وكأنني أرى نفسي في حانوت قديم، غرفة طينية، باب عريض من خشب وتوتياء، سرعان ما قلت بأنه هو حانوت الضيعة القديم والذي أغلق منذ زمن.
وأرى طاولة خشبية بائسة يجلس خلفها البائع الغريب عني، يحار رأسه ما بين الصلع والشيب. رائحة تملأ المكان، هي خليط من رائحة العتق ورائحة صابون وقهوة وشاي.
أراني أجلس على كرسي بجانب الطاولة، وكأنما أتيت لشراء علب حليب لأطفال ثلاثة، لا تتعدى أعمارهم الأشهر، لكني لا أتذكر من هم، أو لعلي لا أعرفهم.
أمسك بعلب الحليب علبة علبة، أحار في البحث عن المطلوب، فأحياناً تكون العلبة بلا اسم، أو بلا نشرة معلومات، وأخرى بلا تاريخ إصدار أو انتهاء وثالثة دون أي شيء من هذا أو ذاك. أشعر بالضيق، وبرائحة تشبه الضياع.
ثم، وفجأة، أجدني واقفة أمام رف من علب حليب أخرى، وأضيع مرة أخرى، أنتبه إلى أن رجلاً قد جلس على الكرسي ذاته الذي كنت أجلس عليه، كان شاباً ومبتسماً، أبدى أنه يريد المساعدة، (نسيت أن أذكر أن صاحب الحانوت يظل صامتاً دائماً) ابتسمت له ممتنة وناولته علبة حليب لعله يستطيع قراءة ما عليها، اعتقدت أنه لامس أصابعي خطأً، جل ما كان يشغلني إيجاد الحليب للأطفال الثلاثة.
راح الشاب ينقل بصره بين العلبة وجسدي، بدت نظراته خبيثة وذات رائحة بشعة، حاولت كتم أنفاسي كي لا أشمّها.
نظرت إلى البائع الصامت دائماً، كان هو الآخر يقرأ جسدي. أحسست بحرج الموقف، وسرعان ما تذكرت ما قيل لي ذات يوم، لعلها أمي، أوجدي بأنني أتعامل مع الآخر بعفوية بالغة الخطورة وعليّ الحذر.
قررت أن أنسحب وأنسى علب الحليب، جاءني صوت الشاب المبتسم دائماً "جميل ثوبك، ووجهك، لن تجدي الحليب".
جمدت ملامح وجهي، وحاولت الانسحاب، بغتة، أحير بين عدة شبان آخرين يحيطون بي، تمتد أذرعهم إلى شعري وصدري وحقيبة يدي كانت سحناتهم غريبة كما لغتهم التي لم أفهم منها حرفاً واحداً!
كان بينهم أيضاً، صاحب الحانوت الصامت دائماً، والشاب المبتسم دائماً. وأراني أنتزع نفسي منهم، أي خوف لم يعترني، أي رعب أو كارثة لم تلح في الأفق. وكل ما رددته ذاتي: "شيء مؤسف، مؤسف حقاً". واندلقت ذاكرتي بصبيان بلدتي وشبابها، كانوا شديدي الطيبة والأمانة، تذكرت ملامح عمري معهم، من اللعب في الساحات والأزقة إلى ساحة المدرسة إلى الصفوف المشتركة.
فجأة أحسني أحبهم جميعهم وأمتن لهم كثيراً. جعلني شريط الذاكرة أردّد من جديد وبصمت أيضاً: "مؤسف حقاً، مؤسف" وشعرت أن معالم عفويتي القروية تروح.
وفكرت بالعودة إلى البيت، وقد نسيت البحث عن علب الحليب للأطفال الذين لا أتذكر من هم.
كأنما الحانوت هو في واد بعيد عن بيتنا، وفي مكان أوطأ بكثير من ضيعتنا الجبلية.
وأراني أنسى الحدث تماماً، وأبدأ بالصعود إلى البيت من الجهة الشرقية حيث المقبرة أحسست بحنين إليها، لسنديانها العالي ورياحينها. كان الأمان يلبسني.
اجتزتها ووقفت في طرفها العلوي، كانت الأشجار كأنما مغسولة" بمطر كان قد سبقني بالمرور من هنا.
كان الاخضرار رائعاً ومتفاوتاً ولامعاً يتناسب مع لون الكون من حولي. كل شيء بدا شديد الصفاء. وكانت القبور المبعثرة هناك وهنا ساكنة باطمئنان هائل ومشبعة بطين ومطر. كما لفت انتباهي أن السماء كانت شديدة الزرقة والدفء، ثم أرى أصص نباتات زينة يانعة، كأنما هي للبيع، أبحث عن البائع، لا أحد في المكان، بينما النباتات تزداد نمواً واخضراراً. أتابع سيري. أنتبه لعائلة صغيرة: أمٍ وأب وأطفال يفترشون يباس الأوراق الصفراء. ثم أراهم يلعبون. تلوح لي كرة من قماش ملتف فوق بعضه.
في البداية بدوا غرباء عني. ثم سرعان ما تذكرت أنهم العائلة التي تقطن غرفتين من إسمنت كان أهل القرية قد تبرعوا لها بالنفقات حين انهدت غرفتهم الطينية أثناء نومهم ذات ليل عاصف وشتاء أسود.
ابتسمت لأنهم سعداء. مشهد آخر لفت انتباهي: عدة تلاميذ بلباس المدرسة الموَحّد، يمشون رتلين، وكل يحمل علبة معدنية كأنما هي علب حليب فارغة، مزروع فيها حبق، كانوا صامتين، كأنما آتين لجنازة ما، لكني لم أر أي جنازة أوميت أو أسمع أي خبر مماثل.
تابعت طريقي، وقبل أن أدلف إلى حاكورة بيتنا المسوّرة بجدار من حجارة مرصوفة بعلو متر تقريباً، استوقفني منظر القبور الإسمنتية، وفكرت أن ما يحدث خطرٌ، فإن أضحت القبور كلها إسمنتية فمن أين للتراب اتساع لأجساد الضيعة القادمة منها أو من البعيد؟!
بعد ذلك، أراني أدخل الحاكورة ( هنا أيضاً نسيت كل ما كان ورائي)كانت طريق موحلة بعض الشيء فهي قديمة مرصوصة بقساوة بفعل مرور الأقدام المزمن عليها!
ولأول مرة منذ بدء الحلم أنتبه إلى ملابسي كنت ألبس فستاناً بلون واحد يميل إلى الزرقة تارة ثم إلى الاخضرار تارة أخرى.
كان حذائي الأسود شديد اللمعان، خشيت أن يلطخه الطين، مشيت بحذر شديد خوف الانزلاق أيضاً، لكني كنت أمشي بأمان، وكل حين أنظر إلى حذائي، ظل لمعانه شديداً، وينعكس عليه شعاع الشمس التي لم تظهر في اتساع زرقة السماء.
قادتني الطريق القصيرة في نهايتها إلى شجرة تين، توقفت ورحت أبحث عن الثمار، كانت الشجرة مورفة الاخضرار وكثيفة، لكنها بلا ثمار. فجأة أتذكر أني حلمت ذات يوم أني آكل تيناً، فاستيقظت في اليوم التالي ولم أغادر الفراش خلال يومين. تركت الشجرة وأنا أحمد الله لأني لم أجد ثماراً. بعدها أرى شجرة الزيتون التي، في الواقع، تقبع أسفل الحاكورة، غير أنها الآن في الحلم قد بدّلت مكان إقامتها إلى مكان أعلى، كانت بلا ثمار أيضاً. وفكرت أنه حين تثمر سأجني زيتونها بيدي.
وبغتة، أجدني وسط البيت، كان البيت العتيق، الغرف مجاورة بمداخل منفصلة سوى غرفتين مفتوحتين على بعضهما بباب لم أر درفتيه.
يهلّ إلي طفل صغير، أعرف أنه أخي، الذي في الواقع، هو الأخ الكبير. أحمله بين ذراعي، فيستكين باطمئنان.
على الجدار كان ثوب عرس أبيض طويل معلق على مشجب بائس، قطعة خشبية ومسامير صدئة، لم يشغلني الثوب وكأنما هو مكانه الطبيعي، كأنما أنا في الحلم غير متزوجة أو بدقة لست أدري. فلم يخطر لي زوجي طوال الحلم ولم أر أي أثر له، ولست أدري إن كان علي أن أذكر أنه، في الواقع، ما يربطنا هو صك الزواج فقط، لا أطفال ولا اتفاق. لكن العيب والأعراف تمنعنا من الانفصال، رغم أن كلينا خريج الجامعة. ولن أقول هنا ما تردده النسوة المشابهات لحالي الجملة التي تضحكني: "أنني عجزت عن إصلاحه!"
