لقد أخضعنا مفهوم الهوية الســــردية عند بول ريكور في المقالين السابقين للنقد، وأظهرنا مدى الارتباك النظري والمنهجي الذي لحق به. ونسعى في هذا المقال- وما يليه من مقالات لاحقة- إلى إعادة تفكر هذا المفهوم من زاوية نظرية ومنهجية مختلفة.
وقبل فعل هذا لا بد من طرح أسئلة إشكالية تحدد الوجهة التي ينبغي نهج السبيل نحوها: أتعد الهوية بالمفهوم التخييلي مماثلة للهوية بمفهومها الواقعي أم لا؟ وإذا كانت الهويتان مختلفتان فما هو وجه الاختلاف؟ وما الذي يترتب عليه من نتائج نظرية وإجرائية؟ وإذا كان التخييل حركة تامة في التاريخ محددة بعصور ثلاثة (العصر الإلهي- العصر البطولي- العصر البشري) فهل يعني هذا تغيرا جذريا في مفهوم الهوية السردية؛ أي معرفة ما إذا كان كل تغير يحدث في بنية التخييل ينسحب عليها أم تظل هي هي ثابتة؟ ويصير الأمر أكثر إشكالا حين نرى إلى الأمر من خلال التعارض بين الأدب الكلاسيكي القائم على جمالية الهوية والأدب الحديث (وما بعد الحداثي خاصة) القائم على تدمير الهوية من طريق التعارض بين الجدة واتباع التقاليد (يوري لوتمان).
وينبغي فهم الهوية- هنا- بوصفها هوية جنس أدبي محدد؛ أي مدى صفائه أو هجانته (سيرج زنكين). ويترتب على هذا المعطى الأخير سؤالان: إذا كانت هوية الجنس الأدبي تتعرض إلى التدمير في الأدب الحديث فهل يظل مفهوم الهوية السردية بمنأى عن هذا التدمير؟ وهل تظل الهوية هي ذاتها في كل الحكايا المختلفة، العريق منها والحديث؟ نسعى في صدد هذه الأسئلة الإشكالية إلى مناقشة ثلاث قضايا:
1ـ لا يمكِن مسايرة الطرح النافي الذي يضع أدب الهوية الكلاسيكي في تعارض مع أدب اللاهوية الحديث؛ فإذا كان هذا الطرح قد لمس جانبا مهما من التحول الذي طال الأدب الحديث، والماثل في الهجانة فإنه أخطا الطريق في فهم هذه الخاصية الأخيرة؛ فهي مجرد عرض زماني. كيف ذلك؟ لا يمْكِن تجاهل أمريْن في مجال الهوية: الاستمرار والتعرف؛ فمن دونهما يصير تداول العالم وفهمه مستعصيين، فحتى الهجانة هي شكل ما للبحث عن إعادة تشكل جديد يسعى إلى أن يكون مستمِرا في الزمان، وأن يكون متعرفا من زاوية ملامح خاصة؛ فهناك تجديل بين هدم الهوية وإعادة بنائها (بين الاضطراب والانتظام) فيكفي نعت منتج بأنه أدب حديث أو ما بعد حداثي لكي تسند إليه هوية محددة. وما يكتسي طابع المعقولية- هنا- هو الحديث عن نمطين من الهوية: الهوية المفتوحة والهوية المغلقة. وما يجعل الهوية قدر العالم هو كونه انقسم على نفسه منذ أن خرج من رحمه الكوني (المجتمع الأسطوري- المشاعي) حيث تولدت الرغبة (الذات والموضوع)، والملكية (الحدود- الأسوار)، والجسد ( الجزء والكل) والعدد (الأقل والأكثر)، فحتى في حالة نفي الملكية التي هي مجال تطويق الأشياء وتحديدها فإن هذا النفي هو إثبات مضمر لملكية (تطويق) جديدة، ومعنى هذا إننا مضطرون إلى جعل أي نص متمرد على الجنس الأدبي، مسندا إلى هذا الكاتب أو ذاك. وفي حالة الإسناد هذه نقوم باستبدال هوية إجناسية مجردة بهوية ملموسة ذات ملامح أسلوبية- كتابية؛ أي هوية مؤسسة على أسلوب خاص في الكتابة.
2- إذا كنا قد أوضحنا المسوغات التي تجعل من مفهوم الهوية قدرا لا مفر منه في الأدب أو غيره فإن من اللازم تحديد ما المفهوم الذي يظهر فاعليتها على مستوى الحكي. وأظن أن هذا الأخير ليس سوى التمثيل، لا المحاكاة. لماذا؟ لأنه يمد الذات الحكائية بالمرجعية التخييلية التي تجعلها خطا سرديا مستمرا عبر فعل السرد، ويمدها بالملامح الأسس التي تمكن من التعرف إليها وتمييزها من الذوات التي تشاركها الحضور في أثناء جريان الحدوث، ويمدها بالوضع الذي يسمح لها بأن تكون معبرا إلى التخلق (مطابقة القيم العامة المهيمنة) أو الخلق (بناء القيم الخاصة المجاوِزة). وينبغي الاتفاق- في هذا الإطار- على عدم أرسطية التمثيل (على خلاف توجه بول ريكور)؛ إذ نعده استحضارا لما هو غائب؛ وما لا يحضر أمامنا؛ أي ما لا يمْكِن الإشارة إليه باستخدام اسم الإشارة الواقعي. كما ينبغي النظر إلى هذا المفهوم من زاوية الأدب، لا من زاوية أخرى؛ فهو تمثيل مزدوج:
أ- تمثيل الموضوع السردي من خلال شكل متفرد عائد إلى كاتب محدد، وقد يكون هذا الشكل متطابِقا مع الأعراف أو مدمرا لها.
ب- تمثيل الجنس الأدبي الذي يتأسس على بنية تمثيل صلبة خاصة به، والتي تحدد صياغة التخييل وإمكاناته.
ولا يمْكِن عد هذين النوعين من التمثيل منفصلين، بل متكاملين. وتضافرهما على نحو تجديلي هو ما ينتج الهوية السردية المتصلة بالذات الفاعلة في الحكي. لكن الهوية السردية الناتجة عن هذا التضافر التمثيلي لا تستقيم إلا بوضعها ضمن سياق التخييل العام الذي يطبع عصرا ما، والذي يعد شرطا ضروريا لفهم المعنى من صياغتها فنيا.
3- ليست الهوية السردية المبنية بوساطة التمثيل- كما أوضحناها- منفصلة عن خاصية التفرد التي تعد الملمح المميز لفعل الكتابة الأدبية وموضوعها. ونجد أنفسنا مرغمين- هنا- على تفكر الهوية السردية من زاويتين:
أ- الاختلاف بوصفه دعوى رئيسة في التفكير المعاصر، وما تقوم عليه من نفي للتكرار (دولوز).
ب- جعل هوية الذات متفاوضا حولها مع الآخرين (جيرم برونير)، وجعلها مفهومة بوصفها كآخر (بول ريكور). لا يمْكِن نفي التكرار عن الوجود؛ والذاكرة بوصفها آلية حفظ الوجود هي قائمة على التعرف، وهذا الأخير لا يستقيم من دون معاودة العالم ظهوره في هيئة صور- أطر متكررة، وإلا استحالت المعرفة ذاتها. لكن هذا لا يعني رفض الاختلاف؛ غير أننا نعده بمثابة نفاذ إلى غير المرئي، وما لم يتكرر بعْد ويتحول إلى تعرف جديد؛ فالهوية في الأدب ناجمة عن تكرار المختلف غير النمطي داخل نص ما، وجعل تعرفه مرتبطا بالمسافة التي يقيمها تجاه غيره من الهويات المجسدة في نصوص أخرى. أما جعل الذات عينها كآخر في الأدب فأمر يناقض التفرد بوصفه خاصية مميزة للشخصية الأدبية؛ فالقول بكون الهوية السردية نتاج الاختلاف الذي يصطحبه معه الآخر (و/ أو الغير) إلى الذات يعني قبول هذه الأخيرة التخلي عن جذريتها وكوسموسها الغنائي (لوكاتش). وحتى إذا حدث هذا فإنه لا يتعدى جعل الآخر متواطئا مع الذات؛ أي جعله معينا لها على تغليب قوة من القوى التي تتصارع داخلها، إذ لا تقدم الهوية إلا في شكلها الدينامي، ومن مواصفات هذه الدينامية اصطراع القوى داخل الذات الحكائية.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
