها الوراثية الأصلية، وتغير اسمها لكي تصبح سمكة بالزيت"، كما قال ياكوبسون( 5). وكل هذا يعني، أن شعرية الأقصوصة يمكن الظفر بها في خطاب نص الأقصوصة السَّردي ذاته بوصف الشِّعرية مكوَّناً غير منظور في سطح النَّص، ولكن تنعكس آثاره في فضائه الذي له.
وإذا ما أردنا أن نقترب أكثر من جوهر نمط السَّرد الأقصوصي، فيمكن تعريفه هذا السَّرد بأنه: وجود سردي مكثَّف الحضور. ولما كنّا نفهم الشِّعرية السَّردية بأنها: قيمة سردية إبداعية يُلتمس حضورها في خطاب النَّص، فإن شعرية الأقصوصة إنما هي: قيمة سردية إبداعية تتجلّى في خطاب الأقصوصة مكثَّف الوجود.
مع الشِّعرية الأقصوصية، نجد أنفسنا بإزاء نص سردي متخيَّل وقد خرق معتاد المعايير السَّردية السائدة ليُولد مكثفاً في أنطولوجيته الخطابية وقد استقطب ممكنات ذلك التكثيف لكي يتمظهر في جسد نصيٍّ سردي قصير أو وحيد المقطعيّة، وهو نص يدلق حضوره عبر إيحاء وتلميح سام، ونراه يُبدي رغبة عارمة في توظيف الطاقة الرمزية التي تحتفي بالحذف والاختزال والإضمار والمباطنة والتجريب والتوتير والانزياح، ليس بعيداً عن مناحي جماليات البيان البلاغي واللغوي، ومجازات القول واستعاراته، وبلاغات الخرق والانتهاك، بل والمجاهرة بتكريس قيامة الدهشة والمفارقة والتلغيز والبياض والغياب، وغير ذلك من الفاعليات الجمالية.
إن كل هذه الفاعليات، ذات القيمة الجمالية المضاعَفة، تجري رحاها في خطاب يأتي تالياً على النَّص السَّردي بما يشبه زغردة العصفور نسبة إلى كائنيته أو جسده أو وجوده المنظور؛ فالنَّص الأقصوصي يعزف لحنه خطاباً، ويغرِّد أنشودته موسيقى شديدة التكثيف، وفي زغردة وأنشودة وموسيقى ذلك النَّص إنما تكمن شعرية الأقصوصة.
لا يوجد خطاب سردي - أقصوصي تملأه شعرية تامة، ولا توجد شعرية سردية تملأ خطاب هذا السَّرد برمته، فالحالة لا تخلو من نسبية، زيادة أو نقصان، لأن الأمر ليس كمياً، ولهذا شهدت الشِّعرية صراعها الحاد مع العلم (Science) الذي يفهم الوجود وفق نسبة كمية. أما الشِّعرية، فهي تعبير عن حالة إنسانية نفسية وأهوائية خاضعة لذات بشرية منتجة؛ كارهة أو مُحبة، وخاضعة لهوى مائل للغناء، وآخر مائل للبكاء، للفرح وللحزن، وهكذا توجد تنويعات أهوائية تتحكَّم بالشِّعرية في لباسها السَّردي.
ومن هنا، قال جان كوهن في عام 1979: إن "الخطاب يسمح بنسبة من الحشو، بل إنه يتطلَّبها، لكنّه لا يطلب الحشو الكامل الذي يجعل من الخطاب عديم الفائدة"( 6). وبالطبع، لا يعني ذلك أن الأهواء والمشاعر التي تستبطن الشِّعرية هي نتاج للحشو، ربما يكون ذلك في شعرية الشعر لضرورات معينة، أما في شعرية السَّرد الأقصوصي، فلا مجال للحشو، لأن الأقصوصة كائن اختزالي الطبع، همَّه الكبير أن يكثِّف وجوده من دون أية فوائض وأوصال وبقايا جسديَّة قد تسيئ إلى ظهور نصه الشَّذري، وتُضعف طاقته التكثيفية.
لقد تحدَّث جان كوهن عن مصدر الشِّعرية، وقال في هذا الاتجاه: "إن الشِّعرية تنتسب إلى العالم بقدر ما تنتسب إلى النَّص"( 7). وإذا كانت للأشياء في العالم الواقعي شعريتها، فإن تلك الشِّعرية لا تكتسب حقيقتها، بل ووجودها إلا من خلال التمثيلات البشرية. وهذا ما نذهب إليه - نحن - في هذا البحث؛ فما قيمة ضوء القمر للرجل الأعمى؟ وما قيمة أصوات هدير أمواج البحر للطفل الأطرش؟ وما قيمة الإنسانية للشخص القاتل؟ إن ضوء القمر، وأصوات هدير أمواج البحر، والشعور الحقيقي بالإنسانية، لا قيمة لها من دون الملاقاة الإنسانية الحقيقية التي يمكن أن تنجلي بالإدراك الخلاق.
وهذا يعني، أن الشِّعرية التي تنتسب للعالم الواقعي، إنما هي شعرية مشروطة بوجود الإنسان الذي يتمتَّع بالقدرة الخلاقة على بعثها في صيغ جمالية وقد مرَّت بحالات استهواء فاعلة الأثر. ولا شك، أن السَّرد يسرِّب الواقع، على نحو أو آخر، لكنه يسرِّبه من خلال تلك الصيغ الجمالية. إن الكلام اليومي الذي يجري بين شخصين قد يلجأ إلى التصوير الشِّعري لحدث أو واقعة أو إحساس أو شعور بحالة ما، بينما الكلام السامي المثخن بشعرية التوصيل هو غير ذلك؛ إنه الكلام الذي يتوسَّل طاقة تخييلية هائلة، خصوصاً إذا ما أراد أن يكونَ نصاً أقصوصياً إبداعي الوجود.
نحن نعتقد أن الشِّعرية إنما هي شعرية الواقع المتخيَّل وليست شعرية الواقع - الواقعي؛ شعرية الواقع المتخيَّل وليست شعرية الأشياء التي هناك؛ الأشياء في ذاتها التي لا تلاقيها أو تداهمها أهواء ومشاعر وأحاسيس ومُدركات البشر. فتلك الأشياء - التي هناك - هي مبذولة على نحو رحب، بكل ما لها من قدرة على التمدَّد والانبساط، والانقباض والتكوُّر، والذبول، ومن ثم الموت والعدم. والمتخيل السَّردي الأقصوصي وحده يحدُّ من امتداد الأشياء العبثي إلى ما لا نهاية، ويوقف انبساط أوصال الأشياء إلى ما لا نهاية، ويُعيد بناء حركتها الغامضة والغاضبة أو المرحة، وحده المتخيل السَّردي يلوي عنق الشمس اللاهبة، ووحده يمكن أن يوقف هيجان رمال الصحراء المتعطِّشة للارتطام بالشجر والبشر أو الصعود نحو الأعلى في حركة لولبية تفتق عنان الفضاء، ووحده المتخيل السَّردي أيضاً يمكنه أن يُوقف الأهواء الجياشة، والأحاسيس النافرة، ويلجم شهوات الرغبة التي تسعى إلى الاستقرار في أحشاء دافئة تريحها.
إن السَّرد المتخيَّل يفعل ذلك على الدوام، لكنهُ السَّرد الأقصوصي يمضي في طريق أصعب عندما يُكثِّف المدركات الحسية والأهوائية والشعورية والصور المرئية المدركة عن العالم الواقعي، والمسرَّبة إلى الواقع المتخيَّل على نحو إبداعي في نظام كينونات مشذَّب الزوائد بغية الوصول إلى إنشاء بنية سردية أقصوصية مكثَّفة الوجود.
تقويض الفوائض
إن الكتابة عبرَ بنية السَّرد الأقصوصي مكثَّف الوجود تستعين باللغة كأداة للقول، وكذلك تستعين بمجموعة من الفاعليات الجمالية لكي تحقَّق الغرض المنشود. تلك الكتابة تستعين تقنياً بمصطلح الإزاحة (Displacement)، على سبيل المثال لا الحصر، والإزاحة إحدى الفاعليات الجمالية التي يلجأ إليها الشعراء وكتّاب السَّرد لتقويض كينونة الجسد النَّصي، وتقويض الدلالات الفائضة، تلك الفوائض التي يمكن أن تربك الخطاب، وتجعله هش الوجود بحسب استراتيجيات قولهم الإبداعي.
النَّص الأقصوصي مكثَّف الوجود يزيحُ عن طريقه كل ما هو عالق ومؤذ به، وكل ما من شأنه هدر دماء قدسيِّة التكثيف فيه. إنه يستعين بالحذف الجسدي عندما يستبدل بعض الملفوظات الصريحة الوجود بملفوظات جسديَّة - علاماتية يراها الناص أكثر تكريساً لبنية الإضمار في الخطاب، كاستخدام النقاط في بداية الجملة السَّردية أو في وسطها أو آخرها. وفي أقصوصة (تساؤل) لابتسام القاسمي، نقرأ ما فيها:
"هل كل حبلى من دون زواج عاهر؟؟
لم؟ ألا تعلمون أن ثمة آباء..
يصرون على اقتطاف ما زرعوا لأنفسهم؟"(
😎
.
فنحن هنا بإزاء استبدال نصي قوامه حذف إضماري لملفوظ كان يمكن أن يصف الآباء الذين زنوا، واستبداله بنقطتين متتابعتين كلتاهما تمثل جسداً نصياً بديلاً، لكنه البديل الدلالي ذلك الذي يحيل على أولئك الزُّناة من الرجال الذين أضمرت الناصَّة دوالهم النَّصية، وهو بديل يُجليه خطاب الكون الدلالي للأقصوصة.
ويتخذ استخدام النقاط ".." دلالة استبدالية أيضاً في أقصوصة (خطأ في الإرسال) لمنيرة الإزيمع، التي جاء في منطوقها:
"في كل عام، تأتيني رسالة من رقم لا أعرفه:
- كل عام وأنتِ بخير حبيبتي..
أمسحها، وأنا أرثي لحال هذا الذي أضاع رقم حبيبته.
مع تنامي السنوات، أصبحتُ أنتظرها.."( 9).
في هذا النَّص، وفي ملفوظه السَّردي الثاني تحديداً، جاءت النقاط ".." بعد ملفوظ "حبيبتي" لتضمر كلاماً قد يكون خاصَّة غرامية نأت الناصَّة عن إيراده؛ لا استحياءً، إنما تكريساً لجمالية الإزاحة. أما النقاط في الملفوظ الأخير أو ملفوظ الخاتمة، فقد جاءت مضمِرة لحالة أهوائية صارت اعتياداً من جانب المرسَل إليها (Distinataire) داخل الحكي، زهو الإضمار الذي يوحي به خطاب النَّص.
قد يكون الحديث عن فوائض في الجسد النَّصي وهماً، لكنها الفوائض الحقيقية عندما يُنظر إليها هكذا بحسب منطق السَّرد الأقصوصي؛ فتلك الفوائض النَّصية تسوِّغ للاستبدال ضرورته، إنها لعبة الناص مع سرده الأقصوصي بغية خلق بنية سردية نشمُّ فيها عطر الاستبدال الذي يجعلنا نتوغَّل في خطاب المعنى بحثاً عن دوره الفاتن في الإحاطة بالكون الدلالي لخطاب الأقصوصة. إنه خلق لواقع متخيَّل من خلال تكريس شعرية الاستبدال/ الحذف في جسد النَّص.
في الحقيقة، اعتقد أن فائض الدلالات هو الآخر له شعريته الخاصَّة به، ومن أجل خلق شعرية دلالية مكثَّفة وسابحة في الكون الدلالي للخطاب، يعمل الناص الأقصوصي على إلغاء دال ملفوظي ما، وإحالة معناه إضماراً إلى الكون الدلالي الذي يمكن أن يدلقه الخطاب. ولنا في أقصوصة شيمة الشمري (جذب)، مثال على ذلك، تقول الناصَّة:
"دسَّت شالها المعطّر بها في خزانة ملابسه، فتلوَّن بالغواية..!!"( 10).
ويتضح من هذا النَّص، أن الناصَّة استعانت بالاستبدال الجسدي حيث النقاط حجبت الكلام أو الملفوظ السَّردي الذي يمكن أن يفسِّر الكيفية التي وقع فيها الشال أسير الغواية، إلا أن إحالة المعنى المضمَر إلى خطاب الكون الدلالي للأقصوصة يبدو أكثر هيمنة من مجرَّد الاستبدال الجسدي بملفوظ علاماتي أو نُقطي.
لقد وجدت الناصَّة أن رصف ملفوظ سردي يفسِّر كيفية الغواية، سيكون فائضاً فيما لو عملت على إبقائه على حاله في أنطولوجية النَّص، وبدلاً من ذلك، آثرت إضماره، وأحالت أمر انكشافه إلى دلالة الخطاب، وهو ما يمكن أن تكشفه أية قراءة تأويلية ثاقبة لجدار التكثيف.
إلى جانب ذلك، يبدو منطق الحالة المعتاد هو الآخر عائقاً أمام توليد شعرية فائقة الحضور المكثَّف في النَّص الأقصوصي، وتراني هنا أسميه (خرق منطق الحالة)( 11)؛ فشعرية السَّرد الأقصوصي تكسر جدار كينونة الأشياء المتخيَّلة إبداعياً، وتحطِّم منطق المعنى المُدرك إبداعياً، ليس بقصد تعويمه أو تدميره وإحالته إلى غياهب المطلق، إنما إعادة بناءه وفق متطلَّبات شعرية خطاب الأقصوصة التي تحتِّم صياغة ملفوظات سردية تجافي منطق الحالة ضمن مستويات متعدِّدة البناء. نقرأ في نص جبران خليل جبران (الظل):
"قال العشب، في يوم من أيام حزيران، لظلِّ دوحة كبيرة: أنت لا تني تنتقل يمنة ويسرة أغلب الأحيان. إنك لتزعجني عمّا أنا فيه من هدوء، وراحة بال"( 12).
في هذا النَّص الأقصوصي يكمن الخرق المنطقي في أنسنة العشب، ومنحه لساناً وقولاً، وكذلك منح الظل مسمعاً، وهو ما ينافي منطق الكائنات النباتية والطبيعية. وفي نص أقصوصي آخر كتبتهُ بعنوان (الأعمى) جاء فيه:
"عندما وجدَ نفسه وحيداً في منزله، أغلق النوافذ، أسدلَ الستائر، أطفأ المصابيح، ركن عكازه جانباً، أراد أن يذهب إلى ضياء النوم، لكنه خرج قاصداً شوارع الحي من دون عكازه"( 13).
ويتضح هنا الكسر الجمالي لمنطق الحالة؛ فكيف لأعمى أن يتجوَّل في شوارع الحي من دون عكاز، ربما يعمل هذا النَّص على تصدير مفارقة، ولكن حتى هذه الأخيرة تجافي منطق الحالة. وفي مستوى آخر من هذا النمط السَّردي الذي يعمل على تقويض منطق الأشياء المعتاد، ما نقرأه في نص شيمة الشمري (ذبول)، والذي جاء فيه:
"تحسَّس وجهه متأمِّلاً تلك الأخاديد المرسومة عليه.. بحث عن دواء ناجع، قطف وردة، زرعها على خديه.. شع بالنظارة والحياة، فماتت الوردة!"( 14).
لا شك، أن الناصَّة استعارت فعل المعالجة المتمثِّل بقطف وردة وزرعها على خدِّ رجل للتعبير عن حالته، لكنها قوَّضت فائق منطق الحالة؛ فليس من المعقول أن تتم المعالجة بهذه الطريقة، وليس من المنطق أن يزرع أي شخص وردة في وجهه؛ فالوجه البشري ليس تراباً طبيعياً، ولا اصطناعياً حتى يُصار إلى حرثه.
ويتجلى خرق منطق الحالة الذي يجمع ملفوظين سرديين تتناقض دلالتهما في أقصوصة (شارع) لعمر علوي ناسنا، التي جاء فيها:
"كل مصابيح الشارع مطفأة، لا نور يعري نافذة من نوافذ الشارع الطويل، في ذلك الظلام الداهم، كانت هناك قطة أسفل عمود كهرباء تعيش نهارها الجميل"(15 ).
يتضح من هذا النَّص الأقصوصي أن المصابيح المطفأة تدلُّ على الليل، وهو ما يعبِّر عنه تالياً ملفوظ "الظلام الداهم"، بينما القطة في ذلك الظلام "تعيش نهارها الجميل"، وهو تناقض منطقي بين الليل والنهار، والهدف من هذ الانزياح المنطقي هو خلق دهشة ومفارقة؛ فالمغزى من عيش القطة نهارها الجميل إنما يرمي إلى غياب البشر عن الشارع في تلك العتمة، ما أكسب القطة حريتها من دون مخاوف لكي تعيش لحظات مضاءة بحرية المكوث والتنقُّل.
