الحب لغة عكس الكراهية، وهو شعور يحدث في داخل النفس ويمنحها انسجاما مع الآخر، وهو نفس المعنى تقريبا للهارموني حيث التوافق بين أجزاء الكل، والحقيقة أنه دعوة الأنقياء والمصلحين والأنبياء والشعراء على مر العصور لمعالجة قصور النفس، ودعوة الروح للانسجام مع الوجود، ويمثل ديوان هارموني للشاعر سفيان صلاح هلال الصادر عن دار ميتا بوك 2023 نموذجا لورد المحب ومكابداته.
يضم الإصدار مجموعة من القصائد تجمع بينهم قواسم مشتركة كثيرة تجعل الديوان يبدو نصا واحدا رغم العناوين التي اختص بها كل قصيدة، يتصدر الإهداء الديوان حيث يهدي الشاعر عمله
" إلى الحبِّ..
الذي يُلقى بالواقع فى الجحيم
ويدمِّر الممالك
ليؤسس وحده الحياة."
ولأن الإهداء يمثل بوابة الديوان بصفة عامة وموقف الشاعر من الحب بصفة خاصة؛ باعتباره المؤسس الأول لوحدة الحياة، مقابل تفتيت الممالك التي غالبا ما تقوم على نزعة عصبية أو دكتاتورية فردية تدعمها مجريات الواقع من المشاعر المضادة للحب وثقة الناس في بعضهم ووجودهم نتيجة الضعف الذي يولد الخوف وما يترتب عليه من الهجوم الوقائي العشوائي على كل شيء، وبالتالي فالحب قوة ضد المشاعر السلبية التي تفرض نفسها على الإنسان وتمثل نقاط ضعفه.
تبدأ النصوص بنص يتمنى فيه الشاعر الدخول للحضرة
" دخولنا أريدُه بلا خروجْ..
فى حَضْرة
بلا غيابْ
ونظل فى فلَك المَحبَّةِ طائرِينَ" ولكن من الواضح في النصوص اللاحقة أن عمليات التحول التي تحدث حوله تجعله يعزف أنين ذلك الحب عبر سيمفونيات شعرية متميزة تمثلت في مقاطع ولمسة قائمة على المشاهد والحوار بحيث تتفاعل مفردة اللغة مع كل ما يجاورها من موسيقى وإيقاع ودلالات، لتجذب عقل وقلب ووجدان المتلقى، ليقر بقوة الحب في تغيير الأشياء والانتصار عليها
ورغبة حقيقية في نشره والتمتع بحالة من الانتشاء الدائم من جرائه، فتعمر الأكوان به لأنه يزيل كل آلام العذاب وينشر الضوء والبهجة
"نَصُب مِن حُبٍّ مُصَفَّى فوْق ألسنةِ العذابْ
حتى نحطَّ ..
على مَدا ر للمَحبِّة مِن جديد
جامحين كنسْمة لا تَسْتَحي
بُسطاء كالقول الزلالِ
أرقّ من ضوْء
مُذابْ
الحب يخلق حالة آخرى غير الموجودة في الواقع وهذا ما يتضح من خلال الدلالات (طائر- نسمة- ضوء – زلال) فكلها أجواء شفافة توحي بالبهجة والسعادة في تلك اللحظات التي يريد الشاعر أن يعيشها.
يشكل المكان البؤرة الأولى التي تنسج مشاعر الحب والانتماء عند الإنسان بصفة عامة وعند سفيان بصفة خاصة ، فهو مركز الوجود والهوية فنرى أن سيموفونيات وطنه الأكبر مصر تعزف جميع ألحان الحب على أنغام وطنه الأصغر بلده التي تعزف أوتارها نقية مغردة من خلال كل مقطوعة شعرية فهي المصدر الخام لعملية الكتابة، فقريته الأشمونيين بصيتها الأثري على مستوي الجمهورية مصدر فخر للشاعر بصفة خاصة وللمصريين بصفة عامة ودائما تشغله رحلة البحث في التراث وإعادة بثه في صورة معاصرة معتمدا على تقنية المشهد في عرضه للنص،
ومن هنا تجسد الكتابة لدية حالة آخرى من حالات الحب و الوجود والتوالد، فتأتي قضية الوطن لتجسد هما خاصا عنده فيقيم عن طريق البناء الجمالي للكتابة نوعا من الحوار الممتد لكشف معزوفة جديدة أو لحنا جديدا لحالة الذات من خلال اتكائه على معزوفة أو لحن (هارموني) الذي يجسد حالة من التوافق في الجزء الواحد وكانه كيميائي يجمع ذرات الحب المتماثلة في الجزء الواحد ليركب منها جميع ذرات الحب الأكبر، وهذا ظهر أكثر من انفتاح النص المعاصر على الفنون المجاورة التي أعطت مساحة كبيرة من البوح عبر استلهام المتخيلات الفنية القوية التي تمنح القصيدة المعاصرة تكوينًا متميزًا داخل بناء شعري جديد يعطي المتلقي الدهشة في قدرتها على الانصهار والتوليف الفني، ومن هنا كسر الحصار المفروض والثابت على الأنواع الأدبية، وأعطاها حرية الحركة والتجول الواسع في حقول الثقافة والمعرفة، فالشاعر المعاصر كاد يقضي على فكرة التصنيف؛ لتكون السيادة لذوبان النوعية وتداخل الخواص، فالقصيدة المعاصرة إبداع منفتح على كل الأنواع؛ مما جعلها متجددة في كل زمان"؛ ومن هنا لجأ الشاعر إلى تقنية الحوار ليمنح النص بناءً دراميًا ديناميكيًا يجعله لا يسير في خط واحد، وإنما كل فكرة تقابلها فكرة آخرى لإبراز هذا الحوار بين الأب والابن بين الماضى والحاضر بين الهوية والفقد بين الحرية والاستلاب ..إلخ فيقول في المقطوعة الأولى :
أبتِ..
هل أنت حزين منّي؟
أغضِبتَ عليّ ؟
أنا لا أعْرف.. بالضبط
أأحزن منِّي؟
أمْ أحْزن؟
أبتِ..
قالوا :خان...
ومن إلّا الخائن يعشق بنت الاستعمار ؟
قال البحارة في (ماجدة :(مسحور..أو مفتون)
قال الشعراء :أحَبَّ ثلاثا أهلاً للعشْق ..وحين ألمَّ به الحبُّ
رأى أن ثلاثتهم أعداء متوازون...
إن الآب هنا يمثل مرجعية للذات الشاعرة التي تتأمل كل أفعالها وتقف حائرة من جراء ما يحدثه فيها الواقع الخارجي فتظل في محاسبة نفسها مؤكدة أن من يعشق بنت من خارج دائرة انتمائه هو الخائن، فيجسد الحوار حجم المعاناة التي تتعرض لها الذات داخل الواقع وتوترها في اختيارها وصراعها بين الإرادة الداخلية والواقع الخارجي، وخاصة أنها مسلوبة الإرادة سواء داخليا في مشاعرها التي توجهت إلى بنت الاستعمار(ماجدة) محبوبة الشاعر المفقودة والمستعمرة لقلبه ومن هنا يعلو الصوت ويتعدد بين ( البحارة والشعراء والحكماء)؛ ليشير إلى تعدد الأراء وإن كان في تعددها نوع من الحرية أو البوح فيكتسب النص ديناميكية حيوية من خلال الحوار والحركة ، ليظهر حالة الذات في المشهدين مشهد الحزن ومشهد الحب وكأن الذات تقاوم على أكثر من جبهة ، مشاعرها ومحاولة جماحها وجبهة ماجدة المستعمرة لقلبه و مواجهة ذلك الاستعمار، فالذات الشاعرة تجسد مشهد المعاناة حيا أمام عين القارئ فتقول:
أبتِى
في الأرض الملغومة بالفيْروسِ
وبالورد مضيْت
أسيرًا لجنود المنخفضاتِ
أنا المسكون بغايات النحلِ
دمي
كوكب نجم
ملك
في أفلاك نجوم كنمور جوعَى في وادي الغزلان
... ... ...
بين مخالب أمواج
تتسابق كيْ تعْصفَ بي.. رحْت أفتـّش"
إن الصرخة المدوية المتمثلة في نداء الأب (يا أبت )، يعرض الشاعر عبرها مفارقة لصورة الأرض ، فهي ملغومة بالفيرس وهو مسكون بالأمل ولابد أن يقتلع الورد والنخيل تلك الألغام وينشر حالة من البهجة تتناسب مع ذلك الحب الذي الذي يجعل الذات تنتشي وهي مستعمرة من قبل المحبوبة وثمة انزياح للصورة
، فالمألوف والمعتاد هو النفور من الاستعمار ومحاولة الفكاك منه، ولكن الاستعمار هنا هو استعمار المحبوبة لقلب المحب لا الاستعمار بالمعنى السياسي المألوف ، وهذه خاصية تميز بها ذلك الديوان الذي يسبك التجربة الشعرية للذات على الشاكلة السياسية وكأنها معادلا موضوعيا لصورة الأرض والمحتل، فتدفع القارئ للقفز فوق المعنى المباشر واستنباط المعنى المرجأ وهذه خاصية النص الحداثي الذي حاول الفرار من المباشرة والتقريرية إلى تعدد القراءات وتنوع الدلالات، ثم تأتي دلال النداء المتمثلة في(أبتِ)؛ لتشير إلى عراقة الماضي فالأب هنا رمز (للأجداد – الماضي – الوجود ) وتستمر رحلة المعاناة في الألم والأمل إلى أن يتغير المشهد بانفراجة مختلفة وهي إشراق امرأة ومن هنا ثمة انزياح للصورة، فالإشراق للشمس في المألوف، ولكن الشاعر هنا جعل الاشراق للمرأة؛ ليشير من خلالها إلى التوالد والخصوبة والإعمار الكائن مكان الألغام، ومن هنا تعزف سيموفونيات الحب فرحتها من خلال كل مقومات الحياة والخصب المتمثلة في( المرأة – النهر – السحاب- السماء..إلخ ) و تتعدد أوتار العزف لتبدل الوقت المؤلم المر بالوقت المفرح بحرفية فنية متميزة بالإضافة إلى سرد الحالة التي عاشتها الذات عبر الفلاش باك مرة والاستباق مرة مستعرضة الماضى والحاضر على طاولة واحدة؛ لتعمق حالة الحب التي تعيشها فالمرأة هنا رمز للمحبوبة (ماجدة ) .
يقول : وأشْرقت امرأة
امرأة
باخرة
امرأة
كسماوات ملكِيّةْ ..
كيف يصدّ دمٌ أعيَنه عن ألَق يسْري
مقتربا
من طـفـّاح الـّدمٍ
في صحراء هزائمهم
ينثر سمفونيات النهر
الآتي
من كل سحاب ؟
........................
هل كان الوقت سوَى
المرِّ الأكبر
من سكّرِ أحبابي....وأنا؟
هل زدنا غير مرارٍ ممن ذوّب سكّره؟
باسْم الحبِّ الجارف لي
هل ما خانتْني بنت العمِّ؟
فالنص يعمق المشاهد المتوالدة من خلال تقنية السرد لما حدث داخل هذا الواقع ؛ ليغلق المشهد بعدة أسئلة تفتح النص على تأويلات عدة في احتمالات الإجابة عليها، وتركها للقارئ ليجسد عجز الواقع عن مؤازرة الذات الكاتبة، فتبديل المشهد هو حلم لدى الشاعر ومن هنا ينشغل بقضية هامة تزيد من مرارة الواقع، فالاستعمار على الرغم من قسوته بالمعنى المألوف، فهو ليل زائل بإشراق الفجر ولكن في هذا النص الشاعر يريد ازالة ذلك الاستعمار باللقاء والتوحد مع محبوبته، ثم يأتي تكرار(هل ما خانتْني بنت العمِّ؟) ليرمز من خلالها إلى فعل الخيانة الممتد عبر الأجيال والأزمان وكأن الحب قد يأتي مما لاتظن أن يأتي منه والحياىة قد تكون من الأقرب لك، وكأن هذه الخيانة المتكررة هي دافع الصراع الحياتي الذي لا ينتهي، وهو ما جعل السؤال عالقا لعدم وجود الإجابة واستمرار الحيرة فيكشف عن غموض ومغاليق كثيرة تريد الذات إزالتها ولكن هل تجد إجابة شافية؟ ومن هنا استطاع الشاعر أن يعزف ألحانه بشكل مغاير لينتج هارمونات عديدة تجسد الحالة التي يعيشها الإنسان من جراء ذلك
ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه وهو لماذا اتكأ سفيان على الشكل الكتابي السطري تارة والطولى المتمثل في المفردات الرأسية، ثم التنقل على الفضاء الورقي بين اليمين واليسار والوسط ..إلخ، إن القصيدة التقليدية اتكأت على الشكل الكتابي الشطرين لعدة أسباب منها التأكيد على قوة العلاقة بين الشكل والمضمون، ومن هنا التساؤل هل حقق الشكل الكتابي الحداثي قوة العلاقة بين الشكل والمضمون؟، أم أضعفها؟ الشكل له دور في تحقيق المضمون ولكن لكل عصر شكله الخاص المفروض عليه من الواقع القائم، فالظروف القاسية التي عاناها الشاعر القديم قيدته كثيرا ومن هنا ظهر ذلك في الشطرين وما يظهر بينهم من بياض؛ ربما هذا الوسط من الفراغ الضيق يوحي بقلة الوقت عند العربي لانشغاله بالتنقل والترحال والبحث عن العشب، أما اليوم فنحن في رحابة من الوقت والمعيشة، ومن هنا يشكل الشاعر نصه على الفضاء الورقي باعتباره مهندسا يصمم معماره على الفضاء الأرضي حسب طبيعة الوقت ومن هنا لا يقلل هذا من شأن المضمون بل يكمله وخاصة أن الايقاع البصري للورقة البيضاء في النص الشعري له دلالته التي تثري النص وتمده بالتأويلات العديدة. فالشكل هو الفضاء الذي تظهر فيه الصور والإيقاعات والدلالات وغيرها، ومن هنا كلما تجدد الشكل تجدد معه المضمون وهو ما حققه الشكل الحداثي الذي استطاع الشاعر من خلاله تعميق ذبذبات متنوعة لمشاعره الّتي كان الإطار القديم يقيدها في بعض الأوقات.
الشكل الكتابي المعاصر أدى إلى تطور المضمون الذي خالف القافية الموحدة؛ ليعوض عنها بالشكل الكتابي الذي تتعدد أشكال قوافيه فيشكل التكرار والبياض وعلامات الترقيم وكل شئ على الفضاء الورقي إيقاعا مختلفا ومن هنا كان الفضاء الورقي بمثابة الشاشة التي تعرض للمشاهد كل التفاصيل فجسدت الكولاجات البصرية وهي بمثابة اللافتات المتمثلة في تكرار جملة "قالوا خائن ومن إلا الخائن يعشق بنت المحتل ) فيمثل الكولاج المستلهم من الفنون التشكيلية تحرك المعنى مع المشهد الجديد ليوسع من دائرة المشهد، ويقول في نص
"تحمل أعباءً
منها تنْبثقُ إلهًا
جارًّا
نهرًا
يغْسلُ
دمْعَ سماوا ت
من أجْل أشّْر حثالاتِ الأحياء
المنتظرينَ
لوهْم وعذا ب
في حجْمِ الجرُحِ وحجمِ الحلمِ
بين يديه
يتْلُونَ له في الحال الصلوات"
الشكل الكتابي هنا يكشف عن اللافتات الموجودة في الواقع المسيطر على الذات، وتحاول أن تستبدلها فتأتي دلالة (أعباء )على يمين الصفحة مقدمة أو بداية تنطلق منها الذات فتتجه أفقيا لتقطع مسافة كبيرة فيما تريد الوصول إليه إلى أن تصل إلى قوة تحرك هذا الواقع المر وتجر نهرا، ودلالة (الجر) توحي بالمعاناة والمعافرة كنوع من المقاومة وتليها دلالة (النهر) الجريان والنقاء والتطهير الذي يقضي على كل تلك الآفات ويبدل الأحوال، ثم تأتي المقطوعة الثالثة التي تشير إلى معاودة الظهور اللحني المتكرر في كلمة هاموني ليشير إلى نفس التتابعات ولكن مع لحن مختلف عبر حركة من حركات السيمفونيات الوصفية كعامل ربط بين تلك الألحان ، فيقول :
هارموني
(مقطوعة ثالثة)
دَخَلْتُ وقلبي يَتْلُو كلَّ نصوصِ الكرهِ
لها...........
من أنت؟
مصري
أعْرفُ عنْ عِلْم الطب/الفلك/ الكف/ الأرضِ
ولي في الشعر"
فالشاعر في هذه المعزوفة الجديدة يشير إلى حقيقة الذات التي أتت لتلاوة الكره، وكأنه يعزف ألحانا عذبة وهذا ما يتنافي مع دلالة (الكره)، وهذا ما يظهر في الحوار القائم بين الأنا والآخر فتبدأ الحوار بسؤال الهوية (من أنت ) وهو السؤال الذي لا تغيب إجابته، فلم يقصد الآخر الاسم العلم، بل يأتي السؤال هنا لاستنكار هذا الوجود هذا التاريخ فيجيب السائل مصري! ومن هنا تأتي الإجابة أن المصري هو العلم هو النور هو الوجود هو الخصوبة ولم يقف السؤال عند هذا، بل يليه سؤال آخر ليعدد من سمات هذا المصري فيقول
"أو لست بفارس؟!
أوَلسْتَ بفارس؟
!
كيفَ ؟
ولوْلاكَ لكنتُ الآن أُشيّعُ جثمانا من تحُت العجلات؟
لو أنَّ الحبُّ يمد جسورً ا
لبنيْتُ الأسوارَ حدودًا
بين البحر المالح..
وبحار المدن الساكنةِ
على صدْرِ الوادي
حاوَلْتُ كثيرًا أنْ أصطادَ جزيرَتَه
الحيّةَ
منْ قاعِ الظّلْمةِ كي أرْفعَها
جوْهرةً خالصةً
للأعيُن
فوق العرشِ"
إن طريقة تشكيل النص بهذه الكثافة الدلالية منحت النص بعدا جماليا منفردا، فارتباط الشاعر بالحب وإيمانه به عمل على تفجير لغته الشعرية النابعة من الأحاسيس والمشاعر الجياشة المتفجرة من الذات الشاعرة ومن هنا تعددت الصور الرمزية كما (لو أنَّ الحبُّ يمد جسورً ا(فالجسور) رمز للتواصل والامتداد الذي ينتج من الحب أو الذي يستطيع الحب تحقيقه .
"أنا الإنسان
أعْرِفني
ككلِّ الناس
أَمْ .....
يا حب قلْ لي ما الخبر
ما لي تذيبني الإبرْ
تسقطُ
أشلائي
على الأوتار.."
ثمة رؤية للحب هنا جعلت الشاعر يتيه في ضروبه فيتساءل ما الحب؟ وهنا يسأل الحب عن الحب، فالحب الذي يعرفه الشاعر غير الحب الذي يراه ويعيشه، فالحب الذي يعيشه يجلب له الألم وهذا ما ظهر في دلالة (تذيبني الإبر- تسقط أشلائي )، ولكن ثمة انزياح لصورة السقوط فلم تسقط على الأرض وإلا فنيت، وإنما تسقط على الأوتار وهو نوع من الأنيين والبوح يقاوم به الشاعر الألم وسرعان ما يعود ينتشي مجددا من خلال الوصول إلى الحب الحقيقي ليجلى المعاناة عنه، فالديوان كشف عن مرتكزات الحب الأساسية وجعله المدخل إلى كل نص وهو المحرك لهذه الحياة وما ينتج عنه من بهجة ولكن هذا الحب لا يسير في خط مستقيم فكثيرا ما يصطدم بالآلام الحارقة في كل موقف ويتجاوز تلك الألغام ليواجه آخرى، وهكذا وكأنه هو المساند الحقيقي في الحياة فيقول:
"حضرة اللمسة الغائبة
( احتلال..)
من خلايا البلادِ
التواريخِ
كيف يُجمَّعُ نهرٌ
ويحُشَرُ
في خندق
وبه يمُنَحُ
اسمًا وحيدًا؟
نغمٌ كرذاذ يَرُشّ
على صيْف زنزانة..
راقصون بها كُبِّلوا..
هذه وَحْشَةُ اللغة المُشتهاةِ..
يفيض انكماشٌ من البؤرة الساخنةْ..
ربما تدرك الآن.. كيمياء هذا الفضاء
فكيف تصير الكهوفُ
جوارحَ طيْر
لها سطوة كالحرسْ..؟؟
يمْلك الصمتُ كالمعصرةْ
استلهام المبدع واستعانته بتقنيات وعناصر بنائية تعبيرية من خارج النص أو إعادة بنائها بناء فنيا يخدم رؤيته الفنية كتقنية السرد التي استطاع الشاعر من خلالها أن يصهر الواقع والفن في بناء شعري جديد يتيح لنا عبوره من كل النواحي، وهذا ما تمثل في عرض الشاعر لحركة النهر التي تتحرك مياهه متجه إلى الخندق الذي يحسر هذه المياه
فيجعلها تعيد دورتها مرة آخرى فتنشر رذاذها وهو دلالة على ( الفرحة الشفاء الماء ) الذي سيطهر الذات / العالم، وبذلك يكون الرذاذ معادلا موضوعيا للحب الذي يريده الشاعر عبر البناء الفني الذي يصنعه بنسيج الرؤية الإبداعية التي يحاول فيها تجميع اللقطات لكل شيء ليطارد تجليات الحب والحرب والذاكرة والموت، متحرراً من القيود التي تكبل رؤاه، وفاتحاً قصيدته على الحياة بعنفوان مخيلة يؤلمها ما جرى ويجري في العالم وتريد تبديله .
"هل ستُمسَخ ؟ُ هل أرْنبُ الغابِ
فرْسَنَه الحالُ بين الرؤى والمَرائي
وفى الجحُرِ لن يرْتمي؟
أتبارز بالقفز غيلانها
أنت هذا المطارد
............
أمْ تتكوّمُ حيث تُسَاقِطُ
من رحِمِ الدم
أطفالَه
جثثًا
والعمرُ للخارجين
هو الصرخة الواهنةْ؟
هذه دمعة اللحظة العامرةْ"
إن الشاعر هنا ينقلنا إلى جو الغابة والصحراء فهل ليجسد شساعة هذا الواقع وجفافه؟ أم يريبنا بتلك الحياة التي تقر البقاء للأقوى؟! ومن هنا يكون العالم والواقع عند سفيان موازيا للصحراء فتأتي المفارقة بين حيواناتها بين (الأرنب والغول) ومن هنا يستحضر الكائن الخرافي ليشير إلى حالة من الترويع والذعر تنتاب الذات من جراء ذلك الاحتلال الذي يطارد المسالمين العزل (قلب الشاعر )، وتتنوع دلالات النص لتحوى دلالات التحول والتغير ومقاومة ذلك المستعمر (الحب ) متكأ على الرياح ، والرياح تحمل ثنائية دلالية( الخير والشر) وفي سياق الحب والبهجة يوظفها الشاعر للخير فتعمل عملية تجوية وتعرية للحظات الألم وتذيبها وتحولها إلى لحظات من السعادة والرضا مدعما رؤيته في عزفه على تلك الالحان والمقطوعات اللحنية التي تدعم مشاعر الذات والإنسان فيقول :
( رياح.. )
شلَّالًا صخْريًّا كنت
تمرُّ بك الأخلاطُ
............
............
............
وأصبحتَ على عين فى كلِّ خليّةْ ..
أين ستأْخذك الأعينُ
أين ستأْمرها
بالإبطاء/ ..
الإسْراع/..
الكفِّ عن السير؟
هل يمكن أن تفْلتَ من أسْر الدهشةِ
والتجريب؟"
ويستمر الشاعر في العزف على أوتار الحب مكونا سيموفونية جديدة يعدل فيها من الفكرة اللحنية الأساسية وينميها من خلال تعدد الطرق التي يعزف بها، وهذا يحتاج إلى عازف حرفي ماهر يعرف كيف يتكيف مع المواقف المختلفة في العمل الموسيقي الواحد وكيفية تحقيق الترابط بين حركات العمل وهذا ما قام به سفيان في هذا الديوان فيقول :
( مرة أخرى؟!
إلى أين ترحل بعد؟
مرة أخرى
ومن سيكون العدو الجديد؟
مرة أخرى!!
لقد ظن قلبي القُدومَ الأخيرَ
مكوثا وليد!
وها أنت
تطارد
بالرمل رملًا ؟
تضمّدّ
بالنزف جرحًا؟"
إن دورة الحياة المستمرة تفرض أسئلة عديدة على الذات بصفة خاصة وعلى الواقع بصفة عامة، وكأن النهاية أو الراحة شئ مستحيل في نظر الذات التي كلما تخلصت من عدو جاء آخر أقوى، وكلما عالجت جرج تولد جرح أعمق من سابقه
وكأن رحلة الآلام مستمرة تحجب رؤية المستقبل الذي ينشده الشاعر فتكون هذه الآلام أيضا بمثابة الغيوم التي تحجب ضوء الشمس؛ لكن سرعان ما يبددها ليفرض ضؤه على الوجود في رجوعه إلى أمه فيقول: في نص
استراحة
"أمِّي..
تصفعها لوحات حروبي
المنقوشة فوق جبيني المُحْتَل
تتفجَّرُ فى القيد
أدْنو منها
أجْمع نثر خلاياها
دمها
هيْكلَها العظْمِيّ .. أعود بها فيها
أقسم:
إني مازلتُ..
ولا أحتاج لشيء.. غير إليها
أمي"
إن هذا النص يشير إلى حالة الانتماء التي تتمتع بها الذات الشاعرة فالديوان جسد فكرة الانتماء لماجدة وهي المحبوبة المستعمرة لقلب الشاعر والمانحة له الهوية فقد تكون ماجدة الوطن /الهوية / الوجود وهذا جاء من خلال الانزياح الدلالي واللغوي وغيره الذي اتكأ عليه الشاعر في الديوان ككل وفي قصيدته الطويلة في الديوان "انتماء".
يضم الإصدار مجموعة من القصائد تجمع بينهم قواسم مشتركة كثيرة تجعل الديوان يبدو نصا واحدا رغم العناوين التي اختص بها كل قصيدة، يتصدر الإهداء الديوان حيث يهدي الشاعر عمله
" إلى الحبِّ..
الذي يُلقى بالواقع فى الجحيم
ويدمِّر الممالك
ليؤسس وحده الحياة."
ولأن الإهداء يمثل بوابة الديوان بصفة عامة وموقف الشاعر من الحب بصفة خاصة؛ باعتباره المؤسس الأول لوحدة الحياة، مقابل تفتيت الممالك التي غالبا ما تقوم على نزعة عصبية أو دكتاتورية فردية تدعمها مجريات الواقع من المشاعر المضادة للحب وثقة الناس في بعضهم ووجودهم نتيجة الضعف الذي يولد الخوف وما يترتب عليه من الهجوم الوقائي العشوائي على كل شيء، وبالتالي فالحب قوة ضد المشاعر السلبية التي تفرض نفسها على الإنسان وتمثل نقاط ضعفه.
تبدأ النصوص بنص يتمنى فيه الشاعر الدخول للحضرة
" دخولنا أريدُه بلا خروجْ..
فى حَضْرة
بلا غيابْ
ونظل فى فلَك المَحبَّةِ طائرِينَ" ولكن من الواضح في النصوص اللاحقة أن عمليات التحول التي تحدث حوله تجعله يعزف أنين ذلك الحب عبر سيمفونيات شعرية متميزة تمثلت في مقاطع ولمسة قائمة على المشاهد والحوار بحيث تتفاعل مفردة اللغة مع كل ما يجاورها من موسيقى وإيقاع ودلالات، لتجذب عقل وقلب ووجدان المتلقى، ليقر بقوة الحب في تغيير الأشياء والانتصار عليها
ورغبة حقيقية في نشره والتمتع بحالة من الانتشاء الدائم من جرائه، فتعمر الأكوان به لأنه يزيل كل آلام العذاب وينشر الضوء والبهجة
"نَصُب مِن حُبٍّ مُصَفَّى فوْق ألسنةِ العذابْ
حتى نحطَّ ..
على مَدا ر للمَحبِّة مِن جديد
جامحين كنسْمة لا تَسْتَحي
بُسطاء كالقول الزلالِ
أرقّ من ضوْء
مُذابْ
الحب يخلق حالة آخرى غير الموجودة في الواقع وهذا ما يتضح من خلال الدلالات (طائر- نسمة- ضوء – زلال) فكلها أجواء شفافة توحي بالبهجة والسعادة في تلك اللحظات التي يريد الشاعر أن يعيشها.
يشكل المكان البؤرة الأولى التي تنسج مشاعر الحب والانتماء عند الإنسان بصفة عامة وعند سفيان بصفة خاصة ، فهو مركز الوجود والهوية فنرى أن سيموفونيات وطنه الأكبر مصر تعزف جميع ألحان الحب على أنغام وطنه الأصغر بلده التي تعزف أوتارها نقية مغردة من خلال كل مقطوعة شعرية فهي المصدر الخام لعملية الكتابة، فقريته الأشمونيين بصيتها الأثري على مستوي الجمهورية مصدر فخر للشاعر بصفة خاصة وللمصريين بصفة عامة ودائما تشغله رحلة البحث في التراث وإعادة بثه في صورة معاصرة معتمدا على تقنية المشهد في عرضه للنص،
ومن هنا تجسد الكتابة لدية حالة آخرى من حالات الحب و الوجود والتوالد، فتأتي قضية الوطن لتجسد هما خاصا عنده فيقيم عن طريق البناء الجمالي للكتابة نوعا من الحوار الممتد لكشف معزوفة جديدة أو لحنا جديدا لحالة الذات من خلال اتكائه على معزوفة أو لحن (هارموني) الذي يجسد حالة من التوافق في الجزء الواحد وكانه كيميائي يجمع ذرات الحب المتماثلة في الجزء الواحد ليركب منها جميع ذرات الحب الأكبر، وهذا ظهر أكثر من انفتاح النص المعاصر على الفنون المجاورة التي أعطت مساحة كبيرة من البوح عبر استلهام المتخيلات الفنية القوية التي تمنح القصيدة المعاصرة تكوينًا متميزًا داخل بناء شعري جديد يعطي المتلقي الدهشة في قدرتها على الانصهار والتوليف الفني، ومن هنا كسر الحصار المفروض والثابت على الأنواع الأدبية، وأعطاها حرية الحركة والتجول الواسع في حقول الثقافة والمعرفة، فالشاعر المعاصر كاد يقضي على فكرة التصنيف؛ لتكون السيادة لذوبان النوعية وتداخل الخواص، فالقصيدة المعاصرة إبداع منفتح على كل الأنواع؛ مما جعلها متجددة في كل زمان"؛ ومن هنا لجأ الشاعر إلى تقنية الحوار ليمنح النص بناءً دراميًا ديناميكيًا يجعله لا يسير في خط واحد، وإنما كل فكرة تقابلها فكرة آخرى لإبراز هذا الحوار بين الأب والابن بين الماضى والحاضر بين الهوية والفقد بين الحرية والاستلاب ..إلخ فيقول في المقطوعة الأولى :
أبتِ..
هل أنت حزين منّي؟
أغضِبتَ عليّ ؟
أنا لا أعْرف.. بالضبط
أأحزن منِّي؟
أمْ أحْزن؟
أبتِ..
قالوا :خان...
ومن إلّا الخائن يعشق بنت الاستعمار ؟
قال البحارة في (ماجدة :(مسحور..أو مفتون)
قال الشعراء :أحَبَّ ثلاثا أهلاً للعشْق ..وحين ألمَّ به الحبُّ
رأى أن ثلاثتهم أعداء متوازون...
إن الآب هنا يمثل مرجعية للذات الشاعرة التي تتأمل كل أفعالها وتقف حائرة من جراء ما يحدثه فيها الواقع الخارجي فتظل في محاسبة نفسها مؤكدة أن من يعشق بنت من خارج دائرة انتمائه هو الخائن، فيجسد الحوار حجم المعاناة التي تتعرض لها الذات داخل الواقع وتوترها في اختيارها وصراعها بين الإرادة الداخلية والواقع الخارجي، وخاصة أنها مسلوبة الإرادة سواء داخليا في مشاعرها التي توجهت إلى بنت الاستعمار(ماجدة) محبوبة الشاعر المفقودة والمستعمرة لقلبه ومن هنا يعلو الصوت ويتعدد بين ( البحارة والشعراء والحكماء)؛ ليشير إلى تعدد الأراء وإن كان في تعددها نوع من الحرية أو البوح فيكتسب النص ديناميكية حيوية من خلال الحوار والحركة ، ليظهر حالة الذات في المشهدين مشهد الحزن ومشهد الحب وكأن الذات تقاوم على أكثر من جبهة ، مشاعرها ومحاولة جماحها وجبهة ماجدة المستعمرة لقلبه و مواجهة ذلك الاستعمار، فالذات الشاعرة تجسد مشهد المعاناة حيا أمام عين القارئ فتقول:
أبتِى
في الأرض الملغومة بالفيْروسِ
وبالورد مضيْت
أسيرًا لجنود المنخفضاتِ
أنا المسكون بغايات النحلِ
دمي
كوكب نجم
ملك
في أفلاك نجوم كنمور جوعَى في وادي الغزلان
... ... ...
بين مخالب أمواج
تتسابق كيْ تعْصفَ بي.. رحْت أفتـّش"
إن الصرخة المدوية المتمثلة في نداء الأب (يا أبت )، يعرض الشاعر عبرها مفارقة لصورة الأرض ، فهي ملغومة بالفيرس وهو مسكون بالأمل ولابد أن يقتلع الورد والنخيل تلك الألغام وينشر حالة من البهجة تتناسب مع ذلك الحب الذي الذي يجعل الذات تنتشي وهي مستعمرة من قبل المحبوبة وثمة انزياح للصورة
، فالمألوف والمعتاد هو النفور من الاستعمار ومحاولة الفكاك منه، ولكن الاستعمار هنا هو استعمار المحبوبة لقلب المحب لا الاستعمار بالمعنى السياسي المألوف ، وهذه خاصية تميز بها ذلك الديوان الذي يسبك التجربة الشعرية للذات على الشاكلة السياسية وكأنها معادلا موضوعيا لصورة الأرض والمحتل، فتدفع القارئ للقفز فوق المعنى المباشر واستنباط المعنى المرجأ وهذه خاصية النص الحداثي الذي حاول الفرار من المباشرة والتقريرية إلى تعدد القراءات وتنوع الدلالات، ثم تأتي دلال النداء المتمثلة في(أبتِ)؛ لتشير إلى عراقة الماضي فالأب هنا رمز (للأجداد – الماضي – الوجود ) وتستمر رحلة المعاناة في الألم والأمل إلى أن يتغير المشهد بانفراجة مختلفة وهي إشراق امرأة ومن هنا ثمة انزياح للصورة، فالإشراق للشمس في المألوف، ولكن الشاعر هنا جعل الاشراق للمرأة؛ ليشير من خلالها إلى التوالد والخصوبة والإعمار الكائن مكان الألغام، ومن هنا تعزف سيموفونيات الحب فرحتها من خلال كل مقومات الحياة والخصب المتمثلة في( المرأة – النهر – السحاب- السماء..إلخ ) و تتعدد أوتار العزف لتبدل الوقت المؤلم المر بالوقت المفرح بحرفية فنية متميزة بالإضافة إلى سرد الحالة التي عاشتها الذات عبر الفلاش باك مرة والاستباق مرة مستعرضة الماضى والحاضر على طاولة واحدة؛ لتعمق حالة الحب التي تعيشها فالمرأة هنا رمز للمحبوبة (ماجدة ) .
يقول : وأشْرقت امرأة
امرأة
باخرة
امرأة
كسماوات ملكِيّةْ ..
كيف يصدّ دمٌ أعيَنه عن ألَق يسْري
مقتربا
من طـفـّاح الـّدمٍ
في صحراء هزائمهم
ينثر سمفونيات النهر
الآتي
من كل سحاب ؟
........................
هل كان الوقت سوَى
المرِّ الأكبر
من سكّرِ أحبابي....وأنا؟
هل زدنا غير مرارٍ ممن ذوّب سكّره؟
باسْم الحبِّ الجارف لي
هل ما خانتْني بنت العمِّ؟
فالنص يعمق المشاهد المتوالدة من خلال تقنية السرد لما حدث داخل هذا الواقع ؛ ليغلق المشهد بعدة أسئلة تفتح النص على تأويلات عدة في احتمالات الإجابة عليها، وتركها للقارئ ليجسد عجز الواقع عن مؤازرة الذات الكاتبة، فتبديل المشهد هو حلم لدى الشاعر ومن هنا ينشغل بقضية هامة تزيد من مرارة الواقع، فالاستعمار على الرغم من قسوته بالمعنى المألوف، فهو ليل زائل بإشراق الفجر ولكن في هذا النص الشاعر يريد ازالة ذلك الاستعمار باللقاء والتوحد مع محبوبته، ثم يأتي تكرار(هل ما خانتْني بنت العمِّ؟) ليرمز من خلالها إلى فعل الخيانة الممتد عبر الأجيال والأزمان وكأن الحب قد يأتي مما لاتظن أن يأتي منه والحياىة قد تكون من الأقرب لك، وكأن هذه الخيانة المتكررة هي دافع الصراع الحياتي الذي لا ينتهي، وهو ما جعل السؤال عالقا لعدم وجود الإجابة واستمرار الحيرة فيكشف عن غموض ومغاليق كثيرة تريد الذات إزالتها ولكن هل تجد إجابة شافية؟ ومن هنا استطاع الشاعر أن يعزف ألحانه بشكل مغاير لينتج هارمونات عديدة تجسد الحالة التي يعيشها الإنسان من جراء ذلك
ولكن ثمة سؤال يطرح نفسه وهو لماذا اتكأ سفيان على الشكل الكتابي السطري تارة والطولى المتمثل في المفردات الرأسية، ثم التنقل على الفضاء الورقي بين اليمين واليسار والوسط ..إلخ، إن القصيدة التقليدية اتكأت على الشكل الكتابي الشطرين لعدة أسباب منها التأكيد على قوة العلاقة بين الشكل والمضمون، ومن هنا التساؤل هل حقق الشكل الكتابي الحداثي قوة العلاقة بين الشكل والمضمون؟، أم أضعفها؟ الشكل له دور في تحقيق المضمون ولكن لكل عصر شكله الخاص المفروض عليه من الواقع القائم، فالظروف القاسية التي عاناها الشاعر القديم قيدته كثيرا ومن هنا ظهر ذلك في الشطرين وما يظهر بينهم من بياض؛ ربما هذا الوسط من الفراغ الضيق يوحي بقلة الوقت عند العربي لانشغاله بالتنقل والترحال والبحث عن العشب، أما اليوم فنحن في رحابة من الوقت والمعيشة، ومن هنا يشكل الشاعر نصه على الفضاء الورقي باعتباره مهندسا يصمم معماره على الفضاء الأرضي حسب طبيعة الوقت ومن هنا لا يقلل هذا من شأن المضمون بل يكمله وخاصة أن الايقاع البصري للورقة البيضاء في النص الشعري له دلالته التي تثري النص وتمده بالتأويلات العديدة. فالشكل هو الفضاء الذي تظهر فيه الصور والإيقاعات والدلالات وغيرها، ومن هنا كلما تجدد الشكل تجدد معه المضمون وهو ما حققه الشكل الحداثي الذي استطاع الشاعر من خلاله تعميق ذبذبات متنوعة لمشاعره الّتي كان الإطار القديم يقيدها في بعض الأوقات.
الشكل الكتابي المعاصر أدى إلى تطور المضمون الذي خالف القافية الموحدة؛ ليعوض عنها بالشكل الكتابي الذي تتعدد أشكال قوافيه فيشكل التكرار والبياض وعلامات الترقيم وكل شئ على الفضاء الورقي إيقاعا مختلفا ومن هنا كان الفضاء الورقي بمثابة الشاشة التي تعرض للمشاهد كل التفاصيل فجسدت الكولاجات البصرية وهي بمثابة اللافتات المتمثلة في تكرار جملة "قالوا خائن ومن إلا الخائن يعشق بنت المحتل ) فيمثل الكولاج المستلهم من الفنون التشكيلية تحرك المعنى مع المشهد الجديد ليوسع من دائرة المشهد، ويقول في نص
"تحمل أعباءً
منها تنْبثقُ إلهًا
جارًّا
نهرًا
يغْسلُ
دمْعَ سماوا ت
من أجْل أشّْر حثالاتِ الأحياء
المنتظرينَ
لوهْم وعذا ب
في حجْمِ الجرُحِ وحجمِ الحلمِ
بين يديه
يتْلُونَ له في الحال الصلوات"
الشكل الكتابي هنا يكشف عن اللافتات الموجودة في الواقع المسيطر على الذات، وتحاول أن تستبدلها فتأتي دلالة (أعباء )على يمين الصفحة مقدمة أو بداية تنطلق منها الذات فتتجه أفقيا لتقطع مسافة كبيرة فيما تريد الوصول إليه إلى أن تصل إلى قوة تحرك هذا الواقع المر وتجر نهرا، ودلالة (الجر) توحي بالمعاناة والمعافرة كنوع من المقاومة وتليها دلالة (النهر) الجريان والنقاء والتطهير الذي يقضي على كل تلك الآفات ويبدل الأحوال، ثم تأتي المقطوعة الثالثة التي تشير إلى معاودة الظهور اللحني المتكرر في كلمة هاموني ليشير إلى نفس التتابعات ولكن مع لحن مختلف عبر حركة من حركات السيمفونيات الوصفية كعامل ربط بين تلك الألحان ، فيقول :
هارموني
(مقطوعة ثالثة)
دَخَلْتُ وقلبي يَتْلُو كلَّ نصوصِ الكرهِ
لها...........
من أنت؟
مصري
أعْرفُ عنْ عِلْم الطب/الفلك/ الكف/ الأرضِ
ولي في الشعر"
فالشاعر في هذه المعزوفة الجديدة يشير إلى حقيقة الذات التي أتت لتلاوة الكره، وكأنه يعزف ألحانا عذبة وهذا ما يتنافي مع دلالة (الكره)، وهذا ما يظهر في الحوار القائم بين الأنا والآخر فتبدأ الحوار بسؤال الهوية (من أنت ) وهو السؤال الذي لا تغيب إجابته، فلم يقصد الآخر الاسم العلم، بل يأتي السؤال هنا لاستنكار هذا الوجود هذا التاريخ فيجيب السائل مصري! ومن هنا تأتي الإجابة أن المصري هو العلم هو النور هو الوجود هو الخصوبة ولم يقف السؤال عند هذا، بل يليه سؤال آخر ليعدد من سمات هذا المصري فيقول
"أو لست بفارس؟!
أوَلسْتَ بفارس؟
!
كيفَ ؟
ولوْلاكَ لكنتُ الآن أُشيّعُ جثمانا من تحُت العجلات؟
لو أنَّ الحبُّ يمد جسورً ا
لبنيْتُ الأسوارَ حدودًا
بين البحر المالح..
وبحار المدن الساكنةِ
على صدْرِ الوادي
حاوَلْتُ كثيرًا أنْ أصطادَ جزيرَتَه
الحيّةَ
منْ قاعِ الظّلْمةِ كي أرْفعَها
جوْهرةً خالصةً
للأعيُن
فوق العرشِ"
إن طريقة تشكيل النص بهذه الكثافة الدلالية منحت النص بعدا جماليا منفردا، فارتباط الشاعر بالحب وإيمانه به عمل على تفجير لغته الشعرية النابعة من الأحاسيس والمشاعر الجياشة المتفجرة من الذات الشاعرة ومن هنا تعددت الصور الرمزية كما (لو أنَّ الحبُّ يمد جسورً ا(فالجسور) رمز للتواصل والامتداد الذي ينتج من الحب أو الذي يستطيع الحب تحقيقه .
"أنا الإنسان
أعْرِفني
ككلِّ الناس
أَمْ .....
يا حب قلْ لي ما الخبر
ما لي تذيبني الإبرْ
تسقطُ
أشلائي
على الأوتار.."
ثمة رؤية للحب هنا جعلت الشاعر يتيه في ضروبه فيتساءل ما الحب؟ وهنا يسأل الحب عن الحب، فالحب الذي يعرفه الشاعر غير الحب الذي يراه ويعيشه، فالحب الذي يعيشه يجلب له الألم وهذا ما ظهر في دلالة (تذيبني الإبر- تسقط أشلائي )، ولكن ثمة انزياح لصورة السقوط فلم تسقط على الأرض وإلا فنيت، وإنما تسقط على الأوتار وهو نوع من الأنيين والبوح يقاوم به الشاعر الألم وسرعان ما يعود ينتشي مجددا من خلال الوصول إلى الحب الحقيقي ليجلى المعاناة عنه، فالديوان كشف عن مرتكزات الحب الأساسية وجعله المدخل إلى كل نص وهو المحرك لهذه الحياة وما ينتج عنه من بهجة ولكن هذا الحب لا يسير في خط مستقيم فكثيرا ما يصطدم بالآلام الحارقة في كل موقف ويتجاوز تلك الألغام ليواجه آخرى، وهكذا وكأنه هو المساند الحقيقي في الحياة فيقول:
"حضرة اللمسة الغائبة
( احتلال..)
من خلايا البلادِ
التواريخِ
كيف يُجمَّعُ نهرٌ
ويحُشَرُ
في خندق
وبه يمُنَحُ
اسمًا وحيدًا؟
نغمٌ كرذاذ يَرُشّ
على صيْف زنزانة..
راقصون بها كُبِّلوا..
هذه وَحْشَةُ اللغة المُشتهاةِ..
يفيض انكماشٌ من البؤرة الساخنةْ..
ربما تدرك الآن.. كيمياء هذا الفضاء
فكيف تصير الكهوفُ
جوارحَ طيْر
لها سطوة كالحرسْ..؟؟
يمْلك الصمتُ كالمعصرةْ
استلهام المبدع واستعانته بتقنيات وعناصر بنائية تعبيرية من خارج النص أو إعادة بنائها بناء فنيا يخدم رؤيته الفنية كتقنية السرد التي استطاع الشاعر من خلالها أن يصهر الواقع والفن في بناء شعري جديد يتيح لنا عبوره من كل النواحي، وهذا ما تمثل في عرض الشاعر لحركة النهر التي تتحرك مياهه متجه إلى الخندق الذي يحسر هذه المياه
فيجعلها تعيد دورتها مرة آخرى فتنشر رذاذها وهو دلالة على ( الفرحة الشفاء الماء ) الذي سيطهر الذات / العالم، وبذلك يكون الرذاذ معادلا موضوعيا للحب الذي يريده الشاعر عبر البناء الفني الذي يصنعه بنسيج الرؤية الإبداعية التي يحاول فيها تجميع اللقطات لكل شيء ليطارد تجليات الحب والحرب والذاكرة والموت، متحرراً من القيود التي تكبل رؤاه، وفاتحاً قصيدته على الحياة بعنفوان مخيلة يؤلمها ما جرى ويجري في العالم وتريد تبديله .
"هل ستُمسَخ ؟ُ هل أرْنبُ الغابِ
فرْسَنَه الحالُ بين الرؤى والمَرائي
وفى الجحُرِ لن يرْتمي؟
أتبارز بالقفز غيلانها
أنت هذا المطارد
............
أمْ تتكوّمُ حيث تُسَاقِطُ
من رحِمِ الدم
أطفالَه
جثثًا
والعمرُ للخارجين
هو الصرخة الواهنةْ؟
هذه دمعة اللحظة العامرةْ"
إن الشاعر هنا ينقلنا إلى جو الغابة والصحراء فهل ليجسد شساعة هذا الواقع وجفافه؟ أم يريبنا بتلك الحياة التي تقر البقاء للأقوى؟! ومن هنا يكون العالم والواقع عند سفيان موازيا للصحراء فتأتي المفارقة بين حيواناتها بين (الأرنب والغول) ومن هنا يستحضر الكائن الخرافي ليشير إلى حالة من الترويع والذعر تنتاب الذات من جراء ذلك الاحتلال الذي يطارد المسالمين العزل (قلب الشاعر )، وتتنوع دلالات النص لتحوى دلالات التحول والتغير ومقاومة ذلك المستعمر (الحب ) متكأ على الرياح ، والرياح تحمل ثنائية دلالية( الخير والشر) وفي سياق الحب والبهجة يوظفها الشاعر للخير فتعمل عملية تجوية وتعرية للحظات الألم وتذيبها وتحولها إلى لحظات من السعادة والرضا مدعما رؤيته في عزفه على تلك الالحان والمقطوعات اللحنية التي تدعم مشاعر الذات والإنسان فيقول :
( رياح.. )
شلَّالًا صخْريًّا كنت
تمرُّ بك الأخلاطُ
............
............
............
وأصبحتَ على عين فى كلِّ خليّةْ ..
أين ستأْخذك الأعينُ
أين ستأْمرها
بالإبطاء/ ..
الإسْراع/..
الكفِّ عن السير؟
هل يمكن أن تفْلتَ من أسْر الدهشةِ
والتجريب؟"
ويستمر الشاعر في العزف على أوتار الحب مكونا سيموفونية جديدة يعدل فيها من الفكرة اللحنية الأساسية وينميها من خلال تعدد الطرق التي يعزف بها، وهذا يحتاج إلى عازف حرفي ماهر يعرف كيف يتكيف مع المواقف المختلفة في العمل الموسيقي الواحد وكيفية تحقيق الترابط بين حركات العمل وهذا ما قام به سفيان في هذا الديوان فيقول :
( مرة أخرى؟!
إلى أين ترحل بعد؟
مرة أخرى
ومن سيكون العدو الجديد؟
مرة أخرى!!
لقد ظن قلبي القُدومَ الأخيرَ
مكوثا وليد!
وها أنت
تطارد
بالرمل رملًا ؟
تضمّدّ
بالنزف جرحًا؟"
إن دورة الحياة المستمرة تفرض أسئلة عديدة على الذات بصفة خاصة وعلى الواقع بصفة عامة، وكأن النهاية أو الراحة شئ مستحيل في نظر الذات التي كلما تخلصت من عدو جاء آخر أقوى، وكلما عالجت جرج تولد جرح أعمق من سابقه
وكأن رحلة الآلام مستمرة تحجب رؤية المستقبل الذي ينشده الشاعر فتكون هذه الآلام أيضا بمثابة الغيوم التي تحجب ضوء الشمس؛ لكن سرعان ما يبددها ليفرض ضؤه على الوجود في رجوعه إلى أمه فيقول: في نص
استراحة
"أمِّي..
تصفعها لوحات حروبي
المنقوشة فوق جبيني المُحْتَل
تتفجَّرُ فى القيد
أدْنو منها
أجْمع نثر خلاياها
دمها
هيْكلَها العظْمِيّ .. أعود بها فيها
أقسم:
إني مازلتُ..
ولا أحتاج لشيء.. غير إليها
أمي"
إن هذا النص يشير إلى حالة الانتماء التي تتمتع بها الذات الشاعرة فالديوان جسد فكرة الانتماء لماجدة وهي المحبوبة المستعمرة لقلب الشاعر والمانحة له الهوية فقد تكون ماجدة الوطن /الهوية / الوجود وهذا جاء من خلال الانزياح الدلالي واللغوي وغيره الذي اتكأ عليه الشاعر في الديوان ككل وفي قصيدته الطويلة في الديوان "انتماء".