المهم الآن، الحلم: ولا أزال أقف وسط الغرفة فجأة يعلو صوت أبي، يصرخ لأمي التي لا تريد الذهاب معه لواجب اجتماعي، أعلم أن أمي موجودة في البيت لكنها تغيب طوال الحلم.
أرى أخي البكر واقفاً أمام أبي، بينما لا أزال أحمل بين ذراعي أخي ذاته أسأله عن السبب، فيرد متعجباً ولائماً، وهذه عادته أبداً، "-تعرفين أباك! الآن هو متضايق على جارنا الذي أقالوه من وظيفته، وتعرفين سمعته وعدم نظافة يده، كما أنه أساء لنا حين استطاعته..".
قاطعه أبي مهدداً ونظر إلي: "لا تكونوا ممن يحملون سكاكين ساعة وقوع البقرة. كلنا خطاؤون، وكلنا مليئون بالمعصية.".
أنظر إلى أبي بشعره الأشيب وسنينه التعبة تعرّش على تجاعيد وجهه وتكتب حكمته الدائمة: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر".
أشفق على أبي، وأصمت دون إبداء أي رأي، بل يظل صوتي مختفياً طوال الحلم، كل ما فعلته أني وجهت نظرة عتب إلى أخي الكبير الساخر، بينما أحضن بقوة أخي ذاته الطفل الساكن بين ذراعي.
ثم أجدني في الغرفة المجاورة فور سماعي صرخات حادة وأصوات أشبه بالصفعات.
أجفل إذ أرى إخوتي السبعة الذكور واقفين في صف واحد وواجمين من الصغير حتى الكبير مشكلين سلّماً تصاعدياً مع أنهم في الواقع مختلفو الأطوال والأحجام. وأراني أقرأ مواصفاتهم بسرعة غريبة، ظل شعوري حيادياً نحوهم، كأنما استسلام لأنهم هم هكذا مخلوقون ولا فائدة! لكن أخي الصغير الذي، في الواقع، تحدث شجارات دائمة بسببه بين أمي وأبي. فأبي يتهم أمي بفساد تربيته وأمي لا تتوانى عن إبداء إعجابها به وبشطارته على حد تعبيرها. أخي هذا يلفت نظراتي بشدة فأحيانا كانت ملامحه تتغير وتذكرني بملامح أحد الشبان الغرباء الذين حاصروني في الحانوت!
حتى اللحظة لم أدرك سبب الصراخ الذي اشتد ودنا أكثر، لأرى أبي يجلس على (الصوفا) القديمة أيضاً يصفع أبي الجالس على ركبتيه. بالملامح ذاتها والملابس أيضاً والغضب ذاته، تتالى الصفعات، هذا يصفع ذاك وذاك يرد بالمثل.
لكني أعرف أن أبي الحقيقي هو الجالس على (الصوفا)، بينما الآخر تعرفه عيوننا أنا وإخوتي السبعة وتقول نظراتنا هو: الموت.
وبضراوة كانت الصفعات تحط وتتطاير على الخدود. أحاول الصراخ والتحرك عبثاً، الوجوه السبعة أمامي يرتسم عليها لا حول ولا قوة، وجوم وصمت سريع. أشعر بفظاعة مريرة، أتذكر أمي، لكني أنا أو أي من إخوتي لم ننادها. مرارة راحت تلفّ نظرات إخوتي الحزينة.
أحاول استحضار صوتي، أحسّ أن في حنجرتي صحراء من الرمال والملح. وتتبعثر نظراتي ما بين الوجهين، ما بين الصفعات المنهمرة والصراخ والتحدي. غضب أبي الجالس على (الصوفا) أراه لأول مرة، ربما رأيته ذات يوم قديم وهو يصفع أمي بغضب لكنه لم يبلغ هذه الحدّة. بسرعة، أمحت الصورة من مخيلتي، وأنا لا أزال أحضن أخي الطفل (البكر). فجأة أرى أبي الجالس على ركبتي أبي الحقيقي، يتقزم ويتقزم ثم..
-(نسيت أن أذكر شيئاً قبل البدء بسرد الحلم، ربما كان علي توضيحه وهو أنني لم أبدأ الكلام على عادة رواة الحلم، ليس تضليلاً لأمي التي تمنعنا من قص أحلامنا المزعجة أو (المشربكة)، وليس أيضاً تهرباً من أسلوب جدي الذي يبدأ سرد حلمه بمقدمة طويلة من البسملة حتى الصلاة على آخر سلالات سيد الأنام، وإنما القضية كلها أنني لم أستيقظ بَعْد).
وأرى طاولة خشبية بائسة يجلس خلفها البائع الغريب عني، يحار رأسه ما بين الصلع والشيب. رائحة تملأ المكان، هي خليط من رائحة العتق ورائحة صابون وقهوة وشاي.
أراني أجلس على كرسي بجانب الطاولة، وكأنما أتيت لشراء علب حليب لأطفال ثلاثة، لا تتعدى أعمارهم الأشهر، لكني لا أتذكر من هم، أو لعلي لا أعرفهم.
أمسك بعلب الحليب علبة علبة، أحار في البحث عن المطلوب، فأحياناً تكون العلبة بلا اسم، أو بلا نشرة معلومات، وأخرى بلا تاريخ إصدار أو انتهاء وثالثة دون أي شيء من هذا أو ذاك. أشعر بالضيق، وبرائحة تشبه الضياع.
ثم، وفجأة، أجدني واقفة أمام رف من علب حليب أخرى، وأضيع مرة أخرى، أنتبه إلى أن رجلاً قد جلس على الكرسي ذاته الذي كنت أجلس عليه، كان شاباً ومبتسماً، أبدى أنه يريد المساعدة، (نسيت أن أذكر أن صاحب الحانوت يظل صامتاً دائماً) ابتسمت له ممتنة وناولته علبة حليب لعله يستطيع قراءة ما عليها، اعتقدت أنه لامس أصابعي خطأً، جل ما كان يشغلني إيجاد الحليب للأطفال الثلاثة.
راح الشاب ينقل بصره بين العلبة وجسدي، بدت نظراته خبيثة وذات رائحة بشعة، حاولت كتم أنفاسي كي لا أشمّها.
نظرت إلى البائع الصامت دائماً، كان هو الآخر يقرأ جسدي. أحسست بحرج الموقف، وسرعان ما تذكرت ما قيل لي ذات يوم، لعلها أمي، أوجدي بأنني أتعامل مع الآخر بعفوية بالغة الخطورة وعليّ الحذر.
قررت أن أنسحب وأنسى علب الحليب، جاءني صوت الشاب المبتسم دائماً "جميل ثوبك، ووجهك، لن تجدي الحليب".
جمدت ملامح وجهي، وحاولت الانسحاب، بغتة، أحير بين عدة شبان آخرين يحيطون بي، تمتد أذرعهم إلى شعري وصدري وحقيبة يدي كانت سحناتهم غريبة كما لغتهم التي لم أفهم منها حرفاً واحداً!
كان بينهم أيضاً، صاحب الحانوت الصامت دائماً، والشاب المبتسم دائماً. وأراني أنتزع نفسي منهم، أي خوف لم يعترني، أي رعب أو كارثة لم تلح في الأفق. وكل ما رددته ذاتي: "شيء مؤسف، مؤسف حقاً". واندلقت ذاكرتي بصبيان بلدتي وشبابها، كانوا شديدي الطيبة والأمانة، تذكرت ملامح عمري معهم، من اللعب في الساحات والأزقة إلى ساحة المدرسة إلى الصفوف المشتركة.
فجأة أحسني أحبهم جميعهم وأمتن لهم كثيراً. جعلني شريط الذاكرة أردّد من جديد وبصمت أيضاً: "مؤسف حقاً، مؤسف" وشعرت أن معالم عفويتي القروية تروح.
وفكرت بالعودة إلى البيت، وقد نسيت البحث عن علب الحليب للأطفال الذين لا أتذكر من هم.
كأنما الحانوت هو في واد بعيد عن بيتنا، وفي مكان أوطأ بكثير من ضيعتنا الجبلية.
وأراني أنسى الحدث تماماً، وأبدأ بالصعود إلى البيت من الجهة الشرقية حيث المقبرة أحسست بحنين إليها، لسنديانها العالي ورياحينها. كان الأمان يلبسني.
اجتزتها ووقفت في طرفها العلوي، كانت الأشجار كأنما مغسولة" بمطر كان قد سبقني بالمرور من هنا.
كان الاخضرار رائعاً ومتفاوتاً ولامعاً يتناسب مع لون الكون من حولي. كل شيء بدا شديد الصفاء. وكانت القبور المبعثرة هناك وهنا ساكنة باطمئنان هائل ومشبعة بطين ومطر. كما لفت انتباهي أن السماء كانت شديدة الزرقة والدفء، ثم أرى أصص نباتات زينة يانعة، كأنما هي للبيع، أبحث عن البائع، لا أحد في المكان، بينما النباتات تزداد نمواً واخضراراً. أتابع سيري. أنتبه لعائلة صغيرة: أمٍ وأب وأطفال يفترشون يباس الأوراق الصفراء. ثم أراهم يلعبون. تلوح لي كرة من قماش ملتف فوق بعضه.
في البداية بدوا غرباء عني. ثم سرعان ما تذكرت أنهم العائلة التي تقطن غرفتين من إسمنت كان أهل القرية قد تبرعوا لها بالنفقات حين انهدت غرفتهم الطينية أثناء نومهم ذات ليل عاصف وشتاء أسود.
ابتسمت لأنهم سعداء. مشهد آخر لفت انتباهي: عدة تلاميذ بلباس المدرسة الموَحّد، يمشون رتلين، وكل يحمل علبة معدنية كأنما هي علب حليب فارغة، مزروع فيها حبق، كانوا صامتين، كأنما آتين لجنازة ما، لكني لم أر أي جنازة أوميت أو أسمع أي خبر مماثل.
تابعت طريقي، وقبل أن أدلف إلى حاكورة بيتنا المسوّرة بجدار من حجارة مرصوفة بعلو متر تقريباً، استوقفني منظر القبور الإسمنتية، وفكرت أن ما يحدث خطرٌ، فإن أضحت القبور كلها إسمنتية فمن أين للتراب اتساع لأجساد الضيعة القادمة منها أو من البعيد؟!
بعد ذلك، أراني أدخل الحاكورة ( هنا أيضاً نسيت كل ما كان ورائي)كانت طريق موحلة بعض الشيء فهي قديمة مرصوصة بقساوة بفعل مرور الأقدام المزمن عليها!
ولأول مرة منذ بدء الحلم أنتبه إلى ملابسي كنت ألبس فستاناً بلون واحد يميل إلى الزرقة تارة ثم إلى الاخضرار تارة أخرى.
كان حذائي الأسود شديد اللمعان، خشيت أن يلطخه الطين، مشيت بحذر شديد خوف الانزلاق أيضاً، لكني كنت أمشي بأمان، وكل حين أنظر إلى حذائي، ظل لمعانه شديداً، وينعكس عليه شعاع الشمس التي لم تظهر في اتساع زرقة السماء.
قادتني الطريق القصيرة في نهايتها إلى شجرة تين، توقفت ورحت أبحث عن الثمار، كانت الشجرة مورفة الاخضرار وكثيفة، لكنها بلا ثمار. فجأة أتذكر أني حلمت ذات يوم أني آكل تيناً، فاستيقظت في اليوم التالي ولم أغادر الفراش خلال يومين. تركت الشجرة وأنا أحمد الله لأني لم أجد ثماراً. بعدها أرى شجرة الزيتون التي، في الواقع، تقبع أسفل الحاكورة، غير أنها الآن في الحلم قد بدّلت مكان إقامتها إلى مكان أعلى، كانت بلا ثمار أيضاً. وفكرت أنه حين تثمر سأجني زيتونها بيدي.
وبغتة، أجدني وسط البيت، كان البيت العتيق، الغرف مجاورة بمداخل منفصلة سوى غرفتين مفتوحتين على بعضهما بباب لم أر درفتيه.
يهلّ إلي طفل صغير، أعرف أنه أخي، الذي في الواقع، هو الأخ الكبير. أحمله بين ذراعي، فيستكين باطمئنان.
على الجدار كان ثوب عرس أبيض طويل معلق على مشجب بائس، قطعة خشبية ومسامير صدئة، لم يشغلني الثوب وكأنما هو مكانه الطبيعي، كأنما أنا في الحلم غير متزوجة أو بدقة لست أدري. فلم يخطر لي زوجي طوال الحلم ولم أر أي أثر له، ولست أدري إن كان علي أن أذكر أنه، في الواقع، ما يربطنا هو صك الزواج فقط، لا أطفال ولا اتفاق. لكن العيب والأعراف تمنعنا من الانفصال، رغم أن كلينا خريج الجامعة. ولن أقول هنا ما تردده النسوة المشابهات لحالي الجملة التي تضحكني: "أنني عجزت عن إصلاحه!"
المهم الآن، الحلم: ولا أزال أقف وسط الغرفة فجأة يعلو صوت أبي، يصرخ لأمي التي لا تريد الذهاب معه لواجب اجتماعي، أعلم أن أمي موجودة في البيت لكنها تغيب طوال الحلم.