الخلاصة
إن كل هذه النماذج الأقصوصية وغيرها الكثير ممَّن لجأ إلى توظيف الفاعليات الجمالية في تكثِّف وجود النَّص الأقصوصي، إنما تشتغل في فضاء المتخيَّل السَّردي، فهي تخلق واقعاً نصياً متخيَّلاً عابقاً بشعرية سردية لا تكتسب واقعها إلا من خلال ما تبنيه عبر المتخيَّل الإبداعي. ما يعني أن شعرية الأقصوصة لا تعدو أن تكون بنية تخلق واقعها الخاص بها؛ بنية واقع متخيَّل قد نلمح الواقع - الواقعي فيها، لكنه يبقى متوارياً لأنه لا يقوى على مزاحمة الواقع المتخيل في النَّص الأقصوصي بكل ما فيه من شعرية سردية فائقة الحضور.
إن البحث عن شعرية الواقع لا سبيل إليه إلا عندما يتم تمثيل الواقع إبداعياً؛ فما قيمة الشجر والبحر والقمر من دون مُدركات وأهواء ومخيال الذهن البشري؟ وإذا كان نورثروب فراي قد قال يوماً، وذاك شأنه: "إن كل الأدب التخييلي أساطير مُزاحة عن معناها الأصلي"( 16)، ما يعني أن "الأدب ليس محاكاة للتجربة، وليس مشدوداً إلى الواقعية أو إلى قابلية التصديق"، فإن الشِّعرية إنما هي شعرية الواقع - المتخيَّل، وليس شعرية الواقع - الواقعي؛ تلك الشِّعرية التي تخلقها المخيِّلة البشرية على نحو مبدع وخلاق؛ شعرية واقع متخيَّل صار فيها الواقع - الواقعي كينونة متخيَّلة يمكن العثور عليه في موجودية سرد أقصوصي مكثَّفة الحضور، تلك الكينونة التي لا تتحوَّل إلى وجود إلا بمداد المخيِّلة البشرية وبفاعلياتها الجمالية.

1. د. جميل حمداوي: من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جداً.. المقاربة الميكروسردية، شركة مطابع الأنوار المغاربية، وجدة - المغرب، 2011.
. سيلفيا أي. كامرمان: فن كتابة الأقصوصة، ترجمة: كاظم سعد الدين، وزارة الثقافة والفنون، سلسلة (الموسوعة الصغير)، بغداد، 1978. وعنوان الكتاب الأصلي، الذي صدر عام 1946، هو:
-Kamerman, (Sylvia E.); Writing the Short Short Story, 1946
2 . د. جميل حمداوي: من أجل تقنية جديدة لنقد القصة القصيرة جداً.. المقاربة الميكروسردية، ص 8.
3. تزفتان تودوروف: الشِّعرية، ترجمة: شكري المبخوت ورجاء بن سلامة، ص 23، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، ط 2، 1990.
4. رومان ياكوبسون: قضايا الشِّعرية، ترجمة: محمد الولي ومبارك حنون، ص 19، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1988. لقد فتح كتاب جان كوهن (بنية اللغة الشِّعرية)، الذي صدر بالفرنسية عام 1966، (صدرت ترجمته العربية عن دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، عام 1986، بترجمة كل من محمد الولي ومحمود العمري)، فتح أفقاً جديداً لدراسات الشِّعرية الحديثة، إلا أنه قصره على الشعر. وكان تزفيتان تودوروف قد خطى خطوة كبيرة بعد خمسة أعوام عندما أصدر كتابه (شعرية النثر) وبالفرنسية أيضاً عام 1971، والذي خصَّصه لدراسة شعرية السَّرد، إلّا أنه لم يدخل إلى عالم الأقصوصة رغم غناه التحليلي والقرائي لنماذج متعدِّدة الأجيال من السَّرد القصصي القصير. ولذلك، نلاحظ هيمنة الأفكار القرائية والمفاهيم الإجرائية التي أتى بها كوهن إلى دراسات الشِّعرية حتى انسحبت إلى النقد السَّردي في مضان عديدة، وعزَّزها تالياً بكتابه (الكلام السامي.. نظرية في الشِّعرية)، الذي صدر بالفرنسية عام 1979، وفيه تناول شعرية الرواية في الفصل الأخير منه، من خلال النظر في الرواية البوليسية لدى كل من أجاثا كريستي، وإدغار ألن بو، وكونان دويل باعتبار أن "الغموض يمثل قانون هذا الجنس الأدبي ودعامته الشِّعرية" (ص 262)، وهو أمر تناوله تزفيتان تودوروف من ذي قبل في كتابه المذكور، لكن كوهن غفل عن دراسة السَّرد الأقصوصي. وفي الحقيقة، تبدو الشِّعرية قاسماً مشتركاً يمكن قراءة الأجناس الإبداعية من خلاله مع فارق خصوصية الشعر المختلفة عن السَّرد، ومنه السَّرد الأقصوصي، ما يعني أمكانية تشغيل مفاهيم الشِّعرية الإجرائية في الشعر والسَّرد من دون المطابقة بينهما تقديساً للفرق الأجناسي بينهما.
5. جان كوهن: الكلام السامي.. نظرية في الشِّعرية، ترجمة وتقديم وتعليق: د. محمَّد الولي، ص 73، دار الكتاب الجديدة المتحدة، بيروت، 2003.
6. جان كوهن: المصدر السابق نفسه، ص 259.
7. ابتسام القاسمي: أخيراً.. تجرأت، ص 87، مركز عبادي للدراسات والنشر، صنعاء، 2011.
8. منيرة الإزيمع: الطيور لا تلتفت بحج الإبهام، ص 45، مؤسسة الانتشار العربي، والنادي الأدبي، بيروت - حائل، 2009.
9 . شيمة الشمري: أقواس ونوافذ، ص 31، دار المفردات للنشر والتوزيع، الرياض، 2011. تجدر الإشارة إلى أن مجموعة شيمة الشمري حملت عنوان عتبي "قصص قصيرة جداً" في صفحة الغلاف الداخلية.
10. في كتابه (بنية اللغة الشِّعرية)، ذهب جان كوهن إلى وجود نوعين من الانزياح؛ هما: الانزياح الاستبدالي، والانزياح التركيبي، انظر: بنية اللغة العشرية، ترجمة: محمد الولي ومحمد العمري، ص 205، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، 1986. أما في كتابه (الكلام السامي.. نظرية في الشِّعرية)، فقد قال بثلاث أنواع؛ هي: الانزياح المنطقي، والانزياح الدلالي، والانزياح الانسكلوبيدي، انظر: (الكلام السامي.. نظرية في الشِّعرية، مصدر سابق، ص 72).
11. جبران خليل جبران: التائه، دراسة وتحليل: د. نازك سابا يارد، ص 106، مؤسسة نوفل، بيروت، 1982.
12 . كتبتهُ في 4 تموز/ يوليو 2013.
13. شيمة الشمري: أقواس ونوافذ، ص 33.
14 . عمر علوي ناسنا: خارج التغطية.. مرافعات سردية، ص 121، دار العين للنشر، القاهرة، 2012. لا بد من الملاحظة أن نصوص هذه المجموعة الأقصوصية جاءت على شكل هوامش وصل عددها إلى 43 هامشاً، وهي ثلاثة وأربعين أقصوصة قصيرة، وأوضح ناسنا في مقدِّمة المجموعة بأن "لا وجود إلا للهوامش؛ النَّص ليس هنا، يكتب الكاتب هامشاً، أما النَّص فهو هناك عند القارئ، إنه ليس واحداً، إنه متعدِّد بعدد القراء، يعيش من دمهم، يشرب أحزانهم وأفراحهم، حرباء هو النَّص، حرباء. تأخذ تفاصيل القارئ، إذا كنتَ سميتني كاتباً أيها القارئ لأنني أكتب نصوصاً فاختر لي اسماً آخر. أنا لا أكتب إلا هوامش، الكاتب هو الشكل الذي يأخذه دمي عندما يتدفَّق في عروقك" (خارج التغطية.. مرافعات سردية: ص 7).
15. ورد في: (جراهام هو: مقالة في النقد، ترجمة: محي الدين صبحي، ص 87، المجلس الأعلى للآداب والفنون والعلوم الاجتماعية، دمشق، 1973).
16. ورد في: (جراهام هو: مقالة في النقد، ص 181).

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى