بهجت العبيدي - الدكتور أنس البن: قراءة تحليلية لقصة طبقات السعاده لنجيب محفوظ

لقد منحنا المثقف الموسوعي الدكتور أنس البن فرصة نادرة للنظر في قصص مجيب محفوظ القصير، وذلك حينما قام بنشرها على صفحته الثرية والمتنوعة الفكر والثقافة والفلسفة بموقع التواصل الاجتماعي فيسبوك وكان من بينها قصة طبقات السعادة التي يسعدنا أن ننشرها هنا عبر بابنا في أنطولوجيا السرد العربي مع تحليلنا لها مثبتين رد الدكتور أنس البن على هذا التحليل لما فيه تقدير نعتز به ونزهو فإلى نص القصة:

طبقات السعاده
نجيب محفوظ

مثال الرِّقَّة والعذوبة كان زميلي على قِمَطْرٍ واحد على مدى خمس سنواتٍ هي مدة دراستنا الثانوية. أبوه مدرس اللغة العربية، شیخٌ مقتدر قوي الشخصية مُهاب الجانب، يسود فصلَه النِّظامُ والقانون. أمَّا ابنه فهو قدوة في الأدب، والحياء، والسلوك السوي. بعيدٌ كل البُعد عن شقاوة الأقران، مسالم، في حاله، لا يندُّ عنه لفظٌ خشن أو يصدُر عنه سلوكٌ مُنحرف. ذِكْره دائمًا يفوح بأريج الطِّيبة والدماثة، ذلكم هو حلمي أبو هجار.
عند محطة البكالوريا افترقنا. ولمَّا لم يكن من حيِّنا لم أعُد أدري عن مصيره شيئًا. واصلت دراستي الجامعية، وتوظَّفتُ فأُنسيتُه تمامًا، وتمزَّقتْ علائق الزَّمالة القديمة ساحبةً وراءها جميع مُتعلقاتها .
ذات صباح، في زمنٍ لعلَّه الأربعينيات، مررتُ أمام قسم الموسكي في طريقي إلى دار الكتب للقراءة أو الاستعارة، رأيتُ الزميل القديم واقفًا عند مدخل القسم، وسْطَ منظرٍ درامي مؤثِّر؛ ضابط شرطة برتبةٍ لم أعُد أذكرها، يمثُل أمامه مخبرٌ قابضًا على رجلٍ من أهل البلد من أعلى جلبابه، الزميل القديم يتفحَّص ابن البلد بحَنقٍ شديد، صارخًا في وجهه :
-- رجعت إلى عادتك القديمة يا ابن …
وانطلقَت من فِيه مجموعةٌ وافية من أقذَع الشتائم، مُخترقة حرمات الأم والأب والجدود، وهوى على وجهه بضربةٍ هائلة، ثم أردفها بركلةٍ نتَرتْه مترًا، وصاح بالمخبر :
-- ارمِهِ في الحبس حتى أرجع.
ذُهلتُ ذهولًا لا مزيد عليه. استوت الصورة الغليظة الوحشية الماثلة أمامي إلى جانب الصورة الوردية الملفوفة في الحياء والعذوبة التي استدعاها الخيال من ظلمات الماضي؛ ردَّدتُ بصري بين الاثنتَين وأنا لا أصدق. ومنعًا للإحراج أردتُ أن أزوغ قبل أن يراني، لكنه لمحَني وهو يهبط سُلَّم القسم في خُيلاء وثقة، ثبتَت عيناه عليَّ قليلًا وسرعان ما هتف :
-- أنت! .. والله زمان!
تصافحنا في حرارة، ولمَّا عرف مقصدي قال :
-- طريقنا واحد حتى دار الكتب.
سرنا جنبًا إلى جنب كالزَّمان الأول، أخبرتُه بإيجاز عن دراستي ووظيفتي، وإذا به يُقهقِه فجأةً قائلًا :
-- لا شك أنكَ عجبتَ لما رأيتَ مني وسمعتَ ؟.
فقلتُ مُرتبكًا بعض الشيء :
-- الحق أني …
فقاطعَني قائلًا :
-- المهنة تخلُق الإنسانَ خلقًا جديدًا.
فسألتُه :
-- أليس في القانون ما يكفي ؟.
-- القانون! لا تجرَّني إلى عالم النظريات، القانون مَفْسدة لهؤلاء، إني بحُكم عملي لا أتعامل غالبًا إلا مع الأوباش، فلا مفر من استعمال لغتهم وتبَنِّي سلوكهم ؟!
وضحك ساخرًا ثم مضى في حديثه :
-- لو تعاملتُ معهم بما يُرضي القانون، واحترام الحقوق، لاعتبروا الحكومة مهزلةً، وتمادَوا في شَرِّهم إلى غير نهاية.
قلتُ مُتحدِّيًا :
-- لكنَّكم تُعامِلون المُتظاهرين نفس المعاملة وهم صفوة الشباب!
-- لا .. لا .. هذه مسألةٌ أخرى .. لا تَمِل بنا إلى السياسة .. للسياسة كما تعلم قوانينها الخاصة.
ثم مواصلًا بعد فترة صمت :
-- الحياة الحقيقية في الشارع لا في دار الكتب، السجن لا يُعتبَر عقوبةً مناسبة مع هؤلاء، شعبُكَ غير الشعوب الأخرى.
تساءلتُ :
-- أليسوا أناسًا مثل الآخرين ؟!
-- كلا، اعلم أن السجن يُوفِّر لهم مأوًى أفضلَ بكثيرٍ مما يتهيأ لهم في حياتهم العادية، وطعامًا لا يظفَرون بمثله في غالبية أيام السنة، فالسجن لا يُعتبَر عقوبةً رادعة لهم.
وهَزَّ رأسه في ثقةِ المطمئن من منطقه، ثم قال :
-- العقوبة الوحيدة المُجدِية هي ما قبل العقوبة الرسمية، أعني الشتم والضرب والإهانة.
واسترسَل ضاحكًا :
-- لا تنزعِج، لكن عليك أن تُصدِّقني، منهم نفَر إذا ضاق بهم الحال افتعلوا خناقةً كيفما اتفق، لا لشيء إلا ليُقبَض عليهم فيعيشوا في ضيافة الحكومة وعلى حسابها مدة ستة أشهر.
تفكَّرتُ قليلًا ثم قلتُ :
-- كنتُ أتصوَّر أنني مُلِمٌّ بتعاسة شعبنا، لكنني لم أعرف مداها إلا الساعة.
فقال لي مُصدِّقًا على قولي :
-- في ذلك لا خلاف بيننا على الإطلاق.