أرى أخي البكر واقفاً أمام أبي، بينما لا أزال أحمل بين ذراعي أخي ذاته أسأله عن السبب، فيرد متعجباً ولائماً، وهذه عادته أبداً، "-تعرفين أباك! الآن هو متضايق على جارنا الذي أقالوه من وظيفته، وتعرفين سمعته وعدم نظافة يده، كما أنه أساء لنا حين استطاعته..".
قاطعه أبي مهدداً ونظر إلي: "لا تكونوا ممن يحملون سكاكين ساعة وقوع البقرة. كلنا خطاؤون، وكلنا مليئون بالمعصية.".
أنظر إلى أبي بشعره الأشيب وسنينه التعبة تعرّش على تجاعيد وجهه وتكتب حكمته الدائمة: من ضربك على خدك الأيمن فأدر له خدك الأيسر".
أشفق على أبي، وأصمت دون إبداء أي رأي، بل يظل صوتي مختفياً طوال الحلم، كل ما فعلته أني وجهت نظرة عتب إلى أخي الكبير الساخر، بينما أحضن بقوة أخي ذاته الطفل الساكن بين ذراعي.
ثم أجدني في الغرفة المجاورة فور سماعي صرخات حادة وأصوات أشبه بالصفعات.
أجفل إذ أرى إخوتي السبعة الذكور واقفين في صف واحد وواجمين من الصغير حتى الكبير مشكلين سلّماً تصاعدياً مع أنهم في الواقع مختلفو الأطوال والأحجام. وأراني أقرأ مواصفاتهم بسرعة غريبة، ظل شعوري حيادياً نحوهم، كأنما استسلام لأنهم هم هكذا مخلوقون ولا فائدة! لكن أخي الصغير الذي، في الواقع، تحدث شجارات دائمة بسببه بين أمي وأبي. فأبي يتهم أمي بفساد تربيته وأمي لا تتوانى عن إبداء إعجابها به وبشطارته على حد تعبيرها. أخي هذا يلفت نظراتي بشدة فأحيانا كانت ملامحه تتغير وتذكرني بملامح أحد الشبان الغرباء الذين حاصروني في الحانوت!
حتى اللحظة لم أدرك سبب الصراخ الذي اشتد ودنا أكثر، لأرى أبي يجلس على (الصوفا) القديمة أيضاً يصفع أبي الجالس على ركبتيه. بالملامح ذاتها والملابس أيضاً والغضب ذاته، تتالى الصفعات، هذا يصفع ذاك وذاك يرد بالمثل.
لكني أعرف أن أبي الحقيقي هو الجالس على (الصوفا)، بينما الآخر تعرفه عيوننا أنا وإخوتي السبعة وتقول نظراتنا هو: الموت.
وبضراوة كانت الصفعات تحط وتتطاير على الخدود. أحاول الصراخ والتحرك عبثاً، الوجوه السبعة أمامي يرتسم عليها لا حول ولا قوة، وجوم وصمت سريع. أشعر بفظاعة مريرة، أتذكر أمي، لكني أنا أو أي من إخوتي لم ننادها. مرارة راحت تلفّ نظرات إخوتي الحزينة.
أحاول استحضار صوتي، أحسّ أن في حنجرتي صحراء من الرمال والملح. وتتبعثر نظراتي ما بين الوجهين، ما بين الصفعات المنهمرة والصراخ والتحدي. غضب أبي الجالس على (الصوفا) أراه لأول مرة، ربما رأيته ذات يوم قديم وهو يصفع أمي بغضب لكنه لم يبلغ هذه الحدّة. بسرعة، أمحت الصورة من مخيلتي، وأنا لا أزال أحضن أخي الطفل (البكر). فجأة أرى أبي الجالس على ركبتي أبي الحقيقي، يتقزم ويتقزم ثم..
-(نسيت أن أذكر شيئاً قبل البدء بسرد الحلم، ربما كان علي توضيحه وهو أنني لم أبدأ الكلام على عادة رواة الحلم، ليس تضليلاً لأمي التي تمنعنا من قص أحلامنا المزعجة أو (المشربكة)، وليس أيضاً تهرباً من أسلوب جدي الذي يبدأ سرد حلمه بمقدمة طويلة من البسملة حتى الصلاة على آخر سلالات سيد الأنام، وإنما القضية كلها أنني لم أستيقظ بَعْد).