-ألو أديبتنا الفاضلة.. حين أسْمع صوتك أسترِدُّ عزيمتي، ويُصبح كل ما حولي راسياً كأعْتى الجبال؟
- مرحبا بُنَي هذا من لُطفك آ المَرْضي، ولكن أين الغِياب على سطح الأرض أو في بطن كتاب؟
- الحقيقة بين مدينتين ليستا كاللتين تحملهما عنوانا رواية تشارلز ديكنز، إنما أعْني بين الصخيرات والرباط، الوالِد كما تعلمين طريح الفِراش، وأحاول التّواجُد دائما في هذه المسافة القصيرة بين النار والإختيار !
- دعواتي للوالد بالشِّفاء العاجل الله ينزَّلْ عليه اللُّطف...
- مهلا .. أستاذة وعُذراً إذا قاطعتُ دعَواتك بعد أن وصلت للسماء، لا أخْفيك أنِّي لمسْتُ نبرة أسى تُغلِّفُ صوتكِ الكريم، فليست هذه خناتة التي أعرفها مُجَلْجِلةً، خصوصاً حين تصْدعُ بالحق.. هل أنت بخير؟
- لستُ بخير بُنَيْ، صحيح أنِّي أقاوم الكثير من الأمراض بمساعدة الله أولا ثم الأطباء، ولكن أفظع الأعْطاب تلك التي تتجاوز الجسد بعِللٍ عُضوية، لِتعكِّر بأفعال البشر صَفْو الروح !
- أقلقتِني عليكِ.. ما الذي حدث وأنا الذي ينتظر أن تلوحي بتباشير الفرح من خريبكة، لقد هاتفتني مديرة منتدى الثقافة والتنمية، تدعوني لحضور مهرجان الثقافة العربية، خصوصاً أن دورته الثامنة هذه تحمل اسم "خناتة بنونة"، لكنني اعتذرتُ آسفا لأني لن أراك شامخةً على منصّة التكريم بسبب ظروف قاهرة..؟
- اصمُت بُني.. لم يكن اللقاء كالوداع، ودَعْ الجُرْح يندمل، فما زال قلبي ينْزف دماً منذ عودتي من مدينة الفوسفاط، سوف أسرُد لك حكاية هذا التكريم كما تُسْرَدُ بلغتنا الدارجة "الخُبِّيْرة"، منذ حوالي ثلاثة أشهر، زارتني في بيتي مشكورةً سيدةّ تقترح تكريمي في هذا المهرجان، وقد وافقتُ بعد إلْحاح شديد لأنِّي مريضة جدّاً، وأخشى أن أموت هناك، فأنا أحبُّ التَّصادي مع جمهور المُدن الصغرى، ومما شجّعني أكثر وزيّن لي الحضور، قول مديرة المهرجان، إنَّ كل أهالي خريبكة ينتظرون بشوق سماع الأديبة والمناضلة خناتة بنونة، لكن هيهات أين هو هذا الكلام، لم يبْق منه سوى لسانٍ أخرس مقطوع..
- لم أفهم.. هل أُلغي الإحتفاء، أنتِ في خريبكة ولست في سطات لو افترضنا أن شبح البصري ما زال يُخيِّمُ في الأجواء؟
- لَمْ يُلْغَ التكريم ولكن صُودِرت كلماتي في حلقي وابتلعتها جافة، أنا التي لم يتجّرأ حتى البصري في أزمنة الرّصاص العصيبة، أن يُوقفني عن مخاطبة الجمهور، لقد غرّتني الأماني الكاذبة، فتوهّمتُ أني بذهابي لهذه المدينة الصغيرة، سأنخرط في حوار مباشر مع قُرّائي من كل الأجيال، حول شؤون الثقافة والأدب وشجون الحياة، فأنا لا أعتبر التكريم مُجرّد أدرعٍ وهدايا وأضواء تنْقشع في صورٍ باسمة، إنما هو فَتْحٌ مُبين لكتاب يَقْرأُ أسْطُره كل ساكنة المدينة..
- هدِّئي من روعك أستاذة، ما أكثر ما يحدث الخلَل على مستوى التنظيم، فنجدُ بعضهم لا يعرف كيف يزِنُ المقامات بما يُناسِبُها من مقال...
- ذكّرْتَني بعتاب المُتنبي ولو أنّه مُوجَّهٌ لسيف الدولة كافور الإخشيدي، ولكِنَّهُ يصلُح أيضا لمثل هذه المواقف، فهو الذي قال: (يا أعدل الناس إلا في مُعاملتي)، ذكّرتَني والحسْرة تُمزِّق أحشائي، بما يزيد عن مائة تكريم قبل أن تزِلَّ قدمي في هذا الأخير بخريبكة، ذكّرتَني بالكراسي التي طلّقتُها بما فيها كرسي الوزارة، لأني آثرتُ أن أبقى دائما قلماً حُرا يرفض الكلمة المُمْلاة، ولستُ أتعالى مُسْتَعيذةً بالله من كلِّ مُخْتالٍ فخور، إذا قلتُ إنّ بعض تلك الإحْتفاءات كانت على مستوى الدّولة، سواء في المغرب أو خارجه في الدول العربية والأوروبية، وإذا بي اليوم أُمْنَع حتى من حقي في التواصل الثقافي، بل الأدْهى أنْ تُزَف إلى مِنصّة التكريم، بعض الشّخصيات النسائية المُكرّمة ومنهن سفيرة الأردن، بالموسيقى والورود وصفوف المُستقبلين، بينما أُهَمّشُ مع بضعة أنْفار في زاوية القاعة، ولولا أنَّ السّفيرة استدركتِ الموقف دَرْءاً للحَرج، كنتُ سأبقى نسِيّاً منسيّاً في زاويتي، أوَ ليستْ هذه الدّورة تحْمل إسمي، بإثبات المُلْصقُ الذي يحمِلُ صورتي، أم أنِّي استُدعيتُ لأكون مُجرّد خُضار على الطّعام، قُل لي بربِّك أينهم بهذه المُعاملة من جَمال العبارة الشعرية: يا أعْدل الناس إلا في مُعاملتي... !
-...ألو.. ألو أستاذة .. هل ما زلتِ معي .. يبدو أن القلب نازف والصّبر عِيل صبرُهُ ونَفَد.. ومعه شاحِنُ هذا الهاتف !
ملاحظة:
إنَّ الرُّواد في كل الحقول، مِمّن ما زِلْنا ننْعمُ بالنَّظر إلى وجوههم العزيزة بيننا، لا يُهِمُّهم من الاحتفاء الظَّفْر بِترْسانة الدُّروع أو الأوْسِمة، والقَصْف المدوِّي لآلات التصوير، أو تحقيق البوز تباهيا في وسائل التواصل الإجتماعي، فما بالك بالأديبة خناتة بنونة التي تبرّعت بعمرها وحيدةً من أجل الثقافة والأدب، وناضلت باسْتماتة من أجل الرّأي الحُر، تبرّعت أيضاً بكل متاع الدنيا من خلال أعمالها الخيرية المشهودة، يبدو أنه حدث سوء تقدير في خريبكة وربما عن حسن نية، كانت تعتقد أنّ هذا الإحتفاء سينصبُّ حول تجربتها الأدبية والنضالية، وأنه فرصة يتّسع في حقلها المجال، لتُشارك النّاس أفكارها الحكيمة، سواء تلك المُسْتوحاة ممّا يخْتلج في الذات، أو تلك التي تجعل العالم يضطرب من حولها، لكن يبدو أنّ لمُنظّمي المهرجان، رأياً آخر فرض برنامجه على أرض الواقع !
.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 14 نونبر 2024
- مرحبا بُنَي هذا من لُطفك آ المَرْضي، ولكن أين الغِياب على سطح الأرض أو في بطن كتاب؟
- الحقيقة بين مدينتين ليستا كاللتين تحملهما عنوانا رواية تشارلز ديكنز، إنما أعْني بين الصخيرات والرباط، الوالِد كما تعلمين طريح الفِراش، وأحاول التّواجُد دائما في هذه المسافة القصيرة بين النار والإختيار !
- دعواتي للوالد بالشِّفاء العاجل الله ينزَّلْ عليه اللُّطف...
- مهلا .. أستاذة وعُذراً إذا قاطعتُ دعَواتك بعد أن وصلت للسماء، لا أخْفيك أنِّي لمسْتُ نبرة أسى تُغلِّفُ صوتكِ الكريم، فليست هذه خناتة التي أعرفها مُجَلْجِلةً، خصوصاً حين تصْدعُ بالحق.. هل أنت بخير؟
- لستُ بخير بُنَيْ، صحيح أنِّي أقاوم الكثير من الأمراض بمساعدة الله أولا ثم الأطباء، ولكن أفظع الأعْطاب تلك التي تتجاوز الجسد بعِللٍ عُضوية، لِتعكِّر بأفعال البشر صَفْو الروح !
- أقلقتِني عليكِ.. ما الذي حدث وأنا الذي ينتظر أن تلوحي بتباشير الفرح من خريبكة، لقد هاتفتني مديرة منتدى الثقافة والتنمية، تدعوني لحضور مهرجان الثقافة العربية، خصوصاً أن دورته الثامنة هذه تحمل اسم "خناتة بنونة"، لكنني اعتذرتُ آسفا لأني لن أراك شامخةً على منصّة التكريم بسبب ظروف قاهرة..؟
- اصمُت بُني.. لم يكن اللقاء كالوداع، ودَعْ الجُرْح يندمل، فما زال قلبي ينْزف دماً منذ عودتي من مدينة الفوسفاط، سوف أسرُد لك حكاية هذا التكريم كما تُسْرَدُ بلغتنا الدارجة "الخُبِّيْرة"، منذ حوالي ثلاثة أشهر، زارتني في بيتي مشكورةً سيدةّ تقترح تكريمي في هذا المهرجان، وقد وافقتُ بعد إلْحاح شديد لأنِّي مريضة جدّاً، وأخشى أن أموت هناك، فأنا أحبُّ التَّصادي مع جمهور المُدن الصغرى، ومما شجّعني أكثر وزيّن لي الحضور، قول مديرة المهرجان، إنَّ كل أهالي خريبكة ينتظرون بشوق سماع الأديبة والمناضلة خناتة بنونة، لكن هيهات أين هو هذا الكلام، لم يبْق منه سوى لسانٍ أخرس مقطوع..
- لم أفهم.. هل أُلغي الإحتفاء، أنتِ في خريبكة ولست في سطات لو افترضنا أن شبح البصري ما زال يُخيِّمُ في الأجواء؟
- لَمْ يُلْغَ التكريم ولكن صُودِرت كلماتي في حلقي وابتلعتها جافة، أنا التي لم يتجّرأ حتى البصري في أزمنة الرّصاص العصيبة، أن يُوقفني عن مخاطبة الجمهور، لقد غرّتني الأماني الكاذبة، فتوهّمتُ أني بذهابي لهذه المدينة الصغيرة، سأنخرط في حوار مباشر مع قُرّائي من كل الأجيال، حول شؤون الثقافة والأدب وشجون الحياة، فأنا لا أعتبر التكريم مُجرّد أدرعٍ وهدايا وأضواء تنْقشع في صورٍ باسمة، إنما هو فَتْحٌ مُبين لكتاب يَقْرأُ أسْطُره كل ساكنة المدينة..
- هدِّئي من روعك أستاذة، ما أكثر ما يحدث الخلَل على مستوى التنظيم، فنجدُ بعضهم لا يعرف كيف يزِنُ المقامات بما يُناسِبُها من مقال...
- ذكّرْتَني بعتاب المُتنبي ولو أنّه مُوجَّهٌ لسيف الدولة كافور الإخشيدي، ولكِنَّهُ يصلُح أيضا لمثل هذه المواقف، فهو الذي قال: (يا أعدل الناس إلا في مُعاملتي)، ذكّرتَني والحسْرة تُمزِّق أحشائي، بما يزيد عن مائة تكريم قبل أن تزِلَّ قدمي في هذا الأخير بخريبكة، ذكّرتَني بالكراسي التي طلّقتُها بما فيها كرسي الوزارة، لأني آثرتُ أن أبقى دائما قلماً حُرا يرفض الكلمة المُمْلاة، ولستُ أتعالى مُسْتَعيذةً بالله من كلِّ مُخْتالٍ فخور، إذا قلتُ إنّ بعض تلك الإحْتفاءات كانت على مستوى الدّولة، سواء في المغرب أو خارجه في الدول العربية والأوروبية، وإذا بي اليوم أُمْنَع حتى من حقي في التواصل الثقافي، بل الأدْهى أنْ تُزَف إلى مِنصّة التكريم، بعض الشّخصيات النسائية المُكرّمة ومنهن سفيرة الأردن، بالموسيقى والورود وصفوف المُستقبلين، بينما أُهَمّشُ مع بضعة أنْفار في زاوية القاعة، ولولا أنَّ السّفيرة استدركتِ الموقف دَرْءاً للحَرج، كنتُ سأبقى نسِيّاً منسيّاً في زاويتي، أوَ ليستْ هذه الدّورة تحْمل إسمي، بإثبات المُلْصقُ الذي يحمِلُ صورتي، أم أنِّي استُدعيتُ لأكون مُجرّد خُضار على الطّعام، قُل لي بربِّك أينهم بهذه المُعاملة من جَمال العبارة الشعرية: يا أعْدل الناس إلا في مُعاملتي... !
-...ألو.. ألو أستاذة .. هل ما زلتِ معي .. يبدو أن القلب نازف والصّبر عِيل صبرُهُ ونَفَد.. ومعه شاحِنُ هذا الهاتف !
ملاحظة:
إنَّ الرُّواد في كل الحقول، مِمّن ما زِلْنا ننْعمُ بالنَّظر إلى وجوههم العزيزة بيننا، لا يُهِمُّهم من الاحتفاء الظَّفْر بِترْسانة الدُّروع أو الأوْسِمة، والقَصْف المدوِّي لآلات التصوير، أو تحقيق البوز تباهيا في وسائل التواصل الإجتماعي، فما بالك بالأديبة خناتة بنونة التي تبرّعت بعمرها وحيدةً من أجل الثقافة والأدب، وناضلت باسْتماتة من أجل الرّأي الحُر، تبرّعت أيضاً بكل متاع الدنيا من خلال أعمالها الخيرية المشهودة، يبدو أنه حدث سوء تقدير في خريبكة وربما عن حسن نية، كانت تعتقد أنّ هذا الإحتفاء سينصبُّ حول تجربتها الأدبية والنضالية، وأنه فرصة يتّسع في حقلها المجال، لتُشارك النّاس أفكارها الحكيمة، سواء تلك المُسْتوحاة ممّا يخْتلج في الذات، أو تلك التي تجعل العالم يضطرب من حولها، لكن يبدو أنّ لمُنظّمي المهرجان، رأياً آخر فرض برنامجه على أرض الواقع !
.................................................
افتتاحية ملحق"العلم الثقافي" ليوم الخميس 14 نونبر 2024