غريبٌ، غريبٌ، غريب أمر البشر وهم يفرّقون بين الحيوان والآخر، في ترتيب خاص بهم وليس بهما، فيقولون هذا حصان وهذه أتان " أنثى الحمار"، وهذه فرس وهذا حمار، مانحين قيمة اعتبارية أكثر لكل من الحصان والفرس، رغم أن الحصان يواقع الأتان، فيكون النغل" الكديش " نتاجهما، والحمار يواقع الفرس، فيكون البغل نتاجهما، وفي أحيان أخرى يشيرون إلى كل من الأتان والفرس، بأنثى كل من الحمار والحصان، متجاهلين روعة الطبيعة التي تقوم على الهجنة، أي التنوع، ودلالة ذلك على بؤس تفكير البشر على هذا المنوال.
ثمة أصوات حيوانية كثيرة، تبّز بإيقاعها أصوات بشر كثيرين اكتسبوا شهرة غريبة من نوعها،كونهم يغّنون، ويشار إليهم بالبنان، حتى بالنسبة إلى " شهيد صوته: الحمار " يكون مغبوناً، دون النظر في الجاري طبيعة وتزييفاً. الحيوان لا يمثّل أبداً. إنه يسمّي طبيعته، كما هو مذ وجد، بينما الإنسان، فما أكثر المواقف التي يزيف فيها ليس صوته فحسب، بل ويتنكر لاسمه ونسبه وأصله وفصله كذلك!
مسكين هذا الكلب الذي يحرس صاحبه نهاراً وبيته ليلاً وقطيع غنمه ليل نهار، ونادراً ما يغفل عن القيام بدوره، ولا أسهل من رؤية صاحبه حين يغضب من أحدهم، أو يريد شتمه وإهانته، بقولة" يا كلب ". يا للجحود الإنساني، أو نكران الجميل وفظاعته !
" حيَّة من تبن " هكذا يقال لمن يقول شيئاً ويخفي شيئاً، أي ينافق أو يكون انتهازياً ويغدر بسواه..لكن الحية لم تكن يوماً تنتظر فرصة الإيقاع بالغير، أو لحظة للانقضاض عليه ولدغه، فليس لديها سلوك متقلب، ليحار الناظر في أمرها، خلاف بني البشر، الذين يغيّرون طباعهم كثيرين، وحسب المواقع والمواقف، حتى بين أفراد العائلة الواحدة، فأي إساءة ملحقة بالحية أكثر من تشبيه كهذا؟
نطرب لصوت البلبل، ونحبسه في قفص معين، نعلقه على شرفة بيتنا، أو في البهو، أو في مكان ما بجوارنا، مستمتعين بسماع تغريده، غير منتبهين أولاً إلى أنه حين يغرّد في قفصه ، فليعبر، كما هو وضعه الطبيعي عن مأساة وجوده محبوساً في قفص، وليس لإمتاع من حجر عليه، وثانياً، ليكون شاهداً طبيعياً على ما هو خرق لنظام الطبيعة من قبلنا، ونحن نتجاهل حالته. هل نظر أحدنا في البلبل في حركته وانسيابية صوته وتناغمه حين يكون طليقاً، وحين يكون محبوساً في قفص ؟
أعتقد أن أكثر الكائنات الحية إساءة إلى الطبيعة ونظام توازنها، وإخلالاً بها، هو الإنسان نفسه، وفكرة أنه " خليفة خالقه على الأرض " تسويغ "لما لا يحصى من إساءاته، لا بل وجرائمه في بني جلدته أنفسهم وفي الكائنات الحية الأخرى وحتى الجماد، ودون استثناء، كما في حروبه المدمرة، ولو أسنِدت، مثلاً، إدارة الطبيعة حتى لهذا المعتبَر ممسوخاً هنا وهناك: خنزيراً أو قرداً، لكانت نوعية المآسي والكوارث التي شهدها التاريخ الشاهد على فظائع البشر فيها، غير قابلة للمقارنة لمحدوديتها وقلتها .
لا أحد منا يريد أن يسمع من يناديه" يا حمار " باعتبار ذلك شتيمة، وربما تسبب مواجهة بينهما. بغضّ النظَر عن روعة الحمار وقدرته على حمْل الأثقال وتحمّل صنوف الضرب والأذى له على أيدي البشر، هناك حالات يفاجىء بها المعتبَر مالكه، بحرده، أو بتوجيه رفسة إليه، أو قلْبه، أو حتى عضه، مستميتاً في الدفاع عن نفسه،بينما هناك حالا كثيرة، كثيرة جداً، يتقبل كثير من البشر إهانات وشتائم وصنوفاً من الأذى ، والإذلال، والاحتقار، وغيرها، دون أن تصدر عن أي منهم " رفسة واحدة " ، " عضة واحدة " رد فعل على الاضطهاد أو العبودية ذات الألوان التي يعيشونها في حياتهم اليومية وعلى أعلى مستوى .
لا كائن حياً يشبه الأسد سواه نفسه. الأسد أسد وعليه أن يبقى أسداً كما هو في الطبيعة، أما حين يجري وصف أحدهم بأنه أسد أو كالأسد، أو أقوى منه. ففي ذلك، تعبير عن سلوك متعجرف واستعداد لحيازة ما يخص غيره من ألقاب وحركات. في الوقت الذي يسهل النظر إلى الأسد وحالات من " نبله " و" عفَّته "و" تسامحه " مع حيوانات بالغة الضعف" صغير غزال، ، الرشا ، مثلاً " أو لا يتحرك حين يمر من أمامه، وعلى مقربة منه قطيع غزلان، أو يكتفي بأحدها استجابة لجوعه الطبيعي المعهود، خلافاً لبني البشر الذي يرتكبون أحياناً، وبشكل دوري، مجازر جماعية في بعضهم بعضاً" من ذات القومية والجنس والنوع " فما صلة الأسد بكل ذلك يا ترى ؟
ما يشدد على مدى تقلب الإنسان، ورغبته المستمرة على إخضاع جسمه من الخارج للتغيير" وفي الوجه بالذات " وتنكره للشكل العضوي الذي عرِف به، عدا ما هو نفسي، هو مضيّه وقتاً طويلاً، أو الانشغال كثيراً بما يبعده عن حقيقته في الداخل. إن أقنعته الكثيرة تعبير عن أصناف عدوانيات تتنامى داخله، يصرّفها بطرق مختلفة في القول والفعل، وحمْله لأداة قتل، كالمسدس مثلاً، ليس للدفاع عن نفسه، وإنما لإشهار حبه النرجسي لقتل الغير، ولو كان أقرب أقربائه، وعلى أنه كائن حي بالغ الشراسة والعدوانية والقدرة على تصفية قريبه وخلافه، ورغم ذلك، يتحامق ويتغابى بإسقاط أوصافه المريعة على الحيوان والقدر وغيرهما.
لا يحتاج الحيوان إلى أي قانون، ليعرف كيف يجب عليه التعامل مع بيئته ونظيره والحيوانات الأخرى. قانونه مدمج به. داخله، لا يحفظه عن ظهر" قلب " حيواني، إنما مولود معه، ليس لديه ظاهر وباطن، ليفرَّق بينهما، بينما بنو البشر، فلا أضخم ولا أكثر من تلك القوانين التي وضعها بلغات مختلفة، قوانين ترسم حدود علاقات فيما بينهم، وفي مجالات مختلفة، ليتبين واقعاً، أن الهدف منها ليس وقع النقاط على حروف كل من " الحقوق " و" الواجبات " إنما بلبلتها، ولأن الذين وضعوها هم من يمثّلون المرجع في القوة والغطرسة والاستبداد وممارسة العنف بأشكاله فيما بينهما وضد الآخرين خارج " حدودهم " بصيغ شتى .
" أنا أفكر إذاً أنا موجود " يا للعبارة الطنانة الرنانة التي يلهج بها لسان المنتمي إلى عالم الفلسفة والمنسوبة إلى " ديكارت " تعبيراً عن المقام السامي لبني البشر، وقدرة الإنسان على أنه موجود لأنه يفكر. ولكن نظرة عابرة أو عادية إلى العبارة هذه ومرادفاتها، نظهر أنها لم تكن يوماً شاهدة إثبات على أن قائلها ومن يقولها كان موجوداً دون أن يحيل سواه إلى اللاوجود بعنفه. وحده هذا الكائن الضال في نفسه وعنها ، وحقيقة موقعه في الحياة، من يبحث عن عبارات منمقة من هذا القبيل ليمنح وجوده هوية خاصة تميّزه عن الحيوان. الحيوان ليس بحاجة إلى أن ينتفج بها أو بمثلها. فهو موجود دون أن يفكر، بما أن المفكّر هنا يوجد ليؤذي غيره أولاً.
قدرة الإنسان، هذا الذي ننتمي إلى جنسه ونوعه، على أنانيته، وحبه الفظيع للتملك، تتمثل في أنه من أجل رغبة عادية لديه، أو شهوة معينة، طبيعية في أصلها، كشرب الماء جرّاء دافع العطش، هو أنه قد لا يكتفي بالنهل من نبع جار، آخذاً كفايته، وإنما يعكّره بعد ذلك، أو يعبث بمائه، ليسبب موتاً وخراباً، تعبيراً عن عدوانية الأنا الجلية لديه.. ولا داعي لذكر الأمثلة فهي أكثر من أن تحصى. الحيوان يشرب ويدير " ظهره " للماء، تاركاً المجال لسواه. يا لحكمة الحيوان !
لا علاقة لقساوة " الحجر " بما يجري وصفه في الإنسان جهة " قساوة القلب " هنا. وراء قسوة الحجر يكون العمران، يكون بناء الجسور، يكون رصف الطرق، ومد السكك الحديدية، تكون هناك نقاط استناد، أو الانتقال بين ضفة مائية إلى أخرى، من خلال حجارة مغروسة، أو صخور تسمح بتسهيل عملية الانتقال، أو الاحتماء بها، أو النوم في كهف حجري وهكذا..تجريد الحجر أو الصخر من صفته تلك، وتحويرها السلبي مباشرة، جنوح متوارث آخر من سلسلة جنوحات الإنسان في تاريخه الطويل، في إقصاء أو إبعاد الشبهة عنه، عن كونه قاسي القلب. قساوة تبلغ به درجة من خلالها يحرق مدناً، يدمرها، ويحرق بشراً بالجملة، ويسحق رؤوساً دون أن يرف جفن لهذا أو ذاك..ما أبرأ الحجر فيما يُنسَب إليه مما لا دخل له فيه .
أنا معجب بالقرد كثيراً. فهو أولاً حيوان هادىء، وله عالمه الحيواني الخاص، وطريف وظريف، ويعلّم من يريد التعلم، ونحن معنيون بذلك وليس سوانا، بطبيعة العلاقات بين أفراده كثيراً. كل شيء له حسابه ودلالته قردياً. أن يشبَّه أحدهم بالقرب تسخيفاً له، ضرب آخر من ضروب الإخلال بطبيعة عالم حيواني آخر. حتى في الحالة هذه، إذا جازت ذلك، القرد يبعث على المرح، في النظر إليه، بينما الإنسان في أكثر حالاته إظهاراً لحركات مقصدها الإضحاك، قد يكون وراءها مقصد، خبث، تبعث على السخف والغم.
" قل لي أي صديق لك أقل لك من أنت " وجه آخر من وجوه العلاقات المحصورة في نطاق البشر. يعرَف المرء بقرينه، أو نظيره البشري، وقد لا يكون هذا القياس دقيقاً. فما أكثر الحالات التي ينقلب فيها المعتبَر صديقاً عدواً وقاتلاً خائن جماعته ويغدر بـ صديقه نفسه. باس قياس كهذا ومعبّر عن حالات جنوح إنساني في التشويهات الجاري تقعيدها وشرعنتها في اللغة وناطقيها إنسانياً. هل يمكن أن يقول أحدنا لحيوان ما: قل لي من هو نظيرك" صديقك " أقل لك من أنت "؟ إنه بغنى عن قياس مستهلَك وفاقع ومعمَّم بغية التضليل هنا وهناك، مجتمع الصداقة بألاعيبها محصور في البشر، لحبْك المزيد من الخدَع المتفق عليها.
سلوكيات الحيوان محدودة، معلومة، مذكورة مذ وجِدت، ورائعة بوضوحها، ولكنها لم تُدرَس كما ينبغي لتُعلّم الإنسان ما يجعله أقرب إلى الطبيعة، بينما في لغة الإنسان التي تنوعت بوظائفها ومناهج وضعها وتدريسها، وعلوم الإنسان التطبيقية، حتى الفضائية منها، ففي كل يوم، وخلال المراهَن عليه، يكون هناك إيغال أكثر في العنف الدموي وتنامي أخطار الطبيعة بما فيها وعليها، ليشهد كل ذلك حقاً، على أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يقول فيه علمه ما ليس فيه، ولو حوّل كقضية إلى أي حيوان لجاء في النظر مباشرة" محكوم عليه " وبناء عليه، ما أعرق البشرية في الوجود، وما أكثر الإنسان فيها تعثراً وتخبصاً وارتكاب في الوجود، وبُعداً عن الطبيعة!
ثمة أصوات حيوانية كثيرة، تبّز بإيقاعها أصوات بشر كثيرين اكتسبوا شهرة غريبة من نوعها،كونهم يغّنون، ويشار إليهم بالبنان، حتى بالنسبة إلى " شهيد صوته: الحمار " يكون مغبوناً، دون النظر في الجاري طبيعة وتزييفاً. الحيوان لا يمثّل أبداً. إنه يسمّي طبيعته، كما هو مذ وجد، بينما الإنسان، فما أكثر المواقف التي يزيف فيها ليس صوته فحسب، بل ويتنكر لاسمه ونسبه وأصله وفصله كذلك!
مسكين هذا الكلب الذي يحرس صاحبه نهاراً وبيته ليلاً وقطيع غنمه ليل نهار، ونادراً ما يغفل عن القيام بدوره، ولا أسهل من رؤية صاحبه حين يغضب من أحدهم، أو يريد شتمه وإهانته، بقولة" يا كلب ". يا للجحود الإنساني، أو نكران الجميل وفظاعته !
" حيَّة من تبن " هكذا يقال لمن يقول شيئاً ويخفي شيئاً، أي ينافق أو يكون انتهازياً ويغدر بسواه..لكن الحية لم تكن يوماً تنتظر فرصة الإيقاع بالغير، أو لحظة للانقضاض عليه ولدغه، فليس لديها سلوك متقلب، ليحار الناظر في أمرها، خلاف بني البشر، الذين يغيّرون طباعهم كثيرين، وحسب المواقع والمواقف، حتى بين أفراد العائلة الواحدة، فأي إساءة ملحقة بالحية أكثر من تشبيه كهذا؟
نطرب لصوت البلبل، ونحبسه في قفص معين، نعلقه على شرفة بيتنا، أو في البهو، أو في مكان ما بجوارنا، مستمتعين بسماع تغريده، غير منتبهين أولاً إلى أنه حين يغرّد في قفصه ، فليعبر، كما هو وضعه الطبيعي عن مأساة وجوده محبوساً في قفص، وليس لإمتاع من حجر عليه، وثانياً، ليكون شاهداً طبيعياً على ما هو خرق لنظام الطبيعة من قبلنا، ونحن نتجاهل حالته. هل نظر أحدنا في البلبل في حركته وانسيابية صوته وتناغمه حين يكون طليقاً، وحين يكون محبوساً في قفص ؟
أعتقد أن أكثر الكائنات الحية إساءة إلى الطبيعة ونظام توازنها، وإخلالاً بها، هو الإنسان نفسه، وفكرة أنه " خليفة خالقه على الأرض " تسويغ "لما لا يحصى من إساءاته، لا بل وجرائمه في بني جلدته أنفسهم وفي الكائنات الحية الأخرى وحتى الجماد، ودون استثناء، كما في حروبه المدمرة، ولو أسنِدت، مثلاً، إدارة الطبيعة حتى لهذا المعتبَر ممسوخاً هنا وهناك: خنزيراً أو قرداً، لكانت نوعية المآسي والكوارث التي شهدها التاريخ الشاهد على فظائع البشر فيها، غير قابلة للمقارنة لمحدوديتها وقلتها .
لا أحد منا يريد أن يسمع من يناديه" يا حمار " باعتبار ذلك شتيمة، وربما تسبب مواجهة بينهما. بغضّ النظَر عن روعة الحمار وقدرته على حمْل الأثقال وتحمّل صنوف الضرب والأذى له على أيدي البشر، هناك حالات يفاجىء بها المعتبَر مالكه، بحرده، أو بتوجيه رفسة إليه، أو قلْبه، أو حتى عضه، مستميتاً في الدفاع عن نفسه،بينما هناك حالا كثيرة، كثيرة جداً، يتقبل كثير من البشر إهانات وشتائم وصنوفاً من الأذى ، والإذلال، والاحتقار، وغيرها، دون أن تصدر عن أي منهم " رفسة واحدة " ، " عضة واحدة " رد فعل على الاضطهاد أو العبودية ذات الألوان التي يعيشونها في حياتهم اليومية وعلى أعلى مستوى .
لا كائن حياً يشبه الأسد سواه نفسه. الأسد أسد وعليه أن يبقى أسداً كما هو في الطبيعة، أما حين يجري وصف أحدهم بأنه أسد أو كالأسد، أو أقوى منه. ففي ذلك، تعبير عن سلوك متعجرف واستعداد لحيازة ما يخص غيره من ألقاب وحركات. في الوقت الذي يسهل النظر إلى الأسد وحالات من " نبله " و" عفَّته "و" تسامحه " مع حيوانات بالغة الضعف" صغير غزال، ، الرشا ، مثلاً " أو لا يتحرك حين يمر من أمامه، وعلى مقربة منه قطيع غزلان، أو يكتفي بأحدها استجابة لجوعه الطبيعي المعهود، خلافاً لبني البشر الذي يرتكبون أحياناً، وبشكل دوري، مجازر جماعية في بعضهم بعضاً" من ذات القومية والجنس والنوع " فما صلة الأسد بكل ذلك يا ترى ؟
ما يشدد على مدى تقلب الإنسان، ورغبته المستمرة على إخضاع جسمه من الخارج للتغيير" وفي الوجه بالذات " وتنكره للشكل العضوي الذي عرِف به، عدا ما هو نفسي، هو مضيّه وقتاً طويلاً، أو الانشغال كثيراً بما يبعده عن حقيقته في الداخل. إن أقنعته الكثيرة تعبير عن أصناف عدوانيات تتنامى داخله، يصرّفها بطرق مختلفة في القول والفعل، وحمْله لأداة قتل، كالمسدس مثلاً، ليس للدفاع عن نفسه، وإنما لإشهار حبه النرجسي لقتل الغير، ولو كان أقرب أقربائه، وعلى أنه كائن حي بالغ الشراسة والعدوانية والقدرة على تصفية قريبه وخلافه، ورغم ذلك، يتحامق ويتغابى بإسقاط أوصافه المريعة على الحيوان والقدر وغيرهما.
لا يحتاج الحيوان إلى أي قانون، ليعرف كيف يجب عليه التعامل مع بيئته ونظيره والحيوانات الأخرى. قانونه مدمج به. داخله، لا يحفظه عن ظهر" قلب " حيواني، إنما مولود معه، ليس لديه ظاهر وباطن، ليفرَّق بينهما، بينما بنو البشر، فلا أضخم ولا أكثر من تلك القوانين التي وضعها بلغات مختلفة، قوانين ترسم حدود علاقات فيما بينهم، وفي مجالات مختلفة، ليتبين واقعاً، أن الهدف منها ليس وقع النقاط على حروف كل من " الحقوق " و" الواجبات " إنما بلبلتها، ولأن الذين وضعوها هم من يمثّلون المرجع في القوة والغطرسة والاستبداد وممارسة العنف بأشكاله فيما بينهما وضد الآخرين خارج " حدودهم " بصيغ شتى .
" أنا أفكر إذاً أنا موجود " يا للعبارة الطنانة الرنانة التي يلهج بها لسان المنتمي إلى عالم الفلسفة والمنسوبة إلى " ديكارت " تعبيراً عن المقام السامي لبني البشر، وقدرة الإنسان على أنه موجود لأنه يفكر. ولكن نظرة عابرة أو عادية إلى العبارة هذه ومرادفاتها، نظهر أنها لم تكن يوماً شاهدة إثبات على أن قائلها ومن يقولها كان موجوداً دون أن يحيل سواه إلى اللاوجود بعنفه. وحده هذا الكائن الضال في نفسه وعنها ، وحقيقة موقعه في الحياة، من يبحث عن عبارات منمقة من هذا القبيل ليمنح وجوده هوية خاصة تميّزه عن الحيوان. الحيوان ليس بحاجة إلى أن ينتفج بها أو بمثلها. فهو موجود دون أن يفكر، بما أن المفكّر هنا يوجد ليؤذي غيره أولاً.
قدرة الإنسان، هذا الذي ننتمي إلى جنسه ونوعه، على أنانيته، وحبه الفظيع للتملك، تتمثل في أنه من أجل رغبة عادية لديه، أو شهوة معينة، طبيعية في أصلها، كشرب الماء جرّاء دافع العطش، هو أنه قد لا يكتفي بالنهل من نبع جار، آخذاً كفايته، وإنما يعكّره بعد ذلك، أو يعبث بمائه، ليسبب موتاً وخراباً، تعبيراً عن عدوانية الأنا الجلية لديه.. ولا داعي لذكر الأمثلة فهي أكثر من أن تحصى. الحيوان يشرب ويدير " ظهره " للماء، تاركاً المجال لسواه. يا لحكمة الحيوان !
لا علاقة لقساوة " الحجر " بما يجري وصفه في الإنسان جهة " قساوة القلب " هنا. وراء قسوة الحجر يكون العمران، يكون بناء الجسور، يكون رصف الطرق، ومد السكك الحديدية، تكون هناك نقاط استناد، أو الانتقال بين ضفة مائية إلى أخرى، من خلال حجارة مغروسة، أو صخور تسمح بتسهيل عملية الانتقال، أو الاحتماء بها، أو النوم في كهف حجري وهكذا..تجريد الحجر أو الصخر من صفته تلك، وتحويرها السلبي مباشرة، جنوح متوارث آخر من سلسلة جنوحات الإنسان في تاريخه الطويل، في إقصاء أو إبعاد الشبهة عنه، عن كونه قاسي القلب. قساوة تبلغ به درجة من خلالها يحرق مدناً، يدمرها، ويحرق بشراً بالجملة، ويسحق رؤوساً دون أن يرف جفن لهذا أو ذاك..ما أبرأ الحجر فيما يُنسَب إليه مما لا دخل له فيه .
أنا معجب بالقرد كثيراً. فهو أولاً حيوان هادىء، وله عالمه الحيواني الخاص، وطريف وظريف، ويعلّم من يريد التعلم، ونحن معنيون بذلك وليس سوانا، بطبيعة العلاقات بين أفراده كثيراً. كل شيء له حسابه ودلالته قردياً. أن يشبَّه أحدهم بالقرب تسخيفاً له، ضرب آخر من ضروب الإخلال بطبيعة عالم حيواني آخر. حتى في الحالة هذه، إذا جازت ذلك، القرد يبعث على المرح، في النظر إليه، بينما الإنسان في أكثر حالاته إظهاراً لحركات مقصدها الإضحاك، قد يكون وراءها مقصد، خبث، تبعث على السخف والغم.
" قل لي أي صديق لك أقل لك من أنت " وجه آخر من وجوه العلاقات المحصورة في نطاق البشر. يعرَف المرء بقرينه، أو نظيره البشري، وقد لا يكون هذا القياس دقيقاً. فما أكثر الحالات التي ينقلب فيها المعتبَر صديقاً عدواً وقاتلاً خائن جماعته ويغدر بـ صديقه نفسه. باس قياس كهذا ومعبّر عن حالات جنوح إنساني في التشويهات الجاري تقعيدها وشرعنتها في اللغة وناطقيها إنسانياً. هل يمكن أن يقول أحدنا لحيوان ما: قل لي من هو نظيرك" صديقك " أقل لك من أنت "؟ إنه بغنى عن قياس مستهلَك وفاقع ومعمَّم بغية التضليل هنا وهناك، مجتمع الصداقة بألاعيبها محصور في البشر، لحبْك المزيد من الخدَع المتفق عليها.
سلوكيات الحيوان محدودة، معلومة، مذكورة مذ وجِدت، ورائعة بوضوحها، ولكنها لم تُدرَس كما ينبغي لتُعلّم الإنسان ما يجعله أقرب إلى الطبيعة، بينما في لغة الإنسان التي تنوعت بوظائفها ومناهج وضعها وتدريسها، وعلوم الإنسان التطبيقية، حتى الفضائية منها، ففي كل يوم، وخلال المراهَن عليه، يكون هناك إيغال أكثر في العنف الدموي وتنامي أخطار الطبيعة بما فيها وعليها، ليشهد كل ذلك حقاً، على أن الإنسان هو الكائن الحي الوحيد الذي يقول فيه علمه ما ليس فيه، ولو حوّل كقضية إلى أي حيوان لجاء في النظر مباشرة" محكوم عليه " وبناء عليه، ما أعرق البشرية في الوجود، وما أكثر الإنسان فيها تعثراً وتخبصاً وارتكاب في الوجود، وبُعداً عن الطبيعة!