* منقول عن القدس العربي
Aug 18, 2017
وقبل فعل هذا لا بد من طرح أسئلة إشكالية تحدد الوجهة التي ينبغي نهج السبيل نحوها: أتعد الهوية بالمفهوم التخييلي مماثلة للهوية بمفهومها الواقعي أم لا؟ وإذا كانت الهويتان مختلفتان فما هو وجه الاختلاف؟ وما الذي يترتب عليه من نتائج نظرية وإجرائية؟ وإذا كان التخييل حركة تامة في التاريخ محددة بعصور ثلاثة (العصر الإلهي- العصر البطولي- العصر البشري) فهل يعني هذا تغيرا جذريا في مفهوم الهوية السردية؛ أي معرفة ما إذا كان كل تغير يحدث في بنية التخييل ينسحب عليها أم تظل هي هي ثابتة؟ ويصير الأمر أكثر إشكالا حين نرى إلى الأمر من خلال التعارض بين الأدب الكلاسيكي القائم على جمالية الهوية والأدب الحديث (وما بعد الحداثي خاصة) القائم على تدمير الهوية من طريق التعارض بين الجدة واتباع التقاليد (يوري لوتمان).
وينبغي فهم الهوية- هنا- بوصفها هوية جنس أدبي محدد؛ أي مدى صفائه أو هجانته (سيرج زنكين). ويترتب على هذا المعطى الأخير سؤالان: إذا كانت هوية الجنس الأدبي تتعرض إلى التدمير في الأدب الحديث فهل يظل مفهوم الهوية السردية بمنأى عن هذا التدمير؟ وهل تظل الهوية هي ذاتها في كل الحكايا المختلفة، العريق منها والحديث؟ نسعى في صدد هذه الأسئلة الإشكالية إلى مناقشة ثلاث قضايا:
1ـ لا يمكِن مسايرة الطرح النافي الذي يضع أدب الهوية الكلاسيكي في تعارض مع أدب اللاهوية الحديث؛ فإذا كان هذا الطرح قد لمس جانبا مهما من التحول الذي طال الأدب الحديث، والماثل في الهجانة فإنه أخطا الطريق في فهم هذه الخاصية الأخيرة؛ فهي مجرد عرض زماني. كيف ذلك؟ لا يمْكِن تجاهل أمريْن في مجال الهوية: الاستمرار والتعرف؛ فمن دونهما يصير تداول العالم وفهمه مستعصيين، فحتى الهجانة هي شكل ما للبحث عن إعادة تشكل جديد يسعى إلى أن يكون مستمِرا في الزمان، وأن يكون متعرفا من زاوية ملامح خاصة؛ فهناك تجديل بين هدم الهوية وإعادة بنائها (بين الاضطراب والانتظام) فيكفي نعت منتج بأنه أدب حديث أو ما بعد حداثي لكي تسند إليه هوية محددة. وما يكتسي طابع المعقولية- هنا- هو الحديث عن نمطين من الهوية: الهوية المفتوحة والهوية المغلقة. وما يجعل الهوية قدر العالم هو كونه انقسم على نفسه منذ أن خرج من رحمه الكوني (المجتمع الأسطوري- المشاعي) حيث تولدت الرغبة (الذات والموضوع)، والملكية (الحدود- الأسوار)، والجسد ( الجزء والكل) والعدد (الأقل والأكثر)، فحتى في حالة نفي الملكية التي هي مجال تطويق الأشياء وتحديدها فإن هذا النفي هو إثبات مضمر لملكية (تطويق) جديدة، ومعنى هذا إننا مضطرون إلى جعل أي نص متمرد على الجنس الأدبي، مسندا إلى هذا الكاتب أو ذاك. وفي حالة الإسناد هذه نقوم باستبدال هوية إجناسية مجردة بهوية ملموسة ذات ملامح أسلوبية- كتابية؛ أي هوية مؤسسة على أسلوب خاص في الكتابة.
2- إذا كنا قد أوضحنا المسوغات التي تجعل من مفهوم الهوية قدرا لا مفر منه في الأدب أو غيره فإن من اللازم تحديد ما المفهوم الذي يظهر فاعليتها على مستوى الحكي. وأظن أن هذا الأخير ليس سوى التمثيل، لا المحاكاة. لماذا؟ لأنه يمد الذات الحكائية بالمرجعية التخييلية التي تجعلها خطا سرديا مستمرا عبر فعل السرد، ويمدها بالملامح الأسس التي تمكن من التعرف إليها وتمييزها من الذوات التي تشاركها الحضور في أثناء جريان الحدوث، ويمدها بالوضع الذي يسمح لها بأن تكون معبرا إلى التخلق (مطابقة القيم العامة المهيمنة) أو الخلق (بناء القيم الخاصة المجاوِزة). وينبغي الاتفاق- في هذا الإطار- على عدم أرسطية التمثيل (على خلاف توجه بول ريكور)؛ إذ نعده استحضارا لما هو غائب؛ وما لا يحضر أمامنا؛ أي ما لا يمْكِن الإشارة إليه باستخدام اسم الإشارة الواقعي. كما ينبغي النظر إلى هذا المفهوم من زاوية الأدب، لا من زاوية أخرى؛ فهو تمثيل مزدوج:
أ- تمثيل الموضوع السردي من خلال شكل متفرد عائد إلى كاتب محدد، وقد يكون هذا الشكل متطابِقا مع الأعراف أو مدمرا لها.
ب- تمثيل الجنس الأدبي الذي يتأسس على بنية تمثيل صلبة خاصة به، والتي تحدد صياغة التخييل وإمكاناته.
ولا يمْكِن عد هذين النوعين من التمثيل منفصلين، بل متكاملين. وتضافرهما على نحو تجديلي هو ما ينتج الهوية السردية المتصلة بالذات الفاعلة في الحكي. لكن الهوية السردية الناتجة عن هذا التضافر التمثيلي لا تستقيم إلا بوضعها ضمن سياق التخييل العام الذي يطبع عصرا ما، والذي يعد شرطا ضروريا لفهم المعنى من صياغتها فنيا.
3- ليست الهوية السردية المبنية بوساطة التمثيل- كما أوضحناها- منفصلة عن خاصية التفرد التي تعد الملمح المميز لفعل الكتابة الأدبية وموضوعها. ونجد أنفسنا مرغمين- هنا- على تفكر الهوية السردية من زاويتين:
أ- الاختلاف بوصفه دعوى رئيسة في التفكير المعاصر، وما تقوم عليه من نفي للتكرار (دولوز).
ب- جعل هوية الذات متفاوضا حولها مع الآخرين (جيرم برونير)، وجعلها مفهومة بوصفها كآخر (بول ريكور). لا يمْكِن نفي التكرار عن الوجود؛ والذاكرة بوصفها آلية حفظ الوجود هي قائمة على التعرف، وهذا الأخير لا يستقيم من دون معاودة العالم ظهوره في هيئة صور- أطر متكررة، وإلا استحالت المعرفة ذاتها. لكن هذا لا يعني رفض الاختلاف؛ غير أننا نعده بمثابة نفاذ إلى غير المرئي، وما لم يتكرر بعْد ويتحول إلى تعرف جديد؛ فالهوية في الأدب ناجمة عن تكرار المختلف غير النمطي داخل نص ما، وجعل تعرفه مرتبطا بالمسافة التي يقيمها تجاه غيره من الهويات المجسدة في نصوص أخرى. أما جعل الذات عينها كآخر في الأدب فأمر يناقض التفرد بوصفه خاصية مميزة للشخصية الأدبية؛ فالقول بكون الهوية السردية نتاج الاختلاف الذي يصطحبه معه الآخر (و/ أو الغير) إلى الذات يعني قبول هذه الأخيرة التخلي عن جذريتها وكوسموسها الغنائي (لوكاتش). وحتى إذا حدث هذا فإنه لا يتعدى جعل الآخر متواطئا مع الذات؛ أي جعله معينا لها على تغليب قوة من القوى التي تتصارع داخلها، إذ لا تقدم الهوية إلا في شكلها الدينامي، ومن مواصفات هذه الدينامية اصطراع القوى داخل الذات الحكائية.
٭ أكاديمي وأديب مغربي
* منقول عن القدس العربي
Aug 18, 2017