أحسَّ أنه يعوم في بحر من الظلمات، قبل أن يبدأ وعيُه بالاستقرار على أرض غير سويّة. موجة خدَر خلّته يحطّ ببطء على سطح مجعّد.
قشعريرة الانحطاط خضّته، فتلمّس الأرضَ المفروشة بالصحف. أحسَّ بالفراش ينكمش تحت يده، ولم يشعر بحركة قدميه الجامدتين في قالبهما الجبسيّ. كانت الظلمة تغلّف جسده، فيما تململ رأسه وبحث عن آخر صورة رآها. الكاميرا المفتوحة على رؤية غامضة- تضبط بؤرتها الزائغة، تستجمع ضوءها المخزون في بطارية رأسه. "رجلٌ بلا كاميرا، أعمى في بلاد عميان". أعاد الجملة إلى مكانها، وأكمل لنفسه: "المُبصِر الوحيد، هادئ، كقالب من الجبس". استنتج، حين تذكر آخر صورة: وضْع نصفه الأسفل في قالب صلب، بعد وصوله الى القاعة المفروشة بالصحف. وقبل غيابه عن الوعي، تذكر بقعة البول الجافة التي أرقدوه عليها. الحقنة المخدِّرة، الصفعة الصامتة، الظلمة المموجة، انطباق باب القاعة الحديد، قطعت الرؤية والتمعّن في اللوحات الفوتوغرافية الكبيرة، المعلّقة على الجدران. هل ظنّوا أنّهم يشفقون عليه ويهتمون بشخصيته على نحو خاصّ، فحبسوه في استوديو تصوير؟
قِيدَ الى هذه القاعة، وأمِر بالجلوس حول طاولة، أمام رجل في متوسط العمر، ملثّم بكمامة، وقبعة فروٍ غريبة الشكل. فُرشِت المنضدة بأعداد من جريدة (النجمة) لسان حال المتظاهرين. صارعَ لانتزاع عنوانٍ واحد أو اثنين من مئات المانشيتات المطروحة أمام عينيه على المنضدة، قبل أن توضع ساقاه في سطل من المزيج الرائب وتتصخّر في قالب ثقيل، خلال دقائق. بعد تحقيقٍ قصير عن هويته، طُرح على الأرض المصحَّفة، ثم أطفئ النور. يتذكر قبل غرقهِ في الظلام، أنّه التقط مانشيتاً عريضاً "وجهاً لوجه حتى النهاية!"، ثم وضع رجلٌ قدمَه على ظهره ودفعه، تدحرّج دائراً نصف دورة، حول منطقة المانشيت الكبير. وخلال هذه الدورة المحورية، خطفت عيناه لوحات الجدار، واستقرّت على السقف الواطئ، مع استواء ظهره باتجاه السقف. يتذكر الانخفاض الثقيل للسقف، وحاول أن يرفع ذراعه ليلمس الشُّطوب والانعكاسات المنطفئة التي شاهدها قريبة جداً كجيش من العقارب الساعية. لم تلمس أصابعه غير الفراغ، كما لم تلتقط عيناه غير الحريق الكبير الذي صوّرته كاميرا لحظة ارتطام قنبلة مدمّرة بالبنايات. كانت لوحات القاعة الفوتوغرافية متشابهة، كما خطفت في دورة القالب الجافّ حول محوره الثابت، وقد صُوِّرت من حالق لجحيم بغداد قبل اقتحامها. شاهد صُوراً مماثلة لصُور القاعة، إلا أنّ لوحات القاعة عولجت في استوديو محترف. استبقى بصَرُه الدائر منظراً واحداً، أخذ يعالجه في جمجمته طويلاً، حتى تجسّد في صورة جسرٍ قصمتْه الطائرات وألقت بنصفه في مياه معتمة. زمن اللقطات واحد، منتصف ليلة الهجوم التدميري. الظلام سائد، العيون مُطبقة، ولعلّ الأجساد موثَّقة او مجبَّسة، كاسية وعارية، مُلقاة في ملجأ أرضيّ مجهول الموقع. أحسَّ بانسحاب آمر الاستوديو المكمّم، مع شخصين خادمين يرتديان صدريتين، قاما بتجبيس ساقيه. انطبق الباب وراءهم، وحلَّ سكون مقبريّ. هل يحتوي القبو- الاستوديو على أشخاص غيره؟ أيستوجب رقوده النداء على أشخاص آخرين، أم إنّه المحتجَز الوحيد، الراقد على ورق الصحف وبُقع البول الجافة؟
لكنّه المختطَف الوحيد، ولا يوجد من يشاركه الدوران على محور ثابت في الاستوديو المظلم. نادى بصوت مسموع على شركاء مُفتَرضين، ولم يتلقَّ جواباً على نداءاته. زحف كي يقيس الفراغ حوله، فانطوت الصحف تحت جسده وزحفَت لزحفه، ولم يبلغ الجدارَ البعيد. خلال مدّة الجوع والعطش، أحسّ بِمَن يراقبه، ويسلّط عليه ضوء مصباحٍ يدويّ، ثم ينسحب ويُطبق وراءه الباب بهدوء. كان يملأ الفراغ بأغنية يتذكرها من طفولته، ولعلّه ألقى خطاباً يقلّد فيه أحد الزعماء، ثم يضحك أو ينوح أو ينطنط كمُقعَد في مستشفى المجانين، المقيَّدين بسلاسل إلى حلقات مثبتة بالجدران. ورغم أنّ مشروعه الراهن توقف عند الجسور، إلا أنّه تذكر صوراً التقطها في مستشفى "الرشاد" للأمراض العقلية، أطروحةً لتخرجه من أكاديمية الفنون. الوجوه الساخرة من أطبائها، الأخرى المعبّرة عن الخواء الذي جاءت منه، أو تلك الخالية من أيّ تعبير. يتذكر أنّه دافعَ عن أطروحته أمام لجنة المناقشة، بالتعبير الإيمائي الذي شاهده على الوجوه قبل تصويرها. كانت لديه ذخيرة من ملاحظات علم الاجتماع العيادي، وعلم النفس الإكلينيكي، لم يستطع المناقشون مجاراتها أو إنكار حجّتها في الدفاع. كم يودّ استعادة تلك الملامح وهذيانها التعبيريّ، كي يناقش محقّقيه في الاستوديو حين عودتهم إليه! سمع دويّ مولدة كهرباء، لكن الظلام ظلّ متماسكاً كجدار خامس. يبتعد العالم بذكرياته، ويغرق الرجل الجبسيّ في نوم طويل.
لم يدخل عليه سوى رجل واحد، هو الرجل الملثّم بكمّامة قماش عريضة تخفي ثُلثي الوجه، ولم يشاهد أحداً من الحرّاس أو الخدَم المباشرين، الذين رافقوا اختطافه وتقييد يديه وعينيه. انبثقت اللوحات المصوَّرة ومانشيتات الصحف المفروشة تباعاً، مع انبثاق أضواء القاعة، وارتفع السقف قليلاً عن رأسيهما، في جلسة التحقيق الأولى. كانا وحدهما، السلطتين المتواجهتين على طرَفَي الطاولة، سلطة الخاطفين في جانب، والعنكبوت المنتزع من أضلاع الجسر في الجانب المقابل. يعينه الرجلُ الملثّم، يسحبه بقبضته المحيطة بإبطيه، ويضعه على الكرسيّ. يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم، كما يقول له، لستَ خفيفاً كما بدأنا قبل أسبوع بمعرفتك، يا صديقي صاحب الكاميرا. بينما يحضّر الأسيرُ المصوِّر سؤالاً عن صور القاعة، يكتمه قهراً، ويستفهم بدله عن سبب خطفه. لا يلبّي المحقّق المكمّم هذه الرغبة البديهية. إنّه من الأسئلة التي يتطلّب الجواب عليها عدداً من المواجهات، الحوارات التي تنحرف بعيداً الى جهة مغايرة عند كل جلسة تحقيق. هل كان تحقيقاً مرهوباً، تحرّياً عن أربطة أشدّ وثاقاً، أم كان جولات من المراوغة والهروب والتخفّي وراء سلطة مجهولة؟
لا شيء جديد. الساعات تتوالى مسترخية، تتخلّلها ساعة غداء، ثم يحلّ الظلام، ويعود السقف للانطباق على المصور المخطوف، وتختفي اللوحات مع مانشيتات الصحف. لاحظ، عند دخول المحقّق وعودة النور، كوماتٍ من الصحف المرزومة في ركن الباب الحديد. وخمّن وعيُ المصور المجبَّس بأنّ شريكه المكمّم مكلّف برفع تقرير يومي عن حوارهما، ووزن الثقل الذي يسحبه للأسفل، بعيداً عن الجسر، ابتعاداً لا رجعة منه إلى بحثه الذي جاء من أجله. لن يعود إلى الكاميرا التي سُحِبت منه، مع الموبايل وبقية المتعلّقات في الحقيبة، النماذج المجموعة في ألبومات مصنّفة لجسور المدن القديمة. لم يتطرّق المحقّق الى رغبته في العودة إلى بيته بجانب الكرخ، يغادره يومياً للالتحاق برفاق الجسر المعتصمين في قارب مؤجَّر. التمعت مياه النهر في استوديو جمجمته، وظهرت الجسور المحطمة واحداً بعد الآخر. وتمنّى أن يطول شريطُ الظلام، لكي يستعيد وجه المرأة التي يؤجّر غرفة في بيتها، المفتاح الذي يستأمنها على أرشيفه المحفوظ في حافظات كارتونية تحت سرير نومه. سمحت صاحبة البيت أن يفتّشوا غرفته لديها، ونقْل الأرشيف الصُوري الى مكان الاختطاف.. غرفة التحميض، أو مسلخ السقوط المصوَّر بدقة متناهية. ووُجِهَ المصوّر بوظيفته المشبوهة، قدومه من مكان بعيد، الدانمارك، حيث اكتسبَ جواز سفر جديد بعد هجرته إليها، العمل لصالح منظمة الجسور العالمية. لا جديد في تحقيق الهوية، وأسباب الهجرة، وغاية المنظمة العالمية من تصوير جسور العراق. لا شيء يعلمه عن سكّان جسر "الجمهورية"، فقد انتُزِع منهم بهدوء. لقد استهواه العمل تحت الجسر، وشغلَه عن تحرّي أماكن جسور تاريخية متفرقة كان يعتزم الوقوفَ عليها أو عبورها. توقّف على الضفة المقابلة يتأمل ليلة شباط الصافية، وفي عودته الى بيته، اعترضته سيارات دفع رباعيّ، في الشارع الفرعي، وطلب رجالها المكمَّمون أن يصحبهم في جولة قصيرة.
زحف دائراً حول محوره، كان الصباح قد انجلى في المكان التي يحتوي بيت الخاطفين. أجل، لا ريب في أنّ السكون المطبق حوله، يؤوي آثارَ الحطام الذي نجا من دخول الحلفاء، والقبض على رؤوس النظام الخمسة والخمسين، المُدرجة على أوراق اللعب، في السنة الثالثة من الألفية الثالثة. ولكن ما حقيقة اللعبة التي تخفيها أوراق السَّنة العشرين، من قرن الجسور الحديد؟ ما حقيقة اللاعبين؟ وكم فريقاً يشارك في الوليمة المقدسة؟ أعانَه وعيُه، الذي تحسّسَ وقتَ انبلاج يوم جديد، في تذكّر مانشيتات جديدة يرقد على ورق صُحفها. وزاد يقينُه بحلول الصباح، حين دخل المحقّق المكمّم مع مساعدَيه، وأمرهما بفكّ القالب الجبسي، وإحضار فطور يناسب خطوة الحرية هذه.
(جريدة المدى)
٢٤ سبتمبر ٢٠٢٠
قشعريرة الانحطاط خضّته، فتلمّس الأرضَ المفروشة بالصحف. أحسَّ بالفراش ينكمش تحت يده، ولم يشعر بحركة قدميه الجامدتين في قالبهما الجبسيّ. كانت الظلمة تغلّف جسده، فيما تململ رأسه وبحث عن آخر صورة رآها. الكاميرا المفتوحة على رؤية غامضة- تضبط بؤرتها الزائغة، تستجمع ضوءها المخزون في بطارية رأسه. "رجلٌ بلا كاميرا، أعمى في بلاد عميان". أعاد الجملة إلى مكانها، وأكمل لنفسه: "المُبصِر الوحيد، هادئ، كقالب من الجبس". استنتج، حين تذكر آخر صورة: وضْع نصفه الأسفل في قالب صلب، بعد وصوله الى القاعة المفروشة بالصحف. وقبل غيابه عن الوعي، تذكر بقعة البول الجافة التي أرقدوه عليها. الحقنة المخدِّرة، الصفعة الصامتة، الظلمة المموجة، انطباق باب القاعة الحديد، قطعت الرؤية والتمعّن في اللوحات الفوتوغرافية الكبيرة، المعلّقة على الجدران. هل ظنّوا أنّهم يشفقون عليه ويهتمون بشخصيته على نحو خاصّ، فحبسوه في استوديو تصوير؟
قِيدَ الى هذه القاعة، وأمِر بالجلوس حول طاولة، أمام رجل في متوسط العمر، ملثّم بكمامة، وقبعة فروٍ غريبة الشكل. فُرشِت المنضدة بأعداد من جريدة (النجمة) لسان حال المتظاهرين. صارعَ لانتزاع عنوانٍ واحد أو اثنين من مئات المانشيتات المطروحة أمام عينيه على المنضدة، قبل أن توضع ساقاه في سطل من المزيج الرائب وتتصخّر في قالب ثقيل، خلال دقائق. بعد تحقيقٍ قصير عن هويته، طُرح على الأرض المصحَّفة، ثم أطفئ النور. يتذكر قبل غرقهِ في الظلام، أنّه التقط مانشيتاً عريضاً "وجهاً لوجه حتى النهاية!"، ثم وضع رجلٌ قدمَه على ظهره ودفعه، تدحرّج دائراً نصف دورة، حول منطقة المانشيت الكبير. وخلال هذه الدورة المحورية، خطفت عيناه لوحات الجدار، واستقرّت على السقف الواطئ، مع استواء ظهره باتجاه السقف. يتذكر الانخفاض الثقيل للسقف، وحاول أن يرفع ذراعه ليلمس الشُّطوب والانعكاسات المنطفئة التي شاهدها قريبة جداً كجيش من العقارب الساعية. لم تلمس أصابعه غير الفراغ، كما لم تلتقط عيناه غير الحريق الكبير الذي صوّرته كاميرا لحظة ارتطام قنبلة مدمّرة بالبنايات. كانت لوحات القاعة الفوتوغرافية متشابهة، كما خطفت في دورة القالب الجافّ حول محوره الثابت، وقد صُوِّرت من حالق لجحيم بغداد قبل اقتحامها. شاهد صُوراً مماثلة لصُور القاعة، إلا أنّ لوحات القاعة عولجت في استوديو محترف. استبقى بصَرُه الدائر منظراً واحداً، أخذ يعالجه في جمجمته طويلاً، حتى تجسّد في صورة جسرٍ قصمتْه الطائرات وألقت بنصفه في مياه معتمة. زمن اللقطات واحد، منتصف ليلة الهجوم التدميري. الظلام سائد، العيون مُطبقة، ولعلّ الأجساد موثَّقة او مجبَّسة، كاسية وعارية، مُلقاة في ملجأ أرضيّ مجهول الموقع. أحسَّ بانسحاب آمر الاستوديو المكمّم، مع شخصين خادمين يرتديان صدريتين، قاما بتجبيس ساقيه. انطبق الباب وراءهم، وحلَّ سكون مقبريّ. هل يحتوي القبو- الاستوديو على أشخاص غيره؟ أيستوجب رقوده النداء على أشخاص آخرين، أم إنّه المحتجَز الوحيد، الراقد على ورق الصحف وبُقع البول الجافة؟
لكنّه المختطَف الوحيد، ولا يوجد من يشاركه الدوران على محور ثابت في الاستوديو المظلم. نادى بصوت مسموع على شركاء مُفتَرضين، ولم يتلقَّ جواباً على نداءاته. زحف كي يقيس الفراغ حوله، فانطوت الصحف تحت جسده وزحفَت لزحفه، ولم يبلغ الجدارَ البعيد. خلال مدّة الجوع والعطش، أحسّ بِمَن يراقبه، ويسلّط عليه ضوء مصباحٍ يدويّ، ثم ينسحب ويُطبق وراءه الباب بهدوء. كان يملأ الفراغ بأغنية يتذكرها من طفولته، ولعلّه ألقى خطاباً يقلّد فيه أحد الزعماء، ثم يضحك أو ينوح أو ينطنط كمُقعَد في مستشفى المجانين، المقيَّدين بسلاسل إلى حلقات مثبتة بالجدران. ورغم أنّ مشروعه الراهن توقف عند الجسور، إلا أنّه تذكر صوراً التقطها في مستشفى "الرشاد" للأمراض العقلية، أطروحةً لتخرجه من أكاديمية الفنون. الوجوه الساخرة من أطبائها، الأخرى المعبّرة عن الخواء الذي جاءت منه، أو تلك الخالية من أيّ تعبير. يتذكر أنّه دافعَ عن أطروحته أمام لجنة المناقشة، بالتعبير الإيمائي الذي شاهده على الوجوه قبل تصويرها. كانت لديه ذخيرة من ملاحظات علم الاجتماع العيادي، وعلم النفس الإكلينيكي، لم يستطع المناقشون مجاراتها أو إنكار حجّتها في الدفاع. كم يودّ استعادة تلك الملامح وهذيانها التعبيريّ، كي يناقش محقّقيه في الاستوديو حين عودتهم إليه! سمع دويّ مولدة كهرباء، لكن الظلام ظلّ متماسكاً كجدار خامس. يبتعد العالم بذكرياته، ويغرق الرجل الجبسيّ في نوم طويل.
لم يدخل عليه سوى رجل واحد، هو الرجل الملثّم بكمّامة قماش عريضة تخفي ثُلثي الوجه، ولم يشاهد أحداً من الحرّاس أو الخدَم المباشرين، الذين رافقوا اختطافه وتقييد يديه وعينيه. انبثقت اللوحات المصوَّرة ومانشيتات الصحف المفروشة تباعاً، مع انبثاق أضواء القاعة، وارتفع السقف قليلاً عن رأسيهما، في جلسة التحقيق الأولى. كانا وحدهما، السلطتين المتواجهتين على طرَفَي الطاولة، سلطة الخاطفين في جانب، والعنكبوت المنتزع من أضلاع الجسر في الجانب المقابل. يعينه الرجلُ الملثّم، يسحبه بقبضته المحيطة بإبطيه، ويضعه على الكرسيّ. يزداد ثقلاً يوماً بعد يوم، كما يقول له، لستَ خفيفاً كما بدأنا قبل أسبوع بمعرفتك، يا صديقي صاحب الكاميرا. بينما يحضّر الأسيرُ المصوِّر سؤالاً عن صور القاعة، يكتمه قهراً، ويستفهم بدله عن سبب خطفه. لا يلبّي المحقّق المكمّم هذه الرغبة البديهية. إنّه من الأسئلة التي يتطلّب الجواب عليها عدداً من المواجهات، الحوارات التي تنحرف بعيداً الى جهة مغايرة عند كل جلسة تحقيق. هل كان تحقيقاً مرهوباً، تحرّياً عن أربطة أشدّ وثاقاً، أم كان جولات من المراوغة والهروب والتخفّي وراء سلطة مجهولة؟
