تقديم: الطّبيعة مساحة بوح
تتخذ الطبيعة، بجمالها وعمق أسرارها، مكانة خاصة في الأدب العالميّ، فقد كانت مصدر إلهام لا ينضب للمبدعين على مرّ العصور، حيث وجدت النباتات والأشّجار طريقها إلى نصوص روائية عديدة، تتجاوز الاستخدام المجازي، وترتقي إلى شخصيّات فاعلة، وأبطال غير متوقعين يشاركون في بناء النّص، ويضفون عليه إيحاءات ثرة، وعمقًا رمزيًا. ولعلّ ما يفرضه هذا التّفاعل بين الطبيعة والإبداع هو إدراك المبدع لتعقيدات العالم المحيط به. فكما يشير الفيلسوف ميشيل فوكو في كتابه "الكلمات والأشياء" Les Mots et les Choses، فإن فهم كائن حيّ، سواء أكان نباتاً أو حيواناً، يتطلب تأملًا وإدراكًا دقيقًا لجميع القرائن والعلامات المرتبطة به، والمكتوبة في نسيج الطّبيعة، لتفكيك رموزها، واستيعاب لغتها الخفيّة .من ثَمّ، يصبح الفهم الكامل للطبيعة جزءًا من عمليّة إدراك شموليّة تعيد تشكيل رؤيتنا للعالم من خلال المعاني العميقة التي تحملها الطبيعة.
وإذا كانت اللّغة - وكما يذهب إلى ذلك فوكو - تملك في ذاتها مبدأها الدّاخليّ في التّكاثر ، فإنّ العديد من النّصوص الإبداعيّة التي أعادت تواصلها مع الطبيعة إلى سطح الوعي، فجّرت هذا التّكاثر واستغورت مكنوناته، ورموزه ودلالاته. وتعتبر ملحمةChanson de geste ،وأدب البلاط الملكيّ - الذي يعتبر أصل رمزيّة القرون الوسطى-من النّصوص الأولى التي اهتمت برمزيّة هذه العلامات، واعتبرت النّباتات كائنات حيّة نابضة بالمشاعر والأحاسيس، كما نجد ذلك على سبيل المثال فيالعديد من الأعمال الروائية، نذكر من بينها روايةLa chanson de Roland، وLe Roman de Thèbes، وروايةle Roman d'Alexandre، ورواية "الأمير الصغير" Le Petit Prince للكاتب أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900 -1944) التي تعد إحدى روائع الأدب الفرنسي في القرن العشرين، وأحد أكثر الكتب انتشارًا حول العالم. فقد تُرجمت إلى أكثر من 230 لغة ولهجة، وحققت مبيعات تجاوزت 80 مليون نسخة، مما جعلها تحتل مكانة متميزة ضمن قائمة أفضل الكتب المترجمة والأكثر مبيعًا في تاريخ الأدب العالمي.
ومن بين الأعمال الأدبية التي منحت النباتات والأشجار دورًا محورياً في قلب السرد الرّوائيّ، تبرز رواية شجرة العالم L'Arbre-Monde للكاتب الأمريكي ريتشارد باورزRichardPowers. في هذه الرواية، يضع باورزالأشجار في مركز الأحداث، وينجح في بناء سرد متشابك يجمع بين التاريخ البيئي، والعلمي، والروحي. حيث تتداخل فيه مصائر تسع شخصيات، كل واحدة منها تخوض رحلتها الخاصة لاكتشاف التعقيد والجمال الذي يحمله عالم الطبيعة. حيث تتحول الأشّجار في الرواية إلى شخصيات تتفاعل مع الأحداث بطرق عميقة ومفاجئة، مما يدعو القارئ إلى تنشيط آليات القراءة الواعية واليقظة، وإعادة النظر في علاقته بالطبيعة والتفكير في الأبعاد الفلسفية التي تحملها .
وقد تبنى ريتشارد باورز موقف "الكاتب المستنير" وطرح تساؤلات جوهرية تشكك في العلاقة بين العقل والأرض. وأثار من خلال ذلك مجموعة من الأبعاد ذات الأصداء القوية: العاطفية، والبيئية، والفلسفية. وقد خلص باورز إلى أن ثقافتنا المعاصرة ليست سوى "خراب للروح".
بالإضافة إلى ذلك، نستحضر رواية "الحديقة السّرية" لفرانسيس هودجسونبورنيت، ثم رواية "حديقة على البحر" للروائية ميرسيرودوريداMercèRodoreda، ورواية "حارسة البذور"The Seedkeeperللكاتب ديان ويلسونDiane Wilson، ورواية رواية "تفاحة في الظلام" Apple in the DarkلكلاريسليسبكتورClarice Lispector.نذكر أيضاً رواية "جزيرة الأشّجار المفقودة" The Island of the MissingTreesللكاتبة إليف شافاكElifShafak، التي جعلت من "شجرة تين" صوتًا سرديّاً يروي جزءًا من الأحداث، كما ربطت تلك الشجرة بالتاريخ، حيث تحمل كل شجرة بين أغصانها حكاية، وكل فرع يمتد كجسر يربط الماضي بالحاضر، ليصبح جزءًا من ذاكرة الزمن.
بالإضافة إلى ذلك، استوحى العديد من الأدباء عناوين نصوصهم الرّوائيّة من أسماء النباتات والزهور، نذكر من بينها رواية أمبرتو إيكو "اسم الوردة" التي حققت نجاحًا مبهراً،ثم رواية الكاتبةآن ميثر AnneMatherالموسومة"ورود الصَّبر البَيْضاء"Les Fleurs blanches de la passion، ثم "وردةمِيدِيشِي"La rose des Médicis، وَرِواية "الورود البيضاء لشهر ديسمبر".Roses blanches de décembre وغيرها من الأعمال الروائية العالمية الكثيرة.
إلى جانب ذلك، فقد احتفت العديد من النّصوص الرّوائيّة العربيّة بالطبيعة، نذكر من بينها رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب حيدر حيدر، ورواية "الأشّجار واغتيال مرزوق" للكاتب عبد الرحمن منيف، ورواية "أيام الزهور" للكاتبة مروة عبيد، ورواية "ذاكرة الورد" للكاتبة دينا نسرين التي جعلت للورد ذاكرتين، ذاكرة الجمال تحمل معها سحر الشكل وعبق الرائحة، لكن، هناك أيضاً ذاكرة الألم المتجذرة في وجع قطف الزهور ووخز الأشواك الصغيرة الملتفة حول أغصان الورود. وقد كانت ياسمين، بطلة القصة، طبيبة نفسية تبحث عن أوجاع مرضاها لتكتشف أن علّتهم تعود إلى أثر الرحيق، ووخز تلك الأشواك الحادة. لم تكن تدرك أن مرضاها سيحولون حياتها إلى جحيم، وأن بعض الأزهار تفتـرس الفراشات.
وتعد رواية "حكاية زهرة" للكاتبة والمبدعة الزّهرة حمودان من الأعمال الرّوائيّة التي وضعت زهرتها/ النبتة في محور السرد الرّوائيّ، فكتبت قصتها، وفككت إشاراتها، وجعلت منها شكلاً من أشكال الإلهام الذي دفعها للإبداع. فقد أبدع النص في خلق توازن عميق بين مسار البطلة ومصير الزّهرة، وخلق تواشج وطيد بين طبيعة الإنسان وعالم النبات، تتحول النبتة في هذا السياق إلى مرآة تعكس المشاعر الدّاخليّة للبطلة، في تمازج مدهش بين رحلة الذات وتجليّات الطّبيعة، فتتداخل خيوط الحياة بين الكينونتين لتنسج رابطًا عميقًا بينهما، حيث عززت ظروف معاناتهما المشتركة صداقتهما وجعلتهما تعقدان ميثاق الصبا، الذي تتعهد فيه زهرة الصبيّة بكتابة حكاية صديقتها النبتة ومعاناتها وتسجيل مقاومتها (لعاديات الأيام) مستقبلاً.
تقول زهرة موجهةً خطابها لزهرتها النّبتة:
"أعدك، أنني يوماً ما سأكتب عن لقائنا، وسأحكي للعالم عن قصتنا. وها أنت اليوم... تذكّرينني بوعدي الذي قطعته لك ذات عمر، وأنسـتني إياه الأيّام، وتنبهينني إلى أنّك ما زلت تلهمينني خفايا ما أجهله آنذاك عن إمكاناتك الوجوديّة".
• الإهداء باعتباره عتبة نصِّية تأويليّة وتوجيهيّة:
يمثل الإهداء في "حكاية زهرة"،عتبة نصيّة وظيّفةاستباقيّة وتوجيهيّةتفتح أمام المتلقي أفقاً تأويليّاً يوجه إدراكه نحو عوالم الرواية، حين تقول المبدعة في إهدائها:
"إلى الطّفلة الكامنة داخل كل أنثى، إلى كل أنثى تحلم بشغب الولادة من جديد."
وقد عكس هذا الإهداء توجهًا استباقيًّا ينير مسار النص، ويوجه ذهن المتلقي، محفزًا إياه على استيعاب أعمق لتفتيق مضامينه، وتوليدها، وتأويلها. وهو أيضاً إحالة مرجعيّة، ومقام تواصلي تحكمه مجموعة من الأبعاد العلائقيّة والرمزيّة، والوشائج التشاركيّة، تنحو فيه الذات المبدعة نحو الآخر في خصوصيّته (كل طفل داخليّ، كل أنثى). وهي في هذا،تلتقي مع العديد من المبدعين الذين جعلوا من الإهداء عتبة نصيّة وظيفيّة حاملة لقضايا وهموم عميقة، ووسيلة للاحتجاج على كل أشكال العنف والاضطهاد والتمييز، وفي هذا الإطار، نذكر إهداء باتريك بارد Patrick Bardالذي أهدى روايته الموسومة "الحدود"La Frontière الصّادرة عام 2002،إلى نساء المكسيك، وكل النساء المفقودات اللاتي وقعن ضحايا الاستغلال في العمل والدعارة...
كما أهدت آني باريير AnnieBarrireروايتها "مدينة جميلة مثلي"Une belle ville comme moi، الصادرة عام 1999، إلى سكان حي بانييه،في لفتة مؤثرة تخلّد ذكرى أولئك الذين اقتلعوا من بيوتهم صباح الأحد، 24 يناير 1943، وإلى كل من تجرع مرارة تلك الفاجعة وعاش أهوالها.
بالإضافة إلى ذلك، نستحضر إهداء ياسمينة خضرا Yasmina Khadraفي روايته الموسومة "خريف الأوهام" L'Automne des chimèresالتي تناولت أحداث "العشريّة السّوداء" في الجزائر، حيث أهدى هذا العمل، الذي يمزج بين التّمرد والفكاهة واليأس، إلى جميع ضحايا الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وإلى جميع المختطفين والمفقودين.
وهكذا،ينسج خطاب الإهداء في "حكاية زهرة"، مساحة تواصليّة تنبني على توجيه خاص نحو مخاطب بعينه "أنتِ"، "الطّفلة المختبئة في الأعماق"، و"الأنثى التوّاقة إلى ولادة جديدة". هذا المخاطب الذي يعتبر قرينة رمزيّة، يحفر مرجعيّته في خطاب النوع الاجتماعي، ويستدعي ذاكرة جمعية تحكمها تركيبة مجتمعيّة ما زالت تقاوم،وتستجدي فضاءً لهويّة ترفض الخضوع،وتسعى للحضور بقوة وثبات في وجه كل القيود.
• الطّفلالدّاخليّ ورحلة البحث عن الشفاء:
ارتبط مصطلح "الطّفلالدّاخليّ" أوInnerchild بعلم النّفس التّحليلي، وتطوير الذات منذ بدايّة السّتينيّات. وقد عرّف كارل غوستاف يونغCarl Gustav Jungالطّفلالدّاخليّالذي سماه "الطّفل الإلهي"،بأنه ذاك الجزء الطفولي الخفي الكامن داخل كل إنسان. وقد شبهه بأمين مستودع العواطف الذي ينظم مشاعرنا العميقة، وتطلعاتنا التي قد نكون نسيناها أو تجاهلناها بمرور الزمن. إنه "أمين المتجر" الذي لم نختَر وجوده، لكنه يبقى القوة الخفيّة التي توجّه حاجاتنا العاطفيّة وتؤثر في مشاعرنا، مهما حاولنا الابتعاد عنها.
ومن هنا، يسعى علم النفس التّحليلي إلى معرفة ما يخزّنه هذا المستودع الذي يتحكم فيه الطّفلالدّاخليّ، وهو مستودع يحتفظ بكل ما اختبرناه من معاناة، وألم، وتمرد ورفض، أو إحساس بالوحدة والخوف... إنها تجارب غائرة تجمّعت بعناية خلف ستار الطفولة، تُثقلنا في الخفاء، وتشكّل أعماق شخصياتنا الحالية.
وفي هذا السّياق، تشير ستيفاني سيونسيStéphanie Saincy، في مقالها عنالطّفلالدّاخليّ، إلى أن هذا الجزء الخفيّ في أعماقنا هو عالم متكامل من العواطف المكبوتة، عالم محفور في مسامات الروح، ينتظر منا التفهّم والتصالح. وأن هذا الطّفل ليس مجرد ذكرى بعيدة، بل هو نبض مستتر يحرّك مشاعرنا، ويدعونا إلى استعادة السلام الدّاخليّ عبر الإنصات العميق إلى احتياجاته وصوته الخافت. وأن احتضان الطّفلالدّاخليّ هو احتضانٌ لجذورنا العاطفية، وشفاءٌ للذات، وتصالح معها لاستعادة السّلام الدّاخليّ. حيث تقول ستيفاني:
"الطّفلالدّاخليّ، هو حقيقتنا المنسيّة القادرة على التّستر من أجل البقاء. إنه يحتمي في أعماق كيّاننا، ويبقى غير مرئي، ما لم تتولد لدينا رغبة حقيقيّة في تحريره لكي نُشفى. يقبع داخل كل إنسان طفل باكٍ؛ هذا الطّفل هو ذاكرة كل أذى صامت لم يستطع التعبير عن نفسه. هو الحارس على كل جرح دفين، جرح يعكس نقصًا في المحبة" .
ثم تضيف ستيفاني،أن الإنسان يحقق الشّفاء الكامل عندما يواجه مشاعره ويعترف بها. حين يخطو إلى أعماق المشاعر المعتمة، تلك التي خبأها الطّفلالدّاخليّ خلف ستائر النّسيان؛ حيث تبدأ الرحلة من هناك، حين نقترب من الطّفل في داخلنا، ونحرر قيوده. نمدّ له يد التقدير، ونفتح ذراعًا تحتضن ضعفه وصمته، فنمنحه حق التعبير الذي طال انتظاره، ونمضي به، وبهذا التحرر، نحو شفاءٍ أعمق وأصدق.
وهكذا، يصبح الطّفلالدّاخليّ جزءًا جوهريّاً من ذواتنا؛ حيث يمكن لعلاقة الإنسان بطفله الدّاخليّ أن تقترب من الكمال، وقد سعى النّص الرّوائيّ إلى رسم صور هذا الكمال عبر تصالح الذات المبدعة مع طفلها الدّاخليّ، من خلال خلق مساحات للبوح يستطيع فيها تجاوز حواجز الصمت، لتكتب الزّهرة حكاية الزّهرتين، تتطلع إلى أن تكون تلك الأم أو الأب النموذجي "الذي كانت تريده دائمًا ولكنها لم تستطع الحصول عليه أبداً. فكثير من مشاعر طفلها الدّاخليّ موجهة إليها تستمد منه مثاليتها التي ظلت دائمًا تعشقها، تلك المثاليّة التي لم تبارحها بالكامل، رغم الكم الهائل من نقط التّفتيش التي مرت بها" .
وقد فتحت الكاتبة أمام الزهرتين مساحة بوحٍ،تشرق من خلالها تداعيّات دافئة، تتسلل عبرها مشاعر طُمست طويلاً في الظل، كأنها نغمات خافتة تتوق للانبعاث. وفي هذا السياق، تشير ستيفاني سيونسي إلى أننا حين نكون أطفالًا، قد تهمل بعض احتياجاتنا وتظل بلا استجابة، تاركةً في أعماقنا فراغًا خفيًّا ينمو كظلٍّ صامت، يتسلل إلى حياتنا، ويرافقنا في مسارات العمر، ليتجلى لاحقاً كألمٍ غامضٍ يقاوم الوضوح، ويصعب تجاوزه. نكبر محملين بإكراهات لا نعرف مصدرها.حينها، نجد أنفسنا أمام ضغوطٍ خفية، واحتياجات طفوليّة بقيت غير مسموعة.
ولكن،عندما نمارس الحضور الواعي مع الطّفل الدّاخلي،نحتويه ونمنحه دفء الاهتمام والرعاية،وما افتقده من الإنصات والاعتراف. حينها، نبدأ برتق ذلك الفراغ، ونمنح ذواتنا تصاريح جديدة للحياة،ومفاتيح للمصالحة مع الذات، لبناء علاقة صحيّة وواضحة تشرق من الداخل.
وقد حاولت الكاتبة أن تمنح تصاريح الولادة للزَّهرتين، أن تتعرف عليهما وتتقبلهما، وتحبّهما، وأن تقدم لهما كل اهتمام ليتبادلا معًا الشعور بالحماية والأمان... كما استطاعت زهرة أن تسترضي هي الأخرى طفلها الدّاخلي، وتواسيه وهي ترجّ ذكرياتٍ عابقة بالمعاناة، كانت تريد أن تتصالح معه، أن تعتذر له عن كل فقد أحست به بعد أن هاجر والداها إلى إسبانيا لاستكمال دراستهما هناك، تاركين إياها في رعاية جدتها...كانت تريد أن تعتذر له عن غياب الفرح من حياتها،عن صمتها واستسلامها وعجزها وخنوعها، وعن كل حرمان قد عاشته.
تقول زهرة:
"لماذا يظل دائمًا للفرح مكانه الشاغر في قلبي.. وحده الفرح المتغيب الدائم عن جوقة أيامي.. يحضر الواجب نائبًا عنه، واجب الرضى الدائم.. واجب الابتسام. واجب الترحيب... واجب عدم الاعتراض، واجب التحلي بالصبر.. حتى أنني لا أتذكر متى زارني فرحي الخاص آخر مرة. كل ما أعرفه أنني أحتفظ بمكانه الشاغر في حراسة الانتظار."
ثم تقول أيضاً:
"أرفع عيني عن مشيتل زهرة النّبتة، كانتا مثقلتين بالأوجاع المترسبة في الأعماق.. أحسست بخدر ووهن يعصراني" .
ثم تضيف قائلة:
"هي في حلكتها، وأنا في عجزي.. عجزي الذي أفرخته ترسانة من اللاءات الملتهبة بسياط القسوة" .
وقد شكلت ترسانة اللاءات الملتهبة بعداً مضاعفاً للألم النّفسيّ الذي عانت منه زهرة نتيجة القيود المجتمعيّة والنفسيّة التي تكبل قدراتها وتشعرها بالعجز، هذه "اللاءات" لم تكن مجرد رفض أو قيود؛ بل هي سياط تلسعها بلهيبها الحارق، حاملة في طياتها آثاراً لمواقف قسوة تجعلها تشعر بالعجز التام. هذا العجز الذي أصبح حدوداً مستعصيّة، وحواجز عرفت الصدأ بفعل قسوة التجارب، فأصبحت سياطاً داخليّة تجلدها في صمت. الشيء الذي يضاعف من أوجاعها المتجذرة بعمق، فتترجمها لغة مشبعة بألم تراكميّ ينضح من خلال عينيها المرهقتينو"المثقلتين بالأوجاع المترسبة"، وكأن عينيها أصبحتا مرآة لجراح لم تشف بعد، تظل تختبئ وتترسب مثل بقايا ذكريات معتمة لا تزال تنبض بوقعها... هذا الوهن والخدر اللذان تشعر بهما، يبدوان كأنهما احتواء جسدي لألم نفسيّ عميق، وكأنهما ثقل داخليّ متخثر لا يفارق أعماقها. وقد عبرت عنه الكاتبة بكلمة "ترسانة" التي تشير إلى منظومة دفاعيّة بنيت على نفي الذات، كأن تلك اللاءات تمثل متاريس ترفعها زهرة، لكنها متاريس تنقلب على نفسها فتحرقها بنار القسوة التي تسببت بها.
وهكذا، تتشكل ثنائيّة الذات والعجز في النص الرّوائيّ من خلال لغة مشبعة بالألم النفسيّ العميق، حيث تنعكس هشاشة الذات التي تكافح ضد القيود الاجتماعيّة والنفسيّة التي تتجلى في "سياط القسوة"، الشيء الذي يزيد من الشعور بالعجز. وكأن هذه القيود تشتد كلما سعت الذات للفرار من دوامة الضعف والعزلة.
• السطح كفضاء للانعتاق:
يتجاوز سطح المنزل في النص الرّوائيّ حدود كونه مكاناً ماديّاً، ليغدو فضاء عتبة يحمل دلالات رمزيّة غنيّة ومتعددة. وقد أشار باختين في دراسته لأعمال دوستويفسكي إلى أن فضاء العتبة يرتبط بالمواقف والأفكار والمشاعر... ويتجسد هذا الفضاء في المداخل والأبواب والنوافذ والشرفات والممرات والجسور والمعابر والحدود... وكل فضاء يعيش فيه الأفراد بين-بين... الأمر الذي يجعل الزمن الموجود في هذه العتبة زمن أزمة،يتسم بالتوتر، والقلق، والاضطراب، وطرح الأسئلة المصيرية . فإلى أي حد استطاعت هذه العتبة أن تشيد فضاءها النصي في الرواية، وتسهم في خلق حقول ديناميّة ودلاليّة متناميّة في النسيج الحكائي؟
تشكلت ملامح هذه العتبة، عندما أصبح فضاء سطح البيت فضاء رمزيّاً، ومساحة تتسع للحريّة، يُشع منه ضياء فجر غدٍ واعد يتجاوز حدود الأسوار. إنه الفضاء الذي يطل على العالم الخارجيّ، تتلصص منه النسوة على هذا العام في احتشام. وفي هذا الفضاء، تتبلور ملامح التغيير، والرغبة في تكسير القيود الاجتماعيّة. وفي هذا الفضاء، تبدأ زهرة في التواصل مع عالمها الدّاخليّ/الخارجي واستكشاف طموحاتها المكبوتة. بعد أن كانت لا تملك غير الصمت أو الهروب إلى منافي الذات... تهرب إلى سطح البيت حيث تتواجد زهرتها فيتشاركان أوجاعهما وآلامهما، وقد كان فضاء سطح البيت متنفسها الوحيد، وفسحتها الدّاخليّة والخارجيّة. كما كان متنفساّ لكل النسوة. وفي هذا الإطار تقول زهرة:
"ضاق درعهن بالأسوار العاليّة، فحلقن بأجنحة من ضياء نحو السّماء، من خلال فضاءات سطوح بيوتهن، تمطرهنّ من المنن فرحاً، وتمكنهنّ من تأشيرات الانطلاق نحو نواد، نونها نسويّة صرف. حتى البنات من الأطفال كان لهنّ نصيب في جنّة السطوح."
وهكذا،عشقتزهرةالضيّاء في سطح البيت، وتكشفت لها أسرار حياة أخرى خارج أسوار البيت. تقتفي أثر النّور كما لو أنه يفتح لها أبواباً خفيّة نحو عوالم لا تعرفها.وخارج أسوار البيت الكئيب حلمت بانبعاث جديد، بولادة تغسل قلبها من قهر امتدت جذوره إلى كل تفاصيل حياتها، وأصبحت تحلم بميلاد مرتقب، هي التي عاشت كل أشكال القهر، وتعايشت مع كل تضييق في الحريّة الذي فرضه عليها كونها أنثى... فقد كانت كلما صادفتها إشارة الوقوف "قف"، خيّل إليها أن نصًا ضمنيّاً كتب بجانبه: "أنت أنثى، قفي هنا".ومع ذلك، تنامى بداخلها الحلم بالانعتاق وهي ترسم ملامح حلم يولد... الحلم بهويّة تُقيَّد، وبكينونة تَتنفس، بحضور طليق ومتجدد في أفق يتجاوز السكون والصمت... وقد أنهت الكاتبة نصها الرّوائيّ بوحدة سرديّة وسمتها "الوِلادة المرتقبة الثالثة"، وكان الابتداء من الولادة، وإليها كان الانتهاء، وهي بذلك تجعل البدايّة ولادة... والنهايّة ولادة أخرى. إنها دائرة مغلقة تكتمل بميلاد أناها من جديد، وبتوثيق هوية استهلكها الزمن وصوتها خافت. هي التي تريد أن تستمد قوتها من أحلام نضجت في أعماقها، وهي تخلع عنها رداء الخوف، كنبع لا ينثني، وكلبؤة لا تروض ، بعد أن ارتفع صبيب أحلامها المكوّمة في أعماق الذات، وبعد أن استطاعت بجرأة أن تكتب على جبين الزّمن كينونة حضورها، بعدما استنزف الآخر سنوات عمرها.
وقد عاشت ميلادين: ميلادها وميلاد زهرتها، تلك النبتة المتجذّرة في تربة روحها. تقول زهرة:
"اهتدت زهرة النّبتة بفطرتها، إلى وجود انفراج بين فروع الأشّجار المتشابكة، يخترقه خيط رفيع من الضيّاء، يرافقه تيار ريح جارفة، تكسر له أجواء التل الهامدة همود الموت، اشتعلت غرائز زهرة... انفرجت معها طاقة قويّة نزعت جذورها من التربة... ألقَت بنفسها في أحضان خيط الضيّاء المتسلل... ركض الضيّاء بها نحو الفضاء، فارس أحلام أسطوري، ينفذ بـ"زهرة النبتة" خارج دائرة الموت التي كانت تطوقها، وثقت فيه، لأنها تعرفه، كل خلاياها تعرفه. إنها مدينة له بولادتها الأولى."
وهكذا، لم تعد "زهرة النّبتة" تقبل العيش تحت رحمة هذه الأشّجار الجاثمة كوحوش، تحمل الموت تحت أنيابها. ما هكذا تكون الحياة النّباتية تحت ظل الأشّجار.
ومن خلال خيط ضياء رفيع، تبدأ الزّهرة رحلة خلاصها، محاولة التّحرر من جذورها التي كانت تربطها بتربة قاحلة وأرض خامدة. هذا الضيّاء الذي تجري نحوه يتجاوز كونّه مجرد شعاع نور، إنه كيان متحرك، وفارس أسطوري، يدفعها إلى حياة أخرى. إنها ولادة ثانيّة لا تحكمها قسوة الأرض أو غطرسة الشّجر. ومن ثم، تقدم هذه الرمزيّة انبثاقاً للذات الساعيّة إلى الخلاص، تلك الذّات التي ترفض الانصيّاع لقوانين الواقع المجحفة، وتحاول بلوغ أفق أرحب من خلال استجابتها لنداء داخلي. إنها رحلة تحرير روحي ووجداني، حيث تخلع الزّهرة جذورها وتلقي بنفسها في أحضان الضيّاء، مدفوعة بغريزة أصيلة تحاكي حاجتها للانبعاث من جديد. لم تعد "الزّهرة" قادرة على تقبل العيشتحت رحمة هذه الأشّجار الجاثمة كوحوش، تحمل الموت بين أنيابها. ومن خلال الثقة المتبادلة بين "زهرة النبتة" والضيّاء، تتكشف علاقة من نوع خاص؛ إنها الفطرة التي ألفتها منذ البداية، تلك القوة التي تدفعها نحو فضاءلا يقبل العتمة والسكون. ومع هذا التحول، ترفض الزّهرة الاستمرار في حياة تفتقر للدفء والضوء، والخضوع لحياة محكومة بظلال الغير الذي يحجبها، فقد كانت تريد الانطلاق. واكتشاف حياة جديدة غير تلك "الواقعة تحت رحمة الأشّجار"، حياة تليق بها بعيدًا عن عالم يبتلعها كوحش يخبئ الموت بين أنيابه.
وبين ثنايا المشهد السردي، ينبثق مشهد مفارق تغدو فيه الأشّجار عائقًا ووحوشًا رابضة فوق الزّهرة، وكأنها تستحوذ على حياتها الهشة. الأشّجار التي كانت دومًا رمزًا ينبض بالحياة والنّماء، ومتوغلة في جوهر الإنسان كالحب والموت، والسّلطة والقوة... وقد اكتست تلك الرموز أهميّة ضاربة في جذور الأساطير القديمة، الإغريقيّة والرومانيّة، وفي أدب القرن التاسع عشر، حيث يتشابك الرمز مع الكون السحري والواقعي، فظلت تلك الرموز تسكن الوجود بحضورها الغامض، حيث صارت جزءًا من وعي جمعي عبر العصور. ومن بين تلك الأشجار، تقف شجرة الصنوبر أو البلوط شامخة. تلك الشجرة التي ارتبطت بالأساطير، وتلونت في عقائد الشرق، وظلت شاهدة على عمق حضورها الرمزي في الوعي الجمعي.
وهكذا، أشرقت حياة الزهرتين، وانكشفت ولادتهما... وأصبحتا، يومًا بعد يوم، أكثر يقينًا بأنهما كائنان مختلفان، لكنهما ينتميان لمعنى واحد. فقد ظلت زهرة النبتة، بروحها العتيقة، تهدي زهرة الطّفلة سلالًا مملوءة بثمار اليقين، تحمل في كل حبة منها غلال الانتصار.
• أريج العودة،وموئل الأحلام المهربة:
يبدأ الحكي في النّص الرّوائيّ، بعودة زهرة إلى مسقط رأسها؛تأخذ بيد الزمان، تلامس به وجه مدينتها، تِطّاون ، التي تشبثت باسمها الأصلي كأنّه أحد وجوه حبها السّرمدي. تنتقل إلى بيت اختارته بحدس المُحبّ، تشعر فيه كأنّها محارب يعود من معركة طويلة، مكللًا بأمان تقاعدٍ يَشِي ببدء رحلة جديدة، بعد سنوات قيّدتها الوظيفة.
تشرع زهرة في نبش ذكريات الصّبا وأحلام الطّفولة، تستعيد صورًا من مواجد العمر الذي خلا...تحنّ إلى زهرةٍكانت رفيقة السطح وأمان الروح،تلك الزهرة التي علّمتها ألا ترتبط بأي مكان إلا إذا انتمى إلى العلا، هي التي استوطنتها الأقبيةالمظلمة عمراً...تسكنها الذكريات، تذكرها بمشاهد حروب خاضتها بشجاعةمن أجل الوصول إلى الكتاب، تلك الغنيمة المهّربة التي سعت نحوها في غفلة الرّقيب.
تقول زهرة:
"الوصول إلى الكتاب بضاعة مهرّبة... الابتزاز النّفسي والعاطفيّ تحت غطاء تبذير فيما لا يفيد.. الرّاتب يخضع لمحكمة تفتيش شهريّة... وحده مكتبي في العمل من سانَدني.. كان قلعة كتابي الحصينة، ولو إلى أن يحملني الحنين لتزويد رفوف مكتبي التي دسستها بين قطع الزينة بالخزانة الزجاجية" .
وهكذا، صارت الكتب بضاعتها المهربة، وضالتها المنشودة، تنسل من قيود الرّاتب، وأحكام التّفتيش التي تطال كل زاويّة في البيت. وحده مكتب العمل كان ملاذها الآمن، يعانق كتبها كما تعانق القلاع أسرارها، وكأن الرفوف السريّة قد أصبحت حصناً عصيّاً على أعين الرقيب.
وفي عالم القراءة، وجدت زهرة زادًا يغذي روحها بآليات التّفكير، ويفتح لها آفاق التّأمل، وهي تلملم شتات جراحها، وتجبر كسرها برفق وعناية...في حين، كانت الكتابة المتنفس الوحيدالذي ينتشلها من واقعها المرير، والجسر الذي يربطها بعوالم جديدة، ويجعلها تتجاوز حدود عوالم الطّفولة التي سكنتها كالسّفر في خرائط الجير فوق الجدران التي كانت تتيح لها أن تطلق العنان لخيالها ليحيك حكايا وقصصًا تنتشلها من واقعها المرير، هي التي كانت دومًا تتوق إلى "التّحرر من طوق الطّاعة الطفولي" ،وكانت الكتابة فعلها التّحرري الذي علمها كيف تتحرر من الخوف الذي كان يجثم على صدرها، ويعيق مسيرها... علمها كيف تتألق، وتنسج أشكالًا متعددة من التَّمويه، لكسر غياب السّنين، وخرق قيود التّهميش، لتثبت ذاتها وحضورها وهويتها الجنسيّة. كانت تتوق إلى تحطيم حواجز الصمت، لتخرس، وبشكل محتشم، صوت الرقيب الذّاتي الذي تشعر بوجوده المهيمن في أعماق اللاوعي. وقد يكون استحضار شخصياتٍ من عالم الطّبيعة كالزّهرة والضّياء والتّل والجير... وبناء أحداث تنبض فيها حياة مُواربة، تخفي وراءها ذاتاً أخرى تُشكّل حكايةً موازية ترتبط بكينونة الزّهرتين وتماهيهما، إنّماهو تكريس لسلطة الرقيب الخفي، الذي يبدو كرفيق غير متوقع يوجّه الفعل الإبداعي،وإن كانت الكاتبة قد سعت إلى معانقة لغة الاختراق في بوحها، معتبرة الرقابة، كما تشير إلى ذلكسيلفي دوكاس،عنصراً فاعلا في العملية الإبداعية. وأنه خلافًا للاعتقاد السّائد، فإن الرقابة ليست دائمًا عائقًا أمام الإبداع الأدبي، بل قد تصبح في كثير من الأحيان "خميرة" تُثري العمل، وفرصة لاستكشاف إمكانات جديدة لآفاق النص القادم، حيث يكمن الإبداع في زوايا الصّمت والمسكوت عنه،وفي حوارٍ خفي مع الذات.
الخلاصة:
يقدم النص الرّوائيّ طرحًا له خصوصيته في الكتابة السردية الرّوائيّة العربية، ويشيد بناءً حكائيًايماهى فيه بين عوالم مفارقة تجمع بين زهرة النبتة، وزهرة (الطّفلة والأم والمبدعة...) ككائنين مختلفين، تجمع بينهما معاني وعلائق متعددة، فتصر أن تهدي هذا العمل الإبداعي للطفلة القابعة داخل كل أنثى، وأولها طفلتها المتصالحة معها والتي، على الرغم من المصاعب والمعاناة، ومرور عمر ولّى، إلا أنها ما زالت حاضنة لها؛ فطفلتها الصغيرة الكامنة بداخلها ستظل دائمًا جزءًا منها، وجانبها المثالي الذي تعتز به... وهي أيضًا تهدي هذا العمل لكل أنثى تحلم بشغب الولادة، وكانت "حكاية زهرة" شغبًا جميلًا.
د. نزهة الغماري
تتخذ الطبيعة، بجمالها وعمق أسرارها، مكانة خاصة في الأدب العالميّ، فقد كانت مصدر إلهام لا ينضب للمبدعين على مرّ العصور، حيث وجدت النباتات والأشّجار طريقها إلى نصوص روائية عديدة، تتجاوز الاستخدام المجازي، وترتقي إلى شخصيّات فاعلة، وأبطال غير متوقعين يشاركون في بناء النّص، ويضفون عليه إيحاءات ثرة، وعمقًا رمزيًا. ولعلّ ما يفرضه هذا التّفاعل بين الطبيعة والإبداع هو إدراك المبدع لتعقيدات العالم المحيط به. فكما يشير الفيلسوف ميشيل فوكو في كتابه "الكلمات والأشياء" Les Mots et les Choses، فإن فهم كائن حيّ، سواء أكان نباتاً أو حيواناً، يتطلب تأملًا وإدراكًا دقيقًا لجميع القرائن والعلامات المرتبطة به، والمكتوبة في نسيج الطّبيعة، لتفكيك رموزها، واستيعاب لغتها الخفيّة .من ثَمّ، يصبح الفهم الكامل للطبيعة جزءًا من عمليّة إدراك شموليّة تعيد تشكيل رؤيتنا للعالم من خلال المعاني العميقة التي تحملها الطبيعة.
وإذا كانت اللّغة - وكما يذهب إلى ذلك فوكو - تملك في ذاتها مبدأها الدّاخليّ في التّكاثر ، فإنّ العديد من النّصوص الإبداعيّة التي أعادت تواصلها مع الطبيعة إلى سطح الوعي، فجّرت هذا التّكاثر واستغورت مكنوناته، ورموزه ودلالاته. وتعتبر ملحمةChanson de geste ،وأدب البلاط الملكيّ - الذي يعتبر أصل رمزيّة القرون الوسطى-من النّصوص الأولى التي اهتمت برمزيّة هذه العلامات، واعتبرت النّباتات كائنات حيّة نابضة بالمشاعر والأحاسيس، كما نجد ذلك على سبيل المثال فيالعديد من الأعمال الروائية، نذكر من بينها روايةLa chanson de Roland، وLe Roman de Thèbes، وروايةle Roman d'Alexandre، ورواية "الأمير الصغير" Le Petit Prince للكاتب أنطوان دو سانت إكزوبيري (1900 -1944) التي تعد إحدى روائع الأدب الفرنسي في القرن العشرين، وأحد أكثر الكتب انتشارًا حول العالم. فقد تُرجمت إلى أكثر من 230 لغة ولهجة، وحققت مبيعات تجاوزت 80 مليون نسخة، مما جعلها تحتل مكانة متميزة ضمن قائمة أفضل الكتب المترجمة والأكثر مبيعًا في تاريخ الأدب العالمي.
ومن بين الأعمال الأدبية التي منحت النباتات والأشجار دورًا محورياً في قلب السرد الرّوائيّ، تبرز رواية شجرة العالم L'Arbre-Monde للكاتب الأمريكي ريتشارد باورزRichardPowers. في هذه الرواية، يضع باورزالأشجار في مركز الأحداث، وينجح في بناء سرد متشابك يجمع بين التاريخ البيئي، والعلمي، والروحي. حيث تتداخل فيه مصائر تسع شخصيات، كل واحدة منها تخوض رحلتها الخاصة لاكتشاف التعقيد والجمال الذي يحمله عالم الطبيعة. حيث تتحول الأشّجار في الرواية إلى شخصيات تتفاعل مع الأحداث بطرق عميقة ومفاجئة، مما يدعو القارئ إلى تنشيط آليات القراءة الواعية واليقظة، وإعادة النظر في علاقته بالطبيعة والتفكير في الأبعاد الفلسفية التي تحملها .
وقد تبنى ريتشارد باورز موقف "الكاتب المستنير" وطرح تساؤلات جوهرية تشكك في العلاقة بين العقل والأرض. وأثار من خلال ذلك مجموعة من الأبعاد ذات الأصداء القوية: العاطفية، والبيئية، والفلسفية. وقد خلص باورز إلى أن ثقافتنا المعاصرة ليست سوى "خراب للروح".
بالإضافة إلى ذلك، نستحضر رواية "الحديقة السّرية" لفرانسيس هودجسونبورنيت، ثم رواية "حديقة على البحر" للروائية ميرسيرودوريداMercèRodoreda، ورواية "حارسة البذور"The Seedkeeperللكاتب ديان ويلسونDiane Wilson، ورواية رواية "تفاحة في الظلام" Apple in the DarkلكلاريسليسبكتورClarice Lispector.نذكر أيضاً رواية "جزيرة الأشّجار المفقودة" The Island of the MissingTreesللكاتبة إليف شافاكElifShafak، التي جعلت من "شجرة تين" صوتًا سرديّاً يروي جزءًا من الأحداث، كما ربطت تلك الشجرة بالتاريخ، حيث تحمل كل شجرة بين أغصانها حكاية، وكل فرع يمتد كجسر يربط الماضي بالحاضر، ليصبح جزءًا من ذاكرة الزمن.
بالإضافة إلى ذلك، استوحى العديد من الأدباء عناوين نصوصهم الرّوائيّة من أسماء النباتات والزهور، نذكر من بينها رواية أمبرتو إيكو "اسم الوردة" التي حققت نجاحًا مبهراً،ثم رواية الكاتبةآن ميثر AnneMatherالموسومة"ورود الصَّبر البَيْضاء"Les Fleurs blanches de la passion، ثم "وردةمِيدِيشِي"La rose des Médicis، وَرِواية "الورود البيضاء لشهر ديسمبر".Roses blanches de décembre وغيرها من الأعمال الروائية العالمية الكثيرة.
إلى جانب ذلك، فقد احتفت العديد من النّصوص الرّوائيّة العربيّة بالطبيعة، نذكر من بينها رواية "وليمة لأعشاب البحر" للكاتب حيدر حيدر، ورواية "الأشّجار واغتيال مرزوق" للكاتب عبد الرحمن منيف، ورواية "أيام الزهور" للكاتبة مروة عبيد، ورواية "ذاكرة الورد" للكاتبة دينا نسرين التي جعلت للورد ذاكرتين، ذاكرة الجمال تحمل معها سحر الشكل وعبق الرائحة، لكن، هناك أيضاً ذاكرة الألم المتجذرة في وجع قطف الزهور ووخز الأشواك الصغيرة الملتفة حول أغصان الورود. وقد كانت ياسمين، بطلة القصة، طبيبة نفسية تبحث عن أوجاع مرضاها لتكتشف أن علّتهم تعود إلى أثر الرحيق، ووخز تلك الأشواك الحادة. لم تكن تدرك أن مرضاها سيحولون حياتها إلى جحيم، وأن بعض الأزهار تفتـرس الفراشات.
وتعد رواية "حكاية زهرة" للكاتبة والمبدعة الزّهرة حمودان من الأعمال الرّوائيّة التي وضعت زهرتها/ النبتة في محور السرد الرّوائيّ، فكتبت قصتها، وفككت إشاراتها، وجعلت منها شكلاً من أشكال الإلهام الذي دفعها للإبداع. فقد أبدع النص في خلق توازن عميق بين مسار البطلة ومصير الزّهرة، وخلق تواشج وطيد بين طبيعة الإنسان وعالم النبات، تتحول النبتة في هذا السياق إلى مرآة تعكس المشاعر الدّاخليّة للبطلة، في تمازج مدهش بين رحلة الذات وتجليّات الطّبيعة، فتتداخل خيوط الحياة بين الكينونتين لتنسج رابطًا عميقًا بينهما، حيث عززت ظروف معاناتهما المشتركة صداقتهما وجعلتهما تعقدان ميثاق الصبا، الذي تتعهد فيه زهرة الصبيّة بكتابة حكاية صديقتها النبتة ومعاناتها وتسجيل مقاومتها (لعاديات الأيام) مستقبلاً.
تقول زهرة موجهةً خطابها لزهرتها النّبتة:
"أعدك، أنني يوماً ما سأكتب عن لقائنا، وسأحكي للعالم عن قصتنا. وها أنت اليوم... تذكّرينني بوعدي الذي قطعته لك ذات عمر، وأنسـتني إياه الأيّام، وتنبهينني إلى أنّك ما زلت تلهمينني خفايا ما أجهله آنذاك عن إمكاناتك الوجوديّة".
• الإهداء باعتباره عتبة نصِّية تأويليّة وتوجيهيّة:
يمثل الإهداء في "حكاية زهرة"،عتبة نصيّة وظيّفةاستباقيّة وتوجيهيّةتفتح أمام المتلقي أفقاً تأويليّاً يوجه إدراكه نحو عوالم الرواية، حين تقول المبدعة في إهدائها:
"إلى الطّفلة الكامنة داخل كل أنثى، إلى كل أنثى تحلم بشغب الولادة من جديد."
وقد عكس هذا الإهداء توجهًا استباقيًّا ينير مسار النص، ويوجه ذهن المتلقي، محفزًا إياه على استيعاب أعمق لتفتيق مضامينه، وتوليدها، وتأويلها. وهو أيضاً إحالة مرجعيّة، ومقام تواصلي تحكمه مجموعة من الأبعاد العلائقيّة والرمزيّة، والوشائج التشاركيّة، تنحو فيه الذات المبدعة نحو الآخر في خصوصيّته (كل طفل داخليّ، كل أنثى). وهي في هذا،تلتقي مع العديد من المبدعين الذين جعلوا من الإهداء عتبة نصيّة وظيفيّة حاملة لقضايا وهموم عميقة، ووسيلة للاحتجاج على كل أشكال العنف والاضطهاد والتمييز، وفي هذا الإطار، نذكر إهداء باتريك بارد Patrick Bardالذي أهدى روايته الموسومة "الحدود"La Frontière الصّادرة عام 2002،إلى نساء المكسيك، وكل النساء المفقودات اللاتي وقعن ضحايا الاستغلال في العمل والدعارة...
كما أهدت آني باريير AnnieBarrireروايتها "مدينة جميلة مثلي"Une belle ville comme moi، الصادرة عام 1999، إلى سكان حي بانييه،في لفتة مؤثرة تخلّد ذكرى أولئك الذين اقتلعوا من بيوتهم صباح الأحد، 24 يناير 1943، وإلى كل من تجرع مرارة تلك الفاجعة وعاش أهوالها.
بالإضافة إلى ذلك، نستحضر إهداء ياسمينة خضرا Yasmina Khadraفي روايته الموسومة "خريف الأوهام" L'Automne des chimèresالتي تناولت أحداث "العشريّة السّوداء" في الجزائر، حيث أهدى هذا العمل، الذي يمزج بين التّمرد والفكاهة واليأس، إلى جميع ضحايا الجزائر في تسعينيات القرن الماضي، وإلى جميع المختطفين والمفقودين.
وهكذا،ينسج خطاب الإهداء في "حكاية زهرة"، مساحة تواصليّة تنبني على توجيه خاص نحو مخاطب بعينه "أنتِ"، "الطّفلة المختبئة في الأعماق"، و"الأنثى التوّاقة إلى ولادة جديدة". هذا المخاطب الذي يعتبر قرينة رمزيّة، يحفر مرجعيّته في خطاب النوع الاجتماعي، ويستدعي ذاكرة جمعية تحكمها تركيبة مجتمعيّة ما زالت تقاوم،وتستجدي فضاءً لهويّة ترفض الخضوع،وتسعى للحضور بقوة وثبات في وجه كل القيود.
• الطّفلالدّاخليّ ورحلة البحث عن الشفاء:
ارتبط مصطلح "الطّفلالدّاخليّ" أوInnerchild بعلم النّفس التّحليلي، وتطوير الذات منذ بدايّة السّتينيّات. وقد عرّف كارل غوستاف يونغCarl Gustav Jungالطّفلالدّاخليّالذي سماه "الطّفل الإلهي"،بأنه ذاك الجزء الطفولي الخفي الكامن داخل كل إنسان. وقد شبهه بأمين مستودع العواطف الذي ينظم مشاعرنا العميقة، وتطلعاتنا التي قد نكون نسيناها أو تجاهلناها بمرور الزمن. إنه "أمين المتجر" الذي لم نختَر وجوده، لكنه يبقى القوة الخفيّة التي توجّه حاجاتنا العاطفيّة وتؤثر في مشاعرنا، مهما حاولنا الابتعاد عنها.
ومن هنا، يسعى علم النفس التّحليلي إلى معرفة ما يخزّنه هذا المستودع الذي يتحكم فيه الطّفلالدّاخليّ، وهو مستودع يحتفظ بكل ما اختبرناه من معاناة، وألم، وتمرد ورفض، أو إحساس بالوحدة والخوف... إنها تجارب غائرة تجمّعت بعناية خلف ستار الطفولة، تُثقلنا في الخفاء، وتشكّل أعماق شخصياتنا الحالية.
وفي هذا السّياق، تشير ستيفاني سيونسيStéphanie Saincy، في مقالها عنالطّفلالدّاخليّ، إلى أن هذا الجزء الخفيّ في أعماقنا هو عالم متكامل من العواطف المكبوتة، عالم محفور في مسامات الروح، ينتظر منا التفهّم والتصالح. وأن هذا الطّفل ليس مجرد ذكرى بعيدة، بل هو نبض مستتر يحرّك مشاعرنا، ويدعونا إلى استعادة السلام الدّاخليّ عبر الإنصات العميق إلى احتياجاته وصوته الخافت. وأن احتضان الطّفلالدّاخليّ هو احتضانٌ لجذورنا العاطفية، وشفاءٌ للذات، وتصالح معها لاستعادة السّلام الدّاخليّ. حيث تقول ستيفاني:
"الطّفلالدّاخليّ، هو حقيقتنا المنسيّة القادرة على التّستر من أجل البقاء. إنه يحتمي في أعماق كيّاننا، ويبقى غير مرئي، ما لم تتولد لدينا رغبة حقيقيّة في تحريره لكي نُشفى. يقبع داخل كل إنسان طفل باكٍ؛ هذا الطّفل هو ذاكرة كل أذى صامت لم يستطع التعبير عن نفسه. هو الحارس على كل جرح دفين، جرح يعكس نقصًا في المحبة" .
ثم تضيف ستيفاني،أن الإنسان يحقق الشّفاء الكامل عندما يواجه مشاعره ويعترف بها. حين يخطو إلى أعماق المشاعر المعتمة، تلك التي خبأها الطّفلالدّاخليّ خلف ستائر النّسيان؛ حيث تبدأ الرحلة من هناك، حين نقترب من الطّفل في داخلنا، ونحرر قيوده. نمدّ له يد التقدير، ونفتح ذراعًا تحتضن ضعفه وصمته، فنمنحه حق التعبير الذي طال انتظاره، ونمضي به، وبهذا التحرر، نحو شفاءٍ أعمق وأصدق.
وهكذا، يصبح الطّفلالدّاخليّ جزءًا جوهريّاً من ذواتنا؛ حيث يمكن لعلاقة الإنسان بطفله الدّاخليّ أن تقترب من الكمال، وقد سعى النّص الرّوائيّ إلى رسم صور هذا الكمال عبر تصالح الذات المبدعة مع طفلها الدّاخليّ، من خلال خلق مساحات للبوح يستطيع فيها تجاوز حواجز الصمت، لتكتب الزّهرة حكاية الزّهرتين، تتطلع إلى أن تكون تلك الأم أو الأب النموذجي "الذي كانت تريده دائمًا ولكنها لم تستطع الحصول عليه أبداً. فكثير من مشاعر طفلها الدّاخليّ موجهة إليها تستمد منه مثاليتها التي ظلت دائمًا تعشقها، تلك المثاليّة التي لم تبارحها بالكامل، رغم الكم الهائل من نقط التّفتيش التي مرت بها" .
وقد فتحت الكاتبة أمام الزهرتين مساحة بوحٍ،تشرق من خلالها تداعيّات دافئة، تتسلل عبرها مشاعر طُمست طويلاً في الظل، كأنها نغمات خافتة تتوق للانبعاث. وفي هذا السياق، تشير ستيفاني سيونسي إلى أننا حين نكون أطفالًا، قد تهمل بعض احتياجاتنا وتظل بلا استجابة، تاركةً في أعماقنا فراغًا خفيًّا ينمو كظلٍّ صامت، يتسلل إلى حياتنا، ويرافقنا في مسارات العمر، ليتجلى لاحقاً كألمٍ غامضٍ يقاوم الوضوح، ويصعب تجاوزه. نكبر محملين بإكراهات لا نعرف مصدرها.حينها، نجد أنفسنا أمام ضغوطٍ خفية، واحتياجات طفوليّة بقيت غير مسموعة.
ولكن،عندما نمارس الحضور الواعي مع الطّفل الدّاخلي،نحتويه ونمنحه دفء الاهتمام والرعاية،وما افتقده من الإنصات والاعتراف. حينها، نبدأ برتق ذلك الفراغ، ونمنح ذواتنا تصاريح جديدة للحياة،ومفاتيح للمصالحة مع الذات، لبناء علاقة صحيّة وواضحة تشرق من الداخل.
وقد حاولت الكاتبة أن تمنح تصاريح الولادة للزَّهرتين، أن تتعرف عليهما وتتقبلهما، وتحبّهما، وأن تقدم لهما كل اهتمام ليتبادلا معًا الشعور بالحماية والأمان... كما استطاعت زهرة أن تسترضي هي الأخرى طفلها الدّاخلي، وتواسيه وهي ترجّ ذكرياتٍ عابقة بالمعاناة، كانت تريد أن تتصالح معه، أن تعتذر له عن كل فقد أحست به بعد أن هاجر والداها إلى إسبانيا لاستكمال دراستهما هناك، تاركين إياها في رعاية جدتها...كانت تريد أن تعتذر له عن غياب الفرح من حياتها،عن صمتها واستسلامها وعجزها وخنوعها، وعن كل حرمان قد عاشته.
تقول زهرة:
"لماذا يظل دائمًا للفرح مكانه الشاغر في قلبي.. وحده الفرح المتغيب الدائم عن جوقة أيامي.. يحضر الواجب نائبًا عنه، واجب الرضى الدائم.. واجب الابتسام. واجب الترحيب... واجب عدم الاعتراض، واجب التحلي بالصبر.. حتى أنني لا أتذكر متى زارني فرحي الخاص آخر مرة. كل ما أعرفه أنني أحتفظ بمكانه الشاغر في حراسة الانتظار."
ثم تقول أيضاً:
"أرفع عيني عن مشيتل زهرة النّبتة، كانتا مثقلتين بالأوجاع المترسبة في الأعماق.. أحسست بخدر ووهن يعصراني" .
ثم تضيف قائلة:
"هي في حلكتها، وأنا في عجزي.. عجزي الذي أفرخته ترسانة من اللاءات الملتهبة بسياط القسوة" .
وقد شكلت ترسانة اللاءات الملتهبة بعداً مضاعفاً للألم النّفسيّ الذي عانت منه زهرة نتيجة القيود المجتمعيّة والنفسيّة التي تكبل قدراتها وتشعرها بالعجز، هذه "اللاءات" لم تكن مجرد رفض أو قيود؛ بل هي سياط تلسعها بلهيبها الحارق، حاملة في طياتها آثاراً لمواقف قسوة تجعلها تشعر بالعجز التام. هذا العجز الذي أصبح حدوداً مستعصيّة، وحواجز عرفت الصدأ بفعل قسوة التجارب، فأصبحت سياطاً داخليّة تجلدها في صمت. الشيء الذي يضاعف من أوجاعها المتجذرة بعمق، فتترجمها لغة مشبعة بألم تراكميّ ينضح من خلال عينيها المرهقتينو"المثقلتين بالأوجاع المترسبة"، وكأن عينيها أصبحتا مرآة لجراح لم تشف بعد، تظل تختبئ وتترسب مثل بقايا ذكريات معتمة لا تزال تنبض بوقعها... هذا الوهن والخدر اللذان تشعر بهما، يبدوان كأنهما احتواء جسدي لألم نفسيّ عميق، وكأنهما ثقل داخليّ متخثر لا يفارق أعماقها. وقد عبرت عنه الكاتبة بكلمة "ترسانة" التي تشير إلى منظومة دفاعيّة بنيت على نفي الذات، كأن تلك اللاءات تمثل متاريس ترفعها زهرة، لكنها متاريس تنقلب على نفسها فتحرقها بنار القسوة التي تسببت بها.
وهكذا، تتشكل ثنائيّة الذات والعجز في النص الرّوائيّ من خلال لغة مشبعة بالألم النفسيّ العميق، حيث تنعكس هشاشة الذات التي تكافح ضد القيود الاجتماعيّة والنفسيّة التي تتجلى في "سياط القسوة"، الشيء الذي يزيد من الشعور بالعجز. وكأن هذه القيود تشتد كلما سعت الذات للفرار من دوامة الضعف والعزلة.
• السطح كفضاء للانعتاق:
يتجاوز سطح المنزل في النص الرّوائيّ حدود كونه مكاناً ماديّاً، ليغدو فضاء عتبة يحمل دلالات رمزيّة غنيّة ومتعددة. وقد أشار باختين في دراسته لأعمال دوستويفسكي إلى أن فضاء العتبة يرتبط بالمواقف والأفكار والمشاعر... ويتجسد هذا الفضاء في المداخل والأبواب والنوافذ والشرفات والممرات والجسور والمعابر والحدود... وكل فضاء يعيش فيه الأفراد بين-بين... الأمر الذي يجعل الزمن الموجود في هذه العتبة زمن أزمة،يتسم بالتوتر، والقلق، والاضطراب، وطرح الأسئلة المصيرية . فإلى أي حد استطاعت هذه العتبة أن تشيد فضاءها النصي في الرواية، وتسهم في خلق حقول ديناميّة ودلاليّة متناميّة في النسيج الحكائي؟
تشكلت ملامح هذه العتبة، عندما أصبح فضاء سطح البيت فضاء رمزيّاً، ومساحة تتسع للحريّة، يُشع منه ضياء فجر غدٍ واعد يتجاوز حدود الأسوار. إنه الفضاء الذي يطل على العالم الخارجيّ، تتلصص منه النسوة على هذا العام في احتشام. وفي هذا الفضاء، تتبلور ملامح التغيير، والرغبة في تكسير القيود الاجتماعيّة. وفي هذا الفضاء، تبدأ زهرة في التواصل مع عالمها الدّاخليّ/الخارجي واستكشاف طموحاتها المكبوتة. بعد أن كانت لا تملك غير الصمت أو الهروب إلى منافي الذات... تهرب إلى سطح البيت حيث تتواجد زهرتها فيتشاركان أوجاعهما وآلامهما، وقد كان فضاء سطح البيت متنفسها الوحيد، وفسحتها الدّاخليّة والخارجيّة. كما كان متنفساّ لكل النسوة. وفي هذا الإطار تقول زهرة:
"ضاق درعهن بالأسوار العاليّة، فحلقن بأجنحة من ضياء نحو السّماء، من خلال فضاءات سطوح بيوتهن، تمطرهنّ من المنن فرحاً، وتمكنهنّ من تأشيرات الانطلاق نحو نواد، نونها نسويّة صرف. حتى البنات من الأطفال كان لهنّ نصيب في جنّة السطوح."
وهكذا،عشقتزهرةالضيّاء في سطح البيت، وتكشفت لها أسرار حياة أخرى خارج أسوار البيت. تقتفي أثر النّور كما لو أنه يفتح لها أبواباً خفيّة نحو عوالم لا تعرفها.وخارج أسوار البيت الكئيب حلمت بانبعاث جديد، بولادة تغسل قلبها من قهر امتدت جذوره إلى كل تفاصيل حياتها، وأصبحت تحلم بميلاد مرتقب، هي التي عاشت كل أشكال القهر، وتعايشت مع كل تضييق في الحريّة الذي فرضه عليها كونها أنثى... فقد كانت كلما صادفتها إشارة الوقوف "قف"، خيّل إليها أن نصًا ضمنيّاً كتب بجانبه: "أنت أنثى، قفي هنا".ومع ذلك، تنامى بداخلها الحلم بالانعتاق وهي ترسم ملامح حلم يولد... الحلم بهويّة تُقيَّد، وبكينونة تَتنفس، بحضور طليق ومتجدد في أفق يتجاوز السكون والصمت... وقد أنهت الكاتبة نصها الرّوائيّ بوحدة سرديّة وسمتها "الوِلادة المرتقبة الثالثة"، وكان الابتداء من الولادة، وإليها كان الانتهاء، وهي بذلك تجعل البدايّة ولادة... والنهايّة ولادة أخرى. إنها دائرة مغلقة تكتمل بميلاد أناها من جديد، وبتوثيق هوية استهلكها الزمن وصوتها خافت. هي التي تريد أن تستمد قوتها من أحلام نضجت في أعماقها، وهي تخلع عنها رداء الخوف، كنبع لا ينثني، وكلبؤة لا تروض ، بعد أن ارتفع صبيب أحلامها المكوّمة في أعماق الذات، وبعد أن استطاعت بجرأة أن تكتب على جبين الزّمن كينونة حضورها، بعدما استنزف الآخر سنوات عمرها.
وقد عاشت ميلادين: ميلادها وميلاد زهرتها، تلك النبتة المتجذّرة في تربة روحها. تقول زهرة:
"اهتدت زهرة النّبتة بفطرتها، إلى وجود انفراج بين فروع الأشّجار المتشابكة، يخترقه خيط رفيع من الضيّاء، يرافقه تيار ريح جارفة، تكسر له أجواء التل الهامدة همود الموت، اشتعلت غرائز زهرة... انفرجت معها طاقة قويّة نزعت جذورها من التربة... ألقَت بنفسها في أحضان خيط الضيّاء المتسلل... ركض الضيّاء بها نحو الفضاء، فارس أحلام أسطوري، ينفذ بـ"زهرة النبتة" خارج دائرة الموت التي كانت تطوقها، وثقت فيه، لأنها تعرفه، كل خلاياها تعرفه. إنها مدينة له بولادتها الأولى."
وهكذا، لم تعد "زهرة النّبتة" تقبل العيش تحت رحمة هذه الأشّجار الجاثمة كوحوش، تحمل الموت تحت أنيابها. ما هكذا تكون الحياة النّباتية تحت ظل الأشّجار.
ومن خلال خيط ضياء رفيع، تبدأ الزّهرة رحلة خلاصها، محاولة التّحرر من جذورها التي كانت تربطها بتربة قاحلة وأرض خامدة. هذا الضيّاء الذي تجري نحوه يتجاوز كونّه مجرد شعاع نور، إنه كيان متحرك، وفارس أسطوري، يدفعها إلى حياة أخرى. إنها ولادة ثانيّة لا تحكمها قسوة الأرض أو غطرسة الشّجر. ومن ثم، تقدم هذه الرمزيّة انبثاقاً للذات الساعيّة إلى الخلاص، تلك الذّات التي ترفض الانصيّاع لقوانين الواقع المجحفة، وتحاول بلوغ أفق أرحب من خلال استجابتها لنداء داخلي. إنها رحلة تحرير روحي ووجداني، حيث تخلع الزّهرة جذورها وتلقي بنفسها في أحضان الضيّاء، مدفوعة بغريزة أصيلة تحاكي حاجتها للانبعاث من جديد. لم تعد "الزّهرة" قادرة على تقبل العيشتحت رحمة هذه الأشّجار الجاثمة كوحوش، تحمل الموت بين أنيابها. ومن خلال الثقة المتبادلة بين "زهرة النبتة" والضيّاء، تتكشف علاقة من نوع خاص؛ إنها الفطرة التي ألفتها منذ البداية، تلك القوة التي تدفعها نحو فضاءلا يقبل العتمة والسكون. ومع هذا التحول، ترفض الزّهرة الاستمرار في حياة تفتقر للدفء والضوء، والخضوع لحياة محكومة بظلال الغير الذي يحجبها، فقد كانت تريد الانطلاق. واكتشاف حياة جديدة غير تلك "الواقعة تحت رحمة الأشّجار"، حياة تليق بها بعيدًا عن عالم يبتلعها كوحش يخبئ الموت بين أنيابه.
وبين ثنايا المشهد السردي، ينبثق مشهد مفارق تغدو فيه الأشّجار عائقًا ووحوشًا رابضة فوق الزّهرة، وكأنها تستحوذ على حياتها الهشة. الأشّجار التي كانت دومًا رمزًا ينبض بالحياة والنّماء، ومتوغلة في جوهر الإنسان كالحب والموت، والسّلطة والقوة... وقد اكتست تلك الرموز أهميّة ضاربة في جذور الأساطير القديمة، الإغريقيّة والرومانيّة، وفي أدب القرن التاسع عشر، حيث يتشابك الرمز مع الكون السحري والواقعي، فظلت تلك الرموز تسكن الوجود بحضورها الغامض، حيث صارت جزءًا من وعي جمعي عبر العصور. ومن بين تلك الأشجار، تقف شجرة الصنوبر أو البلوط شامخة. تلك الشجرة التي ارتبطت بالأساطير، وتلونت في عقائد الشرق، وظلت شاهدة على عمق حضورها الرمزي في الوعي الجمعي.
وهكذا، أشرقت حياة الزهرتين، وانكشفت ولادتهما... وأصبحتا، يومًا بعد يوم، أكثر يقينًا بأنهما كائنان مختلفان، لكنهما ينتميان لمعنى واحد. فقد ظلت زهرة النبتة، بروحها العتيقة، تهدي زهرة الطّفلة سلالًا مملوءة بثمار اليقين، تحمل في كل حبة منها غلال الانتصار.
• أريج العودة،وموئل الأحلام المهربة:
يبدأ الحكي في النّص الرّوائيّ، بعودة زهرة إلى مسقط رأسها؛تأخذ بيد الزمان، تلامس به وجه مدينتها، تِطّاون ، التي تشبثت باسمها الأصلي كأنّه أحد وجوه حبها السّرمدي. تنتقل إلى بيت اختارته بحدس المُحبّ، تشعر فيه كأنّها محارب يعود من معركة طويلة، مكللًا بأمان تقاعدٍ يَشِي ببدء رحلة جديدة، بعد سنوات قيّدتها الوظيفة.
تشرع زهرة في نبش ذكريات الصّبا وأحلام الطّفولة، تستعيد صورًا من مواجد العمر الذي خلا...تحنّ إلى زهرةٍكانت رفيقة السطح وأمان الروح،تلك الزهرة التي علّمتها ألا ترتبط بأي مكان إلا إذا انتمى إلى العلا، هي التي استوطنتها الأقبيةالمظلمة عمراً...تسكنها الذكريات، تذكرها بمشاهد حروب خاضتها بشجاعةمن أجل الوصول إلى الكتاب، تلك الغنيمة المهّربة التي سعت نحوها في غفلة الرّقيب.
تقول زهرة:
"الوصول إلى الكتاب بضاعة مهرّبة... الابتزاز النّفسي والعاطفيّ تحت غطاء تبذير فيما لا يفيد.. الرّاتب يخضع لمحكمة تفتيش شهريّة... وحده مكتبي في العمل من سانَدني.. كان قلعة كتابي الحصينة، ولو إلى أن يحملني الحنين لتزويد رفوف مكتبي التي دسستها بين قطع الزينة بالخزانة الزجاجية" .
وهكذا، صارت الكتب بضاعتها المهربة، وضالتها المنشودة، تنسل من قيود الرّاتب، وأحكام التّفتيش التي تطال كل زاويّة في البيت. وحده مكتب العمل كان ملاذها الآمن، يعانق كتبها كما تعانق القلاع أسرارها، وكأن الرفوف السريّة قد أصبحت حصناً عصيّاً على أعين الرقيب.
وفي عالم القراءة، وجدت زهرة زادًا يغذي روحها بآليات التّفكير، ويفتح لها آفاق التّأمل، وهي تلملم شتات جراحها، وتجبر كسرها برفق وعناية...في حين، كانت الكتابة المتنفس الوحيدالذي ينتشلها من واقعها المرير، والجسر الذي يربطها بعوالم جديدة، ويجعلها تتجاوز حدود عوالم الطّفولة التي سكنتها كالسّفر في خرائط الجير فوق الجدران التي كانت تتيح لها أن تطلق العنان لخيالها ليحيك حكايا وقصصًا تنتشلها من واقعها المرير، هي التي كانت دومًا تتوق إلى "التّحرر من طوق الطّاعة الطفولي" ،وكانت الكتابة فعلها التّحرري الذي علمها كيف تتحرر من الخوف الذي كان يجثم على صدرها، ويعيق مسيرها... علمها كيف تتألق، وتنسج أشكالًا متعددة من التَّمويه، لكسر غياب السّنين، وخرق قيود التّهميش، لتثبت ذاتها وحضورها وهويتها الجنسيّة. كانت تتوق إلى تحطيم حواجز الصمت، لتخرس، وبشكل محتشم، صوت الرقيب الذّاتي الذي تشعر بوجوده المهيمن في أعماق اللاوعي. وقد يكون استحضار شخصياتٍ من عالم الطّبيعة كالزّهرة والضّياء والتّل والجير... وبناء أحداث تنبض فيها حياة مُواربة، تخفي وراءها ذاتاً أخرى تُشكّل حكايةً موازية ترتبط بكينونة الزّهرتين وتماهيهما، إنّماهو تكريس لسلطة الرقيب الخفي، الذي يبدو كرفيق غير متوقع يوجّه الفعل الإبداعي،وإن كانت الكاتبة قد سعت إلى معانقة لغة الاختراق في بوحها، معتبرة الرقابة، كما تشير إلى ذلكسيلفي دوكاس،عنصراً فاعلا في العملية الإبداعية. وأنه خلافًا للاعتقاد السّائد، فإن الرقابة ليست دائمًا عائقًا أمام الإبداع الأدبي، بل قد تصبح في كثير من الأحيان "خميرة" تُثري العمل، وفرصة لاستكشاف إمكانات جديدة لآفاق النص القادم، حيث يكمن الإبداع في زوايا الصّمت والمسكوت عنه،وفي حوارٍ خفي مع الذات.
الخلاصة:
يقدم النص الرّوائيّ طرحًا له خصوصيته في الكتابة السردية الرّوائيّة العربية، ويشيد بناءً حكائيًايماهى فيه بين عوالم مفارقة تجمع بين زهرة النبتة، وزهرة (الطّفلة والأم والمبدعة...) ككائنين مختلفين، تجمع بينهما معاني وعلائق متعددة، فتصر أن تهدي هذا العمل الإبداعي للطفلة القابعة داخل كل أنثى، وأولها طفلتها المتصالحة معها والتي، على الرغم من المصاعب والمعاناة، ومرور عمر ولّى، إلا أنها ما زالت حاضنة لها؛ فطفلتها الصغيرة الكامنة بداخلها ستظل دائمًا جزءًا منها، وجانبها المثالي الذي تعتز به... وهي أيضًا تهدي هذا العمل لكل أنثى تحلم بشغب الولادة، وكانت "حكاية زهرة" شغبًا جميلًا.
د. نزهة الغماري