لم يكن مظهره المريب السبب الوحيد لعدم ارتياحي له بدايةً، والنفور والضيق من رؤيته لاحقاً؛ ففي كل مرة التقيته فيها كان ثمَّة هالة من الطاقة السلبية تحيط به، تجرّدني من القدرة على الابتسام أو التفكير، وتكبِّل قدرتي على الإتيان بأي ردِّ فعل يخفّف من شعوري بالاختناق من نظراته أو حتى وجوده.
لا.. لست من أولئك الذين يتطَّيرون من مرأى أشياء أو أشخاص، فيبنون أفكارا تشاؤمية وتوقّعات سلبيَّة لمجرّد رؤيتها أو الالتقاء بها، لكن في كل مرة رأيت فيها هذا الغريب ندَّت عن وجهه الشاحب تعبيراتٌ شامتة حملت موقفا عدائيا ليس يخفى؛ ابتسامة صفراء، تعليق تهكمي، تلويحةُ يدٍّ ساخرة، ليمنحك رأسه الحليق، الشبيه بتمثال منحوت من الرخام، شعورا أن صاحبه يكرهك، يترصدك، أو يرتقب لك زلة.
متى التقيته للمرة الأولى.. لا أذكر. الأرجح يوم حفل تخرج بسَّام ابن عمي، بدا وجهه مألوفا، مع ذلك لم يوحِ بالطمأنينة أو الاستئناس؛ وجهٌ أبيض نحيل ذو قسماتٍ حادَّة تكاد تخلو من التعابير، بشرة شاحبة وكأن العروق تحتها يجري فيها الماء بدل الدم، ومع رأسه الحليق بدا كقمة تمثال منحوت من الرخام، فوجئت به يصوِّب نظراته إلي وهو يقول:
"لكل مجتهدٍ نصيب". التفتُّ لحظتها لأتأكد إن كان كلامه موجَّها لشخص غيري، يجلس قربي ربما. لم يكن في تلك الجهة غيري؛ أقرب واقف كان أبو النور ابن عَّمتي في الجهة المقابلة، ومن المحال أن يكون هو المقصود فتنحرف النظرة عنه، لتستقر في وجهي أنا.
تساءلت ليلتها وأنا أتقلب على فراش الهواجس والأرق ما الذي قصده ذلك السافل، هل عنى أنني فاشل لم أفلح بالتعليم مثل بسَّام. ثم من أين يعرفني؟ أمن أيام المدرسة؟
المرة الثانية التي التقيته فيها يوم تركتني سلوى. كان يوما مكفهرا كأن شمسه خسفت وتلاشى الضياء من نهاره، كل ما بنيته وخططت له انهارَ في لحظة. كنتُ أحوج ما أكون ليدٍّ تربِّت على كتفي، تخبرني أن الأمور ستنتهي إلى خير، إن لم يكن مع سلوى فمع أخرى تدرك أصالة معدني وتقدر سخاء محبتي وجميل خصالي. حانت مني التفاتة، وأنا في قعر خيبتي وحضيض انكساري، لتقع عيناي على وجهٍ زادته تلك الضحكة المكتومة بغضا إلى نفسي، وأكَّدت لي النظرة الشامتة ما لمسته من لؤم صاحبها يوم تخرُّج بسام؛ لقاءنا الأول.
ما الذي يريده؟ أيكون أحد الذين تنمَّرت عليهم حين كنت مراهقا، يتتبع خطاي منتظرا فرصة لإظهار الشماتة أو الانتقام؟
في مرة ثالثة فوجئت به واقفا على باب غرفة المدير حين خرجت من غرفته مغاضبا إذ طلب مني تقديم استقالتي. الضحكة المكتومة ذاتها والتعابير الشامتة نفسها؛ كأنَّ ابن اللئيمة قد عرف ما جرى في الداخل، في تلك المرة أضاف:
"البرسيم لايطرح عنبا"
ماالذي قصده هذا السافل؟ وما علاقته بي؟
أيكون ذلك الطالب الأحمق الذي فضحته غيداء، حبيبتي في المدرسة الثانوية، حين قرأتْ على الملأ رسالة الغزل التي أرسلَها لها، فلم يحتمل يومها نظرات الشفقة والسخرية في أعين زملائه، وغاب عن المدرسة أسبوعا؟ أم أنَّه لاعب الوسط في فريق كرة القدم الذي استبعده المدرب بعد أن يئس من إجادته اللعب في أي مركز في الملعب، واختارني قلبا للهجوم تزلُّفا لأبي؟ كيف سأعرف؟ وهل من السهولة بمكان تذكُّر وجهٍ، لم يعنِ لك الكثير يوما، بعد مضيّ أكثر من أربعة عقود على آخر مرة رأيته فيها؟
الجبان! لماذا لا يواجهني؟ استوقفتني فكرة الجبن، بهت ألم أكن جبانا بدوري إذ لم أواجهه؟ لماذا لم أسأله ماذا تعني بعباراتك تلك؟ لماذا لم أوقفه عند حده؟ لماذا لم أطلب منه التعريف عن نفسه وعن طريقة معرفته بي؟
طرقَ تفكيري خاطرٌ مرعب، ماذا لو كان ينوي قتلي؟
إن كان ينوي قتلي فما حاجته لممارسة هذه الألاعيب؟ من يريد التخلص من خصم له يشتري أداة للقتل، يخطّط لتنفيذ جريمته خِفيةً كي يباغت الضحية.