لا شيء جديد. الساعات تتوالى مسترخية، تتخلّلها ساعة غداء، ثم يحلّ الظلام، ويعود السقف للانطباق على المصور المخطوف، وتختفي اللوحات مع مانشيتات الصحف. لاحظ، عند دخول المحقّق وعودة النور، كوماتٍ من الصحف المرزومة في ركن الباب الحديد. وخمّن وعيُ المصور المجبَّس بأنّ شريكه المكمّم مكلّف برفع تقرير يومي عن حوارهما، ووزن الثقل الذي يسحبه للأسفل، بعيداً عن الجسر، ابتعاداً لا رجعة منه إلى بحثه الذي جاء من أجله. لن يعود إلى الكاميرا التي سُحِبت منه، مع الموبايل وبقية المتعلّقات في الحقيبة، النماذج المجموعة في ألبومات مصنّفة لجسور المدن القديمة. لم يتطرّق المحقّق الى رغبته في العودة إلى بيته بجانب الكرخ، يغادره يومياً للالتحاق برفاق الجسر المعتصمين في قارب مؤجَّر. التمعت مياه النهر في استوديو جمجمته، وظهرت الجسور المحطمة واحداً بعد الآخر. وتمنّى أن يطول شريطُ الظلام، لكي يستعيد وجه المرأة التي يؤجّر غرفة في بيتها، المفتاح الذي يستأمنها على أرشيفه المحفوظ في حافظات كارتونية تحت سرير نومه. سمحت صاحبة البيت أن يفتّشوا غرفته لديها، ونقْل الأرشيف الصُوري الى مكان الاختطاف.. غرفة التحميض، أو مسلخ السقوط المصوَّر بدقة متناهية. ووُجِهَ المصوّر بوظيفته المشبوهة، قدومه من مكان بعيد، الدانمارك، حيث اكتسبَ جواز سفر جديد بعد هجرته إليها، العمل لصالح منظمة الجسور العالمية. لا جديد في تحقيق الهوية، وأسباب الهجرة، وغاية المنظمة العالمية من تصوير جسور العراق. لا شيء يعلمه عن سكّان جسر "الجمهورية"، فقد انتُزِع منهم بهدوء. لقد استهواه العمل تحت الجسر، وشغلَه عن تحرّي أماكن جسور تاريخية متفرقة كان يعتزم الوقوفَ عليها أو عبورها. توقّف على الضفة المقابلة يتأمل ليلة شباط الصافية، وفي عودته الى بيته، اعترضته سيارات دفع رباعيّ، في الشارع الفرعي، وطلب رجالها المكمَّمون أن يصحبهم في جولة قصيرة.
زحف دائراً حول محوره، كان الصباح قد انجلى في المكان التي يحتوي بيت الخاطفين. أجل، لا ريب في أنّ السكون المطبق حوله، يؤوي آثارَ الحطام الذي نجا من دخول الحلفاء، والقبض على رؤوس النظام الخمسة والخمسين، المُدرجة على أوراق اللعب، في السنة الثالثة من الألفية الثالثة. ولكن ما حقيقة اللعبة التي تخفيها أوراق السَّنة العشرين، من قرن الجسور الحديد؟ ما حقيقة اللاعبين؟ وكم فريقاً يشارك في الوليمة المقدسة؟ أعانَه وعيُه، الذي تحسّسَ وقتَ انبلاج يوم جديد، في تذكّر مانشيتات جديدة يرقد على ورق صُحفها. وزاد يقينُه بحلول الصباح، حين دخل المحقّق المكمّم مع مساعدَيه، وأمرهما بفكّ القالب الجبسي، وإحضار فطور يناسب خطوة الحرية هذه.
(جريدة المدى)
٢٤ سبتمبر ٢٠٢٠