تمت .....

وجاء تحليلنا لهذا العمل المحفوظي على النحو التالي:

1732398819801.png

نظرة سريعة

عميقة جدا
كحدوتة تبدو مسلية، أما كعمل فني بديع محمّل بدلالات شتى ومكون من طبقات متعددة، فيمكن قراءتها على عدة صُعد.
بدءا كما ذكر بوضوح من دور المهنة في صبغ سلوك صاحبها بسمات معينة، ولعل صديقنا الشاعر المبدع الدكتور فتوح قهوة، ابن مدينة المنزلة، وكان يعمل في الوحدة الصحية بعزبة موسى في بداية تكليفه، وكان ذلك سبب تعارفنا وصداقتنا العميقة الممتدة حتى اللحظة، كان من أوائل من تبنى هذا في "شلتنا".
انتقالا إلى ثنائية التنظير والتجريب، فمن الواضح أن الراوي من أنصار الأولى، هذا الذي يتفق مع اهتماماته، وربما وظيفته، هذا الذي هو ذاته لا يصح ولا يصلح مع الثاني، الذي هو منغمس في الواقع حتى أذنيه.
وصولا إلى وصف مكثف لحال المجتمع المصري الذي تمثل في أن هناك من يرتكب الجريمة عن قصد حتى يجد مكانا يأويه ولقمة تسد رمقه، فضلا عن تلك المفارقة التي كادت تطيح بمنطق الضابط حينما حاصره الراوي في زاوية ضيقة!، نجح في الهروب منها حينما أشار أن للسياسة في بلدنا قوانينها الخاصة، ولكننا ندرك أنه مهما كان الاختلاف فإن هناك نفس التعامل ونفس العقوبة ونفس الإهانة!. ومحفوظ هنا يشير، على ما نزعم، إلى أنه لا فرق بين المجرم وبين "صفوة الشباب" فالعقاب واحد.
يجب ألا نغفل الصورة التي رسمها الراوي للأب مدرس اللغة العربية وانضباط فصله، وبين سلوك الزميل: تلميذا وضابطا، وفي ذلك ما يوحي بسمت شخصيته التي تتأثر بشكل كبير بالمحيط، طبعا هذا ينطبق على الغالبية من البشر، ولكن هناك أيضا المتمردين الذين يقاومون تأثير البيئة، ولكن لأن محفوظ دائما لا يترك شيئا دون تأصيل، فكان وصف الأب وفصله وصفات الابن وهو ما خلق الدهشة في القراءة السريعة، التي ما تلبث أن تزول بعد القراءة المتأنية.
كان ملفتا أن يذكر الضابط أن العقاب الحقيقي هو ما قبل إنفاذ القانون، والتي قالها وهو في ثقة المطمئنين، حال كل أصحاب السلطة والنفوذ. ما يعكس كما ذكرنا آنفا مدى المعاناة التي يعانيها قطاع من الشعب.
ويمكننا أيضا أن نتوقف عند جملة: طريقنا واحد حتى دار الكتب وحتى هنا بمعنى "إلى" حيث سيفترقان مرة أخرى، كل في طريقه!.
شكرا جزيلا لحضرتك يا دكتور… دائما تمنحنا السعادة باختياراتكم البديعة.
وجاء رد الدكتور أنس البن الذي ذكرنا في المقدمة أننا سنثبته هنا حيث يملأنا زهوا على هذا النحو:

بهجت العبيدي ابن بلدى وفخر الجماليه وعائلة البيبه . ردودكم التى تخصنا بها ، أرى أنه يلزم جمعها فى كتاب تحت عنوان هكذا تكلم نجيب محفوظ أو دراسه نقديه فى أدب صاحب نوبل . فهذه المقالات الرائعه وجبة دسمه يلزم قراءتها مرة بعد أخرى لهضم واستيعاب ما فيها من بيان لخفايا النص الروائى . لك منى كل التحية والتقدير يا استاذ بهجت وارجو ان يكون لنا لقاء قريب . تحياتى لكم.
وفي النهاية لعله من المناسب هنا أن نعلن أننا أخذنا بنصيحة قدوتنا الدكتور أنس البن ونقوم على تجهيز هذه التحليلات لنضمنها كتابا سيكون إهداؤه لصاحب الفضل فيه وهو الدكتور أنس البن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى