أمل الكردفاني - مهزلة العدالة الجنائية الدولية. اتهام نتنياهو

هناك فهم مثالي للقانون، وهناك فهم جنيالوجي للقانون، الفهم المثالي للقانون سائد عند العامة، وفي الدراسات الأكاديمية، ويرسخه الإعلام، أما الفهم الجنيالوجي، فهو مُستقى من الواقع الإنساني، من تاريخه وتفاعلاته ومن تطوره سوسيولوجياً، وأنثروبلوجياً وسياسياً وفنياً وروحياً. الفهم الأول المثالي، هو الذي يُطرح فيه القانون كأداة للعدالة (بكل حمولة مفردة العدالة من قيم أخلاقية)، حيث يبدو القانون كعمل أدبي، أما الفهم الجنيالوجي فهو الذي يتم فيه رد القانون إلى أصوله كأحد أسلحة الصراع الإنساني. وهذا الفهم الأخير له دواعمه الفلسفية خاصة الفلسفة النيتشوية، والمادية الإنجليزية، وفلسفة ما بعد الحداثة، وإلى حد ما الفلسفة الوجودية. وهو فهم ينطلق من الصراع الإنساني، حيث كان مبرر نشأة الدولة الأساسي -كما أشار أستاذنا الدكتور يحيى الجمل في مؤلفه القيم القانون الدستوري وكتابه حصاد القرن العشرين- كان هو الشعور بالأمن، الأمن بمعناه الضيق (حماية الجسد والمال والعقل من العنف) والأمن بمعناه الواسع (الاقتصادي والعاطفي والاجتماعي..الخ). لقد نشأت الدولة في البداية كأسرة ثم جماعة فقبيلة فمدن فممالك فامبراطوريات فدول بمعناها الحديث وهكذا حتى ظهر تيار جديد يسعى إلى خلق نظام عالمي جديد تنزاح فيه تلك المفاهيم التقليدية للدولة وتحل محلها الحكومة العالمية. كان الإنسان البدائي يخشى من قوى الطبيعة ومن الحيوانات المفترسة ومن البشر المتنمرين ومن الجوع، لذلك تعاضد مع غيره لتوفير هذا الأمن، ولذلك كانت مهمة الزواج الأولى وتكوين الأسرة هي انتاج الذكور للعمل والدفاع عن مصالح المجموع. لذلك كان الشيوع هو الأساس وكانت الملكية الفردية هي الاستثناء، وعندما يرتكب أحد أفراد القبيلة جريمة ضد قبيلة أخرى فإما أن تحارب كل القبيلة من أجل حماية هذا الفرد أو تتخلى عنه وتلفظه حتى لا تتعرض بأكملها للانتقام. وهذا الصراع انتج اتفاقيات سواء عرفية أو مكتوبة بين المجتمعات القديمة. هذه الاتفاقيات هي بذاتها قانون.
لقد نشأ القانون كأحد نواتج الصراع الإنساني وتخفيف آثاره، ولذلك فإن القانون في الواقع إنما يعبر عن القوة المنتصرة في هذا الصراع، فإذا اننصر البلاشفة في روسيا تم وضع القانون كله في الإتحاد السوفيتي لخدمة نظرياتهم وفلسفتهم. وإذا انتصر الرأسماليون في الحرب الأهلية الأمريكية سنوا قوانينهم لخدمة فلسفتهم وهكذا. أما لو تعادلت القوى المتصارعة فسينشأ لنا قانون متساوٍ عند تعبيره وحمايته للمصالح، وهذا الصراع هو بذاته الذي أفشل العديد من محاولات الاتفاق حول نظام للعدالة الجنائية منذ اتفاقية لاهاي ١٩٠٧م والمحاولات اللاحقة لها حتى نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية ١٩٩٨م، (أنظر:
Cenap ÇAKMAK (2017) A brief history of international criminal law and international criminal court, Palgrave Macmillan, pp. 1- 20).
ومن هنا تحديداً كانت محاكمات طوكيو ونورمبيرغ التي نظمها الحلفاء المنتصرون ضد النازيين المنهزمين هي بداية انتقائية العدالة الجنائية الدولية، حيث غلب الطابع السياسي على الحقوقي، وافتقرت تلك المحاكمات للضمانات التي يجب أن تكون مكفولة للمتهمين. ولو انتصر النازيون لفعلوا نفس الشيء. كانت هناك مشاكل تقنية عديدة في تلك المحاكمات وأهمها مشكلة مبدأ المشروعية The Principle of Legality (أسماه أستاذنا اكتور أحمد فتحي سرور بمبدأ الشرعية وفق معايير معينة فشاع ذلك) وباللغة اللاتينية nullum crimen, nulla poena sine lege (أنظركذلك: مؤلفنا: البسيط في شرح القانون الجنائي- دار المصورات،٢٠١٨) حيث لم تكن هناك قوانين جنائية تتيح ذلك النوع من المحاكمات، ومع ذلك فقد تم تجاوز كل تلك المعرقلات ليتم ختم الحرب العالمية الثانية بختام ظاهره (قضائي) وباطنه انتقامي.
واستمرت العدالة الجنائية الدولية كتعبير عن الصراع الدولي أكثر من كونها تعبيراً عن العدالة المحضة بمفهومها الكانطي، فظلت سلاحاً تستخدمه القوى الأقوى ضد الأنظمة الأضعف، وذات الأنظمة الأضعف كانت تستخدم القوانين للانتقام من خصومها في الداخل. ففي السودان مثلاً ظلت الإبادات الجماعية والتطهير العرقي خصبة جداً في الحروب العرقية التي خيضت ضد الجنوبيين، ثم بتوقيع اتفاق السلام وقبل انفصال الجنوب خيضت حروب تطهيرية أخرى في جبال النوبة والنيل الأزرق وجنوب كردفان ودارفور، وفي عام ٢٠٠٥م استخدمت القوى الليبرتارية المحكمة الجنائية الدولية لتهديد النظام في السودان وفي عام ٢٠٠٦م صدرت لائحة اتهام ضد البشير وقيادات عسكرية ومدنية، غير أن هناك أشياء غريبة حدثت قبل صدور تلك اللائحة، من ضمنها أن الولايات المتحدة الأمريكية (التي لم توقع على نظام روما الأساسي) اجتمعت بالمحكمة الجنائية واتفقت معها على عدم توجيه أي اتهام لمواطن أمريكي. وكانت هذه انتقائية واضحة في العدالة الجنائية، ومن المفترض -كما قال الفيلسوف الفرنسي مونتسيكيو- أن القانون يجب أن يكون كالموت بحيث لا يستثني أحداً. أو كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم قبل مونتسيكيو بألف سنة: (إنما هلك الذين قبلَكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهمُ الشريفُ تركوه، وإذا سرق فيهمُ الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وأيمُ اللهِ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها). ولذلك فإن الاتفاق بين أمريكا والمحكمة الجنائية الدولية كان اتفاقاً هو بذاته منافٍ للعدالة. غير أن أغلب أعضاء نظام البشير كانوا يحملون جنسيات أجنبية؛ كندية وأمريكية وبريطانية..الخ. وكل هؤلاء تم استبعادهم من لائحة الاتهام. كأحد مهازل العدالة الجنائية الدولية. وفي المقابل، وبما أن الاتهامات كانت بسبب اقتراف جرائم حرب وتطهير عرقي في دارفور، فإن المجموعات العرقية التي لا تنتمي لدارفور إما أنها وقفت ضد المحكمة الجنائية أو تجاهلت تكوين رأي معها أو ضدها. لكن الأكثر سخرية من هذا، هو أن نفس هذه المجموعات العرقية التي وقفت ضد المحكمة الجنائية الدولية هي نفسها اليوم التي تطالب المحكمة الجنائية الدولية اليوم بمحاكمة قوات الدعم السريع وقائدها حميدتي. وهذا يوضح لنا أن البشر بشكل عام لا يمتلكون روح العدالة ولا يفهمون القانون إلا عندما تتهدد مصالحهم فقط (باعتباره سلاحاً في الصراع). وفي ذات التواريخ التي تم توجيه اتهام للبشير ونظامه بارتكاب تلك الجرائم في دارفور، كان هناك سعيٌ عربي مقابل لاتهام الحكومة الإسرائيلية باقتراف جرائم حرب ضد الفلسطينيين، واتهام أمريكا بارتكاب جرائم حرب في العراق، غير أن المحكمة الجنائية الدولية رفضت ذلك بحجة أن إسرائيل وأمريكا غير موقعين على نظام روما الأساسي، وهي نفس الحجة التي استخدمها نظام البشير سابقاً والحكومتين الإسرائيلية والأمريكية اليوم لرفض قرار المحكمة الجنائية بتوجيه اتهامات لتنياهو.
ولكن لماذا غيرت المحكمة الجنائية موقفها من إسرائيل؟ الإحابة ببساطة هي أن الصراع الدولي بين المحافظين (الصين، روسيا، ترامب والجمهوريين)، ضد (المنظومة الليبرتارية في أوروبا والشمال الأمريكي) قد أفرز تغيرات كبيرة في مواقف السياسة الدولية تجاه إسرائيل، آخرها الموقف الرسمي للرئيس الفرنسي ضد إسرائيل والذي أعلنه جهاراً نهاراً مما أثار حفيظة إسرائيل. وحيث أن المحكمة الجنائية الدولية كان جنيناً نشأ في أحشاء فرنسية في حقيقته، فقد انقلب موقف المحكمة الجنائية مائة وثمانين درجة، ليستفيد الفلسطينيون من صراع لا ناقة لهم فيه ولا جمل؛ فيحق وعده تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة-251).
نعم.. القانون ليس فوق الجميع كما يشاع عنه، ومع ذلك فكونه نتاجاً للصراع لا يعني خلوه من أي فائدة، بل هناك فوائد كثيرة، حيث أن الناس يلجأون إليه أيّاً كانت حقيقته (كما حدث للفلسطينيين)، بالإضافة أهميته أيضاً باعتباره مقياساً للصواب والخطأ، وهذه إحدى تبريرات المدافعين عن وجود القانون الدولي ككل، ذلك أن هناك من نفى وجود (قانون دولي) وقال بأن الدول العظمى تنتهك هذا القانون، كما أنه لا توجد سلطة عليا تفرضه على الجميع بمساواة، وبالتالي لا يمكن اجبار أمريكا أو إسرائيل على الخضوع له، لكن الاتجاه الآخر كان يعترف بوجود (القانون الدولي) ويرى أنه لولا وجود القانون الدولي لما عرفنا أن أمريكا وإسرائيل قد انتهكتا القانون الدولي.. وكان الإنسان أكثر شيء جدلاً... ولتستمر المهزلة.

....(يتبع بحسب المزاج)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى