بهجت العبيدي - في العالم المتقدم: الحسد خرافة تم تفكيك أسطورتها

الحسد، ذلك الشعور الإنساني الذي وُلد مع الإنسان منذ الأزل، لم يكن يومًا مجرد انفعال عابر، بل بات في بعض المجتمعات عقيدة خرافية تفسر بها الصدف والأحداث غير المرغوبة. بين المجتمعات التي ارتقت بعقلانيتها واحتكمت إلى العلم، وتلك التي ظلت رهينة الجهل والتفسيرات الغيبية، يقف الحسد كتجسيد لصراع أعمق: صراع بين الحداثة والجمود.
الحسد: من غريزة إنسانية إلى أسطورة متجذرة
في البدء كان الحسد تعبيرًا فطريًا عن تنافس البشر في صراع البقاء، لكنه في عصور لاحقة ارتدى عباءة الأساطير، خاصة في المجتمعات التي أبقت على علاقتها الوثيقة بالخرافة. في تلك المجتمعات، لم يُعتبر الحسد شعورًا بشريًا ينشأ عن الغيرة أو الإحباط، بل قوة خارقة يُعزى إليها الفشل والمصائب.
أما المجتمعات المتقدمة، فقد أعادت فهم الحسد في سياق نفسي وتحليلي، بعيدًا عن الغيبيات. لم يعد الحسد في نظرها لعنة تُسلَّط على الآخرين، بل حالة نابعة من نقص داخلي يعاني منه الحاسد ذاته. وهكذا، جرى تفكيك الأسطورة، ليظهر الحسد في صورته الإنسانية الحقيقية: إحساس عابر لا سلطان له سوى على صاحبه.
العقلانية والعلم: سلاح المجتمعات المتقدمة
المجتمعات التي تبنّت العلم منهجًا ونبراسًا، كأوروبا الغربية والولايات المتحدة، استطاعت تفكيك الخرافات التي حكمت عقول الناس لقرون. فالحسد، الذي كان يُعتبر قوى غيبية تُدمّر المحسود، صار مجرد حالة نفسية ذات آثار محدودة على الفرد.
دراسات علمية، مثل تلك التي أُجريت في جامعة هارفارد، أظهرت أن الحسد يُخلّف أثرًا نفسيًا على صاحبه، مسببًا له توترًا واضطرابًا داخليًا، لكنه لا يملك أي تأثير مادي على الآخرين. هذه الاكتشافات جاءت نتيجة منهج علمي تحليلي اعتمد على الرصد والتجريب، وهو ما جعل المجتمعات المتقدمة تتجاوز الخرافة لصالح العقل والمنطق.
ثقافة الحسد في المجتمعات المتخلفة
على النقيض، لا تزال مجتمعات كثيرة في أفريقيا وآسيا، وكذلك في أوساط العالم العربي، غارقة في مستنقع الخرافات. إن الحسد في هذه المجتمعات ليس شعورًا داخليًا فحسب، بل يُعتبر قوة سحرية تُلقى عليها مسؤولية الفشل والمحن.
إن التفسيرات التقليدية للنصوص الدينية تلعب دورًا كبيرًا في ترسيخ هذا الاعتقاد، حيث تُفهم النصوص فهمًا حرفيًا يتجاهل السياقات التاريخية والاجتماعية. وهكذا، يصبح الحسد ليس مجرد شعور داخلي، بل أداة يُحمَّلها المجتمع أوزار واقعه المؤلم.
الدين بين التقليد والتجديد
إن الدين، كمنظومة روحية وأخلاقية، أُسيء فهمه في كثير من هذه المجتمعات. فبدلًا من أن يكون أداة تحرر فكري، تحول في بعض الأحيان إلى أداة تبرير للمعتقدات البالية.
وبكل تأكيد فإن المشكلة ليست في النصوص نفسها، بل في الطريقة التي تُفسر بها. فالقراءة التقليدية للنصوص، التي تعزلها عن سياقاتها الزمانية والمكانية، عززت ومازالت تعزز هذه الأفكار. بينما كان يمكن لتفسيرات مستنيرة أن تُعيد صياغة هذه المفاهيم بطريقة تتناغم مع قيم العصر وتقدّم العقل الإنساني.
الحسد في ميزان العلم الحديث
هناك دراسات حديثة، مثل تلك التي أُجريت في جامعة أكسفورد، كشفت زيف الاعتقاد بأن الحسد يمكن أن يؤذي الآخرين. فالحسد، وفقًا لهذه الدراسات، ليس إلا حالة نفسية تؤثر على الحاسد نفسه، من خلال زيادة مستويات القلق والتوتر لديه.
هذا التأكيد العلمي على الطابع النفسي للحسد يضع المجتمعات المتخلفة أمام خيار واضح: إما التمسك بالخرافة، أو الانفتاح على العلم كوسيلة لفهم النفس البشرية وظواهرها.
طريق الخلاص: العلم والتفكير النقدي
إن السبيل للتخلص من الخرافات يبدأ بالتعليم وتعزيز ثقافة التفكير النقدي. ويجب إعادة بناء المناهج التعليمية لتشجيع التساؤل والتحليل، بدلًا من التلقين والتسليم.
كما أن إعادة قراءة النصوص الدينية برؤية حديثة، تراعي السياق التاريخي والتطور الفكري، يمكن أن تلعب دورًا حاسمًا في تحرير المجتمعات من هيمنة المعتقدات الغيبية. فالدين، في جوهره، ليس عدوًا للعلم، بل شريك له في البحث عن الحقيقة وتزكية الروح.
وختاما فإننا نؤكد على أن الحسد، ذلك الشعور الإنساني البسيط، صار في المجتمعات المتخلفة رمزًا لعجز الإنسان عن فهم واقعه والتعامل مع تحدياته. بينما في المجتمعات المتقدمة، أصبح الحسد مجرد إحساس يعالَج في إطار نفسي وعلمي.
الفرق بين الحالتين، كما ترى عزيزي القارئ، لا يكمن في الشعور ذاته، بل في الطريقة التي تتعامل بها المجتمعات مع مخاوفها وتحدياتها. فالعقلانية، كما أثبتت التجربة، هي السبيل الوحيد للتحرر من قيود الماضي وبناء مستقبل أكثر إشراقًا، حيث تكون النفس البشرية قادرة على مواجهة حقيقتها بشجاعة ووعي.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى