هدى بوحمام - ربنا أفرغ علينا صبرًا...

أرتئي دائمًا الرجوع إلى الله، صاحب الشأن في كل أموري الدينية والدُنيوية، أرجع إلى الحكمة الثابتة التي لا تموت ولا تفنى، أرجع إلى الحق والعدل والصواب الذي لا يتغير ولا يتبدّل، أعود راكضة إلى قوانين الله الصامدة رغم كل شيء.. تجرُّنا الحيرة إلى أماكن مظلمة، ويأخذنا التيه إلى طرق ضيقة ومُنهِكة، نُضيّع الوجهة والسبيل، وينتشلنا الله من كل سوء، ويردّنا إلى بَر الأمان والإيمان.

وردت الآية {ربنا أفرغ علينا صبرًا} مرتين في القرآن بالصيغة ذاتها والمُراد عينه، استشعرتُ عُموم حالة من الفتنة الغامرة في كل مرة جاء فيها هذا القول.. في سورة البقرة، حيث تلاها طلب الثبات مباشرة {وثبت أقدمنا وانصرنا على القوم الكافرين}، وفي سورة الأعراف، حيث جاء بعدها طلب الحرص أن تكون الوفاة على دين الحق {وتوفّنا مُسلميِن}. في كلتا الحالتين، هناك اهتزاز وخوف واستنجاد بقوة الله، سبحانه، كي يُثبّتَ وينصرَ ويتوفّى عباده على الإسلام.

طبعًا ردّدتُ هذه الآية مِرارًا من قبل، وكنت أمرّ عليها مرورًا طيبًا هادئًا، ولكنّ تغيُّرات الأحوال في الآونة الأخيرة، وتقلُّبات النفس، واشتداد حروبها، وانحطاط الأخلاق وتورّطها في عواقب ثقيلة، استوجب التوقّف والتمعّن في كلام الله، الذي لا راحة لنا في هذه الحياة إلا بالانغماس في معانيه العظيمة والعميقة والمُنقذة من الشتات والاضمحلال.

الآن فقط فهمتُ معنى {أفرغ علينا صبرًا}.. نحن فعلًا نحتاج إلى أمطار غزيرة من الصبر؛ لنستطيع العيش مع هذه الأحوال الصعبة، والظروف القاهرة، نحتاج إلى كرم الله الواسع في إفراغ الصبر علينا، مع هذا التفشّي المَهُول للفتن، والضغوط والتيّارات الأجنبية الدخيلة، التي لا تربطنا بها صلة ولا انتماء، ولكنها تتوغل في فكرنا وتسيطر على هُويتنا.

لم أجد بعدُ تشخيصًا مُناسبًا للوضع النفسي للإنسان حاليًّا، ولكنّ المؤكَد أنه وضع غير صحي بتاتًا، ويتدهور ويستفحل بطريقة مخيفة.. صرنا نعيش في حلقات متتالية من الضغط النفسي، واحدة بعد الأخرى دون انقطاع، نُخرج رؤوسنا كي نلتقط أنفاسنا، وتسحبنا دوامة الحلقات الضاغطة بسرعة من جديد، حتى غدا هذا الوضع نمط حياة يتطلب منّا التكيّف والتعايش.

ضارب مع متطلبات الحياة وكثرتها وثقلها، والانتشار المجاني للمعلومات الصالحة والطالحة، وسرعة الطموح والأداء والوصول.. والنتيجة: أصبحنا نعيش وكأنّنا وسط طنجرة الضغط الموجودة في بيت الأم العاملة، تُصفّر فوق رؤوسنا بشكل مربك، ترهِق دواخلنا وتنهش في طمأنينتنا، مثلما تنهش الطنجرة اللحم والثوم والبصل.

إنّه وضع مخيف وغير مفهوم، وينتشر بسرعة مثل السرطان المتنقل العنيد، الذي لا علاج يسيطر عليه، يصيبُ الأرواح ويثقل الأنفس بما لا طاقة لها به. صار الكلّ مشحونًا وغافلًا عن الوضع، لا يعي بوجوده، أو يتجنّبه؛ لأنه يجري بلهفة وراء متاع الدنيا، يجري في كل الاتجاهات، ويرغب في الحصول على كل شيء في وقت مختصر. زمن السرعة هذا يهلكنا دون أن نشعر، نريد أن نكبر بسرعة، ونطمح وننجح بسرعة، ونمتلك بيتًا وسيارة وعائلة بسرعة، ونسافر ونكتشف العالم بسرعة.. لم يعد هناك طعم للمراحل ولا اعتراف بالخطوات.

هناك معطيات كثيرة قد تفسِّر تفشي هذه الحالة، أعتقد أن أهمّها يكمن في هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي، واستغلالها في تمييع الخصوصية، وتقديس الماديات، والتشجيع على نشر الحياة المثالية الخالية من الشوائب والمطبات، والمليئة بكل ما يعكس اللمعان أمام الكاميرات، ما يجعل الناس تجري وراء هذه المثالية الوهمية الزائفة، واستنزاف الطاقة والراحة والطمأنينة في سبيل اتباع هذا السراب. كثرت اضطرابات النفس، وصرنا نعاني من هلع داخلي مزمن جرّاء كل هذه الضغوطات التي فُرضت علينا، بشكل أو بآخر.

الآن.. فهمتُ افتقارنا للمبالغة في طلب الصبر من الله، أن يُفرغه في قلوبنا إلى حد الامتلاء، كي نستطيع النجاة بأرواحنا وقيمنا ومبادئنا. نحن نحتاج أن نتمسّك بحبل الوصل مع الله تمسّك البصير بعصاه، نحتاج أن نحمي أنفسنا من هذه الفوضى المضطرمة، وأن نقوّي أساسها ونسقي أرضها بالصالح الثابت المفيد، لكي نمضي منها بسلام وسلامة.



هدى بوحمام
طبيبة مغربية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...