لعلَّه مريض نفسي؛ ساديٌّ مثلا، يستمتع بتعذيب ضحاياه قبل قتلهم، لقد شاهدت ذلك في أكثر من فيلم أجنبي؛ فهل أتركه يتمادى بتعذيبي؟
"قل لي يا أدهم متى بدأت ترى ذلك؟"
- أنا لست مجنونا يا دكتور؛ وإن كانت زوجتي قد أوحت لك بذلك فالأفضل أن تعالجها هي،
- طبعا لستَ مجنونا، أنا فقط أريد أن أتعرَّف على عدوِّك هذا. هل يمكنني أن أتواصل معه؟
- لا أعرف مكانا ثابتا له، هو يظهر في أوقات غير محدَّدة وفي أماكن مختلفة.
- صِفْه لي إذن.
- رجلٌ ككلِّ الرجال، لا صفة تميِّزه سوى وجه جامد التعابير ورأس حليق كأنه رأس تمثال من الرخام.
تأمَّلني الطبيب لوهلة، ثم فتح درج مكتبه، أخرج مسدسا، ناولني إياه بثقة وهدوء وهو يقول:
- اقتله.
أقتله؟ هل يختبرني الآن هذا الطبيب الأحمق؟ هل يريد أن يثبت عليَّ حالة من الجنون تخوّلهم احتجازي في عنابر المجانين؟
"أقتله! هكذا ببساطة؟ لا يا دكتور، لست قاتلا. ثم إنني لا أعرف مكانا ثابتا له، فكما قلت لك هو يظهر فجأة، وفي أماكن مختلفة".
"تنتظر إلى أن يظهر".
"لا أظنني قادرا على القتل".
"على الأقل احمِ نفسَك منه، ألم تقل أنه ربما يريد قتلك؟"
"وماذا لو قُبِض عليّ؟"
"لا تخف، ستكون في حالة دفاع عن النفس".
نهضت لأنصرف مبدياً الاستياء من فكرة القتل، نافياً عن نفسي تهمة النزوع للعنف التي حاول الطبيب المتذاكي إلصاقها بي.
لم يعقِّب، واكتفى بدسِّ المسدس في جيب معطفي وهو يرافقني إلى الباب مودِّعا.
شعرت بالرضا لحسن تصرفي، لم يكن من الحكمة أن أخبر الطبيب أن صورة الدماء وهي تسيل من الرأس الحليق، المجذوذ من تمثال من الرخام، قد راقت لي.
تخيَّلت في طريقي إلى البيت أكثر من مشهد للقائي القادم به. سيكون لقاء حاسما. هذه المرَّة أنا من سيستفزه، سأكون مستعدا لوضع النقاط على الحروف، ولا بأس إن تمكَّنت من معرفة سبب مطاردته لي قبل أن أنهيه.
أدرت مفتاح شقتي ودلفت. الشعور بالرضى والثقة يملؤني، وأمنية وحيدة جالت في خاطري؛ ألا يتأخر ظهوره. لكن اللقاء المرتجى جاء أسرع مما تمنَّيت وتخيَّلت؛ فقد كان جالسا على أريكتي، وقد وضع ساقا فوق ساق بوقاحةٍ وتحدٍّ سافرَين، وكأنه عرف ما عقدت العزم عليه وينتظره دون اكتراث. أخرجت المسدس وصوَّبته نحوه:
"كيف دخلت إلى هنا؟ ومن أنت؟"
أجاب بابتسامته المنفِّرة:
"الآن لم تعد تعرفني؟!"
"من أنت أيها الحشرة لأعرفك؟ ولماذا تلاحقني؟"
"أنتَ مَنْ يلاحقني"
إجاباته المستفزَّة فَصَمَتْ آخر عرى قميص الخوف الذي يتلبَّسني من الضغط على الزناد.
أفرغتُ طلقات المسدَّس في رأسه وجسده، فأحدثت ستَّة ثقوب فغرت فاهها دون أن تنزَّ قطرة من دماء، ارتياح غامر خامرني إذ أسدلتُ بقتله الستار على فصل أرعن من مسرحية سمجة، ليرحل تاركا على المرآة انعكاسا لرجل غريب بوجه أبيض نحيل، ورأس حليق كتمثال من رخام.
لميس الزين
-------------------------
لا.. لست من أولئك الذين يتطَّيرون من مرأى أشياء أو أشخاص، فيبنون أفكارا تشاؤمية وتوقّعات سلبيَّة لمجرّد رؤيتها أو الالتقاء بها، لكن في كل مرة رأيت فيها هذا الغريب ندَّت عن وجهه الشاحب تعبيراتٌ شامتة حملت موقفا عدائيا ليس يخفى؛ ابتسامة صفراء، تعليق تهكمي، تلويحةُ يدٍّ ساخرة، ليمنحك رأسه الحليق، الشبيه بتمثال منحوت من الرخام، شعورا أن صاحبه يكرهك، يترصدك، أو يرتقب لك زلة.
متى التقيته للمرة الأولى.. لا أذكر. الأرجح يوم حفل تخرج بسَّام ابن عمي، بدا وجهه مألوفا، مع ذلك لم يوحِ بالطمأنينة أو الاستئناس؛ وجهٌ أبيض نحيل ذو قسماتٍ حادَّة تكاد تخلو من التعابير، بشرة شاحبة وكأن العروق تحتها يجري فيها الماء بدل الدم، ومع رأسه الحليق بدا كقمة تمثال منحوت من الرخام، فوجئت به يصوِّب نظراته إلي وهو يقول:
"لكل مجتهدٍ نصيب". التفتُّ لحظتها لأتأكد إن كان كلامه موجَّها لشخص غيري، يجلس قربي ربما. لم يكن في تلك الجهة غيري؛ أقرب واقف كان أبو النور ابن عَّمتي في الجهة المقابلة، ومن المحال أن يكون هو المقصود فتنحرف النظرة عنه، لتستقر في وجهي أنا.
تساءلت ليلتها وأنا أتقلب على فراش الهواجس والأرق ما الذي قصده ذلك السافل، هل عنى أنني فاشل لم أفلح بالتعليم مثل بسَّام. ثم من أين يعرفني؟ أمن أيام المدرسة؟
المرة الثانية التي التقيته فيها يوم تركتني سلوى. كان يوما مكفهرا كأن شمسه خسفت وتلاشى الضياء من نهاره، كل ما بنيته وخططت له انهارَ في لحظة. كنتُ أحوج ما أكون ليدٍّ تربِّت على كتفي، تخبرني أن الأمور ستنتهي إلى خير، إن لم يكن مع سلوى فمع أخرى تدرك أصالة معدني وتقدر سخاء محبتي وجميل خصالي. حانت مني التفاتة، وأنا في قعر خيبتي وحضيض انكساري، لتقع عيناي على وجهٍ زادته تلك الضحكة المكتومة بغضا إلى نفسي، وأكَّدت لي النظرة الشامتة ما لمسته من لؤم صاحبها يوم تخرُّج بسام؛ لقاءنا الأول.
ما الذي يريده؟ أيكون أحد الذين تنمَّرت عليهم حين كنت مراهقا، يتتبع خطاي منتظرا فرصة لإظهار الشماتة أو الانتقام؟
في مرة ثالثة فوجئت به واقفا على باب غرفة المدير حين خرجت من غرفته مغاضبا إذ طلب مني تقديم استقالتي. الضحكة المكتومة ذاتها والتعابير الشامتة نفسها؛ كأنَّ ابن اللئيمة قد عرف ما جرى في الداخل، في تلك المرة أضاف:
"البرسيم لايطرح عنبا"
ماالذي قصده هذا السافل؟ وما علاقته بي؟
أيكون ذلك الطالب الأحمق الذي فضحته غيداء، حبيبتي في المدرسة الثانوية، حين قرأتْ على الملأ رسالة الغزل التي أرسلَها لها، فلم يحتمل يومها نظرات الشفقة والسخرية في أعين زملائه، وغاب عن المدرسة أسبوعا؟ أم أنَّه لاعب الوسط في فريق كرة القدم الذي استبعده المدرب بعد أن يئس من إجادته اللعب في أي مركز في الملعب، واختارني قلبا للهجوم تزلُّفا لأبي؟ كيف سأعرف؟ وهل من السهولة بمكان تذكُّر وجهٍ، لم يعنِ لك الكثير يوما، بعد مضيّ أكثر من أربعة عقود على آخر مرة رأيته فيها؟
الجبان! لماذا لا يواجهني؟ استوقفتني فكرة الجبن، بهت ألم أكن جبانا بدوري إذ لم أواجهه؟ لماذا لم أسأله ماذا تعني بعباراتك تلك؟ لماذا لم أوقفه عند حده؟ لماذا لم أطلب منه التعريف عن نفسه وعن طريقة معرفته بي؟
طرقَ تفكيري خاطرٌ مرعب، ماذا لو كان ينوي قتلي؟
إن كان ينوي قتلي فما حاجته لممارسة هذه الألاعيب؟ من يريد التخلص من خصم له يشتري أداة للقتل، يخطّط لتنفيذ جريمته خِفيةً كي يباغت الضحية.
لعلَّه مريض نفسي؛ ساديٌّ مثلا، يستمتع بتعذيب ضحاياه قبل قتلهم، لقد شاهدت ذلك في أكثر من فيلم أجنبي؛ فهل أتركه يتمادى بتعذيبي؟
"قل لي يا أدهم متى بدأت ترى ذلك؟"
- أنا لست مجنونا يا دكتور؛ وإن كانت زوجتي قد أوحت لك بذلك فالأفضل أن تعالجها هي،
- طبعا لستَ مجنونا، أنا فقط أريد أن أتعرَّف على عدوِّك هذا. هل يمكنني أن أتواصل معه؟
- لا أعرف مكانا ثابتا له، هو يظهر في أوقات غير محدَّدة وفي أماكن مختلفة.
- صِفْه لي إذن.
- رجلٌ ككلِّ الرجال، لا صفة تميِّزه سوى وجه جامد التعابير ورأس حليق كأنه رأس تمثال من الرخام.
تأمَّلني الطبيب لوهلة، ثم فتح درج مكتبه، أخرج مسدسا، ناولني إياه بثقة وهدوء وهو يقول:
- اقتله.
أقتله؟ هل يختبرني الآن هذا الطبيب الأحمق؟ هل يريد أن يثبت عليَّ حالة من الجنون تخوّلهم احتجازي في عنابر المجانين؟
"أقتله! هكذا ببساطة؟ لا يا دكتور، لست قاتلا. ثم إنني لا أعرف مكانا ثابتا له، فكما قلت لك هو يظهر فجأة، وفي أماكن مختلفة".
"تنتظر إلى أن يظهر".
"لا أظنني قادرا على القتل".
"على الأقل احمِ نفسَك منه، ألم تقل أنه ربما يريد قتلك؟"
"وماذا لو قُبِض عليّ؟"
"لا تخف، ستكون في حالة دفاع عن النفس".
نهضت لأنصرف مبدياً الاستياء من فكرة القتل، نافياً عن نفسي تهمة النزوع للعنف التي حاول الطبيب المتذاكي إلصاقها بي.
لم يعقِّب، واكتفى بدسِّ المسدس في جيب معطفي وهو يرافقني إلى الباب مودِّعا.
شعرت بالرضا لحسن تصرفي، لم يكن من الحكمة أن أخبر الطبيب أن صورة الدماء وهي تسيل من الرأس الحليق، المجذوذ من تمثال من الرخام، قد راقت لي.
تخيَّلت في طريقي إلى البيت أكثر من مشهد للقائي القادم به. سيكون لقاء حاسما. هذه المرَّة أنا من سيستفزه، سأكون مستعدا لوضع النقاط على الحروف، ولا بأس إن تمكَّنت من معرفة سبب مطاردته لي قبل أن أنهيه.
أدرت مفتاح شقتي ودلفت. الشعور بالرضى والثقة يملؤني، وأمنية وحيدة جالت في خاطري؛ ألا يتأخر ظهوره. لكن اللقاء المرتجى جاء أسرع مما تمنَّيت وتخيَّلت؛ فقد كان جالسا على أريكتي، وقد وضع ساقا فوق ساق بوقاحةٍ وتحدٍّ سافرَين، وكأنه عرف ما عقدت العزم عليه وينتظره دون اكتراث. أخرجت المسدس وصوَّبته نحوه:
"كيف دخلت إلى هنا؟ ومن أنت؟"
أجاب بابتسامته المنفِّرة:
"الآن لم تعد تعرفني؟!"
"من أنت أيها الحشرة لأعرفك؟ ولماذا تلاحقني؟"
"أنتَ مَنْ يلاحقني"
إجاباته المستفزَّة فَصَمَتْ آخر عرى قميص الخوف الذي يتلبَّسني من الضغط على الزناد.
أفرغتُ طلقات المسدَّس في رأسه وجسده، فأحدثت ستَّة ثقوب فغرت فاهها دون أن تنزَّ قطرة من دماء، ارتياح غامر خامرني إذ أسدلتُ بقتله الستار على فصل أرعن من مسرحية سمجة، ليرحل تاركا على المرآة انعكاسا لرجل غريب بوجه أبيض نحيل، ورأس حليق كتمثال من رخام.
لميس الزين
-------------------------
Log into Facebook
Log into Facebook to start sharing and connecting with your friends, family, and people you know.
www.facebook.com